التفاسير

< >
عرض

وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ
١
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلطَّارِقُ
٢
ٱلنَّجْمُ ٱلثَّاقِبُ
٣
إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ
٤
فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ
٥
خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ
٦
يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ
٧
إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ
٨
يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ
٩
فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ
١٠
-الطارق

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ { لما } بالتشديد عاصم وحمزة وابن عامر بمعنى { إلا } وقد جاء { لما } مشدداً بمعنى (إلا) في موضعين: إن، والقسم، كقولهم سئلتك لما فعلت بمعنى إلا فعلت قال قوم: تقديره لمما، فحذفت إحدى الميمات كراهة اجتماع الأمثال. وقرأ الباقون بالتخفيف جعلوا (ما) صلة مؤكدة. وتقديره لعليها حافظ، واللام لام الابتداء التي يدخل في خبر (إن) و (أن) مخففة من الثقيلة.
هذا قسم من الله تعالى بالسماء وبالطارق، وقد بينا القول فيه فالطارق هو الذي يجيء ليلا وقد فسره الله تعالى وبينه بأنه { النجم الثاقب } فالنجم هو الكوكب قال الحسن: المراد بالنجم جميع النجوم. وقال ابن زيد: هو زحل.
وقوله { وما أدراك } معناه أنه لم تدر حتى أعلمتك، وكل ما يعلمه الانسان فالله أعلمه بالضرورة أو بالدليل. قال قتادة: طروق النجم ظهورها بالليل وخفاؤها بالنهار.
وقوله { والطارق } تبيين عن معنى وصفه بالطارق. وقوله { النجم الثاقب } تبيين عن ماهيته نفسه يقال: طرقني فلان إذا أتاني ليلا وأصل الطرق الدق، ومنه المطرقة، لأنه يدق بها، والطريق لان المارة تدقه بارجلها، والطارق لأنه يحتاج إلى الدق للتنبيه، والنجم هو الكوكب الطالع فى السماء، يقال لكل طالع ناجم تشبيهاً به، ونجم النجم إذا طلع، وكذلك السن والقرن. ويوصف بالطالع والغارب، لأنه إذا طلع من المشرق غاب رقيبه من المغرب، والثاقب المضيء المنير، وثقوبه توقده وتنوره، تقول العرب: اثقب نارك أي اشعلها حتى تضيء. وثقب لسانها بخروج الشعاع منها والثاقب أيضاً العالي الشديد العلو، تقول: العرب للطائر اذا ارتفع ارتفاعاً شديداً قد ثقب. كله كأنه ثقب الجو الأعلى. وقال مجاهد وقتادة وابن عباس: الثاقب المضيء. وقال ابن زيد: هو العالي وهو زحل.
وقوله { إن كل نفس لما عليها حافظ } جواب القسم و (إن) ها هنا المخففة من الثقيلة التي يتلقى بها القسم، والمعنى إن كل نفس لعليها حافظ - فيمن خفف - ومن شدد قال: (ان) بمعنى (ما) وتقديره ليس كل نفس إلا عليها حافظ. وقال قتادة: حافظ من الملائكة يحفظون عمله ورزقه وأجله، فالحافظ المانع من هلاك الشيء حفظه يحفظه حفظاً واحتفظ به احتفاظاً فأما أحفظه فمعناه أغضبه، وتحفظ من الامر إذا أمتنع بحفظ نفسه منه وحافظ عليه إذا واظب عليه بالحفظ.
وقوله { فلينظر الإنسان مم خلق } أمر من الله تعالى للمكلفين من الناس أن يفكروا ويعتبروا مماذا خلقهم الله. ثم بين تعالى مماذا خلقهم فقال { خلق من ماء دافق } فالدفق هو صب الماء الكثير باعتماد قوي، ومثله الدفع، فالماء الذي يكون منه الولد يكون دفقاً وهي النطفة التي يخلق الله منها الولد إنساناً أو غيره، وماء دافق معناه مدفوق، ومثله شرّ كاتم، وعيشة راضية.
ثم بين ذلك من أي موضع يخرج هذا الماء، فقال { يخرج من بين الصلب والترائب } فالصلب هو الظهر، والترائب جمع تريبة وهو موضع القلادة من صدر المرأة - في قول ابن عباس - وهو مأخوذ من تذليل حركتها كالتراب. قال المثقب.

ومن ذهب يشن إلى تريب كلون العاج ليس بذي غصون

وقال آخر:

والزعفران على ترائبها شرقاً به اللبات والنحر

وقيل: إن نطفة الرجل تخرج من ظهره، ونطفة المرأة من صدرها، فاذا غلب ماء الرجل خرج الولد إلى شبه أهل بيت أبيه وإذا غلب ماء المرأة خرج إلى شبه أهل بيت أمه.
وقوله { إنه على رجعه لقادر } قال عكرمة ومجاهد: معناه إنه تعالى على رد الماء فى الصلب قادر. وقال الضحاك: إنه على رد الانسان ماء كما كان قادر، والرجع الماء وأنشد ابو عبيدة للمنخل فى صفة سيف:

ابيض كالرجع رسوب إذا ما ثلخ فى محتفل يختلي

ومعنى الآية إن الذي ابتدأ الخلق من ماء دافق أخرجه من بين الصلب والترائب حياً قادر على اعادته { يوم تبلى السرائر } لان الاعادة أهون من ابتداء النشأة، وقال الحسن وقتادة معناه أنه على رجع الانسان بالاحياء بعد الممات قادر. وقوله { يوم تبلى السرائر } معناه تختبر باظهارها وإظهار موجبها لان الابتلاء والاختبار والاعتبار كله إنما هو باظهار موجب المعنى، ففي الطاعة الحمد والثواب وفى المعصية الذم والعقاب، وواحد السرائر سريرة وهي الطوية فى النفس، وهو اسرار المعنى فى النفس، وقد يكون الاسرار من واحد بعينه مع إطلاع غيره عليه فلا يكون سريرة. وقيل: إن الله يفضح العاصي بما كان يستر من معاصيه ويجلّ المؤمن باظهار ما كان يسره من طاعته ليكرمه الناس بذلك ويجلوه.
ثم بين تعالى أنه لا قدرة لهذا الانسان الذي يعيده الله - على معاصيه - ويعاقبه على دفع ذلك عن نفسه ولا ناصر له يدفعه فالقدرة هي القوة بعينها.