التفاسير

< >
عرض

أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَٱنْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
١٠٩
-التوبة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ نافع وابن عباس { أسس بنيانه } بضم الهمزة وكسر السين ورفع النون من بنيانه في الموضعين جميعاً. الباقون بفتح الهمزة ونصب النون من بنيانه. وقرأ ابن عامر الا الداحوني عن هشام وحمزة وخلف وأبوا بكر الا الاعشى والبرجمي { جرف } بسكون الراء. الباقون بضمها. وقرأ ابو عمرو والكسائي والداحوني عن ابي ذكوان وهبة الله عن حفص من طريق النهرواني والدوري عن سليم من طريق ابن فرج وابو بكر الا الأعشى والبرجمي { هار } بالامالة. وافقهم على الوقف علي بن مسلم وابن غالب ومحمّد في الوقف من طريق السوسي من طريق ابن جيش. قال ابو علي الفارسي: البنيان مصدر، وهوجمع كشعير وشعيرة لأنهم قالوا في الواحد بنيانة قال أوس:

كبنيانة القري موضع رحلها وآثار نسعيها من الدف أبلق

وجاء بناء المصادر على هذا المثل في غير هذا الحرف نحو الغفران وليس بنيان جمع بناء، لأن فعلاناً اذا كان جمعاً نحو كثبان وقضبان لم تلحقه تاء التأنيث، وقد يكون ذلك في المصادر، نحو: أكل وأكلة وضرب وضربة من ذلك. وقال ابو زيد يقال: بنيت أبني بنياً وبناء وبنية وجمعها البنى وأنشد:

بنى السماء فسواها ببنيتها ولم تمد باطناب ولا عمد

فالبناء والبنية مصدران ومن ثم قوبل به الفراش في قوله { { الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء } فالبناء لما كان رفعاً للمبني قوبل به الفراش الذي هو خلاف البناء. ومن ثم وقع على ما كان فيه ارتفاع في نصبته وان لم يكن مبنياً فأما من فتح الهمزة وبنى الفعل للفاعل، فلأنه الباني والمؤسس فأسند الفعل اليه وبناه له كما اضاف البنيان اليه في قوله { بنيانه } فكما ان المصدر مضاف إلى الفاعل كذلك يكون الفعل مبنياً له. ومن بنى الفعل للمفعول لم يبعد ان يكون في المعنى كالاول، لأنه إذا أسس بنيانه فتولى ذلك غيره بأمره كان كبنائه هو له. والأول أقوى لما قلناه. وقال ابو علي (الجرف) - بضم العين - هو الأصل، والاسكان تخفيف ومثله الشغل والشغل. ومثله الطنب والطنب. والعنق والعنق، يجوز في جميعه التثقيل والتخفيف. وكلاهما حسن وقال ابو عبيدة { على شفا جرف هار } مثل، قال: لأن ما يبنى على التقوى فهو أثبت أساساً من بناء يبنى على شفا جرف ويجوز ان تكون المعادلة وقعت بين البنائين، ويجوز أن تكون بين البناءين. فاذا عادلت بين البنائين كان المعنى المؤسس بنيانه متقناً خير ام المؤسس بنيانه غير متقن لأن قوله { على شفا جرف } يدل على أن بانيه غير متق لله. ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف كأنه قال: أبناء من أسس بنيانه على تقوى خير أم بناء من أسس بنيانه على شفا جرف. والبنيان مصدر يراد به المبني، كما أن الخلق يراد به المخلوق إذا أردت ذلك، وضرب الامير اذا اردت به المضروب. وكذلك نسج اليمن يراد به المنسوج، فانما قلنا ذلك لأنه لا يجوز أن يراد به الحدث، لأنه إنما يؤسس المبني الذي هو عين. يبين ذلك قوله { على شفا جرف } والحدث لا يكون على شفا جرف. والجار في قوله { على تقوى } وفي قوله { على شفا جرف } في موضع نصب، والتقدير افمن اسس بنيانه متقياً خير ام من اسس بنيانه معاقباً على بنيانه، وفاعل (انهار) البنيان، وتقديره انهار البنيان بالباني في نار جهنم، لأنه معصية وفعل لما كرهه الله من الضّرار والكفر والتفريق بين المؤمنين. ومن أمال { هار } فقد أحسن لما في الراء من التكرير فكأنك لفظت براءين مكسورتين وبحسب كثرة الكسرات تحسن الامالة. ومن لم يمل فلأن كثيراً من العرب لا يميلون هذه الألفات. وترك الامالة هو الأصل. وأما ألف { هار } فمنقلبة عن الواو، لأنهم قالوا: تهوّر البناء إذا تساقط وتداعى، والانهيار والانهيال متقاربان في المعنى. والالف في قوله { أفمن } الف استفهام يراد بها - ها هنا - الانكار ومعنى { خير } في الآية أفضل، وليس فيه إشتراك، يقولون: هذا خير، وهذا شر، ولا يراد به (أفعل من) قال الشاعر:

والخير والشر مقرونان في قرن فالخير متبع والشر محذور

وأما قوله: وافعل الخير معناه افعلوا الأفضل. و (الشفا جرف) الشيء وشفيره وجرفه نهايته في المساحة ويثنى شفوان، والجرف جرف الوادي وهو جانبه الذي ينحفر بالماء أصله فيبقى واهياً، وهو من الجرف والاجتراف، وهو اقتلاع الشيء من أصله. ومعنى (انهار) انصدع بالتهدم هار الجرف يهور هوراً فهو هائر وتهور تهوراً وانهار انهياراً، ويقال ايضاً: هار يهار، وأصل هار هائر إلا انه قلب كما قال الشاعر:

لاث به الأشاء والعبري

اي لائث بمعنى دائر، ومثله شاك في السلاح وشائك والاشاء النخل، والعبري السدر الذي على ساقي الأنهار، ومعنى لاث أي مطيف به.
شبه الله تعالى بنيان هؤلاء المنافقين مسجد الضرار ببناء يبنى على شفير جهنم فانهار ذلك البناء بأهله في نار جهنم، ووقع فيه. وروي عن جابر بن عبد الله انه قال: رأيت المسجد الذي بني ضراراً يخرج منه الدخان، وهو قول ابن جريح.