التفاسير

< >
عرض

لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ
١
وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ
٢
وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ
٣
لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِي كَبَدٍ
٤
أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ
٥
يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً
٦
أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ
٧
أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ
٨
وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ
٩
وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ
١٠
-البلد

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ ابو جعفر { لبداً } بتشديد الباء. الباقون بالتخفيف،
قوله { لا أقسم } معناه أقسم، ولا صلة، كما قال الشاعر:

ولا ألوم البيض ان لا تسخرا

أي ان تسخر. وقيل: هي رداً لكلام على طريق الجواب، لمن قد ظهر منه الخلاف أى ليس الامر على ما يتوهم. وقد بينا نظائر ذلك فيما مضى. فاذا أثبت انه اقسم، فلا ينافي قوله { وهذا البلد الأمين } لأن هذا قسم آخر مثله. وإنما يكون مناقضة لو أراد نفي القسم بقوله { لا أقسم } فأما إذا كان الامر على ما بيناه فلا تنافي بينهما. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد: يعني بالبلد مكة.
وقوله { وأنت حل بهذا البلد } فمعناه في قول ابن عباس أنه حلال لك به قتل من رأيت حين أمر بالقتال، فقتل ابن حنظل صبراً، وهو آخذ باستار الكعبة ولم يحل لأحد بعده. وبه قال مجاهد وابن زيد والضحاك. وقال عطاء: لم يحل إلا لنبيكم ساعة من النهار. وقال الحسن: معناه وأنت فيه محسن وأنا عنك راض. وقيل: معناه أنت حل بهذا البلد أي انت فيه مقيم، وهو محلل. والمعنى بذلك التنبيه على شرف البلد بشرف من حل فيه من الرسول الداعي إلى تعظيم الله وإخلاص عبادته المبشر بالثواب والمنذر بالعقاب، ويقال: رجل حل أي حلال وقالوا: حل معناه حال. أي ساكن.
وقوله { ووالد وما ولد } قسم آخر بالوالد وما ولد، قال ابن عباس وعكرمة: المعني بذلك كل والد وما ولد يعني العاقل. وقال الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك وسفيان وابو صالح: يعني آدم وولده. وقال ابو عمران الحوبي: يعني به إبراهيم عليه السلام وولده.
وقوله { لقد خلقنا الإنسان في كبد } جواب القسم، ومعنى كبد قال ابن عباس والحسن: فى شدة. وقال قتادة: معناه يكابد الدنيا والآخرة. قال مجاهد وابو صالح وإبراهيم النخعي وعبد الله بن شداد: معناه في إنتصاب قامة، فكأنه في شدة قوام مخصوص بذلك من سائر الحيوان، قال لبيد:

يا عين هلا بكيت أربد إذ قمنا وقام الخصوم في كبد

أي في شدة نصب، فالكَبد في اللغة شدة الأمر يقال: تكبد اللبن إذا غلظ واشتد، ومنه الكبد، كأنه دم يغلظ ويشتد، وتكبد الدم إذا صار كالكبد، والانسان مخلوق في شدة أمر بكونه في الرحم. ثم في القماط والرباط. ثم على خطر عظيم عند بلوغه حال التكليف، فينبغي له أن يعلم ان الدنيا دار كدّ ومشقة، وأن الجنة هي دار الراحة والنعمة.
وقوله { أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } معناه أيظن هذا الانسان أن لن يقدر على عقابه أحد إذا عصى الله تعالى وارتكب معاصيه فبئس الظن ذلك. وقيل: إنها نزلت في رجل يقال له أبو الاسدين كان من القوة بحيث يقف على أديم عكاظي فيجري العسرة من تحته، فتنقطع ولا يبرح من عليه فقال الله تعالى { أيحسب } لشدته وقوته { أن لن يقدر عليه أحد } ثم حكى ما يقول هذا الانسان من قوله { أهلكت مالاً لبداً } قال الحسن: معناه يقول أهلكت مالا كثيراً، فمن يحاسبني عليه، حميق ألم يعلم ان الله قادر على محاسبته، اللبد الكثير الذي قد تراكب بعضه على بعض، ومنه تلبد القطن والصوف إذا تراكب بعضه على بعض، وكذلك الشعر ومنه اللبد ومن قرأ { لبداً } بتشديد الباء، فهو جمع لابد.
وقوله { أيحسب أن لم يره أحد } ايظن هذا الانسان انه لم يبصره أحد فيطالبه من اين كسب هذا المال، وفي أي شيء أنفقه - ذكره قتادة - وقيل: معنا ايظن أن لم يره أحد في انفاقه، لانه كاذب. وقال الحسن: يقول: أنفقت مالا كثيراً فمن يحاسبني عليه. وقيل الآيه نزلت في رجل من بني جمح يكنى أبا الاسدين، وكان قوياً شديداً.
ثم نبهه تعالى على وجوه النعمة التى أنعم بها عليه ليستدل بها على توحيده وخلع الأنداد دونه بقوله { ألم نجعل له عينين } ليبصر بهما { ولساناً وشفتين } لينطق بهما { وهديناه النجدين } ليستدل بهما. وفي ذلك دليل واضح على أنه صادر من مختار لهذه الافعال التي فعلها بهذه الوجوه، فأحكمها لهذه الامور، فالمحكم المتقن لا يكون إلا من عالم، وتعليقه بالمعاني لا يكون إلا من مختار، لانه لا يعلق الفعل بالمعاني إلا في الارادة. وقال ابن مسعود: وابن عباس: معنى هديناه النجدين: نجد الخير والشر، وبه قال الحسن ومجاهد والضحاك وقتادة، وفي رواية عن ابن عباس أنهما الثديان، والنجدان الطريقان للخير والشر. وأصل النجد للعلو ونجد بلد سمي نجد العلوة عن انجفاض تهامة، وكل عال من الارض نجد، والجمع نجود، ورجل نجد بين النجدة إذا كان جلداً قوياً، لاستعلائه على قوته، واستنجدت فلاناً فانجدني أي استعنته على خصمي فأعانني، والنجد الكرب والغم، والنجاد ما على العاتق من حمالة السيف، وشبه طريق الخير والشر بالطريقين العاليين لظهوره فيهما.