التفاسير

< >
عرض

لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ
١
رَسُولٌ مِّنَ ٱللَّهِ يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً
٢
فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ
٣
وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ
٤
وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ ٱلقَيِّمَةِ
٥
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَوْلَـٰئِكَ هُمْ شَرُّ ٱلْبَرِيَّةِ
٦
إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ هُمْ خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ
٧
جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رِّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ
٨
-البينة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ نافع وابن عامر - في رواية ابن ذكوان { خير البرئية } و { شر البرئية } مهموزتان الباقون بغير همز. من همز جعله من { برأ الله الخلق يبرؤهم } ومنه البارئ ومن لم يهمز يجوز أن يكون خفف. ويجوز أن يكون من البري الذى هو التراب، كما يقال: بغاك من سار إلى القوم البرئ، وروى أبو نشيط من طريق القرطي { لمن خشي ربه } بضم الهاء من غير اشباع. الباقون بضم الهاء، ووصلها بواو في اللفظ.
يقول الله تعالى { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة } قال الحسن وقتادة معناه لم يكونوا منتهين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة. وقال قوم: معناه لم يكونوا منفكين من كفرهم أي زائلين. وقيل: معناه لم يكونوا ليتركوا منفكين من حجج الله حتى تأتيهم البينة التى تقوم بها الحجة عليهم وقال الفراء: منعاه لم يكونوا منفكين من حجج الله بصفتهم للنبي صلى الله عليه وآله أنه فى كتابهم وقيل معناه لم يكونوا زائلين من الدنيا، والانفكاك على وجهين: على لا يزال ولا بد لها من خبر وحرف الجحد. ويكون على الانفصال فلا يحتاج إلى خبر ولا حرف جحد، كقولك انفك الشيء من الشيء قال ذو الرمة:

قلايص ما تنفك إلا مناخة على الخسف أو يرمى بها بلداً قفرا

فجعله الفراء من (انفك الشيء من الشيء) وجعله غيره من { ما يزال } إلا أنه ضرورة. والانفكاك إنفصال عن شدة اجتماع. واكثر ما يستعمل ذلك فى النفي كما أن (ما زال) كذلك تقول: ما انفك من هذا الأمر أي ما انفصل منه لشدة ملابسته له. والمعني أن هؤلاء الكفار من أهل الكتاب يعني اليهود والنصارى ومن المشركين يعني عباد الاصنام لا يفارقون الكفر إلى أن تأتيهم البينة يعني الحجج الظاهرة التي يتميز بها الحق من الباطل، وهي من البينونة. وفصل الشيء من غيره فالنبي صلى الله عليه وآله حجة وبينة، وإقامة الشهادة العادلة بينة، وكل برهان ودلالة فهو بينة،
وقوله { رسول من الله } هو بيان تلك البينة، بينها بأنه رسول من قبل الله يتلو عليهم صحفاً مطهرة، يعني فى السماء لا يمسها إلا الملائكة المطهرون من الانجاس
وقوله { فيها كتب قيمة } معناه في تلك الصحف كتب جمع كتاب { قيمة } فالقيمة المستمرة في جهة الصواب، فهو على وزن (فيعلة) من قام الأمر يقوم به إذا أجراه في جهة الاستقامة. وقال قتادة: صحفاً مطهرة يعني من الباطل وهو القرآن يذكره بأحسن الذكر ويثني عليه بأحسن الثناء.
وقوله { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جائتهم البينة } اخبار من الله تعالى أن هؤلاء الكفار لم يختلفوا في نبوة النبي صلى الله عليه وآله لانهم مجمعين على نبوته بما وجدوه في كتبهم من صفاته، فلما أتاهم بالبينة الظاهرة والمعجزة القاهرة، تفرقوا واختلفوا، فآمن بعضهم وكفر بعضهم. وفى ذلك دلالة على بطلان قول من يقول: إن الكفار خلقوا كفاراً فى بطون إمهاتهم، لأنه تعالى بين أنهم لم يختلفوا فى ذلك قبل مجيء معجزاته وأدلته، ولا يلزم على ذلك أن يكون مجيء الآيات مفسدة من حيث وقع الفساد عندها، لانه ليس حد المفسدة ما يقع عنده الفساد، بل حده ما يقع عنده الفساد ولولاه لم يقع، من غير أن يكون تمكيناً، وها هنا المعجزات تمكين فلم يكن مفسدة.
ثم قال تعالى { وما أمروا } أي لم يأمرهم الله تعالى { إلا ليعبدوا الله } وحده ولا يشركوا بعبادته غيره { مخلصين له الدين } لا يخلطون بعبادته عبادة سواه. وقوله { حنفاء } جمع حنيف، وهو المائل إلى الحق، والحنفية الشريعة المائلة إلى الحق، وأصله الميل، ومن ذلك الاحنف: المائل القدم إلى جهة القدم الاخرى. وقيل: أصله الاستقامة، وإنما قيل للمائل القدم أحنف على وجه التفاؤل، وقوله { ويقيموا الصلاة } أي يدوموا عليها ويقوموا بحددوها { ويؤتوا الزكاة } المفروضة من أموالهم. ثم قال { وذلك دين القيمة } أي ذلك الذي تقدم ذكره دين القيمة وتقديره ذلك دين الملة القيمة والشريعة القيمة.
وقوله { وما أمروا إلا ليعبدوا الله } دليل على فساد مذهب المجبرة: ان الله خلق الكفار ليكفروا به، لانه صرح ها هنا أنه خلقهم ليعبدوه. وليس فى الآية دلالة على أن أفعال الجوارح من الايمان، ولا من الدين، لأنه يجوز أن يكون المراد { وذلك } إشارة إلى الدين، وتقديره والدين بذلك هو دين القيمة، لأن من لا يعتقد جميع ذلك ويؤمن بجميع ما يجب عليه فليس بمسلم. وقد تقدم قوله { مخلصين له الدين } ثم قال { وذلك } يعني وذلك الدين { دين القيمة } وليس يلزم أن يكون راجعاً إلى جميع ما تقدم، كما لا يلزم على مذهبهم فى قوله
{ ومن يفعل ذلك يلق أثاماً } أن يكون راجعاً إلى الشرك، وقتل النفس والزنا، بل عندهم يرجع إلى كل واحد من ذلك، فكذلك - ها هنا - وقد أستوفينا ما يتعلق بذلك في كتاب الاصول.
وفي الآية دلالة على وجوب النية في الطهارة، لأنه بين تعالى أنه أمرهم بالعبادة على الاخلاص، ولا يمكن ذلك إلا بالنية والقربة، والطهارة عبادة لقوله صلى الله عليه وآله
"الوضوء شطر الايمان" وما هو شطر الايمان لا يكون إلا عبادة.
ثم اخبر تعالى عن حال الكفار والمشركين فقال { إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } يعني من جحد توحيد الله وأنكر نبوة نبيه وأشرك معه إلهاً آخر في العبادة { في نار جهنم } معاقبين فيها جزاء على كفرهم { خالدين فيها } أي مؤبدين لا يفنى عقابهم. ثم قال { أولئك هم شر البرية } أي شر الخليقة، والبرية (فعيلة) من برأ الله الخلق إلا أنه ترك فيهما الهمز، ومن همز فعلى الاصل. ويجوز أن يكون (فعيلة) من البري وهو التراب.
ثم أخبر عن حال المؤمنين فقال { إن الذين آمنوا } بالله وأقروا بتوحيده واعترفوا بنبوة نبيه { وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية } أي هم أحسنهم حالة. وإنما أطلق بأنهم خير البرية، لان البرية هم الخلق، ولا يخلوا أن لا يكونوا مكلفين، فالمؤمن خير منهم لا محالة. وإن كانوا مكلفين: فاما أن يكونوا مؤمنين أو كافرين أو مستضعفين، فالمؤمن خيرهم أيضاً لامحالة بما معه من الثواب.
وقوله { جزاءهم عند ربهم } يعني جزاء إيمانهم وطاعاتهم عند الله يوفيهم الله يوم القيامة. ثم فسر ذلك الجزاء فقال { جنات عدن } أي بساتين إقامة { خالدين فيها } أى مؤبدين فيها { أبداً رضي الله عنهم } أي رضي أفعالهم { ورضوا عنه } بما فعل بهم من الثواب. والرضا هو الارادة، إلا أنها لا تسمى بذلك إلا إذا وقع مرادها، ولم يتعقبها كراهية، فتسمى حينئذ رضا، فأما الارادة لما يقع في الحال او فيما يفعل بعد، فلا تسمى رضا، فرضى الله عن العباد إرادته منهم الطاعات التي فعلوها، ورضاهم عنه إرادتهم الثواب الذى فعله بهم، ثم قال { ذلك لمن خشي ربه } أي ذلك الرضا والثواب والخلود في الجنة لمن خاف الله فترك معاصيه وفعل طاعاته.