التفاسير

< >
عرض

صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ
٧
-الفاتحة

تفسير صدر المتألهين

قوله جل اسمه:
{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }
صفة للأول أو بدلٌ عنه بدل الكلّ
والفرق بين الصفة والبدل، أنّ البدل في حكم تكرير العامل من حيث انّه المقصود بالنسبة، كتكرير الجار في قوله تعالى:
{ قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } [الأعراف:75]. بخلاف الصفة، فكأنّه قال: اهدنَا صراطَ الذين أنعمت عليهم. وفائدته التوكيد المنفهم من التثنية، والتنصيص على أنّ طريق المؤمنين هو المشهود عليه بالاستقامة المُفضي لسالكه إلى المطلوب على أبلغ وجه وآكده، فإنّك إذا قلت مثلاً: "هل ادلّك على أعلم الناس وأفضلهم؛ فلان" فكأنّك قد ثنّيت ذكرَه أولاً إجمالاً، وثانياً تفصيلاً، وجعلت اسمه كالتفسير والبيان لنعته المذكور، أولاً إشعاراً بأنّه من البيّن الذي لا خفاء فيه، فجعلته علَماً في العِلم والفضيلة فيكون ذلك أبلغ من قولك: هل أدلّك على فلانٍ الأعلم الأفضل.
فها هنا قد وقع الإشعار بأن الطريق المنعوت بالاستقامة هو طريق المؤمنين المنعَم عليهم على أبلغ الوجوه وآكده.
و "الذين" موصول و "أنعمت عليهم" صلته. وقد تمّ بها إسماً مفرداً يكون في موضع الجرّ باضافة صراطٍ اليه، ولا يقال في موضع الرفع "اللذون" لأنّه اسم غير متمكّن.
وقد حكى ذلك شاذاً، كما حكي "الشياطون" في حال الرفع، وقرأ عمر بن الخطاب وعمرو بن عبد الله الزبيري: صراط من أنعمت عليهم، وهو المروي عن أهل بيت النبيّ عليه وعليهم السلام.
وقيل: المراد بالمنعَم عليهم هم الأنبياء. وقيل: النبي (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام). وعن ابن عباس: هم أصحاب موسى (عليه السلام). وقيل: أصحاب موسى وعيسى (عليهما السلام) قبل التحريف والنسخ.
وقرأ ابن مسعود: صراطَ من أنعمت عليهم.
وأصل النَعمة، هي الحالة التي يستلذّها الإنسان، فاطلقت لما يستلذّه من النَعمة وهي اللّين.
وفي مجمع البيان: أصلها المبالغة والزيادة يقال دققت الدواء فأنعمت دقّة.
وأما ما يراد في العرف من النعمة، ويسمى به، فكلّ خير ولذّة وسعادة، بل كلّ مطلوب ومؤثَر يسمّى نَعمةً عند الناس، وهذه تختلف بالإضافة، فَرُبّ نعيم لأحد يكون أليماً لآخر.
وأما النعمة الحقيقية، فهي السعادة الأخرويّة، وأصلها المعرفة بالله وملكوته، ولها صورةٌ وروحٌ وسرٌّ، فصورتها الإسلام والإذعان، وروحها الايمان والإحسان، وسرّها التوحيد والايقان.
فحكم الاسلام متعلّقٌ بظاهر الدنيا، والايمان بباطنها وباطن النشأة الظاهرة، والإحسان للحكم البرزخي ونشأته، وإليه الاشارة بقوله (صلّى الله عليه وآله):
"الإحسانُ أن تعبدَ الله كأنكَ تَراه" ، هذا هو المشهود في الاستحضار البرزخي، وسرّ التوحيد وعين اليقين مختصّ بالآخرة، فافهم ما أدرجتُ لك من أسرار الشريعة في طيّ هذه الكلمات الوجيزة، تعلم أنّ كلّ شيء فيه كلّ شيء والله المرشد.
وقد يكون اسم النعمة لغيرها صدقاً، ولكن من حيث يفضي إلى النعمة الحقيقيّة من الأسباب المعينة واللذّات المسماة نعمة مما نوضحها ونشرحها بهذه التقاسيم.
القسمة الأولى: إن الأشياء كلّها بالاضافة إلينا على أربعة اقسام: الضروري النافع، والنافع الغير الضروري، وعكسه، والذي لا ضرورة فيه ولا نفع.
أما الأول: فهو إما في الدنيا، وهو كالنَفس، فإنه لو انقطع منك لحظةً واحدة مات القلبُ. وإما في الآخرة، وهو معرفةُ الله فإنها إن زالت عن القلب المعنوي لحظة مات القلبُ واستوجب العذاب الابدي.
وأما الثاني: فهو كالمال في الدنيا، وسائر العلوم والمعارف في الآخرة.
وأما الثالث: فهو كالمضارُ التي لا بدّ منها، كالموت والهرم والمرض، ولا نظير لهذا القسم في الآخرة، فإن منافع تلك الدار لا يلزمها شيء من المضارّ.
وأما الرابع: فهو كالفقر في الدنيا، والجهل والعذاب في الآخرة.
إذا عرفت هذا التقسيم فنقول: أعظم نِعَم الله علينا الهداية بالمعرفة، فإنّا قد ذكرنا أنّه كما انّ النَفَس في الدنيا ضروريٌّ نافع، وبانقطاعه يموت القلب، فكذا المعرفة في الآخرة، فلو زالت عن القلب لحظة لهلَك، لكن الموت الأول أسهل من الثاني، لأنّه لا يتألّم فيه إلا ساعة واحدة، وأما الموت الثاني فإنّه يبقى أبد الآباد فأى نعمة أعظم وأشرف من نعمة الايمان.
ثمَّ ها هنا دقيقة؛ لا تخفى عليك انّه كما انّ التنفّس له أثران: إدخال النسيم الطيّب على القلب، وإبقاء اعتداله وسلامته، وإخراج الهواء الفاسد الردي الحارّ المحترق عن القلب؛ كذلك الفكر، له أثران: أحدهما: ايصال نسيم الحجّة وروح البرهان وبرْد اليقين الى القلب الحقيقي، وابقاء اعتدال الايمان والمعرفة عليه، والثاني: إخراج الأهوية الفاسدة والإعتقادات المؤلمة المتولَّدة من نيران الشبهات عنه، وما ذلك إلاّ بأن يعرف أنّ هذه المحسوسات الدنيويّة فانية منتهية إلى الفناء بعد وجودها، فمَن وقفَ على هذا علم إنّ أجلّ ما أنعمه الله على عبده، تجريده عن المحسوسات، وتنوير قلبه بالمعارف الإلهيات.
الثانية: إنّ الأمور كلّها بالنسبة إلينا تنقسم الى ما هو نافع في الدنيا والآخرة جميعاً كالعلم وحُسْن الخُلْق، وإلى ما هو ضار فيهما كالجهل وسوء الخُلْق، وإلى ما ينفع في الحال ويضرّ في المآل كالتلذّذ باتّباع الشهوات، وإلى ما هو عكس ذلك كقمْع الشهوات ومخالفة النفْس.
الثالثة: إعلم أنّ النعم والخيرات باعتبار آخر، تنقسم الى ما هي مؤثَرة لِذَاتها، وإلى ما هي مؤثَرةٌ لغيرها، وإلى ما هي مؤثرة لذاتها ولغيرها.
فالأول: كلذّة النظر إلى وجه الله، وسعادة لقائه، وبالجملة سعادة الآخرة التي لا انقضاء لها، فإنّها لا تُطلب ليُتوصّل بها الى غاية اخرى مقصودةٍ وراءَها، بل تطلب لِذَاتِها.
والثاني: كالدراهم والدنانير، إذ لا فائدة فيها إلاّ كونها وسيلةً لأمر آخر.
الثالث: كالصّحة والسلامة، فإنّها تقصد ليقدر بسببها على التفكّر والتذكّر الموصلَين الى لقاء الله، وليتوصّل بها إلى الذّات الدنيا، وتقصد أيضاً لِذاتِها، فإنّ الإنسان وإن استغنى عن المشي الذي يراد سلامة الرِجْل لأجله، فيريد أيضاً سلامة الرِجْل من حيث إنّها سلامة، لأنها أمر وجودي بلا ضرر، فيكون مطلوباً، إذ الوجود الذي لا ضرر فيه خيرٌ محض مؤثر لذاته. فاذن المؤثر لِذَاتِهِ فقط هو الخير والنعمة تحقيقاً، وما يؤثَر لذاته ولغيره فهو نعمة أيضاً، ولكن دون الأول، إذ المؤثَر لأجل أمر آخر لا يخلو من نقص، لأن ما لا نقص له أصلاً لو أريد لشيء آخر - ولو بوجه - لكان ذلك الشيء خيراً منه من ذلك الوجه، فلم يكن بريئاً من كل نقص بكلّ وجهٍ، وقد فرضنا كذلك وهذا خُلْفٌ، وأما ما لا يؤثَر إلا لغيره كالنقدين، فلا يوصفان في أنفسهما من حيث إنّهما جوهران بأنّهما نعمة، بل من حيث هما وسيلتان، وربما لا يكونان وسيلة في حق بعض بل بلاء وآفة، فلا يكونان نعمة، وكذلك أمور هذا العالَم.
الرابعة: إنّ الخيرات باعتبار آخر، تنقسم إلى نافعٍ وجميلٍ ولذيذٍ، فاللذيذُ هو الذي تُدرك راحته في الحال، والنافع هو الذي يفيد في المآل، والجميل هو الذي يستحسن في سائر الأحوال.
والشر أيضاً قد ينقسم إلى ضارّ وقبيح ومؤلم، وكل واحد من القسمين ضربان: مطلقٌ ومقيّد. فالمطلق؛ هو الذي اجتمعت فيه الأوصاف الثلاثة، أما في الخير فكالعلم والحكمة، فإنّها نافعة وجميلة ولذيذة عند أهل العلم والحكمة، وأما في الشرّ فكالجهل المركّب، فإنّه ضارّ وقبيح ومؤلم، وإنّما لا يحس الجاهل بألم جهله، لشواغل الدنيا وغطاء الطبيعة. والمقيّد؛ هو الذي فيه بعض هذه الأوصاف دون بعض.
فربّ نافعٍ مؤلمٍ كقطع الإصبع المتآكلة، وربّ نافع قبيح كالحُمق، فإنّه يوجب استراحة الأحمق في الحال إلى أن يجيء وقتُ هلاكه في المآل، ولذلك قيل: استراح من لا عقل له.
الخامسة: وهي الحاوية لمجامع النعم. اعلم أنّ النعَم تنقسم إلى ما هي غاية مطلوبة لذاتها، وإلى ما هي مطلوبة لغيرها. أما الغاية فهي السعادة، ويرجع حاصلها إلى أربعة أمور: بقاءٌ لا فناء له، وسرورٌ لا غمّ فيه، وعلمٌ لا جهل معه، وغنىً لا فقر معه؛ وهي النعمة الحقيقية. وغيرها يراد لأجلها ولذلك قال النبي (صلّى الله عليه وآله):
" لا عيش إلاّ عيش الآخرة" .
وأما الوسائل؛ فتنقسم الى الأقرب الأخصّ، كفضائل النفس. وإلى ما يليه في القُرب، كفضائل البدن. وإلى ما يليه في القُرب ويجاوز إلى غير البدن كالأسباب المطيفة بالبدن من المال والأهل والعشيرة. والى ما يجمعُ بين هذه الأسباب الخارجة عن النفس وبين الحاصلة لها، كالتوفيق والهداية. فهي إذن من أربعة أنواع.
أما النوع الأول: فيرجع حاصلها - مع انشعاب أطرافها - إلى الايمان والعدالة. أما الايمان فهو العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأما العدالة وهي حسن صورة الباطن، فعبارة عن تهذيب الأخلاق، وتصفية القلب عن الرذائل، وصرْف القُوى الشهويّة والغضبية والوهميّة فيما خلقت لأجله حتى يكون شجاعاً لا متهوّراً، ولا جباناً، ويكون عفيفاً لا فاجراً ولا خاملاً، ويكون حكيماً لا مكّاراً ولا أبله، فالفضائل المختصّة بالنفس المقرّبة الى الله علم مكاشفة وعلمُ معاملةٍ، وحسْن خُلْقٍ وحُسْن سياسةٍ. ولا تتمّ هذه النعمة في غالب الأمر إلاّ بالنوع الثاني وهي الفضائل البدنيّة. وهي أربعة: الصحّة، والقوّة، والجمال، وطول العمْر، ولا تتهيّأ هذه الأمور البدنيّة إلا بالنوع الثالث وهي النعم الخارجة المطيفة بالبدن وهي أربعة: المال والأهل والجاه وكرم العشيرة. ولا يُنتفع بشيء من هذه الأسباب الخارجة البدنيّة إلاّ بالنوع الرابع من النعم، وهي أربعة: هداية الله ورشده وتسديده وتأييده.
فمجموع مجامع النعم ستّة عشر، وهذه الجملة يحتاج البعض منها إلى الآخر، إمّا حاجة ضروريّة، أو نافعة. ولو أخذنا في بيان الحاجة لطريق الآخرة إلى كلّ واحد واحد من الأقسام التي ذكرناها من النعم النفسية والبدنيّة والخارجة عنها كالمال والجاه والأهل والنسب، لطال الكلامُ، لكن أخفى النعم البدنية في كونها محتاجاً إليها هو الجمال، وأخفى النعم الخارجة في ذلك هو النسب، فلنبيّن وجهَ الحاجة إليهما.
أما الجمال؛ فلا يخفى نفعه في الدنيا، فإنّ الطبائع من القبيح مستنفرة، وحاجات الجميل أقرب الى الإجابة، وجاهه أوسع في الصدور، وكلّ معينٍ في الدنيا معينٌ في الآخرة، ولأن الجمال في الأكثر يدلّ على فضيلة النفس، لأن نور النفس إذا تمّ اشراقُه تأدّى الى البدن، فالمنظَر والمخبَر كثيراً ما يتلازمان، ولذلك عوّل أصحابُ الفراسة في معرفة مكارم النفس على هيئات البدن وقالوا: الوجهُ والعين مرآة الباطن، وقيل: الروح إن أشرقَ على الظاهر فصباحةٌ، وإن أشرقَ على الباطن ففصاحةٌ. ولذلك قال (صلّى الله عليه وآله):
"اطلبوا الخيرَ عند حِسان الوجوه" . وقال الفقهاء: إذا تساوت درجاتُ المُصَلّين، فأحسنهم وجهاً أولاهم بالامامة. وقال سبحانه ممتناً بذلك: { { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي ٱلْعِلْمِ وَٱلْجِسْمِ } [البقرة:247]. وليس المعنى ما يحرّك الشهوة، فإنّ ذلك أنوثيّة، بل تناسب الأعضاء واعتدال الخِلقة.
وأمّا النَسَب، فكرم العشيرة نعمة جليلة، ولذلك قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
"الأئمّةُ من قريش" ، ولذلك كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من أَكْرم ارُومَة في نسب آدم. ولذلك قال (صلّى الله عليه وآله): "تخيَّروا لنُطفِكم" ، وقال: "وإيّاكم وخضْراءُ الدمن فقيل: وما خضراءُ الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء" .
فإن قلت: فما معنى النعم التوفيقية الراجعة إلى الهداية والرشد والتأييد والتسديد؟. فنقول: التوفيق، عبارة عن التأليف بين إرادة العبد وبين قضاء الله وقدَره، ويستعمل في الخير والسعادة، ولا خفاء في الحاجة إليه، ولذلك قيل:

إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى فأكثر ما يجني عليه اجتهاده

وأمّا الهداية، فلا سبيل لأحد الى سعادة الآخرة إلاّ بها، لأن داعية الإنسان قد تكون مائلةً إلى ما فيه صلاح آخرته، ولكن إذا كان جاهلاً به فمِن أين ينفعه مجرد الإرادة؟ فلا فائدة في الإرادة والقُدرة وسائر الأسباب إلاّ بعد الهداية، ولذلك قال تعالى: { { رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } [طه:50]. وقال { { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ } [النور:21].
وللهُدى ثلاث مراتب:
الأولى: معرفة طريق الخير والشرّ المشار إليه بقوله تعالى:
{ وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ } [البلد:10]. وقد أنعم الله به على كافّة الخَلْق، بعضه بالعقل، وبعضه على لسان الكتب والرسل ولذلك قال: { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } [فصلت:17]. فأسباب ٱلهدىٰ هي الكتب والرسل وبصائر العقول، وهي مبذولة للجميع، ولهذا كُلّفوا بتكليف واحدٍ، وتساووا في أسباب سلوك طريق النجاة بهذه الهداية العامّة.
المرتبة الثانية: هي التي يمدّ الله بها العبد حالاً بعد حالٍ، وهي ثمرة المجاهدة حيث قال:
{ { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت:69]. وهو المراد بقوله: { { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى } [محمد:17].
والمرتبة الثالثة: وراء الثانية، وهي النور الذي يشرق في عالَم الولاية بعد كمال المجاهدة، فيهتدي بها الى ما لا يهتدى إليه بالعقل الذي يحصل به التكليف، وامكان تعلّم العلوم، وهو الهُدى المطلق، وما عداه حجابٌ له، ومقدمات، وهو الذي شرّفه الله تعالى بتخصيص الإضافة إليه، وإن كان الكلّ من جهته فقال:
{ قُلْ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلْهُدَىٰ } [البقرة:120]. وهو المسمّى حياة في قوله: { { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ } [الأنعام:122]. وبقوله: { { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } [الزمر:22].
ووجه انحصار مراتب الهدى في الثلاث: انّ كلّ مقامٍ من مقامات الايمان ومنزلٍ من منازل السالكين ينتظم من أمورٍ ثلاثة: أعمال، وأحوال، وأنوار هي معارف. ولا بدّ لكلّ منها من هداية تخصّ به.
وأما الرشد، فيعني به العناية الإلهيّة التي تعين الإنسان عند توجّهه إلى مقاصده فيقوّيه على ما فيه صلاحه، ويفترّه عمّا فيه فسادُه، ويكون ذلك من جانب الباطن كما قال تعالى:
{ وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } [الأنبياء:51]. فالرشْد عبارة عن هداية باعثة الى جهة السعادة، محرّكة للعبد إيّاها، فهو بهذا الاعتبار أكمل من مجرّد الهداية الى وجوه الأعمال، وكم من مهتدٍ غير رشيدٍ، فهي نعمةٌ عظيمة.
وأمّا التسديد؛ فهو توجيه حركاته الى صوب المطلوب، وتيسيرها عليه ليشتدّ في صوب الصواب في أسرع وقت، فكما أنّ أصل الهداية لا يكفي، بل لا بدّ من هدايةٍ محركّةٍ للداعية، وهي الرشد، فكذا الرشْدُ، لا يكفي، بل لا بدّ من تيسير الحركات بمساعدة الآلات حتّى يتّصلَ بما انبعثت الداعية إليه، فالهداية محض التعريف، والرشد هو تنبية الداعية لتستيقظ وتتحرك، والتسديد إعانة ونُصرة بتحريك الأعضاء في صوب السداد.
وأمّا التأييد؛ فكأنه جامع للكلّ، وهو عبارة عن تقوية أمره بالبصيرة من داخل، وتقوية البطش ومساعدة الأسباب من خارج، وهو المعنيّ بقوله تعالى:
{ { إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } [المائدة:110].
وتقرُبُ منه العصمة، وهي عبارة عن جوهر إلهي يسنح في الباطن، يقوى به الإنسان على تحرّي الخير وتجنّب الشرّ، حتّى يصير كمانع من باطنه غير محسوس، وإيّاه عنى بقوله:
{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [يوسف:24].
فهذه هي مجامع النعم، ولن تستتبّ إلاّ بما يخوّله الله من الفهم الثاقب، والذهنا الصافي، والسمع الواعي، والقلب البصير، والطبع المتواضع، والمعلّم الناصح، والمال الزائد على ما يقصر عن المهمات بقلّته، القاصر عمّا يشغل عن الدين بكثرته، والعزّ الذي يصونه عن سفه السفهاء وتسلّط الأعداء، ويستدعي كلّ واحد من هذه النعم الستة عشر أسباباً، وتستدعي تلك الأسباب أسباباً، وهكذا إلى أن تنتهي بالآخرة إلى مسبّب الأسباب وربّ الأرباب، دليل المتحيّرين ملجأ المضطرّين.
وإذا كانت تلك الأسباب متسلسلة طويلة لا يمكن الاستقصاء فيها، فلنصرف عنان القلم عن ذكرها لخروجها عن الحصر والإحصاء، فإنّ صحّة البدن من جملتها نعمة من النعم الواقعة في الرتبة المتأخّرة، ولو أردنا أن نستقصي الأسباب التي بها تمّت هذه النعمة، لم نقدر عليها، لأنّ الأكل مثلاً، أحد أسباب الصحّة، وهو متوقّف على أسباب غير محصورة بها تتمّ نعمة الأكل، إذ لا يخفى انّ الأكْل فِعْلٌ، وكل فعَلٍ من هذا العالَم حركة إرادية، وكل حركة إرادية لا بدّ لها من جسمٍ متحرّك هو آلتها، ولا بدّ لها من قدرة على الحركة، ولا بدّ لها من إرادة والإرادة متوقّفة على العلم بالمراد، والعلم صورة نفسانيّة ونقش باطنيّ لا بدّ لها من قابل ومنقوش به، وهو لوح النفس، ومن فاعل ناقش، وهو مَلَك روحانيٌ مستفيد من مَلَك فوقه، وهكذا إلى مالك الملكوت.
ثمّ لا بدّ للآكْل من مأكول، وهو جسمٌ مركب من أصول متخالفة الطبائع والأمكنة والأحوال، ولا بدّ لها من أسباب تجمعها وتجبرها على الالتيام، وتحفظها على مزاج تتهيّأ صورة التمام، ولا بدّ لتلك الأصول من أمكنة تتكوّن فيها، وجَهاتٍ تتوجّه إليها عند خروجها، وأزمنةٍ تتحرّك فيها، ولا بدّ للأمكنة والأزمنة الموجودة للأجسام المستقيمة الحركة من محدّد مطيف بها تتعيّن به جهات أمكنتها، وحدود أزمنتها، فيكون المحدد من جنس جملة الأجرام الأكريّة الدائمة الحركة إلى أن يشاء الله.
ولا بدّ لها من أسباب محرّكة على سبيل المباشرة والمزاولة، ولأسبابها أسباب اخرى محرّكة على سبيل التشويق والامداد والعناية، إذ ليست حركتها شهويّة أو غضبيّة لتكون حيوانيّة محضة، ولا مجازفة أو وهميّة محضة طلباً لثناءٍ أو حُسْنِ ذكْر أو صيت، أو نفعاً للسافل، بل حركة شوقيّة علويّة، وخدمة إلهيّة، وطاعة ربّانية، فلها ملائكة تديرها، وفوقها ملائكة أخرى تدبّرها وتشوّقها طلباً لبارئ الكلّ وتشوّقاً إليه، وطاعة له على وجه يلزمها رشح الخَير الدائم على الأداني والأسافل.
ثمّ لا بدّ للمأكول من صانعٍ يُصلحه، ولا بدّ من أسباب لإصلاحه، من أرضٍ ينبت فيها، وهواءٍ يصلح لها، وحرارةٍ تنضجها، وماء يسقيها، والماء لا يتحرّك بنفسه من مكانه كالبحْر، فلا بدّ لحركته من أسباب، بعضها طبيعيّة عنصريّة، وبعضها نفسانيّة فلكيّة، وبعضها قدَرية إلهيّة، كما يعلمه العلماء الإلهيّون، ولذلك قال:
{ { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّاً } [عبس:24 - 25].
ثمّ لا يكفي وجود الماء والتراب والهواء، إذ لو تُركت الحبَّة في أرض نديّة صُلبة لم تنبت، لفقْد نفوذ الهواء في باطنها، فلا بدّ من أرضٍ متخلخلة مشقوقة لدخول الماء فيها وخروج النبت منها، لا يتمّ شيء منها إلاّ بأسباب علويّة وراء أسباب سفليّة منتهية إلى الله، كما قال:
{ ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا } [عبس:26 - 27] الآية.
ولا بدّ أيضاً لحركة الهواء في باطن الأرض من محرّكٍ شديدٍ يحرّكه ويَضربُه بعُنفٍ على الأرض حتّى ينفذ فيها، فيحتاج بمثْل ما ذكرنا الى أسباب منتهيةٍ الى الله تعالى، كما أشار إليه بقوله:
{ { وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } [الحجر:22].
فانظر في نعم الله في خلْق البحار والأمطار، وتحريك السُحب إلى أرض الزراعة، ثمّ الأرض، ربما كانت مرتفعةً والمياه لا ترتفع إليها، فانظر كيف خلَق الله الغيومَ فسلّط الرياح عليها ليسوقها بإذنه إلى أقطار العالَم وهي سُحبٌ ثِقالٌ بالماء، ثمّ انظر كيف يرسله مدراراً على الأرض. ثمّ انظر كيف خلَق الجبال حافظةً للمياه تنفجر منها العيون والأنهار تدريجاً، فلو خرجت دفعة، لخربت البلاد، وهلكت الزروع والمواشي.
وأما الحرارة، فإنّها لا تنزل من الأثير بطبيعتها، ولا تحصل من الماء والأرض وهما باردان؛ فانظر كيف سخَّر الشمس، وكيف أسكنها الله في موضعٍ لائقٍ لا يتضرّر أهلُ الأرض بقُربها المفرط للتحليل والتسخين، ولا ببُعدها المفرط للتجميد والتبريد، وجعلها دائرة حول الأرض شمالاً في فصل، وجنوباً في فصل، ومتوسّطاً فيما بينهما في فصلين آخرين من الفصول الأربعة، لتنتفع بها جميعُ النواحي، وتتسخّن بها في وقت دون وقت، فيحصل البرْد عند الحاجة إليه، والحرارة عند الحاجة إليها، فهذه إحدى حِكَم الشمس، والحِكَم فيها أكثر من أن يحصى.
وكذا في القمر الذي هو كالخليفة لها، وكذا سائر الكواكب مع انّها في أنفسها موجودات شريفة مطيعة لله تعالى، خُلقَت للخدمة والطاعة لله، والتقرّب اليه في صلواتها الدائمة، وسجودها وركوعها، ولو لم تكن كذلك، لكان خلْقها عبثاً وباطلاً، ولم يصح قوله تعالى:
{ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ } [الدخان:38]. وقوله: { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران:191].
ولهذا لما نظر رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) إلى السماء، قرأ هذه الآية ثمّ قال:
"ويلٌ لمن قرأ هذه الآية ثم مسح بها سبلته.." معناه أن يقرأها ويترك التأمّل في أحوال ملكوت السماء، ويقتصر من فهْم ملكوت السموات على أن يعرف لونَ الفلك وضوءَ الكواكب، وذلك مما يشترك في معرفته الدوابّ أيضاً.
فللّه في ملكوت السموات والأرض والآفاق والأنفس عجائب عظيمة يطلب معرفتها المحبّون لله، المشتاقون إلى لقائه. فإنّ من أحبّ عالِماً فلا يزال مشغوفاً بطلب تصانيفه ودقائق معانيه.
فكذلك الأمر في عجائب صنع الله وملكوت بدائعه، فإنّ العالَم كلّه من تصنيفه، بل تصنيف المصنفّين من تصنيفه الذي صنّفه بواسطة قلوب عباده، فلا يتعجّب من المصنّف بل من الذي سخّره لتأليفه بما أنعم عليه من هدايته وتعليمه، وإرشاده وتسديده. فالمقصود؛ أنّ غذاء النبات الذي يتوقّف عليه غذاء الإنسان، لا يتمّ بالعناصر الأربعة والشمس والقمر والكواكب، ولا تتمّ تلك إلاّ بالأفلاك التي مركوزة فيها، ولا تتمّ الأفلاك إلاّ بحركاتها. ولا تتمّ حركاتها إلاّ بملائكة سماويّة يحرّكونها، وكذلك يتمادى إلى أسباب بعيدةٍ تركنا ذكرَها تنبيهاً بما ذكر على ما اهمل.
روى الشيخ الجليل محمد بن عليّ بن بابويه القمّيرحمه الله في عيون أخبار الرضا مسنداً عن الإمام محمد بن علي، عن أبيه الرضا عليّ بن موسى، عن أبيه موسى بن جعفر بن محمّد، عن جده (عليهم السلام). قال: دعا سلمانُ أبا ذرَ رحمة الله عليهما إلى منزله، فقدّم إليه رغيفين، فأخذ أبو ذر الرغيفين يقلّبهما، فقال سلمان: يا أبا ذر، لأيّ شيء تقلّبهما؟ قال: خفتُ ألاّ يكونا نضيجين. فغضبَ سلمانُ من ذلك غضباً شديداً، ثم قال: ما أجرأك حيث تقلّب هذين الرغيفين، فوالله لقد عمِل في هذا الخبز الماءُ الذي تحت العرش، وعملت فيه الملائكةُ حتى ألقوه الى الريح، وعملت فيه الريحُ حتّى ألقته الى السحاب، وعمل فيه السحابُ حتّى أمطره الى الأرض، وعمل فيه الرعدُ والملائكةُ حتّى وضَعوه مواضعَه، وعملت فيه الأرضُ والخشبُ والحديدُ والبهائمُ والنارُ والحطَبُ والمِلحُ وما لا أحصيه أكثر، فكيف لك أن تقوم بهذا الشكر؟ فقال أبو ذر: إلى الله أتوبُ، وأستغفر الله مما أحدثتُ، وإليك اعتذر مما كرهت.
فهذا من نعم الله في خلْق الأسباب لأجل غذاء النبات، ولا يخفى أنّ ما ذكرناه بعض من أسباب غذائه الجليّة منها، إذ قد طوَينا ذكرَ تفاصيل القوى النباتيّة الباطنة عن الأبصار، كالغاذية مع فروعها - من الجاذبةِ والماسكةِ والهاضمةِ والدافعةِ - وكالنامية مع خدمها، والمولّدة مع جنودها ولَواحِقها. ولكلّ منها مواضع وأسباب وملائكة تسخّره وتحرّكه لأجل فعله المخصوص، لو أردنا ذكرَها لأدّى الى التطويل قبل حصول الاستقصاء فيها، فلنصرف عن ذكرها، ولنذكر شيئاً من نعمه تعالى في خلْق الأسبابِ الموصلة للأطعمة إلى جوف الإنسان.
فمنها الإدراك والحركة، فمن نعم الله عليك أن خلَق لك آلة الإحساس وآلة الحركة في طلب الغذاء، فانظر الى ترتيب حكمته في خلق الحواسّ الخمس التي هى آلة للادراك.
فأولها حاسّة اللمس، التي تعمّ الحيوانات، لكونها واقعة في عالَم الأضداد، فيقع بها الاحتراز عن الحرّ الشديد والبرْد الشديد مثلاً، وخصوصاً في الأكل، وهذه لا تكفي لاقتصار إدراكها على القريب، ولا تقدر بها على طلب الغذاء من حيث يبعُد عنك. فافتقرتَ الى حسّ تدرك به ما بعُد عنك، فخلَق الله فيك حسّ الشمّ، إلاّ انّك تدرك به الرائحة ولا تدري انّها جاءت من أيّ ناحية، فتحتاج الى أن تطوف كثيراً من الجوانب، فخلَق لك البصَر لتدرك ما بعُد عنك وجهته معاً فتقصده، ولا تدرك به ما وراء الجدران والحجب، فخلَق لك السمْع حتّى تدرك به الأصوات من وراء الجِدار عند جريان الحركات، ولأنّك لا تدرِك بالبصَر إلاّ موجوداً حاضراً وأمّا الغائب فلا يمكنكَ معرفته إلاّ بكلام ينتظم من حروف وأصوات، فأنعم الله عليك بهذه الحاسّة، وميّزك بفهْم الكلام عن سائر الحيوانات.
وكلّ ذلك ما كان يغنيكَ لو لم يكن لكَ حسُّ الذوق لتدرك أنّ غذاءك موافق لك أو مخالف فتأكله فتهلك، ثمّ هذه كلّها لا تكفيك لو لم يخلق في مقدّم دماغك حسّ آخر يجتمع عنده مدركات هذه الخمس، فتحتاج الى هذا الحسّ، وإلى الحافظة لتحفظ عندك صورة ما ادّخرته من الغذاء الى وقت الحاجة، وإلى مدرك للمعاني المتعلّقة بأفراد نوعك وجنسك التي تحتاج الى صداقتها ودفع عداوتها في تحصيل الغذاء الذي يحصل لك بالصناعة لا بالطبيعة، وإلى حافظٍ لها، وإلى متصرّفٍ فيها وفي الصور المخزونة بالتفصيل والتركيب والاستحضار، وهذه كلّها تشاركك فيها الحيوانات.
فلو لم يكن لك إلا هي لكنتَ ناقصاً لعدم ادراكك عواقب الأمور، فميّزك الله وأكرمك بصفةٍ أخرى هي أشرف من الكلّ وهو العقل، فتدرك مضرّة الأطعمة ومنفعتها الجليّة والخفية بحسب الحال والمآل جميعاً.
وبه تدرك كيفيّة طبخ الأطعمة وإصلاحها، وذلك أخسّ فوائد العقل، وأقلّ الحكمة في انشائه، بل الحكمة الكبرى فيه معرفة الله، ومعرفة أفعاله، ومعرفة الحكمة في عالمه.
وعند ذلك تنقلب فوائدُ الحواسّ في حقك إلى ما ينفعك في طلب الخَير الأقصى، فتكون الحواسّ الخمس كالجواسيس وأصحاب الأخبار والموكّلين بنواحي المملكة لاقتناص الأخبار المختلفة من الأقطار، وتسليمها إلى الحسّ المشترك القاعد في سرير مقدّم الدماغ، كصاحب القصص والكتب للملك، فيأخذها وهي مختومة إذ ليس له إلاّ اخذها وحفظها، وأما حقائق ما فيها فلا، ولكن الملك يسلّم إليه هذه الإنهاءآت مختومة فيفتحها ويطّلع منها على أسرار المملكة، ويحكم فيها بأحكام عجيبةٍ لا يمكن استقصاؤها في هذا المقام، وبحسب ما يلوح له يحرك الجنود.
فهذه سياقة نعمة الله عليك في الإدراكات، ولا يمكن استيفاؤها وما يتوقّف عليها من الأسباب، فإنّ الحواسّ الظاهرة بعض المدارك، والبصر واحد من جملتها، والعين آلة واحدة لها، وقد ركّبت على عشر طبقات مختلفة، بعضها رطوبات، وبعضها أغشية، وبعض تلك الأغشية كأنّها نسج العنكبوت، وبعضها كالمشيمة، وبعض تلك الرطوبات كبياض البيض، وبعضها كأنه الجمد، ولكل منها صفةٌ وصورةٌ وهيئة وشكل وتدوير، ولكل منها أمساح وأجزاء وقُوى وكيفيات، لكل منها أحكام من الصحّة والمرض والسلامة والآفة لا يعلمها إلاّ الله.
ولو اختلّت طبقةٌ واحدة بل شيء من أسبابها، لاختلّ البصرُ وعجَز عنه الأطباء والكحّالون.
وقد صُنِّفت في تشريح العين مجلدات كثيرة، مع انّ حجمها لا يزيد على جوزة صغيرة، وأعجب من هذا دخول الأفلاك وطبقاتها وما تحويه من جملة العناصر في هذه الجوزة الصغيرة، من غير أن يتضايق ولا يتصاغَر ذلك الكبير ويتعاظم هذا الصغير، وقس بما ذُكر حاسّة السمع وسائر الحواسّ الظاهرة، ولا نسبة لها في الصنع والحكْمة إلى الحواسّ الباطنة، كما لا نسبة للباطنة إلى العقل الذي هو وراء كلّها.
فهذه نعم الله في أسباب الإدراك، فقسْ عليها حالَ نعم الله في خلْق أسباب التحريك الذي هو قرين الإدراك في كلّ نفس، كما قال تعالى:
{ { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } [ق:21] فالسائق هو مبدء مبادي الإدراك، والشهيد هو مبدء مبادي التحريك، فإنّك بعد خلق الإدراكات فيك لا يكفيك مشاهدة الطعام، بل تفتقر الى شهوة الأكل والميل إليه تستحثّك على الحركة والطلَب، فخلَق الله فيك شهوةَ الطعام وسلّطها عليك كالمتقاضي. ثمّ هذه الشهوة لو لم تسكن إذا أخذت مقدارَ الحاجة منك، أهلكتَ نفسَك. فخلَق فيك الكراهةَ عند الشَبَع. ثمَّ خلق فيك شهوةَ المجامعة لبقاء نوعك ودوام نسلك، وفي خلْق أسباب التوليد من الانثيين والرحِم ودمِ الحيض والمني والمجاري والعروق والأوعية، وكيفيّة توليد النُطفة وتشكّلها، وكيفية إدارتها في أطوار الخلْقة إلى تمام الأعضاء، من العجائب ما لا يحصى.
ثمّ الشهوةُ والغضبُ، لا يدعوان الا إلى ما ينفع ويضرّ في الحال. وهما لا يكفيانك، فميّزك الله عن الحيوانات بقوّة أخرى هي الإرادة العقليّة إكراماً لك وإفراداً عن البهائم، كما أفردك بمعرفة العواقب.
ثمّ هذه القوى لا تكفيك، فكمْ من زَمِن مدرِكٍ مشتاقٍ إلى شيء بعيدٍ منه لا يقدر على المشي إليه، فخلَق لك قدرةً على المشي والطلب لمشتهياتك، وآلات مُعِينَةٍ عليهما، وعلى الدفع والهرب لما يمنعك وعما يضادّك، وتلك الآلات بعضها طبيعيّة كالأعضاء، وبعضها خارجيّة كالاسلحة والمراكب والدوابّ والفنّ وآلات الزرْع ومباديها وأسبابها وفواعلها من الصنّاع والمُصلحين وغير ذلك.
وفي كل ذلك من نِعَم الله وحكمته ما لا يعدّ ولا يحصى، فلتعتبر رغيفاً واحداً ولتنظر ما تحتاج إليه حتّى يصلح للأكل من بعد إلقاء البذر إلى الأرض.
فانظر إلى أعمال الصنّاع في إصلاح آلات الحراثة والطحْن والخبز من نجّار وحداد وغيره، وانظر إلى حاجة الحدّاد إلى الحديد والرصاص والنُحاس، وانظر كيف خلَق الله الجبالَ والأحجار والمعادن، فإن فتّشتَ علمتَ انّ رغيفاً واحداً لا يستدير ما لم يعمل عليه أكثر من ألف صانع، ابتداؤها من المَلَك الذي يزجي السحاب لينزل الماء، الى آخر الأعمال من جهة الملائكة، حتّى تنتهي النوبةُ إلى الإنسان، فإذا استدير طلبه قريب من سبعة آلاف صانع، كلّ صانع أصل من أصول الصنائع التي بها تتمّ مصلحة الخلْق، ثم تأمّل في كثرة أعمال الإنسان في تلك الآلات.
حتّى أن الإبرة الصغيرة التي فائدتها خياطة اللباس الذي يمنع عنك البرْد، لا يكمل صورتها إلاّ بعد أن تمرّ على يد الإبريّ خمسة وعشرين مرّة.
ثمّ اعلم أنّ هؤلاء الصنّاع، لو تفرّقت آراؤهم، وتنافروا تنافر طباع الوحش وتبدّدها بحيث لا يحويهم مكانٌ واحدٌ ولا يجمعهم غرَضٌ واحد، فانظر كيف ألّف الله بين قلوبهم، فلأجل الإلْف وتعارف الأرواح اجتمعوا وائتلفوا، وبنوا البلدان والمُدن، ورتَّبوا المساكن والدور والأسواق والخانات وما أشبهها مما يطولُ شرحُه.
ثمّ هذه المحبّة تزولُ بأغراض يزاحمون عليها، ويتنافسون فيها، حتّى ينجرّ إلى الحسَد والغَيظ، وذلك يؤدّي الى التقابل والتفاسد، فانظر كيف سلّط الله عليهم السلاطين وأيّدهم بالقوّة والشوكة والعدّة والأسباب، وألقى رُعبهم في قلوبُ الرعايا حتّى أذعنوا لها طَوعاً وكُرهاً، وكيف هَدى الله السلاطين إلى طريق إصلاح البلاد، حتّى رتّبوا أجزاء المدينة كأنّها أزاء شخص واحد تتعاون تلك الأجزاء على غرضٍ واحدٍ يتبع البعض منا بالبعض، ورتّبوا الرؤساء والقضاة والحكّام وزعماء الأسواق، واضطرّوا الخَلْق الى قانون العدل، وألزموهم للتساعد والتعاون بذلك القانون.
فانظر كيف بعث الأنبياء حتّى أصلحوا السلاطين المصلحين للرعايا، وعرّفوهم قوانين الشرع في حفظ العدْل بين الخَلق، وقوانين السياسة في ضبطهم، وكشفوا من أحكام الإمامة والإمارة وأحكام الفقه والقضاء ما اهتدوا به الى إصلاح الدنيا، فضلاً عما أرشدوهم إليه من إصلاح الدين.
فانظر كيف أصلح الله الأنبياء بالملائكة، وكيف أصلح الملائكة بعضهم ببعض، إلى أن ينتهي إلى الملَك المقرّب الذي لا واسطة بينه وبين الله، فينتهي إلى حضرة الربوبيّة التي هي ينبوع كلّ نظام، ومطلع كلّ حسْن وجمال، ومنشأ كلّ كمال واعتدال.
وكل ذلك الذي عدّدناه قطرةٌ من بحار كرمه ونعمه، ولولا فضله ورحمته إذ قال:
{ { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت:69]، لما اهتدينا إلى معرفة هذه النبذة اليسيرة. ولولا عزله إيّانا لكمال رأفته عن أن نطمح بعين الطمع إلى الاحاطة بكنْه نعمه، لتشوّقنا إلى طلب الاحاطة والاستقصاء، لكنّه عزلنا عن ذلك إذ قال: { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [إبراهيم:34].
فبإذنه انبسطنا، وبمنعه انقبضنا، لأنّه القابض والباسط لأزمّة أفكارنا، وهو الممسك والمرسل لأعِنّة عقولنا واختيارنا.
فهذا ما أردنا ايرادَه من بيان حقيقة النعمة وتقسيمها، وذكْر أقسامها ودرجاتها ومجامعها وأصنافها، والإشعار بأنّها متسلسلة، وأنّ الإحاطة بها ليس بمقدور البشر وإنّما هو شأن من خلَق القُوى والقدر.
وليعذرني إخوان الحقيقة في اطناب الكلام في هذا المقام، وايراد نكات لخّصتها وجرّدتها من صُحف الكرام، تكثيراً لفوائد هذا الباب، وتشبّهاً بالبرَرة الكتّاب، ومنه البداية وإليه المآب.
قوله جل اسمه:
{ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }
قرئ "غيرَ" بالنصب في الشواذّ ورويت عن ابن كثير وهي قراءة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقرئ "غير الضالين" وروي ذلك عن عليّ (عليه السلام).
وأما النصب فعلى الحاليّة عن الضمير المجرور، والعامل فيه "أنعمْتَ"، أو بإضمار "أعْني" أو بالإستثناء، إن فسّر النعم بما يشمل القبيلين ويعمّ.
وفي الجرّ ثلاثةُ وجوهٍ: كونه بدلاً من ضمير "عليهم"، وكونه بدلاً من الموصول، وكونه صفة له موضحة أو مخصصة على معنى كونهم جامعين بين أسباب النعمة والكمال، وبين أسباب السلامة من مظاهر الغضَب والضلال، وإن كان الأصل في "غير" أن يكون صفة للنكرة فذلك إنّما يستصح بأحد وجهين:
جعل الموصوف مجرى النكرة، بأن لم يُقصد بهذا الموصول موقّت معهود كالمحلّى في قوله: وَلقد أمرّ على اللئيم يسبّني.
أو جعل الصفة مجرى المعرفة لكون "غير" مضافاً إلى ما له ضدٌّ واحد، فإنّ للمغضوب عليه ضداً واحداً هو المنعمَ عليه. فيكون متعيّناً معروفاً عندك تعريف الحركة بغير السكون، فإذا قلت: عليك بالحركة غير السكون، فوصفت المعرفة بالمعرفة، بل وصفتَ الشيء بنفسه لأنّها عينه، فكأنك كرّرت الحركة تأكيداً.
و "عليهم" الاول في محلّ النصب على المفعولية، والثاني في محلّ الرفع على الفاعليّة بالنيابة.
و "لا" زائدة تأكيداً لما في "غير" من معنى النفي الحرفيّ، ولهذا تقول: أنا زيداً غير ضارب، كما تقول: أنا زيداً لا ضارب. ولا تقول: أنا زيداً مثل ضارب.
والغضَب - ها هنا - بمعنى إرادة إنزال العقوبة على من يستحقّها في صورة الانتقام حكمةً من الله، لا بمعنى كيفيّة نفسانية توجب ثَوران الدم للانتقام تشفّياً عن حالة الغيظ كما في الحيوان. فاطلاق الغضَب ونحوه على الله تعالى باعتبار غاياته الفعليّة لا باعتبار مباديه الإنفعالية كما مرّ في معنى الرحمة. هذا ما أدّى إليه النظر العقلي، وتحقيق ذلك ونحوه مما يُحوج إلى نور المكاشفة كما وقعت الإشارة إليه.
والضلال؛ هو العدول والذهاب عن طريق التوحيد ومنهج الحقّ، وأصله الهلاك، ومنه قوله تعالى:
{ { أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ } [السجدة:10]. أي هلكنا، ومنه قوله تعالى: { { وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } [محمد:8]. أي أهلكها.
وللعدول جهاتٌ وشُعبٌ كثيرة، ولكلّ منها عرض عريض، وبازاء كلّ ضرب من العدول ضرب من الغضب.
وعند المفسّرين: المغضوب عليهم اليهود لقوله تعالى فيهم:
{ { مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ } [المائدة:60]. والضالّون النصارى لقوله تعالى: { { وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ } [المائدة:77].
وقال الحسن البصري: إنّ الله لم يبرئ اليهود عن الضلالة بإضافتها الى النصارى، ولم يبرئ النصارى عن الغضب بإضافته الى اليهود، بل كلّ من الطائفتين مغضوبٌ عليهم وهم ضالّون، إلاّ انّه تعالى قد خصّ كلَّ فريق بسِمةٍ تُعرفُ بها مع كونهم مشتركين في صفات كثيرة.
وقال عبد القاهر: حقّ اللفظ فيه خروجُه مخرج الجنس وأن لا يُقصد به قوم بأعيانهم كما تقول: اللهمّ اجعلني ممّن انعمتَ عليهم ولا تجعلني ممن غضبتَ عليهم، فإنك لا تريد أنّ ها هنا قوماً باعيانهم هذه صفتهم. وفيه موضع تأمّل كما لا يخفى على من عرف العُرف.
ويتّجه لأحد أن يقول: إنّ المغضوب عليهم هم العُصاة والفسقةُ، والضّالّين هم الجهّال والكفّرةُ، لأنّ المهتدى بنور الحقّ الى الصراط المسقيم، والفائز بكرامة الوصول الى النعيم، من جمع الله له بين تكميل عقله النظري بنور الايمان، وتكميل عقله العملي بتوفيق العمل بالأركان، فكان المقابل له في الجملة من اختلّ إحدى كريمتيه وقوّتيه العاقلةُ والعاملةُ فالمخلّ بالعمل فاسقٌ مغضوبٌ عليه لقوله تعالى في القاتل عمداً:
{ َغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ } [النساء:93]. والمخلّ بالعلْم والإدراك للحقّ جاهلٌ كافر لقوله تعالى: { { فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقِّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ } [يونس:32].
وإنما لم يقلْ: غير الذين غضبتَ عليهم، على وفاق: الذينَ أنعَمْتَ عَلَيْهِم، ترجيحاً لجانب النعمة على جانب النقمة، بنسبة الفعل إليه تعالى في الأولى صريحاً، وفي الثانية بخلاف ذلك، كما هو دأب كرمه وجرْيُ عادته في سَوق كلامه المجيد، مثل قوله تعالى:
{ { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [إبراهيم:7]. حيث لم يقل: لأعذبنّكم في مقابلة: "لأزيدنّكم"، ومراعاة للأدب في الخطاب، واختياراً لحسْن اللفظ المستطاب.
مكاشفة
[استعارة الالفاظ للايصال الى المعانى العرفانية]
اعلم أنّ تمام التحقيق في هذه الآية، يحتاج الى الاستمداد من بحر عظيم من بحار علوم المكاشفة، فنقول على طبق ما حقّقه صاحب البصيرة المكحّلة بنور الهداية: إنّ لله في جلاله وكبريائه صفةٌ بها يفيض على الخلْق نورَ حكمته وجُوده تكويناً واختراعاً، يعبّر عنها بلفظ، جلّت عظمة تلك الصفة أن تكون في عالم الألفاظ عبارة تدلّ على كنه حقيقتها، لعلوّ شأنها، وانحطاط رتبة واضعي اللغات أن يمتدّ طرفُهم إلى مبادي إشراقاتها، فانخفضت عن ذُروتها أبصارُهم انخفاض أبصار الخفافيش عن ذُروة الشمس، فاضطرّ الذين فُتحت أبصارُهم لملاحظة جلالها، إلى ان يستعيروا من حضيض عالَم الظلمات عبارةً توهِم من مبادي أنوار حقيقتها شيئاً ضعيفاً جداً، فاستعاروا لها لفظ "القدرة" فتجاسَرنا بتوقيفٍ من جانب الشرع أنّ لله صفةً يصدر عنها الخَلْق والاختراع، ثمّ الخَلْق ينقسم في الوجود تقسيماً عقلياً إلى أقسام، لتنوّعات فصول ومبادي انقسام، فاستُعير لمصدَر هذه الأقسام ومبدء هذه التخصيصات بمثل تلك الضرورة الواقعة في عالَم الألفاظ والأصوات عبارة "المشيّة"، ثمّ انقسمت الأفعال الصادرة من القُدرة المنبعثة عن المشيّة الناشية عن الحكمة التي هي علمُه بالنظام الأكمل وهو عين ذاته، إلى ما ينساق الى المنتهى الذي هو غاية حكْمتها الى ما يوقف به دون الغاية، وكان لكلّ منهما نسبة الى صفة المشيّة لرجوعها إلى الاختصاصات التي بها يتمّ الاختلاف والقسمة، فاستُعير لنسبة البالغ غايته عبارة المحبوب، وهو المنعَم عليه، ولنسبة الواقف دون غايته عبارة المكروه، وهو المغضوب عليه.
وقيل: إنّهما جميعاً داخلان تحت المشيّة، إلاّ انّ لكلّ منهما خاصيّة أخرى في النسبة، يوهِم لفظ المحبّة والكراهةُ منهما أمراً مجملاً عند طلاّب اكتساب العلوم من اطلاقات الألفاظ واللغات.
ثمّ نقول: لمّا كان لكلّ منهما خاصيّة لازمة تكون مقتضى ذاته من غير تخلّل جعل مستأنف بينه وبينها، وهي مستدعيةٌ لأن تنزل إليه من سلطان الأزل لباساً يناسبه ويردّ عليه من المشية السابقة كسوة ملائمة، فانقسَم عبادُه الذين هم أيضاً من خلْقه واختراعه، إلى من سبقت له في المشيّة الأزليّة أن يستعمله لاستيقاف حكمته دون غايتها، ويكون ذلك قهراً في حقّهم بتسليط الدواعي والبواعث عليهم، وإلى من سبقت لهم في الأزل أن يستعملهم لسياقة حكمته الى غايتها في بعض الأمور، ويكون ذلك لطفاً في حقّهم.
فكان لكلّ من الفريقين نسبةٌ خاصّة إلى المشيّة، فاستعير لإحداهما عبارةُ "الرضا" وللأخرى عبارة "الغضب".
وظهَر على من غضب عليه في الأزل فعلٌ وقفت الحكمة به دون غايتها، فاستعير له "الكفران"، واردف ذلك بنقمة اللعن زيادة في النكال.
وظهر على من ارتضاه في الأزل فعلٌ انساقت به الحكمة الى غايتها، فاستعير له الشكْر، واردف بخلعة الثناء زيادة في الرضاء والقبول.
فكان الحاصل انّه أعطى الجمال ثم أثنى عليه، وأعطى النكال ثمّ قبّح وأردى، فيكون بالحقيقة هو المجمِل والمُثني على الجمال، والمثنى عليه بكلّ حال.
وكأنّه لم يثن إلا على نفسه، وإنما العبد هدف الثناء من حيث الظاهر، فهكذا كانت الأمور في أزل الآزال، وهكذا تسلسلت الأسباب بتقدير ربّ الأرباب، ولم يكن شيء من ذلك عن اتّفاق وبخت كما زعمَه أصحابُ ذيمقراطيس. ولا عن إرادة بحت من دون غاية وحكمة كما عليه أصحاب الأشعري، بل عن إرادةٍ وحكمةٍ وحكْمٍ جزْمٍ، وأمرٍ حتْمٍ، استُعير له لفظ "القضاء".
وقيل: إنّه كلمحٍ بالبصر، ففاضت بحار المقادير بحكم ذلك القضاء المبرم بما سبق به التقديرُ، فاستُعير لترتّب آحاد المقدورات بعضها على بعض، لفظ "القَدَر"، فكان لفظ القضاء بإزاء ذلك الأمر العقلي الكلّي، ولفظ القدَر بإزاء ذلك الأمر التفصيلي القدَري المتمادي إلى غير النهاية.
وقيل: ليس شيء من ذلك بخارجٍ عن قانون القضاء والقدَر، فخطَر لبعض العباد أنّ القسمة لِماذا اقتضت هذا التفصيل؟ وكيف انتظم العدل مع هذا التفاوت في الايجاد والتكميل؟
وكأنّ بعضهم لقصورهم لم يطيقوا ملاحظةَ كُنْه الأمر والإحتواء على مجَامعه، فأُلجموا عمّا لم يطيقوا خوض غمرته بلجام المنع، وقيل لهم: اسكتوا، فما لهذا خلقتم "لا يُسألُ عما يفعلَ وهمْ يُسألون"، عليكم بدين العجائز والزَمنى عن سلوك عالَم السماء، وقُصارى إيمانكم أن تؤمنوا بالغيب ايمانَ الأكمه بالألوان، اسكتوا، وأنّى للعميان والسؤال عن حقائق الألوان.
وأما من امتلأت مشكاة عقلهم المنفعل من نور الله النافذ في السموات والأرض، وكان زيتهم أولاً صافياً يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار، فمسّته نارُ العقل الفعّال فاشتعل نوراً على نور، فأشرقت أقطار الملكوت بين أيديهم بنور ربّها فأدركوا الأمور كما هي عليه، فقيل لهم: تأدّبوا بأدب الله، واسكتوا، واذا ذُكر القدَر فأَمسكوا فإنّ للحيطان آذان، وحواليكم ضعفاءُ الأبصار فسيروا بسَير أضعفكم، ولا تكشفوا حجاب الشمس لأبصار الخفافيش، فيكون ذلك سبب هلاكهم، فتخلّقوا بأخلاق الله، وانزلوا إلى السماء الدنيا من منتهى علوِّكم ليأنس بكم الضعفاء، ويقتبسوا من بقايا أنواركم المشرِقة من وراء حجابكم، كما يقتبس الخفّاش من بقاء نور الشمس والكواكب في جنح الليل، فيحيى به حياة تحتملها شخصُه وحالُه لا حياة المتردّدين في كمال نور الشمس، وكونوا كما قيل:

شرِبنا وأهرَقنا على الأرضِ فضلةً وللأرضِ من كأسِ الكِرامِ نَصيبٌ

تمثيل نوري
[بيان أن لا مؤثر في الوجود إلا الله، والحكمة في أفعاله]
وقد ضرَب الله مثلاً لهذا المرام تقريباً إلى أفهام الأنام، وقد عرّف أنه ما خلَق الجِنَّ والإنس إلاّ ليعبدون، وكانت عبادتهم ومعرفتهم غاية الحكمة في حقِّهم، فأخبَر انّ له عبدين يُحبّ أحدَهما واسمه جبرائيل وروح القدس والروح الأمين، وهو عنده محبوب مطاع مكين، ويُبغض الآخر واسمه إبليس، وهو اللعين المنظَر إلى يوم الدين.
ثمّ أحال الإرشاد والتعليم إلى جبرائيل فقال:
{ { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ } [النحل:102]. وقال: { يُلْقِي ٱلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [غافر:15]. وقال: { عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ } [النجم:5 - 6].
وأحال الإغواء والإضلال على إبليس فقال: { لِيضِلَّهُمْ عَنْ سَبيله }.
والهداية: تبليغ العباد وسياقتهم الى غاية الحكمة، فانظر كيف نسبَها الى العبد الذي أحبّه.
والإغواءُ: استيقافهم دون بلوغ غاية الحكمة، فانظُر كيف نسبَه إلى العبد الذي غضِب عليه مع انّه لا فاعِل ولا حاكِم إلاّ هو كما قال:
{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [الشمس:7 - 8]. وهذا محض العدل وحُسن الترتيب في النظام.
ولهذا الأمر، يوجَد لك في الشاهد مثال، فالملك إذا كان له عبدان، ويريد أن يسقيه أحدهما، ويكنس الآخر فناءَ منزلة من القاذورات، لا يفوّض سقي الشراب الطيّب إلاّ إلى أحسنهما وأطيبهما منظراً وأحبهما إليه، ولا يعيّن للكُنْس إلاّ أقبحهما صورة وأخسّهما، ولا ينبغي لك أن تقول: هذا فعلي، فلم يكن فعله على مذاق فعلي، فإنّك أخطأت إذا أضفت ذلك الى نفسك، بل هو الذي صرفك وداعيتك لتخصيص الفعلِ المكروه بالشخصِ المكروهِ، والفعْل الحسَن بالشخص المحبوب، إتماماً للعدل، فإنّ عدلَه تارةً يتمّ بما لا مدخل لك فيه وتارةً يتمّ فيك أو بمالَكَ فيه مدخلٌ فإنّك ايضاً من أفعاله.
فداعيتُك وعلمُك وقدرتُك وسائرُ أسباب حركتك في التعيين هو فِعْله الذي رتّبه بالعدْل والحكْمة ترتيباً تصدر منه الأفعال المعتدلة، إلاّ انّك لا ترى إلاّ نفسك، فتظنّ إنّ ما يظهر عليك في عالَم الشهادة ليس له سببٌ من عالَم الغيب والملكوت، فلذلك تضيفه الى نفسك.
وإنّما أنتَ مِثْل الصَبيّ الذي ينظر ليلاً الى لعب المشعبِذ الذي يُخرج صوراً من وراء حجاب، يرقص ويَزْعق ويقوم ويقعد، فيتعجّب لظنّه أنّ هذه الأفعال إنّما تصدُر من تلك الصوَر. ولم يعلم أنّها لا تتحرّك بأنفسها، وإنّما تحركها خيوطٌ شَعريّة دقيقة لا تظهر في ظلام الليل، ورؤوسها في يد المشعبِذ، وهو محتجب عن الصبيان فيفرحون ويتعجّبون.
وأما العقلاء، فإنّهم يعلمون أنّ ذلك يُحرَّك وليس يتحرَّك، ولكنّهم ربما لم يعلموا تفصيله، والذي يعلم بعضَ تفصيله لا يعلمه كما يعلم المشعبِذ الذي يعود الأمرُ إليه، والجاذبة بيديه، فكذلك صبيان الدنيا والخَلْق كلُّهم صبيانٌ، إلاّ العلماء، إلاّ إنّهم لا يعرفون كيفيّة التحريك، وهم الأكثرون، إلاّ الراسخون في العلم، فإنّهم أدركوا بحدّة أبصارهم خيوطاً ورباطاتٍ دقيقةً معلقةً من السماء، متشبّثة الأطراف بأشخاص أهل الأرض، لا تُدرَك تلك الخيوط لدقّتها بهذه الأنظار الظاهرة، ثمّ شاهَدوا رؤوسَ تلك الخيوط في مناطات لها هي معلّقة منها، ولها أيضاً مقابضٌ وعُرىً هي في أيدي الملائكة المحرّكين للسماوات، وشاهَدوا أبصار ملائكة السموات مصروفةً إلى حمَلةِ العرْشِ ينتظرون منهم ما ينزل إليهم من الأمر من حضرة الربوبيّة، كي لا يعصون الله ما أمرَهم ويفعلون [ما يؤمرون].
وعبّر عن هذه المكاشفات في القرآن:
{ { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [الذاريات:22]. وعبّر عن انتظار الملائكة لما ينزل إليهم من الأمر والقُدرَة بقوله تعالى: { خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَاتٍ وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ ٱلأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِّتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمَا } [الطلاق:12].
مكاشفة أخرى
[مظاهر الرحمة والغضب]
إنّ لله مع تقدّس ذاته وتنزّه صفاته عن الأجزاء والأعضاء، يدَين مقدّستين كلتاهما يمين الله، وهما في الأفعال العاليَة بإزاء الصفَتين المتقابلتين؛ كالرحمة والغضب، والرضاء والسخط في الصفات.
ولهما قبضتان، كما يدل عليه قوله تعالى:
{ وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَٱلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [الزمر:67].
ووَرد في الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله):
"يطوي الله السمواتِ يومَ القيامة ثمّ يأخذهنّ بيده اليُمنى ثمّ يقول: أنا الملِك، أين الجبَّارون؟ أين المتكبّرون؟ ثم يطوي الأرَضين بشماله" .
وفي رواية يأخذهنّ بيده الأخرى ثمّ يقول: أين الجبّارون، أين المتكبرون؟
وله أيضاً عند إستوائه على العرش قدَمان متدلّيتان إلى الكرسي، إحداهما ما يعبّر عنه بقدَم الصدْق يعطي ثبوت أهل الجنّات في جنّاتهم، والأخرى ما يعبَّر عنه بقدَم الجبروت، يعطي ثبوت أهل جهنّم في جهنّم.
فهذه الأمور من المراتب الإلهيّة، ولوازمها من الأمور العامّة، وهي التي تعرض للموجودات الإمكانية لقصور درجتها عن درك المراتب الإلهيّة.
فاعلم انّ حكم الغضبَ الإلهي تكميل مرتبة قبضة الشمال، فإنّه وإن كانت كِلتا يدَيه المقدّستين يميناً مباركة، لكن حكْم كلّ واحدة منهما يُخالف الأخرى، والشماليّة واليمينيّة، باعتبار أصحابهما فلهذا قال:
{ { وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَٱلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [الزمر:67]. فجعل الأرض مقبوضة والسماء مطوية، فافهم.
فلليدِ الواحدة - المضاف إليها عموم السعداء - الرحمة والجنان، وللأخرى العذاب والنيران.
ولكلٍّ منهما دولة وسلطنة يظهر حكمها في السعداء القائمين بشروط العبوديّة وحقوق الربوبيّة حسَب المقدور، وفي الأشقياء المعتدين الجائرين المنحرفين عن سنن الاستقامة ومسلك الاعتدال، المفرَطين في حقوق الإلهية، والمضيفين إلى أنفسهم ما لا يستحقّونه.
وغاية حظّهم من تلك الأحكام ما اتّصل لهم بشفاعة ظاهر الصورة الإنسانية المحاكية لصورة الإنسان الحقيقي، وشفاعة نسبة الجمعيّة والقدْر المشترك الظاهر بعموم الرحمة الظاهرة الحكْم في هذه الدار، فلما جهلوا كنْه الأمر فاغترّوا وادّعوا وأشركوا وأخطأوا في الإضافة، فلا جرَم استعدّوا بتلك الأحكام الغضبَ والانتقام، فالحقّ يطالبهم بحقّه في القيامة.
ولولا سبق الرحمةِ الغضب، ما تأخّرت عقوبة مَنْ شأنُهُ ما ذكرناه، مع انّه ما ثمَّ من سُلم من الجور بالكليّة، ولو لم يكن إلاّ جورنا في ضمن أبينا آدم حين مخالفته فلكلّ منّا نصيبٌ من ذلك، يجني ثمرته عاجلاً بالمحن، وآجلاً بحكم:
{ { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [مريم:71].
وإلى عموم الجور وقعت الإشارة في قوله:
{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ } [النحل:61]. ولكن الرحمة العامّة أخّرت سلطنة الحكم العدْل إلى يوم القيامة، الذي هو يومَ الكشف، ويومُ الفصل والقضاء، فهناك يظهر الأمر تماماً، ولهذا قال: { مَالِكِ يَومِ الدِّين }، لأنّه يوم المجازات بالعدل الحقيقي، والسرّ فيه أنّه لو ظهَر الحكم العدل ها هنا، ما جارَ أحدٌ على أحدٍ ولا تجاسَر على ظلْمه، ولا افترى على الله وعلى غيره، ولكان الناس أمّة واحدةً، ولم تكمل مرتبة القبضتين وحكم القدَمين ولا مظاهر الأسماء المتقابلة، فأين إذاً: { { كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً } [الإسراء:20]، أي: ممنوعاً، فالرحمة العامّة تستلزم العطاءَ الشامل لكل شيءٍ، لا جرم وقع الأمر هكذا، فحقّت الكلمة، وعمّت النعمة، وظهَر حكم الغضب، ثمّ غلبت الرحمة، فلا يخلو منها شيء من الممكنات، كلّ منها على حسب حاله وقدْر منزلته.
فكما انّ رحمتُه تعالى شاملة واسعة لكلّ شيءٍ، فكذلك غضبُه، إلاّ انّ جانب الرحمة ارجح لكونها ذاتيّة، والغضب عارض، لقصور الممكن لإمكانه عن قبول النور الأتمّ.
وإليه الإشارة في قول أمير المؤمنين (عليه السلام): سبحانَ مَن أتّسعت رحمتُه لأوليائه في شدة نقمته، واشتدّت نقمته لأعدائه في سعة رحمته.
وكذا الوعد والايعاد شاملٌ للكلّ، إذ وعده في الحقيقة عبارةٌ عن ايصال كلّ واحد منّا إلى غايته وكماله المعيّن له أزلاً، فكما انّ الجنّة موعودٌ بها، كذلك النار. ووعيده هو العذاب الذي يتعلّق بالإسم المنتقم، فأهل الجنّة إنما يدخلونها بالايعاد والابتلاء بأنواع المصائب والمحَن، كما ورَد في الخبر عنه (صلّى الله عليه وآله):
"أشدّ الناس بلاءً في الدنيا الأنبياء، ثمّ الأولياء، ثمّ الصالحون، ثمّ الأمثلُ فالأمثَلُ وقال أيضاً: ما أوذي نبيٌّ مثل ما أوذيت" .
ثمّ فوق هذا سرٌّ عزيزٌ جداً قلّما يجد له ذائقاً، وهو انّ الكمّل من أهل الله كالانبياء والأولياء ومن شاركهم في بعض صفات الكمال، إنّما امتازوا عن من سواهم أولاً بسعة الدائرة الوجوديّة، وصفاء جوهر الروح، والاستيعاب الذي هو من لوازم الجمعيّة، كما نبّهت عليه في حقيقة الإنسان الكامل، الذي هو برزخ الحضرتين ومرآتهما، وحضرة الحق مشتملة على جميع الأسماء والصفات، بل هي منبعٌ لسائر النِسب والإضافات، والغضب من امّهاتها، والمحاذاة الشريفة الصفاتية إنّما قامت بين الغضب والرحمة.
فمَن ظهر بصورة الحضرة الجمعيّة بتمامها، وكانت ذاته مرآة كاملة، لا بدّ وأن يظهر فيها كلُّ ما اشتملت الحضرة، وما اشتمل عليه الإمكان على الوجه الأتمّ الأشرف، فلا جرم وقع الأمر كما مرّ من سرّ قوله: ما أوذي نبيٌّ مثلَ ما أوذيت. وما يجري مجرى ذلك.
ولولا سبق الرحمة الغضب، كان الأمر أشدّ، فكما ان حظّهم من النعيم أشدّ، فكذا في الطرف الآخر، لكن في الدنيا، لأن هذه النشأة هي الظاهرة بأحكام حضرة الإمكان المقتضية للنقائص والآلام، ولذا قال: نحنُ معاشر الأنبياء أشدّ الناس بلاءً في الدنيا.
ومن بُعث رحمةً للعالمين فدى بنفسه - في الأوقات الشديدة كالغَزوات المقتضية عموم العقوبة لسلطنة الغضب - ضعفاء الخلق.
وكذا نبّه على هذا السرّ (صلّى الله عليه وآله) أهلَ الذوق، الأتمّ لمّا رأى جهنّم وهو في صلاة الكسوف يتّقي حرَّها عن وجهه وثوبه، ويتأخّر عن مكانه، ويتضرّع ويقول: ألم تعدني يا ربّ أنّك لا تعذّبهم وأنا فيهم؟ ألم ألم حتّى حجبت عنه فأفهم واغتنم.
وأهل النار إنّما يدخلونها بالجاذب والسائق والجاذب إلى النار المناسبةُ الواقعةُ بينها وبين أهلها. والسائق لهم هو الشيطان، كما أنّ الجاذبَ لأهل الجنّة إلى الجنّة المناسبةُ بينهما، والسائق لهم المَلَك، فالوعْد والوعيد كلاهما شاملان لكلّ العبيد وفيه سرّ قوله (صلى الله عليه وآله):
"حُفَّت الجنّةُ بالمكاره وحُفّت النارُ بالشهوات" . بل الجنّة نفسُ المكاره عند من كره لقاءَ الله وكره الله لقائهم. والنار مبدأ الشهوات وصورتها الأخرويّة لمن يستحقّها، وهي نعيمهم، كما أنّ الجنَة نعيمُ أهلها، ويملأ الله جهنَّم بغضبه المشوب وقضائه، ويملأ الجنّة برحمته المشوبة ورضاه، فيعم الوجود رحمة، ويبسط النعمة فيكون الخَلق كما هم في الدنيا كلُّ حزبٍ بما لدَيهم فرِحون، لأنّهم أفعاله الصادرة منه.
وقد ورد في الخبر: إنّ الله جميلٌ يحبُّ الجمال، وهو صانعُ العالَم وأوجده على شاكلته كما قال:
{ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ } [الإسراء:84] فَربُّكُم الغفُورُ ذُو الرَّحْمةِ. فالعالَم كلّه على غاية الجمال لأنّه مرآة الحق. ولهذا هَامَ فيه العارفون، وتحقّق بمحبّته المتحقّقون، لأنه المنظور إليه في كل عين، والمحبوب بكلّ محبّة، والمعبود بكلّ عبادة، والمقصود في الغيب والشهود، وجميع العالم له مصلٍّ وحامد ومسبّح.
فيتحوّلون لتحوّله في الأحكام والآثار، وآخر صورة يتحوّل إليها في الحكم في عباده صورةُ الرضا. فيتحوّل الحقّ في صورة النعيم، فإن الرحيم والمعافي أول من رحم ويعفو وينعم على نفسه بإزالة ما كان فيه من الحرَج والكرَب والغضَب على من أغضبه، ثمّ سرى ذلك في المغضوب عليه، فمن فهم هذا فقد أمِنَ من غضبه، ولم يأمن من مكر الله، ومن لم يفهَم، فسيَعلمُ ويفهم، فإنّ المآل إليه.
هذا نظر البالغين من الرجال بنور الرياضة والمجاهدة الى مقام الولاية والمحبّة والأحوال، وأمّا الذي وردت به الأخبار، وأعطاه الايمان والعلْم، إنّما هي أحوالٌ تظهر ومقامات تتشخّص ومعانٍ تتجسّد، ليعلم الله عباده معنى الإسم الإلهي الظاهر، وهو ما بدا من هذا كلّه، والإسم الإلهي الباطن، وهو هويّته، وقد تسمّى لنا بهما.
وأما قوله:
{ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [مريم:71]. فإنّ الطريق الى الجنّة عليها، فلا بدّ من الورود.
ولما تقرّرت هذه المكاشفات فنقول: لمّا خلَق الله العرشَ وجعله محل استواء الرحمة الوجوديّة، وأحديّة كلمة الايجاديّة التي هي قول "كن"، وخلَق الكرسي وانقسمت فيه الكلمة إلى أمرين: أمر وخَلْق ليخلق من كلّ شيء زوجين. وظهرت الشفعيّة من الكرسي بالفعل، وكانت قبله بالقوّة، وبحسب الوهم، إذ كل ممكن زوج تركيبي كما قالته الحكماء، وهما جهتا الإمكان والوجوب، أو الماهية والوجود، أو الفقر والمحبّة، باختلاف العبارات، ليعلم أنّ الحق مستأثرٌ بالأحديّة وإنّ الموجدَ الأول وإن كان واحد العين فله حكم نسبة إلى ما ظهر عنه، فهذا أصل شفعيّة العالَم، فتدلّت إلى الكرسي القدمان حتّى انقسمت فيه الكلمةُ الروحانيّة، لأنه الثاني بعد العرش في الصورة، والشكل فيه حصل شكلان في جسم العالَم الطبيعي، فتدلّت اليه القدمان، فاستقرّت كلّ قدم في مكان، فسمّي المكان الواحد جنّة والآخر جهنّماً. وليس بعدهما مكان تنتقل اليه هاتان القدمان، وهما لا يستمدّان إلاّ من الأصل الذي ظَهَرَتا منه وهو الرحمن، فلا يعطيان إلاّ الرحمة، فإن النهاية ترجع الى البداية بالحكمة، غير أن بين البداية والنهاية طريقاً، وإلاّ لم يكن بدؤ ولا نهاية، والسفر مظنّة التعب والشقاء واللغوب. فهذا سبب ظهور ما ظهر في العالم دنياً وآخرةً، وبرزخاً، من الشقاء، وعند انتهاء الاستقرار يلقي عصى التسيار، وتقع الراحة في دار القرار والبوار.
ولأحد أن يقول: فكان ينبغي عند الحلول في الدار الواحدة المسمّاة ناراً أن توجد الراحة وليس الأمر كذلك.
فيقال له: صدقتَ، ولكن فاتك النظر التمام، وذلك انّ المسافرين على نوعين: مسافر يكون سفره مما هو فيه مترفهاً، من كونه محبوباً مخدوماً، حاصلاً له جميع أغراضه في محفّة محمولة على أعناق الرجال، محفوظاً عن تغير الأهواء، فهذا مثلَه في الوصول الى المنزل، مثَل أهل الجنّة في الجنّة.
ومسافر يقطع الطريق على قدميه، قليل الزاد، ضعيف المؤنة، إذا وصَل إلى المنزل بقيت معه بقيّة التعب والمشقّة زماناً، حتى تذهب عنه، ثمّ يجد الراحة، فهذا مثَل من يتعذّب ويشقى في النار التي هي منزله، ثمّ تعمّه الراحة التي وسعت كلّ شيء.
ومسافر بينهما ليست له رفاهيّة صاحب الجنّة، ولا عذاب صاحب النار التي منزله، فهو بين راحة وتعب، فهي الطائفة التي تخرج من النار بشفاعة الشافعين، وبإخراج أرحم الراحمين.
وهم على طبقات بقدر ما يبقى عنهم من التعب فيزول في النار شيئاً فشيئاً، فإذا انتهت مدّته، خرج الى الجنة وهو محلّ الراحة.
وآخر من بقي هم الذين ما عملوا خيراً قط، لا من جهة الايمان، ولا بإتيان مكارم الأخلاق، غير انّ العناية سبقت لهم أن يكونوا من أهل تلك الدار وهم من أهل الدار، الذين هم أهلها، فغلّقت الأبواب، واطبقت النار، ووقع اليأس من الخروج، فحينئذ تعمّ الراحة لأهلها، لأنّهم قد يئسوا من الخروج منها كما يئس الكفّار من أصحاب القبور.
وقد جعلهم على مزاج يصلح ساكن تلك الدار، فلما يئسوا فرِحوا، فنعيمُهم هذا القدر، وهو أول نعيم يجدونه، وحالهم فيها كما قدمنا بعد فراغ مدّة الشقاء، انّهم يستعذبون العذاب فتزول الآلام، ويصير العذاب عذباً كما يستحلي صاحبُ الجرَب من يحكّه، هذا ما أدّى اليه نظر صاحب المشرب الختمي والمقام الجمعي، حيث ذكر بعد ما نقَلناه من مكاشفاته. فافهم نعيم كل دار تستعذبه إنشاء الله.
ألا ترى صدق ما قلناه، النار لا تزال متألّمة لما فيها من النقص وعدم الإمتلاء حتّى يضع الجبّارُ قدمَه فيها كما ورد في الحديث، وهي إحدى تينك القدَمين المذكورتين في الكرسي.
والاخرى التي مستقرّها الجنّة قوله:
{ { وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } [يونس:2] والاسم "الربّ" مع هؤلاء، و "الجبار" مع هؤلاء الآخرين. لأنها دار جلال وجبروت وهيبة، والجنّة دار جمال وانس ومنزل إلهي لطيف، وهما بأزاء القبضتين المذكورتين في الحديث القدسي: الواحد لأهل النار ولا يبالي، والآخرة لأهل الجنّة ولا يبالي، لأن مآلهما الى الرحمة الواسعة.
ولو كان الأمر كما يتوهّمه مَن لا علْم له من عدم المبالاة، ما وقع الأمر بالجرائم والحدود، ولا وصَف نفسَه بغضَب، ولا البطش الشديد، فهذا كلّه من المبالاة والهمّ بالمأخوذ المحدود، إذ لو لم يكن له قدْر ما عذّب ولا استعذب، وقد قيل في أهل التقوى: إنّ الجنّة اعدّت للمتّقين. وقال في أهل الشقاء:
{ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [الإنسان:31] فلولا المبالاة ما ظهر هذا الحكم.
فللأمور والأحكام مواطن عرفها أهلها، ولم يتعدّ بكل حكم موطنه، والعالَم لا يزال يتأدّب مع الله وبعالَمه في كل موطن بما يريد الحقّ، ومن لا يعلم ليس كذلك، فبالقدمين أغنى وأفقر، وبهما أمات وأحيى، وبهما خلق الزوجين الذكر والأنثى، وبهما أعزّ وأذلّ، وأعطى ومنع، وأضرّ ونفع، ولولاهما ما وقَع في العالم شركٌ، فانهما اشتركتا في الحكم والعالَم، فلكل منهما دارٌ يحكم فيها، وأهلٌ يحكم فيهم بما شاء الله من الحُكم.
مكاشفة اخرى
[درجات غضبه تعالى]
اعلم أنّ النعيم والعذاب ثمرةُ الرضا والغضَب، ولكل منهما ثلاث مراتب كما في باقي الصفات. فأول درجات الغضب يقضي بالحرمان وقطع الإمداد العلمي المستلزم لتسلّط الجهل والهوى والنفس والشيطان. لكن كلّ ذلك موقتاً إلى أجل معلوم عند الله في الدنيا، إلى النفس التي قبل آخر الانفاس في حق من يختم له بالسعادة الأخرويّة، كما ثبت في الحديث، سواء كانت سلطنة ما ذكر ظاهراً أو باطناً، أو هما معاً. ولا شك في أن كلاّ من الأمور المذكورة مبادي كمالات دنيويّة، ولذّات عاجلية لمن في حزبها. والرتبة الثانية تقضي بانسحاب الحكم المذكور باطناً ها هنا، وظاهراً في الآخرة برهة من الزمان الأخروي، أو يتّصل الحكم إلى حين دخول جهنّم وفتح باب الشفاعة، وآخر مدّة الحكم حال ظهور حكم أرحم الراحمين بعد انتفاء حكم شفاعة الشافعين.
والرتبة الثالثة تقتضي التأبيد ودوام حكم التبعيد، كما في قوله (صلّى الله عليه وآله):
"انّ الله لم ينظر الى الأجسام مذ خلقها" ، وكمال حكم هذا الغضب يظهر يوم القيامة، كما أخبر الرسل عن ذلك قاطبة بقولهم الذي حكاه نبيّنا (صلّى الله عليه وآله) وعليهم: إن الله غضب اليومَ غضَباً لم يغضب قبله، ولن يغضب بعده مثله. فشهدت بكماله شهادة يستلزم بشارة لو عرفت لم تيأس من رحمة الله، ولو جاز إفشاء ذلك، وكذا سرّ تردّد الناس إلى الأنبياء (عليهم السلام)، وابتهالهم الى نبيّنا عليه وعليهم السلام، وسرّ فتح الله باب الشفاعة، وسرّ وضع الجبّار قدمَه فيها - يعني في جهنّم - فينزوي بعضها الى بعض وتقول قطّ قطّ - أي حسبي حسبي - وسرّ السجدات الأربع، وما يخرج من النار كلّ دفعة، وما تلك المعاودة، وسرّ قول مالك خازن جهنّم لنبيّنا (صلّى الله عليه وآله) في آخر مرّة يأتيه لاخراج آخر من يخرج بشفاعته: يا محمّد ما تركتَ لغضَب ربك شيئاً، وسرّ قوله: شفعت الملائكة وشفع النبيّون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، وسرّ قوله سبحانه لنبيه عند شفاعته في أهل لا إله إلاّ الله: ليس ذلك لك. الذي يقول في أثره شفعت الملائكة الحديث، وغير ذلك من الأسرار التي رمزت واجمل ذكرها مما يبهر العقول ويحيّر الألباب كما قيل:

وما كلُّ معلومٍ يُباح مصونة وما كلّ ما املتْ عيونُ الظبا يُروى

مكاشفة اخرى
[باطن الغضب]
وكلّ صفة إلهيّة واسم ربّاني - كما ان لها مظاهر ولوازم ايجادية - فلها أيضاً غايات وحِكَم مترتّبة عليها، وثمرات أخرويّة تنبعث عنها، فنقول: حِكمة الغضَب وباطنُه الذي ينسحب عليه حكم الرحمة العامّة، وتظهر منه الغاية الوجوديّة في المغضوب عليهم كما قال
{ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ } [الحديد:13] أمور ثلاثة: وقايةٌ وتطيرٌ وتكميلٌ.
اما النوع الأول: هو الوقاية، فكصاحب الآكِلة إذا ظهرت في عضو، وقدّر أن يكون الطبيبُ والده أو صديقه، فإنّه مع فرط محبته يبادر لقطع العضو المعتلّ، لمّا لم يكن فيه قابليّة الصلاح والمعالجة، فستراه يباشر الايذاء الظاهر، وهو شريك المتأذّي، ولا مندوحة، لتعذّر الجمع بين العافية وترك القطع، لمّا لم يساعد استعداد العضو على ذلك، وكذا في يد من لسعته الحيّة، والمعاصي بمنزلة الآلام والآفات الحاصلة لباطن الإنسان من لذع حيّة الهوى وعقارب الشهوات الكامنة، التي ستظهر بصورها الخاصّة في نشأة القبر والبرزخ وغيرها، فافهم ذلك، وتذكّر: "ما تردّدت في شيء أنا فاعله كتردّدي في قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مسإته ولا بدّ له من ذلك" والوالد يُظهر الغضبَ لولده رعايةً لمصلحة، وهو في ذاته غير غاضبٍ، وإنّما يظن الولد والده مغضباً لما يشاهد من الآثار الدالّة على الغضَب عادة، والأمر بخلافه في نفس الأمر، وإنّما ذلك لقصور نظر الولَد، قال الله تعالى:
{ { وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِيۤ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [آل عمران:131]. { فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ } [البقرة:24].
ألا ترى أنّ النار قد يتخذ دواء لبعض الأمراض في الدنيا، فهي وقاية وهو الداء الذي لا يشفى إلاّ بالكَيّ من النار.
فكما جعل الله النار وقاية في هذا الموطن من داء هو أشدّ منها في حقّ المبتلى به فكذلك جعل في الآخرة النار دواء كالكيّ من داء، وأيّ داء أكبر من الكبائر، فدفع بدخولهم يوم القيامة داء عظيماً أعظم من النار، وهو البُعد عن حضرته، كما في الحدود الدنيويّة وقاية من عذاب الآخرة.
وأما النوع الثاني، وهو التطهير، فمثالُه لو أنّ ذهباً مزج برصاص ونحاس لمصلحة لا يمكن حصولها إلا بالمجموع ثم إذا انقضى الوقت المراد لأجله هذا الجمع والتركيب، وحصل المطلوب، وقصد تميز الذهب ممّا مازجه من غير جنسه، لا بدّ وأن يجعل في النار الشديدة لينفرد الذهب عن غير جنسه، ويظهر كماله الذاتي، ويذهب ما جاورَه مما لم يطلب لنفسه وإنّما اريد لمعنى فيه يتّصل بالذهب، وقد اتّصل، كماء الورد، كان أصله ماءً فعاد الى أصله لكن بمزيد عطريّة وكيفيّات مطلوبة.
وهكذا الأمر في الغذاء، توصله الغاذية، وتضمّه الى الإنسان، فإذا استخلصت الطبيعة منه المراد، رمت بالثفل إذ لا غرض فيه، وإليه الإشارة بقوله تعالى:
{ لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ ٱلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } [الأنفال:37].
وقال أيضاً في هذا المعنى ببيان أوضح وأتمّ تفصيلاً:
{ أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ ٱلْحُسْنَىٰ } [الرعد:17 - 18]. الآيات، فتدبّر.
ففيها تنبيهاتٌ شريفةٌ على أحوال أهل قبضة الغضب وأهل قبضة الرحمة.
وأما النوع الثالث: وهو التكميل وهو الأصل في الغاية وما سبق من التوقّي والتطهير كان لأجله، فمشارٌ إليه في تبديل السيّئات حسنات. وأنت إذا تدبّرت وفتّشت حالَ الموجودات عند شدائدها وآلامها، وانقلاباتها الطبيعيّة والذاتيّة، التي بحسب الأسباب الباطنة، لا تجد منها أحداً إلاّ وقد ولاّه الله إلى ما هو خيرٌ له مما كان أولاً، ووجّهه إلى أصله وكماله.
هذا ما اقيم عليه البرهان كما أشرنا من قبل، وحكَم به الاستقراء والتجربةُ والوجدانُ، وفيه سرُّ الربوبيّة وأحدِيّة الفعل من حيث الأصل والفاعل والغاية، مع أنّه لا مُكرِه ولا مُغضِب ولا مُزاحِم ولا رادّ له تعالى من خارج.
وكان أصل ايجاده للعالَم على أكمل وجهٍ اقتضته حكمتُه ومشيّته، فليس في الوجود جهةٌ من الجهات، ولا وجهٌ من الوجوه الوجوديّة، إلاّ وهو أصله ومبدأه ومنشأه فافهم وارْقَ، فإنّك إن علوتَ من هذه النمط، استحليت بسرّ القدَر المتحكّم في العلم والعالم والمعلوم. ومن رقا فوقَ ذلك رأى غلط الإضافات الشائعة في الأفعال والأسماء والصفات والأحوال، وإن رَقا فوق ذلك، رأى الجمالَ المطلق الذي لا قُبح عنده، ولا شرّ فيه، ولا غلظ ولا نقص ولا تخويف.
وإن رقا فوقَ ذلك، رأى الجورَ والعدلَ، والظُلَم والحِلَم والتعظيمَ والإهانةَ، والكتمانَ والإبانَة، والوعْدَ الوعيدَ، كلَّها محترقةً بنور السَبَحات الوجهيّة مستهلكةً في عرصة الحضرة الذاتيّة الأحديّة، فإن رقا عن ذلك، سكتَ فلم يفصح، وعمي فلم ينظر، وذهب فلم يظهر، فإن أعيد ظهرَ بكل وصفٍ، وكان المعنى المحيط بكل حرف.
فصل
في بيان نبذ من فضائل سورة الفاتحة
اعلم أنّ المقصد الأقصى واللباب الأصفى من إنزال القرآن وتنزيله على أشرف خَلْق الله (صلّى الله عليه وآله) أولاً، وعلى أمّته الذين هم خير الأمم ثانياً، هو هداية الخلْقِ وإرشادهم وتكميلهم بسياقتهم إلى الله ودار كرامته، على أتمّ وجهٍ وأشرفه.
وذلك إنّما يحصل بتزيين نفوسهم بأنوار الحكمة والمعرفة، وتجريدها عن رقّ الطبيعة، وأسْر قواها الشهويّة والغضبيّة والوهميّة، التي هي مداخل الشيطان في باطن الإنسان، وتطهيرها عن أرجاس العنصريّات وقاذوراتها، وتخليصها عن مكائد الشياطين وجنودها الداخليّة والخارجيّة.
فالقرآن مشتملٌ من الحكمة والمعرفة على عظائمها وأصولها، التي عجزت عن دركها أفهام السابقين واللاحقين، ومن الشريعة والطريقة على لطائفها ولبابها، التي خلت عنها زُبر المتقدّمين والمتأخّرين.
ولعمري، إنّه كصورة جمعيّة العالَم المخلوق على صورة الرحمن، الدالّ بهيئته ونِظامه، واشتماله على مَظاهر الصفات الجماليّة من الملائكة وأنوارها ومَن ضاهاها، والصفات الجلاليّة من الأجسام وقواها وما شابَهها، على وجود مَن له الخلْق والأمر.
ونسبة سورة الفاتحة الى القرآن كلّه، كنسبة الإنسان - وهو العالَم الصغير - إلى العالَم - وهو الإنسان الكبير- .
وكما أنّ الإنسان الكامل كتابٌ وجيزٌ ونسخةٌ منتخبةٌ، يوجَد فيه كلّ ما في الكتاب الكبير الجامع الذي لا رطب ولا يابس إلاّ ويوجد فيه، ولا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها. كما قيل:

من كلّ أمرٍ لبُّه ولطيفُه مستودَعٌ في هذه المجموعة

فكذلك فاتحة الكتاب، مع قِصرها ووجازتها، توجَد فيها مجامع مقاصد القرآن، وأسرارها وأنوارها، وليس لغيرها من سائر السور القرآنيّة هذه الجامعيّة، كما ليس لواحد من صوَر أجزاء العالَم ما للإنسان من صورة الجمعيّة الإلهيّة على ما قيل:

ليسَ من الله بمستنكرٍ أن يجمعَ العالَم في واحدٍ

والعارف المحقّق، يفهم من هذه السورة الواحدة جميعَ المعارف والعلوم الكليّة المنتشرة في آيات القرآن وسوَره، كما وقعَ التنبهُ عليه، ومن لم يفهم هذه السورة على وجه يستنبط منها عمدة أسرار العلوم الإلهيّة والمعالم الربّانية؛ من أحوال المبدَعو المَعاد، وعلم النفس وما بعدها وما فوقها، الذي هو مفتاحُ سائر العلوم كلّها، فليس هو بعالِم ربّاني، ولا مهتدٍ بتفسيرها على وجهه.
ولو لم تكن هذه السورة مشتملة كما قلنا على أسرار المبدء والمعاد، وعلم سلوك الإنسان إلى ربّه، لما وردت الأخبار على فضلها، وأنّها تُعادل كلَّ القرآن، إذ لا مرتبة ولا فضيلة لشيءٍ بالحقيقة إلاّ بسبب اشتماله على الأمور الإلهيّة وأحوالها كما مرّ مراراً.
ولو أن إنساناً أراد أن يعلم انّ أي الأشياء هو أفضل ما به يتقرّب العبدُ الى الله تعالى، وأيّها اكسير السعادة الأخرويّة التي يجعل حديد قلب الإنسان ذهباً خالصاً وإبريزاً صافيا يليق أن تتختم به يد الملك ويختم به خزائنه الشريفة، فليتأمّل وليذعن ان ذلك يجب أن يكون من الأمور التي أنزلها الله على قلب بشر، ويجب أن يكون ذلك الشيء من قبيل ما يوجَد في كتب الأنبياء سلام الله عليهم وخزائن أسرارهم، والذي أفاض على قلوبهم من العلوم والمعارف.
ولا بدّ أن يكون النبيّ الذي أوحى الله إليه بهذا الأمر الذي هو أشرف ما يستكمل به جوهر الإنسان، هو أشرف الأنبياء وأفضلهم وخاتمهم عليه وآله أفضل التحيّات وأنور التحميدات.
ولا بدّ أن يكون المكانُ والزمانُ الذي وقع الايحاء والتكليم والهدايةُ له (صلّى الله عليه وآله) بهذا أعلى الأمكنة، وأسعد الأزمنة، فلا بدّ أن يكون ذلك الإنعام عليه عند عروجه إليه تعالى ليلة المعراج، والذي نزلَ ليلة المعراج على النبي (صلّى الله عليه وآله) من السوَر والآيات، كان هذه السورة وخواتيم سورة البقرة.
فهذا مما دلّ على أن أفضل السوَر سورة الفاتحة، وأفضل الآيات خواتيم سورة البقرة، ولهذا لا بدّ وأن يكون كلاً منهما مشتملاً على غاية الكمال الإنساني.
وسبب ذلك، أن سعادة الدارين، إنّما تتمّ بدعوة الخلْق من قِبَله تعالى بواسطة متوسّطٍ مؤيَّدٍ شريفٍ مطاعٍ أمينٍ كما قال تعالى:
{ { ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } [التكوير:20- 21]. ولكلّ مؤيَّد مطاع في الروحانيات مطاع في الجسمانيات، بل المطاع في الروحانيّات ثمرة المطاع في الجسمانيّات، فإنّ الدنيا بحذافيرها مظاهر وفروع لِما في الروحانيات، لأنّ نسبة عالَم الغيب إلى عالَم الشهادة نسبة الأصل إلى الفرع، ونسبة النور الى الظلّ، فكلّ شاهد فله في الغائب أصل، وإلاّ لكان كسراب زايل وخيال باطل، وكلّ غائب فله في الشاهد مثال، وإلاّ لكان الشاهد كشجرة بلا ثمرةٍ، ودليل بلا مدلولٍ، فالمطاعُ ها هنا صورةُ المطاعِ هناك، والمطاعُ في عالَم الأرواح هو المصدر، والمطاع في عالَم الأجسام هو المظهر، وبينهما ملاقاة واتّصال، وبهما تتمّ سعادة الدارَين، لأنهما يدعوان الى الله بالرسالة.
وحاصل الدعوة والرسالة أمور سبعة تشتمل عليها خواتيم سورة البقرة، منها أربعةٌ متعلقةٌ بأسرار المبدء وهي: معرفة الربوبيّة وعلم المفارقات من الحكمة الإلهيّة، أعني معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله:
{ { آمَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [البقرة:285].
ومنها ما يتعلّق بالوسط وهو إثنان: أحدهما معرفة العبوديّة:
{ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [البقرة:285]. والثاني كمال العبوديّة، وهو الإلتجاء الى الله تعالى وطلب المغفرة منه: { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } [البقرة:285]، وواحد يتعلق بالمعاد، وهو الذهاب الى الملك الجواد: { وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ } [البقرة:285] فكذلك تشتمل هذه السورة على هذه الأمور السبعة:
فقوله: { بسم الله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }، مشتملٌ على توحيد الذات والصفات.
وقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }، فيه توحيد الأفعال وهي قسمان: عالم الأمر، وفيه الملائكة المقرّبون، وعالَم الخلْق، وأصله وصفوته الأنبياء والمرسلون ومن يتلوهم.
وقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ }، إشارة إلى عالم التحميد والتقديس والتسبيح، وفيه الملائكة المسبّحون بحمده تعالى.
وقوله: { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }، إشارة الى كُمَّل أهل العلم والعرفان، وهم الأنبياء والأولياء ومن يتلوهم.
وقوله: { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }، أي رحمـٰن الدنيا ورحيم الآخرة، فيه إشارة الى أهل الرحمة الإلهية في كِلا العالَمين، وهم الملائكة والرسل.
وقوله: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ }، إشارة الى حقيقة المعاد، ورجوع الكل إليه تعالى، لأنه غاية الغايات.
وقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، إشارة الى كيفية العبودية بتهذيب الأخلاق وتصفية الباطن، وإلى طلب الالتجاء الى الله، وهي حالة الإنسان فيما بين البداية والنهاية.
وقوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }، إشارة الى العلم بكلمات الله وآياته.
وقوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }، إلى آخر السورة، إشارة الى القرآن المجيد الذي هو أشرف الكتب السماوية، وهي الألواح النفسية النازلة على الأنبياء السابقين، لأن الجوهر النفسي العقلي من النبي (صلّى الله عليه وآله) الذي هو جوهر النبوة، كلمة إلهية بوجه، وكتاب مبين فيه آيات الحكمة والمعرفة بوجه، هو بعينه صراط الله العزيز الحميد، إذ لا يمكن وصول العبد الى الله إلا بعد الوصول الى معرفة ذاته، وكذا من ينوب عنه (ع)، كما دلّ عليه الحروف المقطّعات القرآنية: "عليٌّ صراط حقّ نُمسكه".
وتنبعث من هذه المراتب سبع مقامات في المكالمة الحقيقية مع الله بالدعاء:
أولها: الذِكْر:
{ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } [البقرة:286]. فضد النسيان وهو الذكر، { وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } [الكهف:24]. وهذا الذكر إنما يحصل بقوله: { بسم الله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }.
وثانيها:
{ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } [البقرة:286]، ورفع الإصْر والمشقّة في الحمل يوجب الحمد: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }.
وثالثها:
{ { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [البقرة:286]، وذلك إشارة الى كمال رحمته: { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }.
ورابعها:
{ { وَٱعْفُ عَنَّا } [البقرة:286] لأنك أنت المالك للقضاء والحكومة يوم الآخرة: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ }.
وخامسها:
{ { وَٱغْفِرْ لَنَا } [البقرة:286]، لأنا التجأنا بكليّتنا إليك، وتوكّلنا في جميع الأمور عليك: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }.
وسادسها:
{ وَٱرْحَمْنَآ } [البقرة:286]، لأنا طلبنا الهداية منك { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }.
وسابعها:
{ { أَنتَ مَوْلاَنَا فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ } [البقرة:286]، { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }.
فهذه المراتب ذكَرها محمد (صلّى الله عليه وآله) في عالم الأرواح عند صعوده إلى المعراج، فلمّا نزل من المعراج الجسماني السماوي، فاض أثر المصدر على المظهر، فوقع التعبير عنها بالمكالمة الصورية في عالم السماء الدنيا بينهما بسورة الفاتحة، فمن قرأها في صلاته، صعدت هذه الانوار من المظهَر إلى المصدَر، كما نزلت في عهد محمّد (عليه وآله السلام) من المصدَر الى المظهرَ، ولهذا السبب قال صلوات الله عليه وآله:
"الصَلاةُ معراجُ المؤمنِ" .
وأما الاخبار الدالّة على فضلها فكثيرة. منها ما روي مسنداً الى أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): "أيّما مسلم قرءَ فاتحةَ الكتاب، أُعطي من الأجر كأنّما قرءَ ثُلثَي القرآن. وفي رواية: كأنّما قرءَ القرآن" .
وروي عنه بسند آخر قال: قرأتُ على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فاتحة الكتاب، فقال: "والذي نفسي بيده، ما أنزل الله في التوراة والإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلَها. هي أمّ الكتابِ. وهي السبع المثاني. وهي مقسومةٌ بين الله وبين عبده ولعبده ما سأل" .
وفي كتاب محمد بن مسعود العيّاشي، باسناده عن النبي (عليه وآله السلام) قال لجابر بن عبد الله: "يا جابِر، ألا اعلّمك بفضل سورةٍ أنزلها الله في كتابه؟ قال: فقال له جابر: بلى بأبي أنت وأمّي يا رسول الله، علّمنيها، قال: فعلّمه الحمدَ، أمّ الكتابِ، ثمّ قال: يا جبر، ألا أُخبِركَ عنها؟ قال: بلى بأبي أنت وأمّي، فأخبرني. فقال: هي شفاءٌ من كلّ داءٍ إلاّ السام" ، والسام الموت.
وعن جعفر الصادق (عليه السلام) قال: من لم يبرأه الحمدِ لم يبرأه شيء.
وروي عن امير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله):
"إنّ الله عزَّ وجلّ قال: يا محمد، { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثاني والقُرْآنُ الْعظيم }. فأفرد الامتنان عليَّ بفاتحة الكتاب، وجعلها بإزاء القرآن" . وإنّ فاتحةَ الكتاب أشرفُ ما في كنوز العرشِ، وإنّ الله خصَّ محمداً وشرَّفه بها، ولم يشرك فيها أحداً من أنبيائه، ما خلا سليَمان (عليه السلام)، فإنّه أعطاه منها: { بِسْمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيم }، أَلاَ ترى يحكى عن بلقيس حين قالت: { { إِنِّيۤ أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } [النمل:29 - 30]. ألا فمَن قرأها معتقداً لموالاة محمد وآله، منقاداً لأمرها، مؤمناً بظاهرها وباطنها، أعطاه الله بكلّ حرفٍ منها حسنةً، كلّ واحدٍ منها أفضل له من الدنيا بما فيها، ومن استمع الى قارئ يقرأها كان له قدْر ثُلث ما للقاري، فليستكثر أحدكم من هذا الخير المعرّض له، فإنّه غنيمةٌ لا يذهبن أوانُه فيبقى في قلوبكم الحسرة.
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: إنّ القوم ليبعثُ الله عليهم العذابَ حتماً مقضيّاً، فيقرأ صبيٌّ من صِبيانهم في الكتاب: الحمدُ لله ربِّ العالمين فيسمعه الله تعالى، فيرفع عنهم العذابَ أربعين سنة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بَينا نحنُ عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، إذ أتاه مَلَك فقال: ابشر بنورَين اوتيتَهما، لم يؤتهما نبيٌّ قبلَك: فاتحةُ الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن يقرأ [أحد] حرفاً منها إلا اعطيته (ما يتضمّنه - ن).
أقول: وفي طيِّ هذه الأخبار - سيما هذا الأخير - إشاراتٌ علميّةٌ، وتعريفات سرّية، ورموز معنويّة، وتنبيهات عرفانيّة على جوامع الكمالاتِ العقليّة، والمعارج الإلهية المندرجة في هذه السورة، لا يعرفُ قدرَها، ولا يفهم غورَها إلاّ الراسخون في العلم والدين، والسالكون طرقَ الكشف واليقين. لا المتشبثّون بذيل العبارات، والمتردّدون كالخفافيش في ظلمات هذه الاستعارات.
تتمة استبصارية
[جامعية السورة لأهم المعارف]
ومن فضائل هذه السورة، إنّها جامعةٌ لكلّ ما يفتقرُ إليه الإنسان في معرفة المبدء والوسط والمعاد:
الحَمدُ لله: إشارة الى إثبات الصانع المختار العليم الحكيم، المستحقّ للحمدِ والتعظيم.
ربِّ العَالَمين: يدلّ انّ ذلك الإله واحدٌ، وانّ كل العالمين ملكه، وليس في العالَم إله سواه ولهذا جاء في القرآن الاستدلال بخَلْق الخلائق كثيراً:
{ { قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ } [البقرة:258]. { { ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [الشعراء:78]. { رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } [طه:50]. { { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ } [الشعراء:26]. { { ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [البقرة:21] { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } [العلق:1 - 2].
وهذه الحالة، كما انّها في نفسها دليلٌ على وجود الربّ، فكذلك هي في نفسها إنعامٌ عظيمٌ، وذلك لأنّ تولّد الأعضاء المختلفة الطبائع والصوَر من النطفة المتشابهة الأجزاء، لا يمكن، إلاّ إذا قصَد الخالِق ايجادَ تلك الأجزاء على تلك الصوَر والطبائع، وكلٌّ منها مطابقٌ للمطلوب، موافقٌ للغرض، كما يشهد به علم تشريح الأبدان، فلا أحقَّ بالحمْد والثناء من هذا المنعِم المنّان الكريم، الرحمن الرحيم، الي شمل إحسانُه وعمَّ امتنانه قبل الموت وبعد الموت.
مَالِكِ يَومِ الدين: يدلّ على أن من لوازم حكمته ورحمته، أن يقدّر بعد هذا اليوم يوماً آخر يظهر فيه تمييز المُحسِن من المُسيء، وانتقام المظلومِ من الظالِم، وها هنا تمّت معرفة الربوبيّة.
ثمّ من قوله: { إيَّاك نَعبُدُ }، اشارة الى الأمور التي لا بدّ من معرفتها في تقرير العبوديّة وهي نوعان: والآثار المتفرّعة على الأعمال، كالأحوال، ثمّ الأعمال لها رُكنان، أحدهما: الإتيان بالعبادة وهو قوله: { إيَّاكَ نعبُدُ }، والثاني: علمه بأنّه لا يمكنه ذلك إلاّ بإعانة الله، وهو قوله: { وَإيَّاكَ نَستَعينُ }.
وأما الآثار والأحوال المتفرّعة على الأعمال، فهي حصول الهداية، والتحلّي بالأخلاق الفاضلة المتوسّطة بين الطرفين، المستقيمة بين المنحرفين { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمِ } إلى آخره.
وفي قوله: { صِرَاطَ الّذينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِم }، دليلٌ على أن الاستضاءَة بأنوار أرباب الكمال وأهل الحقّ، خلّةٌ محمودةٌ، وشيمةٌ مرضيّةٌ: هم القوم لا يشقى جليسهم.
{ { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ } [آل عمران:31].
وفي قوله: { غَيْر المَغْضُوبِ عَلَيهِم وَلاَ الضّالّين }، إشارة الى أنّ التجنّب عن مرافقة أصحاب البِدعِ والأهواء أمرٌ واجب. شعر:

الجمْر يوضَع في الرمادِ فيخمده فكلّ قرينٍ بالمقارِن يقتدي

فصل
في نظم هذه السورة وترتيبها
إنّ العاقل الفِهم المميّز، لما نظَر في وجودات هذا العالَم، علم بالمشاهدة والقياس افتقار بعضها إلى بعض، تحقّق وتيقّن أنّها في سلسلة الحاجة منتهية الى موجودٍ قديمٍ قادرٍ يفعل الخيرات كلّها، ويرحم على خلقه في الآخرة والأولى، فابتدء بآية التسمية تبرّكاً واستفتاحاً باسمه، واعترافاً بآلهيّته، واسترواحاً الى ذكر فضله ورحمته وكرمه ورأفته.
ولمّا كان الاعتراف بالحقّ، والعلم بالله الفرد الأحد الذي هو مبدء الخيرات كلّها، وفاتح المهمات جلّها، نعمة جليلة، اشتغل بالشكر له والحمد فقال: الحَمْدُ لله، ولما رأى سراية نور التوحيد ونفوذ رحمة الوجود على غيره واضحة بنور الحجّة والبرهان، كما شاهَد آثارها على نفسه لائحةً بقوّة الكشف والعيان؛ عرف انّه ربّ الخلائق أجمعين فقال: رَبِّ العَالَمين.
ثمّ لما رأى شمول فضله للمربوبين ثابتاً بعد إفاضة أصل الوجود عليهم، وعموم رزقه للمرزوقين حاصلاً بعد إكمال الصورة في أطوار الخلقة لهم، قال: الرَّحْمٰن
فلما رأى تفريطهم في حقّه وواجب شكره، وتقصيرهم في عبادته والانزجار عند زجره، واجتناب نهيه، وامتثال أمره، وأنّه تعالى يتجاوز بالغفران، ولا يؤاخذهم عاجلاً بالعصيان، ولا يسلبهم نعمَه بالكفران، قال: الرحيم.
ولما رأى ما بين العباد من التباغي والتظالم، والتكالم والتلاكم، وأن ليس بعضهم من شرّ بعضهم بسالمٍ، علِم أنّ وراءَهم يوماً ينتصف فيه للمظلوم من الظالِم فقال: { مَالِك يَومِ الدّين }.
وإذا عرف هذه الجملة، فقد علم أنّ له خالقاً رازقاً رحيماً، يحيي ويميت، ويبدئ ويعيد وهو الحي الذي لا يموت، والإله الذي لا يستحق العبادة سواه والمستعان الذي لا يستعين بغيره من عرفه ووالاه، وعلم أنّ الموصوف بهذه الأوصاف كالمدرَك بالعيان والمشهود بالبرهان، تحوّل عن لفظ الغيبة الى لفظ الخطاب فقال: ايّاكَ نَعبُد.
ولما رأى اعتراض الأهواء والشبهات، وتعاور الآراء المختلفات، ولم يجد مُعِيناً غير الله، سأله الإعانة على الطاعات بجمع الأسباب لها والوصلات فقال: ايّاكَ نَستَعينُ. ولما عرف هذه الجملة، وتبيّن أنّه بلغ في معرفة الحقّ المدى، واستقام على منهج الهُدى، ولا يأمن العثْرة لارتفاع العصْمة، سأل الله تعالى التوفيق للدوام عليه، والثبات والعصْمة من الزلاّت فقال: { اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقيم }. وهذا لفظ جامع كما علمتَ، مشتمل على مجامع أسباب التوفيق والتسديد، ولطائف نعم الله في حق من يختاره للنهاية ويريد، وأوجب الله طاعتهم بعد طاعته من الأئمة الهادين والأولياء المرضيين.
وإذا علم ذلك، علم أنّ لله عباداً خصّهم بنعمته، واصطفاهم على بريّته وجعلهم حُججاً على عباده، ومناراً في بلاده، فسأله أن يلحقه بهم ويسلم به سبيلهم فقال: صِرَاطَ الّذينَ انْعَمْتَ عَلَيْهِم.
وسأله أيضاً أن يعصمه عن مثل أحوال الذين زلّت أقدامُهم فضلّوا، وعدلت أفهامُهم فأضلّوا، ممن عانَد الحقّ وعمي عن طريق الرشد وخالَف سبيلَ القصد، فغضب الله عليه ولعنَه وأعدّ له عذاباً أليماً وخزياً مقيماً. إذ قد شكّ في واضح الدليل فضلّ عن سواء السبيل، فقال: { غيْرِ الْمَغضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضّالّين }.
منهج آخر
في نظم فاتحة الكتاب
وهو إن للإنسان أيّاماً ثلاثة:
الأمس: والبحث عنه يسمّى بمعرفة المبدء واليوم الحاضر: والبحث عنه يسمى بالوسيط والغد: والبحث عنه يسمى بعلم المعاد. والقرآن مشتمل على رعاية هذه المراتب وتعليم هذه المعارف الثلاثة التي كمال النفس الإنسانية منوط بمعرفتها، ونفس الأعمال البدنيّة إنّما تراد لأجلها، لأنّ غايتها تصفية مرآة القلب عن الغواشي البدنيّة، والظلمات الدنيويّة، لأن يستعدّ لحصول هذه الأنوار العقليّة، وإلاّ فنفس هذه الأعمال الحسَنة ليس إلا من باب الحركات والمتاعِب، ونفس التصفية المترتبة عليها ليست إلا أمراً عدميّاً لو لم يكن معها استنارة صفحة القلب بأنوار الهداية، وتصوّرها بصورة المطالِب الحقّة الإلهيّة، والقرآن متضمّن لها وهي العمدة الوثقى فيه لما ذكرنا.
ولمّا كانت هذه السورة مع وجازتها متضمنة لمعظم ما في الكتب الإلهيّة من المسائل الحقّة، والمقاصد اليقينيّة المتعلّقة بتكميل الإنسان، وسياقته إلى جوار الرحمن، فلا بد أن يتحقّق فيها جميع ما يحتاج اليه الإنسان منها، فنقول هي هكذا.
أمّا اشتمالها على علم المبدء، فقوله تعالى: { الْحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمين }، إشارةٌ الى العلم بوجود الحقّ الأول، وأنّه مبدأ سلسلة الموجودات، وموجِد كلّ العوالِم والمخلوقات.
وقوله: { الرَّحْمٰنِ الرَّحيـم } إشارة إلى العلم بصفاته الجلاليّة وأسمائه الحُسنى.
وقوله: { مَالِكِ يَومِ الدّين } هو إثبات كونه سبباً غائيّاً للمخلوقات كلّها، كما انّه سببٌ فاعليٌ لها جميعاً، ليدلّ على أنّ فاعليّته على غاية الحِكْمة والتمام، ورعاية المصلحة للأنام.
وأما اشتمالها على علْم الوسط فلأن قوله: { ايّاكَ نَعبُدُ وايّاكَ نَستَعين }، إشارة الى الأعمال والأحوال التي يجب أن يكون الإنسان عاملاً بها ومديماً عليها، ما دام كونه في هذه الحياة الدنيا. وهي قسمان: بدنيّة وقلبيّة. فالبدني: تهذيب الظاهر عن النجاسة، وتزيينه بالعبادة، كالصلاة والصيام وغيرها.
والقلبي: تهذيب الباطن عن الغشاوات وخبائث الملكات، بإعانة الله وتوفيقه، لتستعدّ نفسه بذلك لأن تتنوّر بأنوار المعارف الإلهية، وتستكمل بالحقائق الربّانية، ليتقرّب بذلك الى الله ويحشر الى دار كرامته كما دلّ عليه قوله تعالى: { اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمِ }، أي علّمنا طريق الوصول إليك.
وأما اشتمالها على علم المعاد، وهو العلم بأحوال النفس الإنسانيّة الكاملة في العلم والعمل، المبرأة عن آفة الجهل ونقص العصيان، فقوله: { صِرَاطَ الّذينَ انْعَمْتَ عَلَيْهِم } إلى آخراها؛ إشارة الى علم النفس، وهي صراط الله العزيز الحميد، وباب الله المؤتى منه الى الحق، فبالنفس الإنسانيّة العالِمة العامِلة المهتدية بنور الله، يُساق الخلْق الى الحقّ، ويدخل الخلائق كلهم في طريق العود من هذا الباب الى الخالِق، فإنّ الوجود في صورة دائرة انعطف آخرها على أولها، فكما أنّ الوجود في الابتداء كان أولاً العقل، ثمّ النفس الكليّة، ثمّ الطبيعة الكليّة، ثمّ الأبعاد والأجرام كلّها، ففي الإنتهاء كان أولاً جماداً، ثمّ نباتاً، ثمّ حيواناً، ثمّ إنسانا، وله مراتب باطنيّة، كان أولاً في مقام الطبيعة والنفس الكليّة، ثمّ الطبيعة الكليّة، ثمّ الأبعاد والأجرام كلّها، ففي الإنتهاء كان أولاً جماداً، ثمّ نباتاً، ثمّ حيواناً، ثمّ إنساناً، وله مراتب باطنيّة، كان أولاً في مقام الطبيعة والنفس، ثمّ في مقام القلب والعقل، ثمّ في مقام الروح والسرّ، وإذا بلغ الى هذا المقام، اتّصل بغاية الكمال والتمام.
تذييل
ثمّ إنّ لهذه الكريمة نكاتٍ ووجوهاً أخرى من التأويل كثيرة، مذكور بعضها في التفاسير المعتبرة لأهل العلم والتحصيل، كالكبير والنيسابوري وغيرهما، اخترت منها وجوهاً ثلاثة فأردت ايرادها هاهنا تكميلاً للكتاب، وتكثيراً للفوائد في هذا الباب.
الوجه الاول
إن آيات الفاتحة سبعٌ، وأعمال الصلاة المحسوسة الواجبة بالإتّفاق سبعةٌ، إذ النيّة فعلُ القلب وليس بمحسوس، ومراتب خلقة الإنسان وأطوارها سبع، كما قال تعالى:
{ { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } [المؤمنون:12 - 14].
وكذلك مراتب جوهر باطنه وأطواره سبعٌ وهي الطبعُ والنفسُ والقلبُ والروحُ والسروُّ والخفيُّ والأخفى، فنور آيات الفاتحة يسري من ألفاظها المسموعة الى الأعمال السبعة المحسوسة، ومنها الى هذه المراتب الخلقيّة، ومن معانيها الى النيّات المتعلّقة بتلك الأعمال، ومنها الى هذه المراتب الباطنيّة الأمريّة، فيحصل للقلب أنوارٌ روحانيةٌ ثمّ ينعكس منه الى ظاهر المؤمن: مَن كثُر صلاتُه بالليلِ حسُن وجهُه بالنهار.
الوجه الثاني
كان لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) معراجان من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى، ثمّ من المسجد الأقصى الى ملكوت السماء، هذا في عالَم الحسّ، وأمّا في عالَم الروح، فمن الشهادة الى الغيب، ثمّ من الغيب الى غيب الغيب، هذا بمنزلة قوسين متلاصقين. فتخطّاهما محمّدٌ (صلّى الله عليه وآله)، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ، وقوله: او ادْنىٰ، إشارة الى فنائه في نفسه.
والمراد بعالَم الشهادة، كلّ ما يتعلق بالجسم والجسمانيات.
وبعالَم الأرواح، ما فوق ذلك من الأرواح السفليّة، ثمّ المتعلّقة بسماءٍ سماءٍ إلى الملائكة الحافّين من حول العرش، ثمّ الى حَمَلة العرش من عند الله الذين طعامهم وشرابهم محبّته تعالى، وانسهم بالثناء عليه، ولذّتهم في خدمته، لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، يسبّحون الليل والنهار لا يفترون.
وهكذا يتصاعد إلى نور الأنوار وروح الأرواح، ولا يعلم تفاصيلها إلا الله أو من ارتضاه.
والمقصود؛ أنّ نبيّنا (صلّى الله عليه وآله)، لما عرج وأراد أن يرجع، قال ربّ العزة: المسافرُ إذا عادَ إلى وطنه أتحف أصحابَه. وإنّ تحفةَ أمّتك الصلاة الجامعة بين المعراجين: الجسمانيّ بالأفعال، والروحاني بالأذكار والنيّات.
فليكن المصلّي ثوبه طاهراً وبدنه طاهراً، لأنه بالواد المقدس طُوى، ويصفي النفس عن الكدورات الشيطانيّة، والهواجس البشريّة، لأنه بين يدي الله.
والصلاة هي التعبّد للمعبود الأعظم، والتعبّد هو عرفان الحقّ الأول بالسرّ الصافي والقلب النقيّ.
وأيضاً، عنده مَلَكٌ وشيطانٌ ودينٌ وعقلٌ وهوىً، وخيرٌ وشرٌّ وصدقٌ وكذبٌ، وحقّ وباطلٌ، وقناعةٌ، وحِرصٌ وحِلم وطيْشٌ، وسائر الأخلاق المتضادّة والصفات المتنافية، فلينظر أيّها يختار، فإنّه إذا استحكم المرافقة تعذّرت المفارقة، قال تعالى:
{ { يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ } [التوبة:119].
ثمّ إذا تطهَّر وتجرَّد، فليرفع يدَيه إشارة الى توديع الدنيا والآخرة، وليوجّه قلبَه وروحَه وسرَّه الى الله تعالى، ثم ليقُل: الله أكبرَ، أي من كلّ الموجودات، بل هو أكبر من أن يقاس إليه غيره.
وقل: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذي فَطَرَ السَّماواتِ والارْضَ حَنيفاً، فقولك: وَجَّهتُ وجهي؛ هو معراج الخليل على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام. كما انّ قولك: سُبْحَانَكَ اللّهمَ وبِحمْدِك، معراج الملائكة حيث قالوا: نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، وقولك: انّ صلاتي وَنُسُكي وَمَحْيَايَ وَمَماتي لله رَبِّ العَالَمِين، معراج الحبيب محمّد (صلّى الله عليه وآله).
فقد جمع المصلّي بين معراج الملائكة المقرّبين، ومعراج عظماء الأنبياء المرسلين.
ثمّ إذا فرغتَ من هذه الحالة فقل: اعُوذُ بالله منَ الشّيطانِ الرَجيم، حذرَاً عن مَكْره وإغوائه، ودفعاً لإعجابك عن نفسك، وفي هذا المقام يُفتح لك أحدُ أبواب الجنّةِ وهو بابُ المعرفة.
وبقولك: { بِسْم الله الرّحمنِ الرَّحيم }، يُفتح باب الذِكْر.
وبقولك: { الحَمدُ لله ربِّ العالَمين }، يُفتح باب الشكْر.
وبقولك: { الرّحمٰن الرَّحيـم }، يُفتح باب الرَجاء.
وبقولك: { مَالِك يَوم الدينِ }، يُفتح باب الخوف.
وبقولك: { ايَّاك نعبدُ وايّاكَ نستعين }، يفتح باب الإخلاص المتولّد من معرفة العبوديّة.
وبقولك: { اهدِنَا الصرَاطَ المستقيم }، يفتح باب الدعاء والتضرّع، ادْعوني اسْتَجِب لَكُمْ.
وبقولك: { صِرَاطَ الذينَ أنْعَمتَ علَيهِم } إلى آخره، يفتح بابُ الإقتداء بالأرواح الطيّبة، والإهتداء بأنوارهم.
فجنّات المعارف الربّانية انفتحت لك أبوابُها الثمانية بهذه المقاليد الروحانيّة، فهذا بيان المعراج الروحاني في الصلاة.
وأمّا الجسماني، فأولى المراتب أن يقومَ بين يدَي الله كقيام أصحاب الكهف:
{ { إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [الكهف:14]، بل قيام أهل القيامة يوم يقوم الناس لربّ العالَمين.
ثمّ اقرء: سبحانَك اللهم وبحمدِك، ثمّ وجَّهت وجهي، ثمّ الفاتحة، وبعدها ما تيسّر لك من القرآن، واجتهد في أن تنظر من الله إلى عبادتك، حتّى تستحقرها، وايّاك وأن تنظر من عبادتك الى الله، فإنّك إن فعلتَ ذلك صرتَ من الهالكين، وهذا سرّ قوله: { ايّاكَ نَعْبدُ وايَّاكَ نَستَعينُ }، كما ذكر.
واعلم أنّ نفسك إلى الآن جارية مجرى خشبَة عرضتَها على نار خوف الجلال، فلانَت، فاجعَلْها منحنيةً بالركوع، ثمّ اتركها لتستقيم مرّة أخرى، فإنّ هذا الدين متينٌ فأَوْغِل فيه بالرفْق، فلا تبغّض طاعةَ الله الى نفسك، فان المُنْبَتّ لا أرضاً قطَعَ ولا ظهْراً أبقى.
فإذا عادت الى استقامتها فانحدر الى الأرض بغاية التواضع، واذكُر ربّك بغاية العلوّ وقل: سُبحان ربّي الأعلى، فإذا سجدتَ ثانية فقد حصل ثلاثة أنواع من الطاعة، ركوع واحد، وسجدتان، فبالركوع تنجو من عقبة الشهوات.
وبالسجود الأول من عقبة الغضب الذي هو رئيس المؤذيات.
وبالسجود الثاني تنجو من عقبة الهوى الداعي الى كل المضلاّت، فإذا تجاوزت عن هذه الدركات وصلتَ الى الدرجات العاليات، وملكت الباقيات الصالحات، وانتهيتَ الى عتبة باب الجلال والإكرام، مدبّر عالَمي النور والظلام، فقل: أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له؛ لتتمّ لك بهذه الشهادة معرفة المبدأ، وأشهدُ أنّ محمداً عبده ورسوله، لتتمّ لك معرفةُ المعاد، وليصعد إليه نورُ روحك، وينزل اليك روح محمّد (صلّى الله عليه وآله)، فيتلاقى الروحان، ويحصل هناك الرَوْح والريحان، فقل: السلامُ عَلَيكَ أيّها النبيُّ ورحمة الله وبركاته، فعند ذلك يقول محمد (صلّى الله عليه وآله): السلامُ علَينَا وعَلَى عِبادِ الله الصَّالِحين.
ثمّ إذا ذكرتَ الله في صلاتك بهذه الأثنية والمَحامد، ذكَر الله ايّاك في محافل الملائكة كما قال …………………: مَن ذكَرني في ملاءٍ ذكرتُه في مَلاءٍ خيرٍ من مَلائِه.
وإذا سمع الملائكةُ ذلك اشتاقوا الى العبد، فقال الله: إن الملائكة اشتاقوا الى زيارتك، وقد جاؤوك زائرين، فابدأ بالسلام عليهم لتكون من السابقين، فقل: السلامُ عَليكُمْ ورحمةُ الله وبركاتُه، كلام أهل الجنة الذين تحيّتهم فيها سلام، فلا جَرَم إذا دخَل المصلّون الجنةَ { يَدخُلُونَ عليْهمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقَبى الدَّارِ }.
الوجه الثالث
إنّ آياتِ الفاتحة سبعٌ، والأعمال المحسوسة في الصلاة غير القراءة والأذكار سبعةٌ: القيامُ، والركوعُ، والانتصابُ منه، والسجودُ الأول، والانتصاب منه، والسجودُ الثاني، والقَعْدةُ.
فهذه الأعمال كالشخص، والفاتحةُ لها كالروح، وإنّما يحصل الكمال والحياة عند اتّصال الروح بالجسَد. فقوله: { بِسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ }، بإزاء القيام، ألاَ ترى أنّ الباء في بِسْمِ الله، لمّا اتّصل باسم الله حصَل قائماً مرتفعاً.
وأيضاً، التسمية لبداية الأمور، كلّ امرٍ ذي بالٍ يُبدأ فيه باسم الله فهو أبتر والقيام أيضاً أول الأعمال.
وقوله: { الحمدُ لله ربِّ العَالَمين }، بإزاء الركوع، لأنّ الحمد في مقام التوحيد نظراً إلى الحقّ وإلى الخلْق، والمنعم والنعمة. لأنّه الثناء على الله بسبب الإنعام الصادر منه إلى العبد، فهو حالةُ متوسّطة بين الإعراض والإستغراق، كما انّ الركوع حالةٌ متوسّطة ين القيام والسجود، وأيضاً ذكْر النعمة الكثيرة مما يثقل الظَهْر فينحني.
وقوله: الرحمٰنِ الرحيـم، مناسب للانتصاب، لأنّ العبد لمّا تضرّع الى الله بالركوع، فاللائق برحمته أن يردّه الى الانتصاب، ولهذا قال (صلّى الله عليه وآله): إذا قال العبدُ: "سمِع الله لِمنْ حَمِدَه" نظَر إليه بالرحمة.
وقوله: مَالِك يوم الدين مناسبٌ للسجدة الأولى، لدلالته على كمال القهر والجلال والكبرياء، وذلك يوجب الخوف الشديد المستتبع لغاية الخضوع.
وقوله: { ايَّاكَ نعبدُ واياكَ نَستعين }، مناسب للقعدة بين السجدتين، لأن إيّاك نعبدُ إخبار عن السجدة التي تقدّمت، وإيّاك نَستعينُ، إستعانة بالله في أن يوفّقه للسجدة الثانية.
وقوله: { اهدِنا الصِّرَاطَ المُستَقيمِ }، سؤالٌ لأهم الأشياء، فتليق به السجدة الثانية لتدلّ على نهاية الخضوع.
وقوله: { صِرَاطَ الذينَ انْعَمْتَ عَلَيْهِم } إلى آخره، مناسبٌ للقعود، لأنّ العبدَ لمَا أتى بغاية التواضع، قابلَه الله بالإكرام والقعود بين يديه، وحينئذ يقرأ ما قرأه محمّد (صلّى الله عليه وآله) في معراجه، فالصلاة معراجُ المؤمن.
وجه رابع
إنّ المداخل التي يأتي الشيطان من قِبلَها ثلاثة: الشهوةُ والغضبُ والهوى والشهوةُ بهيمةٌ والغضب سَبْعٌ والهوى شيطان، فالشهوة آفة عظيمة، لكن الغضب أعظم منها. والغضب آفة عظيمة، لكن الهوى أعظم منه، قال سبحانه:
{ { وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْيِ } [النحل:90].
الفحشاء: الشهوة والمنكَر: الغضب والبغي: الهوى. وبهذه الثلاثة وقع المسخ في أمّة موسى (عليه السلام):
{ { وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً } [المائدة:60].
فبالشهوة يصير الإنسان ظالماً لنفسه، وبالغضب ظالماً لغيره، وبالهوى [ظالماً] لربه، ولهذا قال (صلّى الله عليه وآله):
"الظلمُ ثلاثةٌ ظلم لا يُغفَر وظلم لا يُترَك وظلم عسى الله أن يتركه" .
فالظُلم الذي لا يُغفَر هو الشرك بالله: { { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان:12]. والظلم الذي لا يُترك هو ظلم العباد بعضهم بعضاً. والظُلم الذي عسى الله أن يتركه، هو ظلم الإنسان نفسه.
ونتيجة الشهوة الحرص والبخل، ونتيجة الغضب العُجب والكِبر، ونتيجة الهوى الكفر والبِدْعَة، ويحصل من اجتماع هذه الستّة في بني آدم خصلةٌ سابعة، هي العُدوان المستلزم للبُعد عن رحمة الله، أي الاحتجاب عنه، وهي نهاية الأخلاق الذميمة، كما انّ الشيطان هو النهاية في الأشخاص المذمومين.
فإذا تقرَّر هذا نقول: الأسماء الثلاثة في التسمية دافعةٌ للأخلاق الثلاثة الأصليّة، والآيات السبع التي هي الفاتحة دافعة للأخلاق السبعة.
بيان ذلك: انّ من عرف الله تباعَد عنه شيطانُ الهوى:
{ { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } [الجاثية:23]. يا موسى، خالِف هواكَ فإنّي ما خلقتُ خلقاً نازَعَني في ملكي إلاّ هواك.
ومن عرف انّه رحمٰن لم يغضب، لأن منشأ الغضب طلبُ الولاية والولاية للرحمن:
{ ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ } [الفرقان:26].
ومن عرف انّه رَحيمٌ، صحّح نسبتَه إليه، فلا يظلم نفسه، ولا يلطخها بالأفعال البهيميّة.
وأما الفاتحة، فإذا قال { الحمدُ لله } فقد شكَر الله واكتفى بالحاصل فزالت شهوته. ومن عرف انّه { رب العالمين } زالَ حرصُه فيما لم يجد، وبخله فيما وجَد، ومن عرف انّه { مالك يومِ الدين } بعد أن عرف انّه { الرحمن الرحيم } زال غضبه.
ومن قال: { ايّاكَ نعبدُ وايّاك نستعينِ } زال كِبْره بالأول، وعُجْبه بالثاني.
وإذا قال: { اهدِنا الصِّراط المُستَقيم } اندفع عنه شيطانُ الهوى، وإذا قال: { صِراطَ الّذينَ انعَمتَ عَلَيْهِم } زالَ عنه كفرُه، وإذا قال: { غَيرِ المَغضُوبِ علَيهِم وَلاَ الضَّالّين } اندفعت بِدْعَتُه، وإذا زالت عنه الأخلاق الستّة التي هي مجامع الشرور كلّها، زالَ عنه حجابُه وبُعده عن جناب القدس.