التفاسير

< >
عرض

قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
٣٣
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

وقرئ: "أَنْبِيهِم" بقلب الهمزة ياء، و "أَنْبِهِم" بحذفها. والهاء مكسورة فيهما.
إنّ الله أمرَ آدم عليه السلام بأن يخبرهم عن أسماء الأشياء، وهي صور ما في علم الله الموجودة بأنحاء متفاوتة بعضها فوق بعض، فإن حقائق الأشياء لها وجود في مراتب:
أولها: في عالَم الأسماء الإلهيّة - كما ذهب إليه قومٌ من العرفاء -.
وثانيها: في عالم علم الله التفصيلي، المسمى - "الصور الإلهيّة" و "المُثل العقليّة" وهي ذوات مجرّدة، هي ملائكة الله المدبّرة للأنواع الطبيعيّة، فإنّ لكلّ نوع طبيعيّ مَلَك ربّاني عقلي، هو تمام حقيقة ذلك النوع، ومثاله عند الله، وكلّ منها مصونٌ عن التكثّر التعدّدي، كما رآه بعض الأقدمين من أكابر الحكماء، ونحن - بفضل الله - قد أحكَمنا بنيانهم، وأوضَحنا سبيلهم في إثبات هذه المُثل النوريّة.
وثالثها: في عالَم المثُل المقداريّة المتوسّطة بين العالَمين: عالَم المفارقات وعالَم الماديّات.
ورابعها: في عالم الأجسام المادّية، وهي الصور النوعيّة المقوّمة للموادّ الطبيعيّة، وفي هذين الوجودين - سيّما الأخير -، تتكثّر الأشخاص لنوع واحد، إلاّ أنّ في الأول بحسب الجهات الفاعليّة، وفي الأخير بحسب الجهات القابليّة من الانقسامات والاستحالات وغيرها. وهو عليه السلام، لجامعيّة نشأته، أخبر كلاًّ منهم بما فيه وبما في غيره من الحقائق والمعاني للأسماء.
وضمير: { أَسْمَآئِهِمْ } راجعٌ إلى الملائكة، لِما قد أشرنا إليه، من كونهم بأجمَعهم حقائق الأشياء الطبيعيّة ومسمّيات الإلهيّة، وأنّ كلاًّ منهم صورة اسم واحد، وحقيقة نوع واحد.
وقوله: { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } الهمزة للانكار، دخلت على حرف الجحد، فأفادت الإثبات والتقرير، وهو تأكيد لقوله:
{ { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [البقرة:30]، على وجه أبسط، يكون كالبرهان عليه احتجاجاً به عليهم، فإنّه تعالى، لمّا علِم ما خفيَ عليهم من الأمور العالية والسافلة، وما علن فيهم من أحوالهم الظاهرة، وما بطن فيهم من أسرارهم الخفية [علِم ما لا يعلمون]، وفيه تعريضٌ بمعاتبتهم على ترك الأَوْلىٰ، وهو توقّفهم في أمر آدم عليه السلام مترصّدين لأن يبيَّن لهم من أحواله.
وقيل: "مَا تَبْدُونَ"، إشارة إلى قولهم: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ }، و "مَا تَكْتُمُونَ" إشارة إلى استبطانهم في أنفسهم أنّهم أحقّاء بالخلافة الإلهيّة، وأنّه تعالى لا يخلق خلقاً أفضل منهم.
وقيل: "ما تَبْدُونَ" هو قولهم لإبليس لمّا قال لهم: ماذا ترون إن أمِرْتُم بطاعة آدم فعلتم؟: "نمتثلُ أمْر ربِّنا". و "ما كُنْتُمْ تَكْتمُونَ" ما أسرّه الخبيث من قوله: "لئِن سُلّطتُ عليه لأهلكته، ولئِن سُلّط عليّ لأعصينَّه".
وقيل: روي إنّه تعالى لمّا خلق آدم عليه السلام، رأت الملائكة خلْقاً عجيباً، فقالوا: "لِيكُنْ ما شاءَ، فلنْ يخلق ربُّنا خلْقاً إلاّ كنّا أكرم عليه منه"، فهذا هو الذي كتَموا.
ويجوز أن يكون هذا القول سرّاً أسرّوه عن غيرهم بينهم، فأبداه بعضهم لبعض، وأسرّوه عن غيرهم، فكان في هذا الفعل الواحد إبداء وكتمان.
حكمةٌ آدميّةٌ
[حقيقة الإنسان غيب السمٰوات والأرض وصورة علم الله تعالى]
يحتمل أن يكون قوله: { أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } إشارةً إلى حقيقة الإنسان الذي هو غاية وجود الأكوان، وثمرة شجرة الأفلاك والأركان، بل صفوة عالَم الإمكان.
فإنّ سلسلة الموجودات، كما هي مرتّبة من المبدأ الأول وما يتلوه من الأنوار العقليّة القاهرة، ثم النفسية المدبرة، ثم الطبايع العلوية والفلكية والكوكبية، والصور النوعية العنصرية على مراتبها في النزول من الأشرف فالأشرف إلى الأخسّ فالأخسّ، - حتى انتهت إلى ما لا أخسّ منه، وهي الهيولى الأولى والهاوية القصوى -، فكذلك هي مترتّبة في الترقّي من أدنى الوجود وأنزل المراتب إلى أعلاها، ومن الأخسّ فالأخسّ إلى الأشرف فالأشرف، على التكافؤ التعاكسي، حتى تنتهي إلى ما هبط منه، وهو غاية الغايات ونهاية الوجودات - أعني الباري -.
فالوجود، بمنزلة دائرة بلغت إلى حيث فارقتْ منه؛ فأقرب الموجودات الصادرة من المبدأ الأعلى في سلسلة الايجاد، هو العقول المقدّسة والملائكة المهيّمة، سيّما الأول منهم. وأقرب الموجودات إليه في سلسلة العود والرجوع، هم العقلاء الكاملون في الولاية والمعرفة، سيّما النبي الخاتم أشرف البريّة - صلوات الله عليه وآله -، وهم السابقون علْماً واللاحقون وجوداً، كما في العلّة الغائيّة.
فالإنسان الكامل حيث ابتدأ وجوده من أدنى الأشياء - من تراب ومن ماء مَهين - وقد أنشأه الله لأن ينتهي إلى أعلى المقامات، فلا بدّ من مروره على سائر الدرجات عند أداء الأمانات. وغاية كلّ شيء لا تظهر إلاّ عند بلوغ ذلك الشيء إلى تلك الغاية؛ فغاية كلّ [شيء] غيب ذلك الشيء، وقد ثبَت أن الإنسان الكامل غاية ما في الأرض والسماء بحسب الأجناس [و] الدرجات، فهو إِذَن غيب السموات والأرض، والله عالِمٌ به قبل خلقه وبلوغه إلى مقام قرب أو أدنى.
وأمّا قوله: { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } فيحتمل أن يكون إشارة إلى حقيقة الإنسان، فإنّه صورة علم الله، وهو كتابٌ جامعٌ، ونسخةٌ مجموعةٌ لظاهرِ الملك وباطن الملكوت، والملائكة المدبّرة أرواح العالَم ومكنوناته، وظواهرهم أجرام العالَم وشهاداته.
قال بعض الفضلاء العارفين: "إنّ الحقّ يتجلّى بحكم:
{ { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [الرحمن:29]. كلّ لحظة لعباده، فينزل الأمر الإلهي من الحضرة الأحديّة، ثمّ الواحديّة إلى المراتب العقليّة الروحيّة، ثمّ اللوحيّة، ثم الطبيعيّة الكلّية، ثم الهيولى الجسميّة، ثمّ العرش، ثمّ الكرسي والسموات، منحدراً من المراتب الكليّة إلى الجزئيّة، إلى أن ينتهي إلى مادّة الإنسان، منصبِغاً بأحكام جميع ما مرّ عليه في آن واحد، من غير تخلّل زمان، كذلك إذا انتهى إليه وانصبَغ بالأحكام الغالبة عليه، ينسلخ منه انسلاخاً معنويّاً، ويرجع إلى الحضرة الإلهية.
فإن كان المنتهى إليه من الكمل، فالنازل يكون قد أتمّ دائرته وصارت آخريّته عين أوليّته، لأنّه مظهر المرتبة الجامعة الإلهيّة. وإن كان من السائرين الذين قطعوا بعض المنازل والمقامات، أو الباقين في أسفل السافلين والظلمات، فيكون قطع نصف الدائرة أو أكثر، ثمّ انسلخ ورجع إلى الحضرة بالحركة المعنويّة، فهو المبدء والغاية" انتهى كلامه.
وهٰهنا سر آخر وهو أن الإنسان، لمّا كان غاية سلسلة الأكوان وخليفة الله، لكونه أبدع ما في عالم الإمكان، فيكون علمه لمعة من نور علم الله، كما أنّ وجوده مرآة لشمس وجود الله، ففي قوله: { إِنِيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَاوَاتِ } بعد قوله: { فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ } ايماء لطيفٌ بأنّ آدم من شأنه أن يعلَم غيب السموات والأرض، ومن شأنه أن يقول: "إنّي أعلم ذلك" لإعطاء نشأته علم ذلك.
وكذا الكلام في قوله: { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }، فإنّه لما أنبأ الملائكة بمعاني أسماء الموجودات العلويّة والسفليّة، والظاهرة والباطنة - لاحتواء نشأته الجمعيّة عليها -، فكأن الحقّ سبحانه قال بلسانه هذا الكلام، نظيره ما ورد في الخبر: "إنّ الله سبحانه يقول بلسان عبده: سمع الله لِمَنْ حمْده".
قال بعض بعض أهل المكاشفة والتحقيق: "لمَّا شاء الحقّ سبحانه من حيث أسماؤه الحسنى - التي لا يبلغها الإحصاء - أن يرى أعيانها - وإن شئت قلت: أن يرى عينه - في كون "جامع يحصر الأمر، لكونه متّصفاً بالوجود، ويظهر به سرّه إليه"... "وقد كان الحقّ أوجد العالَم كلّه وجود شبح مسوّىّ لا روح فيه، فكان كمرآة غر مجلوّة، ومن شأن الحكم الإلهي، أنّه ما سوى محلاًّ إلاّ ولا بدّ أن يقبل روحاً إلهياً عبّر عنه بالنفخ فيه، وما هو إلاّ حصول الاستعداد من تلك الصورة المسوّاة لقبول الفيض المتجلّي الدائم، الذي لم يزَل ولا يزال، وما بقيَ ثمّة إلا قابل، والقابل لا يكون إلاّ من فيضه الأقدس، فالأمر كلّه منه ابتداؤه وإليه انتهاؤه، وإليه يرجع الأمر كلّه كما ابتدء منه.
فاقتضى الأمر جلاء مرآة العالم، فكان آدم [عليه السلام] عين جلاء تلك المرآة، وروح تلك الصورة، وكانت الملائكة من بعض قوى تلك الصورة المسوّاة التي هي صورة العالم، المعبّر عنه في اصطلاح القوم بالإنسان الكبير، وكانت الملائكة له كالقوى الروحانيّة والحسيّة التي في النشأة الإنسانية.
وكلّ قوّة منها محجوبة بنفسها، لا ترى أفضل من ذاتها، وإنّ فيها - فيما تزعم - الأهليّة لكل منصب عالٍ ومنزلة رفيعة عند الله، لما عندها من الجمعيّة الإلهيّة بين ما يرجع من ذلك إلى الجناب الإلهي، وإلى جانب حقيقة الحقائق، وفي النشأة الحاملة لهذه الأوصاف، إلى ما تقتضيه طبيعة الكلّ التي حصرت قوابل العالَم كلّه - أعلاه وأسفله.
قال: "فأمّا انسانيّته - فلعموم نشأته وحصره الحقائق كلّها، وهو للحقّ بمنزلة إنسان العين من العين الذي به يكون النظَر، وهو المعبّر عنه بالبصر، فلهذا اسميّ إنساناً فإنّه به نظر الحقّ إلى خلقه فرحمهم، فهو الإنسان الحادث الأزلي، والنشء الدائم الأبدي، والكلمة الفاصلة الجامعة، فتمّ العالم بوجوده، فهو من العالم كفصّ الخاتم من الخاتم الذي هو محل النقش، والعلامة التي بها يختم الملك على خزائنه.
وسمّاه خليفة من أجل هذا، لأنّه تعالى الحافظ خلقه، كما يحفظ الختم الخزائن. فما دام ختم الملك عليها، لا يجسر أحد على فتحها إلاّ باذنه، فاستخلفه في حفظ العالم، فلا يزال العالم محفوضاً ما دام فيه هذا الإنسان الكامل، ألا تراه إذا زال وفكَّ من خزانة الدنيا، لم يبق فيها ما اختزنه الحقّ فيها، وخرج ما كان فيها، والتحق بعضه ببعضه، فانتقل الأمر إلى الآخرة، فكان ختماً على خزانة الآخرة ختماً أبديّاً.
فظهر جميع ما في الصورة الإلهيّة من الأسماء في هذه النشأة الإنسانيّة، فحازت رتبة الإحاطة والجمع بهذا الوجود، وبه قامت الحجة لله تعالى على الملائكة"... "فإنّها لم تقف مع ما تعطيه نشأة هذا الخليفة، ولا وقفت مع ما تقتضيه حضرة الحقّ من العبادة الذاتية، فانّه ما يعرف أحد من الحقّ إلاّ ما يعطيه ذاته.
وليس للملائكة جمعيّة آدم، ولا وقفت مع الأسماء الإلهيّة التي تخصّها وسبّحت الحقّ بها وقدّسته، وما علمت أن لله أسماء ما وصل علمها اليها، فما سبّحته بها ولا قدّسته، وحكم عليها هذا الحال. فقالت من حيث النشأة:
{ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } [البقرة:30] وليس إلاّ النزاع وهو عين ما وقع منهم".
قال: "وعند آدم الأسماء من الإلهيَّة ما لم تكن الملائكة عليها، فما سبّحت ربّها بها ولا قدّسته عنها تقديس آدم وتسبيحه؛ فوصف الحق لنا ما جرى لنقف عنده، ونتعلّم الأدب مع الله تعالى" انتهى كلامه.
واعلم إنّ هٰهنا إشكالاً، وهو أنّ الملائكة لمّا لم تكن نشأتهم مقتضية للعلم بمعاني سائر الأسماء، فمن أين علموا صحّة ما أنبأهم آدم عليه السلام حتّى اعترفوا بتقدّمه وفضله عليهم، وقصورهم عن بلوغ شأوه؟
والجواب عنه: إن العلم بالشيء على ضربين - لأنه إمّا أن يكون عين وجود ذلك الشيء الخارجي، وإمّا أن يكون صورة ذهنيّة مطابقة له، فكلّ ما هو من أجزاء ذات العالم وقواه وأفعاله، فعلمه بها؛ عبارة عن اشتماله عليها ووجودها له. ومثولها بين يديه؛ وكلّ ما خرج عن هذه الأمور، فيكون العلم بها بحصول أشباحها وصورها لدى العالم.
فإذا تقرّر ذلك فنقول: لكلّ واحد من الملائكة علمٌ شهوديٌ بما تقتضيه نشأته، وأمّا علمه بغير ما تقتضيه نشأته من معاني سائر الأسماء، فيجوز له استفادة ذلك من غيره على سبيل التمثيل؛ فالملائكة استفادوا علم سائر الأسماء، من اطّلاعهم على نشأة آدم عليه السلام، لكون نشأته جامعة لجميع الحقائق، وإنّما فضيلته عليهم، بأنّ سائر العلوم له حضوريّة حاليّة؛ ولهم حصوليّة إنبائيّة.
قال السيّد الأجلّ المرتضى - رضي الله عنه -: "وفي هذه الآية سؤالٌ لم أجِد أحداً من المفسّرين تعرّض له، وذلك أن يقال: من أين علمت الملائكة صحّة قول آدم، ومطابقة الأسماء للمسمّيات، وهي لم تكن عالمة بذلك من قبل؟ والكلام يقتضي أنّهم لما أنبأهم آدم بالأسماء علِموا صحّتها".
"والجواب: إنّه غير ممتنع أن يكون الله فعل لهم العلم الضروري بصحّة الأسماء ومطابقتها للمسمّيات، إمّا عن طريقه، أو ابتداء بلا طريق، فعلموا بذلك تمييزه واختصاصه ولم يكن في علمهم ذلك".
"ووجه آخر - وهو أنّه لا يمتنع أن تكون للملائكة لغاتٌ مختلفة، فكلّ قبيل منهم يعرف أسماء الأجناس بلغته، فلما أراد الله [تعالى] التنبيه على نبوّة آدم، علّمه جميع تلك الأسماء، فلما أخبرهم بها، علم كلّ فريق مطابقة ما أخبر به من الأسماء للغته، وعلم مطابقة ذلك لباقي اللغات بخبر كلّ قبيل".
إشارة قرآنية
اعلم أنّ في هذه الآية إشارات لطيفة إلى أمور وتنبيهات عجيبة عليها:
الأول: الدلالة على شرف الإنسان على الملائكة، الذين هم سكان طبقات السموات والأرضين، دون الأعالي المهيّمين، الذين هم أجلّ قدراً وأعلى منزلة من أن يكون لهم التفات الى غير الله، وشهود جلاله وجماله، فإنّ مزيّة أشراف نوع الإنسان عليهم غير معلوم من هذه الآية، وفي تحقيق التفاضل بين أشراف الإنسان وبينهم كلام سيأتي من ذي قبل إن شاء الله [تعالى].
والثاني: على مزيّة العلم وفضله على العبادة، وأنّه شرطٌ في الخلافة، بل هو العمدة - وقد مرّ من الكلام ما فيه كفاية في هذا الباب -.
والثالث: إنّ علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة. والحكماء منَعوا ذلك في الطبقة العليا منهم - الذين لا تعلّق لهم بالأجرام -، وعليه حملوا قوله تعالى:
{ وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [الصافات:164].
والتحقيق؛ إنّ هؤلاء الملائكة المدبّرين، وإن جاز لهم قبول الإزدياد في العلوم والأشراف، لكن لا يستفيدون علماً إلا من الأمر الأعلى، دون الأسباب الإتفاقيّة كالمعلّم الخارجي والقوى والآلات الفكريّة والخياليّة.
واعلم أن القسمة اقتضت أموراً أربعة، لأن الشيء إما أن يكون كاملاً بحسب الفطرة الأولى، أو ناقصاً. والكامل إمّا تام أو فوق التمام. والناقص إمّا مستكفٍ أو غيره.
فالتامّ الذي هو فوق التمام، هو الباري جلّ اسمه، لأنّه كامل الذات، ويفضل من كماله كمالات سائر الأشياء. والتامّ هو الضرب الأعلى من ملائكته المقرّبين. وأمّا المستكفي: فهم الملائكة المدبّرون، الساكنون في طبقات السمٰوات. وأمّا الناقص الغير المستكفي، فما سوى هذه الأقسام الثلاثة، سواء جاز كماله بعد النقصان، أم لا.
وأمّا حقيقة الإنسان، فقد وجد فيه بحسب أشخاصها جميع هذه الأقسام ما سوى فوق التمام. فالكامل منهم هو الذي كمل في العلم إلى حدّ صار عقلاً مستفاداً، وفي العمل إلى أن تجرّد عن علائق البدن وعوائق النفس، ثم مات وحشِر إلى الله.
وأمّا المستكفي منهم، فهم الكاملون الذين هم بعد في هذا العالم، ولم يرتحلوا إلى الدار الآخرة.
وأمّا الناقصون، فما سواهما، وهم أكثر الناس.
الرابع: إنّ في الآية تخويفاً عظيماً، فإنّه تعالى لا يخفى عليه شيء من أحوال السرائر ومكنونات الضمائر، فيجب أن يجتهد المرء في عمارة باطنه وتصفية سره عن الخبائث والرذائل، وتنوير قلبه بأنوار العلوم والطاعات، ثمّ تخلية البيت عن دخول ما سوى صاحبه.
قال سليمان بن علي لحميد الطويل: "عِظْني". فقال: "إن كنتَ إذا عصيت الله خالياً ظننتَ أنّه يراك، فقد اجترأتَ على أمرٍ عظيم. وإن كنتَ ظننت أنه لا يراك، فقد كفرت".
وقال حاتم الأصمّ: "طهِّر نفسك في ثلاثة أحوال: إذا كنت عاملاً بالجوارح فاذكر نظر الله إليك، وإذا كنت قائلاً فاذكر سمع الله إليك، وإذا كنت ساكناً عاملاً بالضمير، فاذكر علم الله بك، إذ هو يقول
{ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىٰ } [طه:46].
الخامس: إنّ في الآية رجاءً عظيماً، فإنّ الله قد علم من عنايته من أول الأمر في حق الإنسان، مع كونه أنزل خلق الله - حيث خلق من طينٍ لازب ومن ماء مهين وهما أدون الأجسام وأسفلها وأكدرها -، لأنّه فضّله على الملائكة الذين هم من سكّان السموات وأعلى المكانات تفضّلاً، وجعله مسجوداً لهم تعظيماً وتكريماً، ويبعد من كرمه [و] جوده، أن يكرم ويشرف أبينا آدم عليه السلام في أول الأمر، ثم يعذّب أولاده ويخزيهم في آخر الأمر.
السادس: إنّ في الآية دلالة على أن العبد يجب عليه أن لا يأَمَن مكر الله، كما يجب عليه أن لا ييأس من رَوْح الله، لأنّه لا اطّلاع لأحد على عواقب الأمور، وأسرار حكمة الله في خلقه، فالملائكة وقع نظرهم على الفساد والقتل، ولكنّهم سيأتون بعدها بالإنابة والرجوع بقولهم:
{ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } [الأعراف:23]. وإنّ إبليس وإن أتى بالطاعات، لكنّه سيأتي بعدها بالإباء والاستكبار وبقوله: { { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ } [الأعراف:12]. فمِن شأن العاقل أن لا يعتمد على عمله، وان يكون أبداً متوكلاً على الله، خائفاً وجلاً.
فقوله: { إِنِيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }، معناه: إنّي أنا الذي أعرف الظاهرَ والباطنَ، والعلَن والسرّ، والبداية والنهاية، ومن يرونه عابِداً مطيعاً سيكفر، ويبعد عن حضرتي ودار كرامتي، ومن يرونه فاسقاً بعيداً سيقرب من خدمتي، ويُنيب إليّ، ويفوز بثوابي، ويتبوّء دار كرامتي حيث يشاء.
فالخلق لا يمكنهم أن يخرجوا عن حجاب الغفلة والجهل، ولا يتيسّر لهم أن يخرقوا أستار العزّ، فإنّهم لا يحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء.
ثمّ إنّه تعالى حقّق من مكامن الغيب عجز الملائكة عن تحقيق الأمور، بأن أظهَر من البشَر كمال العبوديّة، ومن أسدّ ساكني السموات عبادةً كمال الكفر والجحود، لئلا يغترّ أحد بعلمه وعبادته، ويفوّضوا معرفة الأشياء إلى حكمة الخالق، ويزيلوا الإعتراض بالقلب واللسان عن مصنوعاته ومبدعاته.
السابع: التنبيه على اخلاص العمل عن شوب الرياء والسمعة، لكونه تعالى علاّم الغيوب وكشّاف أسرار القلوب.
روى عدي بن حاتم، أنّه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
"يؤتى بناسٍ يوم القيامة فيؤمَر بهم إلى الجنّة، حتى إذا دنوا منها، ووجدوا رائحتها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعدّ الله لأهلها، نودوا أن انصرفوا عنها لا نصيب لكم فيها، فيرجعون بها حسرة ما رجع أحدٌ بمثلها، ويقولون: يا ربّنا - لو أدخلتَنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثوابك، وما أعددت فيها لأوليائك، كان أهون علينا.
فنودوا: ذلك أردت بكم، كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم، وإذا لقيتُم الناس لقيتم مخبتين، تُراؤون الناس بخلاف ما تضمرون عليه في قلوبكم. هبتم الناس ولم تهابوني، أجللتم الناس ولم تجلّوني، وتركتُم المعاصي للناس ولم تتركوها لي، كنتُ أهون الناظرين عليكم، فاليوم أذيقكم عذابي مع ما حرمتم من النعيم"
.