التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ
٣٤
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

هذه نعمة رابعة من نعم الله في حقّ الإنسان، المعدودة في هذه الآيات التي أُولاها ما في قوله: { { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً } [البقرة:28] - الآية - .
وثانيتها: ما في قوله:
{ { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } [البقرة:29].
والنعمة الثالثة: ما في قوله:
{ { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة:30].
والظرف معطوف على الظرف السابق إن نصبته بمضمر، وإلاّ فهو معطوف بما يقدّر عاملا فيه على الجملة المتقدّمة، بل القصّة بأسرها على القصّة الأخرى.
لمّا أنبأ آدم (عليه السلام) الملائكة بالأسماء الحسنى بحسب مقامه الجمعي، وعلّمهم ما لم يعلموا - إذ لم تعط نشأتهم ذوقاً ووجداناً- ، أمَرهم الله بالسجود له عندما سوّاه ونفخ فيه من روحه، وكان الأمر به إيّاهم قبل تسويته ونفخ الروح فيه، لقوله تعالى:
{ { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [الحجر:29]. وسبب ذلك أَنّه كان امتحاناً لهم، وإظهاراً لفضله عليهم من جهة استجماع مقامه الجمعي الكمالي لجميع مقامات مظاهر الأسماء.
معنى السجدة وسبب مسجوديّة آدم
والسجود في الأصل تذلّل وانقياد مع تطأطؤ الرأس. يقال: سجَد البعيرُ وأسجَد: طَأطَأ رأسَه لراكبه. قال الشاعر:

"وقَلنَ له اسجد للَيلى فأسجَدا"

وقال:

"تَرى الأكم فيها سجَّداً للحوافِر"

أي تلك الجبال الصغار كانت مذلّلة لحوافر الخيل، ومنه قوله تعالى: { { وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } [الرحمن:6].
وفي الشرع وضْعُ الجبهةِ على الأرض قصداً للعبادة.
والمراد منه هاهنا إمّا المعنى اللغوي، وهو التواضع لآدم تحيّةً وتعظيماً له، كسجود إخوة يوسف وأبويه له، أو التذلّل والانقياد بالسعي في تحصيل ما تناط أمورُ معاشهم، وتتمُّ به أحوالُ كمالهم بحسب معادهم، لأنهم وسائطُ تدبيرات هذا العالَم، وتحريكات الأجرام، واستحالاتها، وانقلاباتها حتى تتكوَّن منها الكائناتُ التي غايتها خِلقةَ الإنسان، لأنّ من أفراده عرفاءُ الرحمن.
وإمّا المعنى الشرعي: فهاهنا يحتمل السجودُ وجوهاً ثلاثة:
إمّا أن يكونَ المسجودُ له هو الله تعالى.
فحينئذ إمّا أنه جَعَلَ آدمَ قبلةً لسجودهم كالكعبة تفخيماً لشأنه.
وإمّا أنَّ آدمَ كان سبباً لوجوب السجدة، فكأنّه تعالى لمّا خلَقَه بحيث كان أنموذجاً للمبدعات كلّها - بل للموجودات بأسرها - وجعله نسخةً مختصرة لما في العالَم الروحاني والعالَم الجسماني، وذريعةً للملائكة إلى استيفاء ما قدَّر لهم من الكمالات الفعليّة، وفاضَ عليهم من الإشراقات النوريّة من جهة تحريكاتهم الكليّة، ووصلة إلى ظهور ما صدَر عنهم من الخيرات وترتَّب عليهم من وجود الأكوان الصوريّة والحوادث الأرضيّة بواسطة الحركات السماويّة، فأمروا بالسجود تذلّلاً لما رأوا من عظيم قدرة الله، وباهرِ آياته في نظْم العالَم من الأعلى إلى الأسفل، ثمّ من الأسفل إلى الأعلى بواسطة الإنسان، الذي به ترتقي سلسلة الوجود - الهابطِ إلى أسفل السافلين - إلى أعلى عليّين، وشكراً لِما أنعم الله عليهم بواسطته.
فاللامُ فيه كاللامِ في قول حسّان في مدح أمير المؤمنين (عليه السلام):

ما كنت أعرف أنَّ الأمْر منصرفٌعن هاشم، ثمّ منها عن أبي حَسَن
أليسَ أوَّلُ منْ صَلّى لِقبلَتِكُمْ وأعرفُ الناس بالقرآن والسنَن

أو في قوله تعالى: { { أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ } [الإسراء:78].
وإما أن يكون المسجود له هو الإنسان، لكن [لا] من حيث هويّته الإمكانيّة ليلزم الإشراك، بل من حيث بلوغه إلى مقام القرب الإلهي، ورجوعه وحشره إلى الحضرة الإلهية، وفناؤه عن ذاته، وبقاؤه ببقاء الله لا ببقاء غيره، ففي هذا المقام يصير الروح الإنساني كمرآة مصقولة لا لون فيه، انعكس عليه وجه الله الباقي على نهج التجلي - لا على وجه الحلول والاتحاد، تعالى عن ذلك علواً كبيراً - فسجودهم لآدم (عليه السلام) من هذه الجهة سجود لله لا له.
ومما يوضح ذلك: أن كلّ منْ عبَدَ الله وسجَدَ له، لا بدّ أن يتصوّره في ضميره بوجه من الوجوه، ويشاهده في باطنه، إذ العبادةُ والسجدة للمجهول المطلق محال، ولهذا قد ورَد في الحديث عنه (صلى الله عليه وآله).
"الإحسانُ أنْ تَعبدَ الله كأنَّك تَراهُ" .
ثمَّ إنّك كل ما تصوَّرتَه أو تخيّلتَه عن الله فهو سبحانه وراء ذلك، فإن نظرتَ إليه بما هو صورةٌ معيَّنة لها صفات معيَّنة إمكانية أو مكانيّة، فقد عبَدتَ غيرَ الله وسجدْتَ لسواه: وإنْ نَظرتَ إلى الحقّ وجعلتَها مرآةً لملاحظة المعبود الحقيقي، ولم تجعَل النظرَ نظرين - نظراً إلى المرآة، ونظراً إلى المرئي - فقد عَبدْت الله مخلصاً محسناً.
فإذا جاز أن تكون الصورةُ المعقولة أو المتخيلة وجهاً من وجوه الحق المسجود له، فلِمَ لا يجوز أن [تكون] الصورة الآدميّة، الّتي هي مظهر أسماء الله الحسنى ومجلى صفاته كلّها، مسجوداً للملائكة على وجهٍ لم يكن المنظور إليه والمعبود غير الذات الأحديّة؟
فصل فيه شرح
الأقوال في سجود الملائكة لآدم
أجمعَ المسلمون على أنّ السجود بمعنى العبادة لغير الله كفْرٌ، والكفْر لا يكون مأموراً به. ثمّ اختلفوا بعد ذلك على ثلاثة أقوال:
الأوّل: إن ذلك السجود كان لله، وآدمُ (عليه السلام) كان كالقبلة. واعتُرض عليه بوجهين:
أحدهما: إنّ السجدة إذا نُسبتْ إلى ما هو كالقِبْلة عُدّيت بغير اللام فلا يقال: صَلّيت للقِبْلة أو للمسجد. بل إلى القِبْلة، وفي المسجد. فلو كان آدمُ قِبلةً لهذا السجود لوجب أن يقال: اسجدوا إلى آدم. وإذ ليس فليس.
والثاني: إن قولَ إبليس: "أرأيتك هذا الذي كرَّمت علَىَّ" وغير ذلك مّا صَدَرَ منه الإباء، والاستكبار، والإغواء، لأولاده، والعداوة والبغضاءُ إلى يوم الدين يدلّ على أنّه أعظم حالاً من الساجد، ولو كان قِبلةً لما حصلتْ له هذه الدرجة الّتي انبسطَت شُهرتُها في مجامع القدس، ومصاقع الجبروت، وقرعَت أصواتُها السوامع في صوامع الملكوت.
وأيضاً كان محمّد (صلى الله عليه وآله) يصلّي إلى الكعبة ولم يلزم أن تكون أفضلَ منه (ص).
وأجيب عن الأوّل: بتجويز أن يقال: "صلَّيتُ للقبلَة". كما يقال: "صلّيت إلى القبْلة" والاستشهاد عليه بالقرآن والشعر كما مرّ.
وعن الثاني: بأنّ ابليس شكى تكريمَه، وذلك التكريمُ لا نسلِّم أنّه حصل بمجرّد كونه مسجوداً، بل لعلّه حصل بذلك مع انضمام أمور أخرى.
وكِلا الجوابين لا يخلو عن ضعفٍ:
أمّا الأوّل: فلا شبهة في ندرة وقوع اللام في مثلها. والظاهر أنها ليست بمعنى "إلى" أو "في".
وأمّا الثاني: فإنّ الظاهر الواضح أنّ منشأ عصيان ابليس وتمرّده، ومبدأ كفْره وجحوده، هو مسجوديّة آدم، كما دلّ عليه قوله [تعالى]:
{ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } [الإسراء:61].
وقوله:
{ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ } [الحجر:33].
القول الثاني: إنّ السجدة كانت له (عليه السلام) تعظيماً له وتحيّة، كالسلام عليه منهم، وكانت الأممُ السالفة يحيُّون ملوكَهم وأنبياءهم كتحيّةِ المسلمين بعضهم بعضاً.
قال قتادة في قوله تعالى:
{ { وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً } [يوسف:100] كانت تحيّة الناس يومئذ سجودَ بعضهم لبعض.
وعن صهيب: إنّ معاذ لمَّا قدِم من اليمن سجَد للنبي (صلى الله عليه وآله)، فقال: يا معاذ ما هذا؟ فقال: إنّ اليهود تسجد لعُظمائها، ورأيتُ النصارى تسجد لقسّيسيها وبَطارقتها قلتُ: ما هذا؟ قالوا: تحيّة الأنبياء. فقال صلوات الله عليه وآله:
"كذبوا على أنبيائهم" .
وعن الثوري، عن سماك بن هاني، قال: دخل الجاثليق على علىِّ ابن أبي طالب (عليه السلام)، فاراد أن يسجدَ له، فقال له عليّ (عليه السلام): اسجُدْ لله. ولا تَسجد لي، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "لو أمرت أحداً أن يسجدَ لغير الله، لأمرْتُ المرأة أن تَسجدَ لزوجها، لعِظَم حقِّه عليها" .
القول الثالث: إن السجود في الآية كان على المعنى الذي له في أصل اللغة، وهو الانقياد والخضوع.
وقد علمتَ ضعف القول الأوّل، وأمّا القول الثالث فضعيف أيضاً، لأن السجود لا شك في أنّ لفظه في عرف الشرع عبارةٌ عن وضْع الجبهة على الأرض، فوجب أن يكون في أصل اللُّغة كذلك، لأنّ الأصل عدم التغيير.
فإن قلت: السجود عبادةٌ، والعبادة لغير الله غير جائزة.
قلنا: لا نسلّم أن السجدة عبادة. لِمَ لا يجوز أن يكون في بعض الأوقات، أو بحسب بعض العادات سقوط الإنسان على الأرض، وإلصاقه الجبين عليها مفيداً لضرب من التواضع والتعظيم، وإن لم يكن ذلك عبادة، وإن كان ذلك فلا يمتنع أن يأمر الله تعالى ملائكته بذلك إظهاراً لرفعته وإشعاراً بكرامته.
وأيضاً السلطان قد يأمر بعض مقربيه من عبيده أن يخدم ويطيع رجُلاً فقيراً، أو ضعيفاً، وهم يفعلون ذلك ويخدمونه، ويرجع ما فعلوه في الحقيقة إلى خدمة السلطان وطاعته، فسجود الملائكة لآدم (عليه السلام) كان في الحقيقة سجوداً لله، وطاعة لأمره.
وقد علمتُ وجهاً آخر ألطف من كلّ ما قيل، أو يقال في دفع هذا الإشكال.
فصل
إبليس من الملائكة أم لا؟
اختلفوا في أن إبليس - لعنه الله - هل كان من الملائكة، أم لا؟ فذهب قوم إلى أنه كان منهم، ورُوي عن ابن عبّاس "إنّ من الملائكة ضرباً يتوالدون يقال لهم: "الجنّ" ومنهم إبليس. وهو المرويّ عن ابن مسعود وقتادة، واختاره الشيخ أبو جعفر الطوسي - قدس الله روحه - قال: "وهو المرويّ عن أبي عبد الله (عليه السلام)".
ثم اختلفَ مَن قال "إنّه كان من الملائكة". فمنهم مَن قال: "إنّه كان خازن طبقات الجنّة". ومنهم مَن قال: "كان له سلطان سماء الدنيا وسلطان الأرض". ومنهم من قال: "إنّه كان يوسوس ما بين السماء والأرض".
وقال الشيخ المفيد أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان - قدس الله سره - : "إنّه كان مِن الجنِّ، ولم يكن من الملائكة" قال: "وقد جاءت الأخبار بذلك متواترة عن أئمة الهدى، وهو مذهب الإمامية".
وهو المرويّ عن الحسن البصري، وهو قول البلخي وغيره.
واحتجّوا عن صحة هذا القول بأشياء:
أحدها: قوله تعالى:
{ { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ } [الكهف:50].
وثانيها: قوله تعالى:
{ { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم:6]. نفى المعصية عنهم نفياً عامّاً.
وثالثها: إن إبليس له نسلٌ وذرّية، قال تعالى:
{ { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } [الكهف:50] قال الحسن: إبليس أبو الجنّ، كما أنّ آدم (عليه السلام) أبو الإنس.
وإبليس مخلوقٌ من النار، والملائكة روحانيّون خُلقوا من الريح في قول بعضهم. ومن النور في قول الحسن، لا يتناسلون، ولا يطعمون، ولا يشربون.
ورابعها:
{ { جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً } [فاطر:1] ولا يجوز على رُسل الله الكفْر، ولا الفسْق. ولو جاز عليهم الفسْق لجاز عليهم الكذب.
وذكروا في توجيه الاستثناء وجوهاً:
أحدها: ما ذكره صاحب الكشاف: "إن هذا استثناءٌ متّصل، لأنّه كان جنّياً واحداً بين أظهر الألوف من الملائكة مغموراً بهم، فغلّبوا عليه في قوله: { فَسَجَدُواْ }، ثم استثني منهم استثناء واحد منهم".
وثانيها: إنّه كان مأموراً بالسجود معهم، فلمّا دخل معهم في الأمر جاز إخراجه بالاستثناء منهم.
وثالثها: إن هذا الاستثناء منقطع كقوله:
{ { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ } [النساء:157].
ويؤيّد هذا القول ما رواه الشيخ أبو جعفر ابن بابويه -رحمه الله - في كتاب النّبوة بإسناده عن ابن أبي عمير، عن جميل بن درّاج، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن إبليس، أكان من الملائكة، أو كان يلي شيئاً من السماء؟ فقال: "لم يكن من الملائكة، ولم يكن يلي شيئاً من السماء، وكان من الجنّ، وكان مع الملائكة يرى أنَّه منها، وكان الله سبحانه يعلم أنَّه ليس منها، فلمَّا أمر بالسجود لآدم كان منه الذي كان" وكذا رواه العيّاشي في تفسيره.
وأمّا من قال: إنّه كان من الملائكة، فإنّه احتجّ بأنّه لو كان من غيرهم لمَا كان ملوماً بترك السجود.
والجواب: إنّه كان من جملة المأمورين بالسجود وإن لم يكن من جملة الملائكة. دلّ على كونه مأموراً قوله تعالى:
{ { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } [الأعراف:12].
وهؤلاء الزاعمون أنَّه كان من الملائكة أجابوا عن الاحتجاج الأوّل وهو قوله: { كَانَ مِنَ الْجِنِّ }. بأن الجنّ جنس من الملائكة، سُمّوا بذلك لاجتنانهم عن العيون، وقال تعالى:
{ { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَباً } [الصافات:158] أراد بها الملائكة، لأنّهم قالوا: "الملائكةُ بنات الله".
وأجابوا عن الثاني - وهو قوله:
{ { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ } [التحريم:6] بوجهين:
أحدهما: أنَّ من الملائكة من ليس بمعصوم - وإن كان الغالب فيهم العصْمة - كما أنَّ من الإنس معصومين، والغالب فيهم عدم العصمة؛ ولعلّ ضرباً من الملائكة لا يخالفهم بالذات، وإنّما يخالفهم بالعوارض والصفات، كالبررة والفسقة من الإنس والجنّ يشملهما، وكان إبليس من هذا الصنف كما قاله ابن عبّاس، فلذلك صحّ عليه التغيّر من حاله والهبوط عن محله، كما أشار إليه تعالى بقوله:
{ { كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [الكهف:50].
ثانيها: بأنه صفة لخزنة النيران لا لجميع الملائكة، فلا توجب عصمة لغيرهم من الملائكة.
وأجابوا عن الثالث: بأنه يجوز أن يكون الله تعالى ركّب في إبليس شهوة النكاح تغليظاً عليه في التكليف، وإن لم يكن ذلك في باقي الملائكة، ويجوز أن يكون الله لمّا أهبطَه إلى الأرض تغيّرت حاله عن حال الملائكة.
قالوا: كيف يصحّ ذلك والملائكة خُلقتْ من نور
{ { وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } [الرحمن:15]؟
فأجيب: بأنّه كالتمثيل لما ذكر، فإنّ المراد بالنور الجوهر المضيء، أو النار كذلك، غير أنّ ضوءها مكدّر مغمور محذور منه بسبب ما يصحبه من فرط الحرارة والإحراق، فإذا صارت مهذّبة مصفاة كانت محض نور، ومتى نكصتْ عادت الحالةُ الأولى جذعة، ولا تزال تتزايد حتى ينطفئ نورها ويبقى الدخان الصِّرْف.
وهذا أشبه بالصواب وأوفق للجمع بين النصوص. وقد مرّ كلام كلٍّ من الفريقين في المفاتيح مستقصى.
واعلم أن لا شبهة لأحد في أن الملك، والشيطان، متخالفا اللوازم، والآثار الذاتيّة. كيف! وأحدهما: بطباعه ملهم الخيْر والطاعات؛ والثاني: بطباعه موسوس الشرور والمعاصي. واختلاف اللوازم والآثار الذاتيّة دليل اختلاف الملزومات والمؤثّرات بالذات.
نعم كلا الجنسين متّفقان في أنّهما روحانيان غائبان عن الأبصار والحواسّ، لا نراهما وقبيلهما إلاّ عند تجسّمهما، وتمثّلهما بصورة من الصور، بل وجودهما كوجود الموجودات الأخرويّة لا ينكشف لأبصارنا إلاّ عند غيبوبتنا عن هذا العالَم - كما يقع للمكاشفين - أو لفساد مزاج البدن بواسطة غلبة اليبوسة على الدماغ فتتعطَّل بها الحواسّ عن الشواغل، فتستولي قوّة الخيال على المحاكاة الخياليّة - كما للممرورين أو بواسطة تمثّلهما في العين، أَو تصوّرهما بصورة محسوسة جسمانيّة.
والظاهر من الأخبار والآثار أن مواطن الملائكة عالَم السماوات ودرجاتها على سبيل التعلّق والمباشرة، وأمّا تعلّقها بعالَم الأرضيّات فعلى سبيل الإمداد والاستخدام للقوى الأرضيّة، وأن مواطن الشياطين والجنّ عالَم الأرضيّات على سبيل التعلّق والمباشرة.
وأما عالَم السماء فلها اجتيازات على نهج العبور والاستراق للسمع - دون الولوج في سموكها - لأنّ عالَم السماء كعالَم قلب المؤمن بيت معمور مطهّر بطهارة القدس والتسبيح، وعمارة الذكر والحمد، لا يمكن أن يتصرّف فيه إلاّ جوهر مقدّس، ولا سبيل للخبيث اللعين إليه إلاّ اختلاساً واجتيازاً في بعض الساعات، كأوقات الكسوفات، والخسوفات، وغيرها، استراقاً للسمع.
وبالجملة: مواطن الشياطين والجنّ هذا العالَم الطبيعي، وليس لواحد منهم درجة العلم والمعرفة بالمقاصد الكليّة، والأمور الإلهيّة سواء كانوا كفّاراً كالشياطين، أولهم ضرب من الإسلام كطائفة من الجنّ ذُكرت في القرآن.
وأما قولكم: "إن الجنّ يطعمون". فقد جاء عن العرب ما يدل على أنّهم لا يطعمون ولا يشربون. أنشد ابن دريد:

ونارٌ قد حضأتُ بعيد وهْنٍ بدارٍ ما أُريدُ بها مقاما
سوى ترحيل راحلةٍ وعين أكالِثُها مخافةَ أنْ تَناما
أتوا ناري فقلتُ: منونَ أنتم؟ فقالوا: الجنّ. قلتُ: عَموا ظلاما
فقلتُ: إلى الطعامِ. فقال منهم زعيمٌ: نحسد الإنسَ الطعاما
لقد فُضِّلتم بالأكل فينا ولكن ذاك يعقبكم سقاما

فهذا يدل على أنهم لا يأكلون ولا يشربون لأنّهم روحانيّون، وقد جاء في الأخبار المنهي عن التمسُّح بالعظم والروث؛ لأنّ ذلك طعامهم وطعام دوابّهم. وقد قيل: إنّهم يتشمّمون ذلك.
وأجابوا عن الرابع - وهو قوله تعالى:
{ جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً } [فاطر:1] بأنّ هذه الآية معارَضة بقوله تعالى: { { ٱللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ ٱلنَّاسِ } [الحج:75]. لأنّ "مِنْ" للتبعيض.
وكِلا القولين مرويّ عن ابن عبّاس، فروي عنه أنه قال: إنّ الملائكة كانت تقاتل الجنّ، فسُبي إبليس، فلذلك قال تعالى:
{ { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ } [الكهف:50].
روى مجاهد وطاوس عنه أيضاً أنه قال: "كان إبليس قبل أن يرتكب المعصية ملَكاً من الملائكة اسمه "عَزازيل" وكان من سكّان الأرض. وكان سكّان الأرض من الملائكة يسمّون "الجنّ" ولم يكن من الملائكة أشدّ اجتهاداً ولا أكثر عِلماً منه، فلمّا تكبَّر على الله وأبى السجود لآدم وعصاه لعَنه وجعلَه شيطاناً مَريداً وسمّاه إبليس.
قال الشيخ محيي الدين ابن عربي في الباب الحادي والخمسين من الفتوحات المكية: "إعلم أن الجانّ هم أصل العالَم الطبيعي، ويتخيّل جليسهم بما يُخبرونه من حوادث الأكوان وما يجري في هذا العالَم بما يحصل لهم من استراق السمع من الملإ الأعلى، فيظنّ جليسهم أنَّ ذلك من كرامة الله به هيهات لما ظنّوا.
ولهذا ما ترى أحداً قط جالَسهم فحصل عنده منهم عِلْم بالله جملةً واحدة، وغاية الرجل الذي تعتني به أرواح الجنّ أن يمنحوه من عِلم خواصّ النبات، والأحجار، والأسماء، والحروف، وهو علم السيمياء، فلم يكتسب منهم إلاّ العِلم الذي ذمَّته ألْسِنة الشرائع الإلهيّة.
ومَن ادّعى صحبتهم وهو صادقٌ في دعواه فاسأله عن مسألة في العِلم الإلهي ما تجد عنده من ذلك ذوقاً أصلا، فرجالُ الله يفرّون من صحبتهم أشدّ فراراً منهم من الناس، فإنّه لا بدّ أن تحصّل صحبتُهم في نفْس من يصحبهم تكبّراً على الغير وازدراءً بمن ليس له في صحبتهم قَدَمٌ.
وقد رأينا جماعة ممن صحبوهم حقيقةً وظهرتْ لهم براهين على صحّة ما ادّعوه من صحبتهم، وكانوا أهل جدّ واجتهاد - ولكن لم يكن عندهم من جهتهم شمّة من العِلم بالله ورأينا فيهم اغتراراً وتكبّراً، فما زلنا بهم حتّى حُلنا بينهم وبين صحبتهم لإنصافهم وطلبهم الأنفس. كما رأينا أيضاً ضدّ ذلك منهم، فما أفلح ولا يفلح مَن كان هذه صفته إذا كان صادقاً، وأمّا الكاذب فلا نشتغل به.
وقال في موضع آخر من هذا الباب: "ومنهم من يُجالسه الروحانيون من الجانّ، ولكن دون الجماعة في الرتبة إذا لم يكن له حالٌ سوى هذا، لأنّهم قريب من الإنس في الفضول.
والكيّس من الناس من يهرب منهم كما يهرب من الناس، فإنّ مجالستهم رديّةٌ جدّاً قليلٌ أن تُنتج خيراً، لأنّ أصلهم نارٌ والنار كثيرة الحركة، ومن كثُرت حركته كان الفضول أسرع إليه في كلّ شيء، فهم أشدّ فتنة على جليسهم من الناس، فإنّهم قد اجتمعوا مع الناس في كشف عورات الناس التي ينبغي للعاقل أن لا يطلع عليها، غير أن الإنس لا تورث مجالسة الإنسان إيّاهم تكبّراً، ومجالسة الجنّ ليست كذلك، فإنّهم بالطبع يؤثرون في جليسهم التكبّر على الناس وعلى كلّ عبدٍ لله، وكل عبد رأى لنفسه شغوفاً على غيره تكبراً فإنّه يمقته الله في نفسه من حيث لا يشعر وهذا من المكر الخفي.
وقال أيضاً فيه: "ومنهم من نفس الرحمن عنه بمجالسة الملائكة، ونعم الجلساء هم، هم أنوار خالصةٌ لا فضول عندهم، وعندهم العِلم الإلهي الذي لا مِرية فيه، فيُرى جليسهم في مزيد علم بالله دائماً مع الأنفاس.
فمن ادّعى مجالسة الملإ الأعلى، ولم يستفد في نفسه عِلماً بربّه، فليس بصحيح الدعوى، وإنّما هو صاحب خيال فاسد" - انتهى كلامه.
تفصيل كلام لتحقيق مقام
في المفاضلة بين الملك والبشر
اعلم أن الناس اختلفوا في التفاضل بين الملائكة وأخيار البشر على طائفتين، وهذا الاختلاف كان مستمرّاً قبل دورة الإسلام وبعده إلى يومنا.
وتحقيق معرفة هذا الأمر لا يكون إلاّ بنور المكاشفة، وأكثر ما يوردونه في هذا الباب كلام أهل الحجاب الذين فضّلوا الإنسان على الملك، لأنّ أكثر ما يحتجّون به على ذلك يرجع إلى أُمور عاديّة، ومقدّمات جمهوريّة، لا يمكن التعويل عليها لصاحب البصيرة.
ونحن نذكر أوّلاً ما احتجت به كلّ طائفة من الذين فضّلو الملائكة، والذين فضّلوا أخيار البشر - سواء كانوا قبل الإسلام أو بعده - ونقدّم في الذكر كلمات الأوائل وأحوالهم قبل ظهور نور الإسلام؛ ثمّ نذكر أقوال المتكلّمين الإسلاميّين وما ذكروه من الجانبين نقضاً أو إبراماً؛ ثمّ ما يرد على كلّ كلام اعتراضاً وجواباً؛ ثمّ نشير إلى سرّ الكلام وأصله، وروح المقام وفصله، وذلك في فصول:
الفصل الأوّل
في ذكر أقوال الأوائل
ومعظمها أقوال الصابئة في تفضيل جانب الملائكة، وأقوال الحنفاء في تفضيل جانب البشر في مقابلة أقوالهم.
والصابئون هم الذين قالوا بنبوّة اغاثاذيمون وهرمس - وهما شيث وإدريس (عليهما السلام) - ولم يقولوا بغيرهما من الأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - ونسبتهم إلى الحنفاء كنسبة فلاسفة الإسلام إلى الصوفيّة بوجه، إلاّ أنهم زادوا على التفضيل للملك على أهل النبوّة (عليهم السلام) إلى حيث تركوا طاعتهم وانقيادهم، وجعلوا الملائكة قبلة طاعتهم ومنشأ نجاتهم وهدايتهم، وربما يُسمَّون بأصحاب الروحانيّات.
ومذهبهم: أن للعالَم صانعاً، حكيماً، مقدّساً عن سِمات الحدثان، والواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله، وإنّما يُتقرّب إليه بالمتوسّطين المقرّبين لديه وهم الروحانيّون المطهَّرون، المقدّسون جوهراً، وفعلاً، وحالة.
أمّا الجوهر: فهم المطهّرون عن الموادّ الجسمانيّة، المبرّءون عن القوى الجسدانيّة، المنزّهون عن الحركات والتغيّرات الزمانيّة، قد جبلوا على الطهارة، وفطروا علىالتقديس والتسبيح، فنحن نتقرّب إليهم ونتوكّل عليهم، وهم أربابنا وشفعاؤنا عند ربّ الأرباب.
فالواجب علينا أن نطهّر نفوسنا عن دنس الشهوات الطبيعيّة، ونُهذّب أخلاقنا عن علائق القُوى الشهويّة والغضبيّة، حتّى تحصل بيننا وبينهم مناسبة، فيفيض علينا بعض أنوارهم، وفضائلهم، وعلومهم.
قالوا: والأنبياء أمثالنا في النوع، وأشكالنا في الصورة، يشاركوننا في الحاجة إلى المادّة، يأكلون مما نأكل، ويشربون مما نشرب، ويساهموننا في الصورة، أناس بشر مثلنا، فمن أين لنا طاعتهم، وبأيّة مزيّة لهم لزم متابعتهم؟
وأمّا الفعل: فهم الأسباب المتوسّطون في الاختراع والإيجاد وتصريف الأمور من حال إلى حال، وتوجيه المخلوقات من مبدإ إلى كمال، يستمدّون القوّة من الحضرة القدسيّة، ويفيضون الفيض على الموجودات السّفليّة.
فمنها: مدبّرات الكواكب السبعة السيّارةِ في أفلاكها، وهي هياكلها. فلكل روحاني هيكل ولكل هيكل فلك، ونسبة الروحاني إلى ذلك الهيكل الذي اختصّ به نسبةُ الروح إلى الجسد، فهو ربُّه، ومدبّره، ومديره.
ففعل الروحانيّات تحريك الأجرام على قدر مخصوص؛ ليحصل من حركاتها انفعالات في الطبائع السفليّة والعناصر، فيحصل من ذلك تركيبات، فيتبعها قُوى جسمانيّة؛ ويركّب عليها نفوسٌ روحانيّة، ثمّ قد تكون التأثيرات كلّية صادرة عن روحاني كلّي، وقد تكون جزئيّة صادرة عن روحاني جزئي، فمع جنس المطر ملَكٌ، ومع كلّ قطرة أيضاً مَلكٌ.
ومنها: مدبّرات الآثار العلويّة الظاهرة في الجوّ ممّا يصعد من الأرض، فينزل مثل الأمطار، والثُّلوج، والبَرَد، والرياح، ومما ينزل من السماء مثل الصواعق والشهُب، وما يحدث في الجو من الرعْد، والبرْق، والسحاب، والضباب، والمياه وقوس قُزح، وذوات الأذناب، والهالَة، والمجرّة، وما يحدث في الأرض من الزلازل، والهدّات، والمياه، والخسف إلى غير ذلك.
ومنها: متوسّطات القُوى السارية في جميع الموجودات، ومدبّرات الهداية الشائعة في جميع الكائنات، حتّى لا يُرى موجود مّا خالياً عن قوة وهداية إذا كان قابلا لهما.
وأمّا الأحوال: فأحوال الروحانيّات من الروح، والريحان، والنعمة، واللذّة الدائمة، والراحة، والبهجة، والسرور في جوار ربّ العالمين كيف يخفى، ثمّ طعامُهم وشرابهم التسبيح، والتقديس، والتهليل، والتمجيد، وأُنسهم بذكر الله وطاعته، فمِنْ قائمٍ لا يركع، وراكعٍ لا يسجد، وساجدٍ لا ينتصب على حسب مقاماتهم في القرب والمنزلة لا تتبدّل حالهم لما هم فيه من البهجة والسرور، فمِن خاشعٍ بصره لا يرفع، ومِن ناظرٍ لا يغمض، ومِن ساكن لا يتحرّك، ومِن متحرّك لا يسكن حركة لا تعب فيها، ولا إعياء، ولا نصَب، ومن كرّوبيُّ في عالَم القبض، ومِن روحاني في عالَم البسط
{ { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم:6].
فهذا مذهب الصابِئَة، وقد جَرَت بينهم وبين الحنفاءِ مناظراتٌ ومفاوضات في المفاضلة بين الروحانيّ المحض، والبشريّة وذكرها صاحب كتاب الملل والنِّحل على شكل سؤال وجواب، وفيها فوائد لا تُحصى، فنوردها ملخّصة عن الزوائد ليحيط الناظر بما فيها وعليها.
فصل
فيما ذكره الصابئون في تفضيل الملائكة على الأنبياء وما أجاب به عنها الحنفاء. وهي وجوه:
الأوّل: إنّ الروحانيّات أُبدعت إبداعاً لا منْ شيء - لا مادة ولا هيولى - وهي كلّها جوهر واحد على سنخ واحد، وجواهرها أنوار محضة لا ظلام فيها، وهي من شدّة ضيائها لا يدركها الحس، ولا ينالها البصَر، ومن غاية لطافتها يحار فيها العقل،ولا يجول فيها الخيال.
ونوع الإنسان مركّبٌ عن العناصر الأربعة، مؤلَّفٌ من مادّة وصورة، والعناصرُ متضادّة، ومزدوجةٌ بطبائعها، ومن التضادّ يصدر الاختلاف والهرَجُ، ومن الازدواج يحصل الفساد والمرَجُ، فما هو مبدَعٌ لا من شيء لا يكون كمخترَعٍ من شيء، والمادة والهيولى سنخ الشر، ومنبع الفساد، فالمركب منها ومن الصورة كيف يكون كمحض الصورة؟ والظلام كيف يساوي النور؟ والمحتاج إلى الازدواج، المضطرّ في هَفْو الاختلاف كيف يرقى إلى درجة المستغني عنها؟
أجابت الحنفاء عنه: بِمَ عرفتُم وجود هذه الروحانيّات؟ والحسّ ما دلّكم عليه، والدليل ما أرشدكم إليه؟
فإن قالوا: عرفنا وجودها وتعرّفنا أحوالها من اغاثاذيمون وهرمس - [يعني] شيث وإدريس - .
قال الحنفاء: فقد ناقضْتم مذهبكم في نفي المتوسّط البشري، فصار نفيُكم إثباتاً، وإنكارُكم إقراراً.
ثمّ مَن الذي يسلّم أن المبدَع مِن لا شيء أشرف من المخترَع من شيء؟ بل جانب الروحاني أثر واحد، وجانب الجسماني أثران: أحدهما: نفسُه وروحُه، والآخر: جسمُه وجسدُه. فهو من حيث الروح مبدَع بأمر الباري تعالى، ومن حيث الجسد مخترَع بخَلقه، ففيه أثران: أمريٌّ وخَلقيٌّ، قَوليٌّ وفِعليٌّ. فهذه المرتبة في الخِلقة أفضل.
وإن فاضَلتم بين الروحانيّ المجرَّد والجسمانيّ المجرَّد فالصدْق معكم، ولكن المفاضلة بين الروحانيّ المجرَّد والمجتمَع من الجهتين، فلا يحكم عاقل بأنّ الفضل هنا للمجرّد.
الثاني: نوع الإنسان لا يخلو من قوّتي الشهوة والغضب، وهما تنزعان إلى البهيميّة والسبُعيّة، وتنازعان النفسَ إلى طِباعهما من الحرص والأمل لأحدهما، والكبر والحسد للآخر، وغير ذلك من الأخلاق الذميمة.
فكيف يماثِل مَن هذه صفتُه نوعَ الملائكةِ المطهّرين عنهما وعن لوازمهما ولواحقهما من النوازع الحيوانيّة والقواطع البشريّة بأسرها؟ لم يحملهم الغضب على حبّ الجاه والشُّهرة، ولا حملتهم الشهوة على حبّ المال والثروة، بل طِباعُهم مجبولةٌ على المحبَّة والموافقة، وجواهرُهم مفطورةٌ على الاتّحاد والألفة.
أجابت: بأنّ هذه المغالَطة مِثْل الأولى حذوَ النعلِ بالنعلِ، فإنّ في طرف البشريّة نفْسَين: نفْسٌ حيوانيّة لها قوّتان: شهويّة وغضبيّة. وأخرى إنسانيّة لها قوّتان: عِلميّة وعَمليّة. وبتينك القوّتين لها أن تجمع وتمنع، وبهاتين القوّتين لها أنْ تُقسِّم الأمور وتُفصِّل الأحوال.
ثم تعرض على العقل، فيختار بقوّته التي هي له كالبصر النافذ من العقائد، الحقَّ دون الباطل، ومن الأقوال: الصدقَ دون الكذب، ومن الأفعال، الخيرَ دون الشر.
ويختار بقوّته العمليّة من لوازم القوّة الغضبيّة، الشجاعةَ، والحميّة، دون الذلّة والهَوان، ومن لوازم القوّة الشهويّة: التودّد، والتآلف دون الشَّرَه والخساسة، فيكون من أشدّ الناس حميّةً على خصمه وأعداء دينه، ومن أرحَم الناس تذلّلاً وتواضعاً لوليه وصديقه، فإذا بلغ هذا الكمال فقد استخدم القوّتين، واستعملهما في جانب الخير.
وليس الكمال والشرف في فقدان القوّتين كحكم العنّين والعاجز، وإنّما الكمال في استخدامهما أوّلاً في جانب الخير، ثمّ الترقّي إلى إرشاد الخلائق في تزكية النفوس عن العلائق، وإطلاقها عن قيد الشهوة والغضَب، فنفسُ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كنفوس الروحانيّين فطرةً ووضعاً وبذلك الوجه وقعَت الشركة وفضلُهَا وتقدَّمها باستخدام القوى والنفوس التي دونها، واستعمالها في جانب الخير والنظام - وهو الكمال.
الثالث: إنّ الروحانيّات صورٌ مجردة عن المواد، عارية عن القوّة والاستعداد، وإن قدّر لها أشخاصٌ تتعلق بها تصرفاً وتدبيراً، لا ممازجةً ومخالطةً، فأشخاصها نورانية، والمتوسّط لا بدّ أن يكون كاملا حتى يكمل غيره، وأما الموجودات البشريّة فهي إمّا صورٌ في موادّ، أو نفوسٌ متعلقةٌ بها حاصلةٌ من المزاج والامتزاج. والفرض أنها موجودات بالقوّة لا بالفِعل، ناقصة لا كاملة، والمخرج من القوّة إلى الفعْل يجب أن يكون أمراً بالفعل غير محتاج إلى الخروج، فإن ما بالقوّة لا يَخْرج بذاته من القوّة إلى الفعل - بل بغيره - والروحانيّات هي المحتاجُ إليها في أن تخرج الجسمانيّات إلى الفعل، فالمحتاجُ إليه كيف يساوي المحتاجَ في درجة الوجود؟
أجابوا: إن هذا الحكم - وهو كون الروحانيّات بالفعل - غير مسلّم على الاطلاق، إذ منها ما هو وجوده بالقوّة، أو ما فيه وجودٌ بالقوّة، ويَحتاج إلى مخرج يُخرجه إلى الفعل، فإنّ النفسَ لها استعداد القبول (من العقل) عندكم، والعقلُ له إعداد لكل شيء وفيض عليه، وأحدهما بالقوّة، والآخر بالفعل.
وهذا لضرورة الترتيب في الموجودات العلويّة، فإن مَن لم يثبت الترتب فيها لم تتمشَّ له قاعدة عقليّة أصلاً، فإذا ثبت الترتيب فقد أثبت الكمال في جانب، والنقصان في جانب، فليس كل روحانيّ كاملاً من كلّ وجْه، ولا كلّ جسمانيّ [ناقصاً من كلّ وجه]، فمن الجسمانيّة أيضاً ما وجوده كامل بالفعل، وسائر النفوس محتاجة إليه. وذلك أيضاً لضرورة الترتيب في الموجودات السّفليّة.
قالوا: لنا أن هذا العالَم الجسمانيّ في مقابلة ذلك العالَم الروحانيّ، وإنّما يختلفان من حيث إنَّ ما في هذا العالَم من الأعيان فهو آثار ذلك العالَم. وما في ذلك العالَم من الصوَر فهو مُثُل هذا العالَم - والعالَمان متقابلان كالشخص والظلّ - فإذا أثبتّم في ذلك العالَم موجوداً مّا بالفعل كاملاً ويصدر عنه سائرُ الموجودات وجوداً ووصولاً إلى الكمال، فيجب أن تثبتوا في هذا العالَم أيضاً موجوداً مّا بالفعل كاملاً تامّاً حتى يصدر عنه سائرُ الموجودات تعلّماً ووصولاً إلى الكمال.
ومن العجب أنَّ عند الصابئة أكثر الروحانيّات قابلة منفعلة، وإنّما الفاعل الكامل واحد، وعن هذا صار بعضهم إلى أن الملائكة إناثٌ أخبرَ التنزيل عنهم به.
وإذا كان كذلك فنقول: في الموجودات السفليّة النفوسُ البشريّة كلّها قابلة الوصول إلى الكمال بالعلْم والعمَل، فيحتاج إلى مخرِج ما فيها بالقوّة إلى الفعل، والمخرج هو النبي (صلى الله عليه وآله).
ثم يكون بين الرسول والروح مناسبة وملاقاة عقليّة، فيكون الروح الأوّل مصدراً، والرسول مَظهراً، ويكون بين الرسول وسائر البشر مناسبة وملاقاة حسيّة، فيكون الرسول مؤدّياً والبشر قابلاً.
أقول: إن لفظ "القوّة" يطلق بالاشتراك اللفظي على ما هو بمعنى الإمكان الاستعدادي، والقوّة الانفعاليّة التجدديّة، وعلى ما يكون بمعنى الإمكان الذاتيّ والاستحقاق الفطريّ. والأوّل لا يجامع الفعليّة، بخلاف الثانية، فالإبداعيّات كمالاتها فطريّة، والجسمانيات كمالاتها تجدديّة كسبيّة. وأمّا النفس فلها إمكان ذاتيّ في ذاتها، ولها إمكان استعدادي به تنتقل من حالة إلى أخرى - ولكن بحسب تعلّقها إلى المادّة الجسمانيّة - .
فالأولى أن يجاب عن استدلال الصابئة الذي من هذا النمط، على أنّ أشرفَ الروحانيات أشرفُ من الأنبياء: بأنّ النفوس البشريّة يجوز أن تتدرج في الاستكمال، وترتقي إلى جانب علوّ الكمال بعد الهبوط والنقصان، بحيث تنتهى درجتُهم إلى درجة الروحانيّين، أو أعلى منهم بحسب الفطرة الثانية، وإن لم يكونوا كذلك في الفطرة الأولى.
هذا إذا كان المراد من الفطرة الأولى لهذه النفوس ما لَها في أول تكوّنها الجسمانيّ، وإن اريد بها ما عُبّر عنها بفطرة الله التي فَطر الناس عليها، فهي أيضاً غير قاصرة عن درجة فطرة الروحانيّين. وسيأتي لهذا وضوح وانكشاف.
الرابع: أن الروحانيّات نورانيّة علويّة لطيفة، والجسمانيّات ظلمانيّة سفليّة كثيفة. فكيف تتساويان؟ والاعتبار في الشرف والفضيلة بذوات الأشياء وصفاتها، ومراكزها، ومحالّها، فعالَم الروحانيّات، العِلْو لغاية النور واللطافة، وعالَم الجسمانيّات، السِّفَل لغاية الكثافة والظلمة، والعالَمان متقابلان. والكمال للعِلويّ والصفتان متضادتان، والشرف للنور لا للظلمة.
الجواب: لَسنا نوافقكم أوّلاً: على أن الروحانيّات كلها نوريّة، ولا نساعدكم ثانياً، أنّ الشرف للعلْو، ولا نسالمكم ثالثاً: أن الاعتبار في الشرف بذوات الأشياء.
أمّا بيان الأوّل: فقد حكمتم على الروحانيّات حكم التساوي وما اعتبرتم فيها التضادّ والترتيب، وإذا كانت الموجودات كلّها على قضيّة الترتيب والتضادّ فلم أغفلتم الحكمين هاهنا. فإنّ من قال: "الروحاني ما ليس بجسماني" فقد أدخل جواهر الشياطين، والأبالسة والجنّ في جملة الروحانيّات.
ثمّ من الجنّ مَن هو مسْلِمٌ، ومنها من هو ظالمٌ، ومن قال "الروحانيّ هو - المخلوقُ روحاً" فمِن الأرواح ما هو خيّرٌ، ومنها ما هو شرّيرٌ؛ والأرواح الخبيثة أضداد للأرواح الطيّبة؛ فلا بدّ إذَن من إثبات تضادّ وتنافر بين القسمين، فلِمَ قلتم: إنّها كلّها نورانيّة.
وعندنا - معاشر الحنفاء - الروح هو الحاصلُ بأمرِ الله، الباقي على مقتضى أمره، فمَن كان لأمْر الله أطوع، وبرسالات رُسُلِهِ أصدق، كان الروحانيّةُ فيه أكثر، والروح عليه أغلَب، ومن كان لأمره تعالى أنكَر، وبشرائعه أكذَب، كانت الشيطَنة عليه أغلب.
هذه قاعدتنا في الروحانيات، فلا روحانيّة أبلغ في الروحانيات من ذوات الأنبياء (عليه السلام).
وأما قولكم: "إن الشرف للعِلْو" إن عنيتم به جهة العِلْو فلا شرَف فيه وكم من عال جهة، سافل جهة، وعلماً، وذاتاً، وطبيعة. وبالعكس.
وأما قولكم: "إنّ الاعتبار في الشرَف بذوات الأشياء، وصفاتها، ومحالّها" فليس بحقّ. وهو مذهب اللعين الأوّل، حيث نظَر إلى ذاته وذاتِ آدم (عليه السلام) ففضّل ذاتَه - إذ هي مخلوقةٌ من النار وهي علويّة نورانيّة - على ذاتِ آدم وهو مخلوق من طين - وهو سِفليّ ظلمانيّ.
بل عندنا الاعتبار في الشرف بالأمر وقبوله، ومَن كان أقبَلَ لأمره تعالى، وأطوعَ لحُكْمه، وأرضى بقضائه فهو أشرف، ومَن كان على خلاف ذلك فهو أبعد، وأخسّ، وأخبث.
فأمْر الباري تعالى هو الذي يُعطي الروح:
{ { قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [الإسراء:85] وبالروح يحيا الإنسان الحياة الحقيقيّة، وبالحياة يَستفيد العقلَ الغريزي وبالعقل تكتسب الفضائل، ويُجتنب عن الرذائل، ومن لم يقبل الأمر الإلهي فلا روح له ولا حياة ولا فضيلة، ولا شرف.
أقول: قد رجع هذا الكلام إلى الاعتراف بأنّ الشرف والفضيلة إنّما هو بأمرٍ جوهري، فإنّ حقيقة الأمر الإلهي الذي بقبوله يصير الإنسان ذا روحٍ، وعقل، وحياة دائمة هو الذي به يتجوهر الإنسان تجوهراً روحانيّاً، ويتذوّت ذاتاً عقليّة دائميّة.
وأمّا خطأ اللعين فليس لأجل حكمه بأنّ النار أشرف من الطين، بل لأجل زعمه أنّ حقيقة الإنسان هي البدن المخلوق من التراب، أو لأجل توهّمه أنّ شرف الذات والصورة تابع لشرف الجسميّة والمادّة فهاهنا مغالطة بأخذ ما بالعرض مكان ما بالذات.
الوجه الخامس: إنّ الروحانيّات أشرف بقوّتي العلم والعمل من الجسمانيّات. أمّا العلم: فلا ينكر إحاطتهم بمغيبات الأمور عنّا، واطّلاعهم على مستقبل الأحوال الجارية علينا، ولأنّ علومهم كليّة وعلوم الجسمانيّات جزئيّة، وعلومهم، فعليّة وعلومها انفعاليّة، وعلومهم فطريّة وعلومها كسبيّة، فمِن هذه الوجوه تحقّق لهم الشرف عليها.
وأمّا العمليّة: فلا ينكر أيضاً عكوفهم على العبادة، ودوامهم على الطاعة
{ { يُسَبِّحُونَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ } [الأنبياء:20] ولا يلحقهم كلال ولا سآمة، ولا يرهقهم ملال ولا ندامة. فتحقّق لهم الشرف من هذه الجهة. وكان أمر الجسمانيّات بالخلاف من ذلك.
أجابوا عن هذا بجوابين:
أحدهما: التسوية بين الطرفين، وإثبات زيادة في جانب الأنبياء.
والثاني: بيان ثبوت الشرف في غير العلم والعمل.
أمّا الأول: فقالوا: علوم الأنبياء (عليهم السلام) كليّة وجزئيّة، وفعليّة وانفعاليّة، وفطريّة وكسبيّة. فمن حيث ملاحظة عقولهم عالَم الغيب منصرفةً عن عالَم الشهادة، تحصل لهم العلوم الكليّة فطرة دفعة واحدة، ثمّ إذا لاحَظوا عالَم الشهادة حصلت لهم العلوم الجزئيّة اكتساباً بالحواسّ على ترتيب وتدريج.
فكما أنّ للإنسان علوماً فطريّة - هي المعقولات - وعلوماً حاصلة بالحواسّ - هي الحسّيات والتجربيّات - فعالَم المعقولات بالنسبة إلى الأنبياء كعالَم المحسوسات بالنسبة إلى سائر الناس، فنظريّاتنا فطريّة لهم، ونظريّاتهم لا نصل إليها قطّ. بل ومحسوساتنا مكتسبة لهم ولنا بكواسب الجوارح.
فأمزجة الأنبياء - صلوات الله عليهم - أمزجة نفسانيّة ونفوسهم نفوس عقليّةٌ، وعقولهم عقولٌ أمريّة فطريّة. ولو وقع حجاب في بعض الأوقات فذاك لموافقتنا ومشاركتنا كي يزكّي هذه العقول، وتصفّى هذه الأذهان والنفوس وإلاّ فدرجاتهم وراء ما يقدّر.
وأما الثاني: فإنهم قالوا: ومن العجَب أنّهم لا يعجبون بهذا العلْم بل ويؤثرون التسليم على البصيرة، والعجْز على القدرة، والتبرّي من الحول والقوّة على الاستقلال، والفطرة على الاكتساب. وَ
{ مَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } [الأحقاف:9] على { { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ } [القصص:78].
ويعلمون أنّ الملائكة والروحانيّات باسرها وإن علت إلى غاية قوّة نظرها وإدراكها ما أحاطت بما أحاط به علم الباري جلّ جلاله، بل لكلّ منهم مطرح نظر، ومسرح فكر، ومجال عقل، ومنتهى أمل، ومطار وهم وخيال، وإنّهم إلى الحدّ الذي انتهى نظرُهم إليه مستبصرون، وما وراء ذلك الحدّ إلى ما وراء ما لا يتناهى مسلمون مصدقون، وإنّما كمالهم في التسليم لما لا يعلمون، والتصديق لما يجهلون
{ { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } [البقرة:30] ليس كمال حالهم، بل { { سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ } [البقرة:32] هو الكمال. فمن أين لكم أَنّ الكمال في العلم والعمل، لا في التسليم والتوكّل؟
وإذا كانت غاية العلوم هذه الدرجة، فجعلت نهاية أقدام الملائكة والروحانيين بداية أقدام السالكين من الأنبياء والمرسلين
{ { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَاواتِ وٱلأَرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ } [النمل:65].
فعالَم الروحانيّات بالنسبة إليهم شهادة، وبالنسبة إلينا غيب، وعالَم الجسمانيّات بالنسبة إلينا، شهادة وبالنسبة إليهم غيب، والله تعالى هو الذي يعلم السرّ وأخفى.
قالوا: مَن علم أنّه لا يعلم فقد أحاط بكلّ العلم، ومَن اعترف بالعجز عن أداء الشكر فقد أدّى كلّ الشكر.
الوجه السادس: إنّ الروحانيّات لها اختيارات صادرة من الأمر، متوجّهة إلى الخير، مقصورة على نظام العالَم، وقوام الكلّ لا يشوبها. البتّة شائبة الشرّ، وشائبة الفساد، بخلاف اختيارات البشر، فإنّه متردد بين طرفي الخير والشرّ. لولا رحمة الله في حقّ البعض، وإلاّ فوضع اختيارهم كان ينزع إلى جانب الشرّ والفساد، إذ كانت قوّتا الشهوة والغضب المركوزتان فيهم تجرّانهم إلى جانبهما، وأمّا الروحانيات فلا ينازع اختيارهم إلاّ التوجّه إلى وجه الله، وطلب رضاه، وامتثال أمره، فلا جرم كل اختيار هذا حاله لا يتغيّر ولا يتعذّر عليه ما يختاره، وكلّما أراده وقصده، وجده مختاره حسب مراده، وكل اختيار ذلك حاله يتعذّر عليه ما يختاره، فلا يوجد المراد ولا يحصل المختار.
أجابوا عنها بجوابين:
أحدهما: نيابة عن جنس البشر، وهو أَنّ اختيار الروحانيّات إذا كان مقصوراً على أحد الطرفين، محصوراً عليه، كان فِي وصفه مجبوراً، ولا شرَف في الجبْر، واختيار الشر مردّد بين طرَفي الخير والشر. فمن جانب يرى آياتِ الرحمن، ومن طرف يسمعٍ وساوس الشيطان، فتميل به تارة دعوة الحقّ إلى امتثال الأمر، وتميل به طوراً داعية الشهوة إلى اتّباع الهوى.
فإذا أقرّ طوعاً وطبعاً بوحدانيّة الله تعالى واختار من غير جبر وإكراه طاعته وصيّر اختياره المتردّد بين الطرفين مجبوراً تحت أمر الله باختيار من جهته من غير إجبار، صار هذا الاختيار أشرف وأفضل من الاختيار المجبور فطرة، كالمكره فعله كسباً، الممنوع عمّا لا يحبّ جبراً، ومن لا شهوة له فلا يميل إلى المشتهى، كيف يمدح عليه؟ وإنّما المدح - كلّ المدح - لمن زيّن له المشتهى ونهى النفس عن الهوى.
فتبيّن أَنّ اختيار البشر أفضل من اختيار الروحانيّات.
والثاني: نيابة عن الأنبياء، وهو أن اختيار الأنبياء مع ما أنّه من جنس اختيار البشر من وجه فهو متوجّه إلى الخير، مقصور على الصلاح الذي به نظام العالَم وقوام الكلّ، صادر عن الأمر، صائر إليه لا يتطرّق إلى اختياراتهم ميل إلى الفساد، بل درجتهم فوق ما يبتدر إلى الأوهام، فإنّ العالي لا يريد أمراً لأجل السافل، من حيث هو سافل بل إنّما يختار ما يختار لنظام كلّي، وأمر أعلى من الجزئي.
ثمّ يتضمن ذلك حصول نظام في الجزئي تبعاً - لا مقصوداً - وهذا الاختيار والإرادة على جهة سنّة الله تعالى في اختياره، ومشيئته للكائنات، لأنّ مشيئته كليّة متعلقة بنظام الكلّ، غير معللّة بعلّة، واختيار الرسول المبعوث من جهته ينوب عن اختياره، كما انّ أمره ينوب عن أمره فيسلك سُبل ربه ذللا، ثمّ يخرج من قبضة اختياره نظام حال، وقوام أمر مختلف ألوانه، فيه شفاء للناس.
ومن أين للروحانيّات هذه المنزلة؟ وكيف يصِلون إلى هذه الدرجة؟ كيف وكلّ ما يذكرونه فموهوم، وكلّ ما يذكره النبي (صلى الله عليه وآله) فمحقَّق بمشاهدة وعيان.
الوجه السابع: إن الروحانيّين متخصِّصون بالهياكل العلويّة مثل زحل، والمشتري وسائر الكواكب من السبعة، وهذه السيّارات كالأبدان والأشخاص بالنسبة إليها، وكلّ ما يحدث من الموجودات ويعرض من الحوادث فكلها مسببات هذه الأسباب وآثار هذه العلويّات، فيفيض على هذه العلويّات من الروحانيّات تصريفات وتحريكات إلى جهات الخير والنظام، ويحصل من حركاتها واتصالاتها تركيبات وتأليفات في هذا العالَم، ويحدث في المركبات أحوالٌ ومناسبات. فهم الأسباب الأول، والكلّ مسبّباتها، والمسبّب لا يساوي السبب، والجسمانيّون مشخّصون بالأشخاص السِّفليّة والمتشخّص كيف يماثل الغير المتشخِّص.
وإنّما يجب على الأشخاص في أفعالهم وحركاتهم اقتفاء آثار الروحانيّات في أفعالها وحركاتها، حتى يُراعى أحوال الهياكل وحركات أفلاكها زماناً ومكاناً، وبخوراً وتعزيماً، وتنجيماً ودعاء وحاجة خاصّة بكلّ هيكل، فيكون التقرب إلى هيكل من الهياكل تقرّباً إلى الروحاني الخاصّ به، الموكّل عليه، ومنه تقرّباً إلى ربّ الأرباب، ومسبّب الأسباب، حتّى يقضي حاجته، ويتمّ مسألته.
أجابوا بأنْ قالوا: الآن نزلتم عن نيابة الروحانيّات الصّرْفة إلى نيابة هياكلها، وتركتم مذهب الصبوة الصّرفة، فإنّ الهياكل أشخاص الروحانيّين، والأشخاص هياكل الربانيّين، غير أنكم أثبتُّم لكلّ روحانيّ هيكلاً خاصّاً، له فعل خاصّ لا يشاركه فيه غيره.
ونحن نثبت أشخاصاً رسلا، كراماً، تقع أوضاعهم وأشخاصهم في مقابلة كلّ الكون الروحانيّ والهياكل، وحركاتهم في مقابلة حركات جميع الكواكب والأفلاك، وشرائعهم مراعاة حركات أسندت إلى تأييد إلهيّ، ووحي سماويّ، موزونة بميزان العدل، مقدّرة على مقادير الكتاب الأوّل؛ ليقوم الناس بالقسط، ليست مستخرجة بالآراء المظلمة، ولا مستنبطة بالظنون الكاذبة إن طابقتها على المعقولات تطابقتا، وإن وافقتها بالمحسوسات توافقتا.
كيف ونحن ندّعي أنَّ الدين الإلهي هو الموجود الأوّل، والكائنات تقدّرت عليه، وأنَّ المناهج التقديرية هي الأقدم، ثم المسالك الخلقيّة، والسنن الطبيعية توجّهت إلينا، ولله تعالى سُنّتان في خَلقه وأمْره، والسُنّة الأمريّة أقدم وأسبق من السُنّة الخلقيّة، وقد اطّلع خواصّ عباده على السُنّتين
{ { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَحْوِيلاً } [فاطر:43] هذا من جهة الخَلق { فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً } [فاطر:43] - هذا من جهة الأمْرِ- .
والأنبياء (عليهم السلام) متوسّطون في تقرير سُنّة الأمْر، والملائكة (عليهم السلام) متوسّطون في تقرير سُنّة الخلْق، والأمر أشرَفُ من الخلْق، فمتوسّط الأمْر أشرفُ من متوسّط الخلْق، فالأنبياء أفضَل من الملائكة.
وهذا عجيب؛ حيث صارت الروحانيّات الأمْريّة متوسطات في الخَلْق، وصارت الأشخاص الخَلقيّة متوسطين في الأمر، ليُعلم أن الشرف والكمال في التركيب لا في البساطة، وأن اليد للجسماني لا للروحاني، والتوجّه إلى التراب أولى من التوجّه إلى السماء، والسجود لآدم من إبليس أفضل له من التسبيح والتقديس.
وليُعلم أن الكمال في إثبات الرجال - لا في تعيين الهياكل والظلال - وأنهم هم الآخرون وجوداً وعملاً، والسابقون فضلاً وعلماً، وأن آخر العمل أول الفكْرة، وأن الفطرة لمَن له الحجة، وأنّ المخلوق بيديه لا يكون كالمكَوّنِ بحرفَيه، كما قال تعالى: وَعزّتي وجَلالي لا أجعلُ مَن خلقتهُ بيديَّ كمَن قلت له "كُنْ" فكان.
الوجه الثامن: إنّ الناس متماثلون في الحقيقة الإنسانيّة والبشريّة، ويشملهم حدّ واحد، وهو "الحيوان الناطق المائت" والنفوس والعقول متساوية في الجوهرية، فحدّ النفس بالمعنى الذي يشترك فيه الإنسان، والحيوان، والنبات أنه "كمال أوّل لجسم طبيعيّ آليّ ذي حياة بالقوّة". وبالمعنى الذي يشترك فيه الإنسان والملائكة "أنه جوهر غير جسم، هو كمال الجسم، محرك له بالاختيار عن مبدإ نطقيّ أي عقليّ بالفعل أو بالقوّة". فالذي هو بالفعل خاصيّة النفس الملكيّة، والذي بالقوة هو فصل النفس الإنسانيّة.
وأمّا العقل فقوّة أو هيئة لهذه النفس، مستعدّة لقبول ماهيّات الأشياء، مجرّدة عن الموادّ، والناس في ذلك على استواء من القدم، وإنّما الاختلاف يرجع إلى أحد أمرين: أحدهما اضطراري - وذلك من جهة المزاج والاستعداد - والثاني: اختياري، من حيث الاجتهاد، المؤثّر في رفع الحجب الماديّة، وتصقيل النفس عن الصدإ المانع لارتسام الصور المعقولة، حتّى لو بلغ الاجتهاد إلى غاية الكمال تساوت الأقدام، وتشابهت الأحكام، فلا يتفضّل بشرٌ على بشرِ بالنبوّة، ولا يتحكّم أحدٌ على أحد بالاستتباع.
أجابوا: التماثل والتشابه في الصور البشريّة مسلَّم لا مرية فيه، وإنّما التنازع بيننا في النفوس والعقول قائمٌ، فإنّها عندنا على التضادّ والترتيب.
وذلك أن النفس - كما عُلم من كلامكم أيضاً - لفظٌ مشترك يطلق تارةً لمعنى بين الإنسان والحيوان، وتارةً لمعنى بين الإنسان والملَك - على مساق حدودكمْ - فهلاّ زدتم قسماً ثالثاً - وهو النفس النبويّة - حتى يتميّز به عن الملكيّة، كما يتميّز الملكيّ عن الإنسانيّ؟! فإنّ عندكم المبدأ النطقيّ للإنسان بالقوّة، والمبدأ العقليّ للملَك بالفعل، فقد تغايرا من هذا الوجه، ومن جهة أن الموت الطبيعي يطرأ على الإنسان، ولا يطرأ على الملَك، وذلك تمييز آخر. فليكن في النفس النبويّة مِثل هذا الترتيب.
وأما الكمال الذي تعرّضتم له، فإنما يكون كمالاً للجسم المختار إذا كان اختيار المحرّك محموداً، وأمّا إذا كان مذموماً من كلّ وجهٍ صار الكمال نقصاً، وبذلك يقع التضادّ بين النفس الخيّرة والشريرة، حتّى تكون إحداهما في جانب الملَكية، والأخرى في جانب الشيطانية، فيحصل التضادّ المذكور، كما حصل الترتيب المذكور.
وأمّا ما ذكره المتكلّم الصابيّ من حدّ العقل: "أنه قوّة أو هيئة للنفس مستعدّة لقبول ماهيّات الأشياء مجرّدة عن الموادّ". فغير شامل لجميع العقول عنده، ولا عند الحنيف، بل هو تعرّضَ للعقل الهيولاني دون سائر العقول من العقل النظري، والعمليّ، وما بالملكة، والذي هو بالفعل، والذي هو المستفاد، والذي هو الفعّال للعلوم التفصيلية، التي وجودها نفس معقوليّتها، ولا خلاف بينهم في أن هذه العقول قد اختلفت حدودها، وتباينت فصولها.
فأخبِرني أيُّها الحكيم من أيّ عقل تعدّ عقلَك أوّلاً؟ هل ترضى أن يقال لك: "تساوت الأقدام في العقول، حتّى يكون عقلك بالفعل والاستفادة، كعقل غيرك بالقوّة والاستعداد، بل واستعداد عقلك لقبول المعقولات كاستعداد عقل غبيّ غويّ لا يردّ عليه برادّة ولا ينفكّ الخيال عن عقله، كما لا ينفكّ الحسّ عن خياله.
وإذا كانت الأقدام متساويةً فما هذا الترتيب في الأقسام؟ وإذا ثبت ترتّباً في العقول فبالضرورة أن ترتقي في الصعود إلى درجة الاستقلال والإفادة، وتنزل في الهبوط إلى درجة الاستعداد والاستفادة.
الوجه التاسع: قالت الصابئة: إذا أبطلتم تساوي العقول والنفوس بإثبات الترتيب والتضادّ، فقد لزم الاتّباع، فأخبِرونا ما رتبةُ الأنبياء بالنسبة إلى نوع الإنسان؟ وما رٌتبتُهم بالنسبة إلى الملَك والجنّ وسائر الموجودات؟
ثمّ ما مرتبة النبيّ (صلى الله عليه وآله) عند الباري سبحانه؟ فإنّ عندنا الروحانيّات أعلى مرتبة من جميع الموجودات، وهم المقرّبون في الحضرة الإلهية، والمكرّمون لديه. ونراكم تارةً تقولون: "إن النبيّ (صلى الله عليه وآله) متعلّم من الروحاني" ونراكم تارةً تقولون: "إن الروحانيّ يتعلّم من النبيّ (صلى الله عليه وآله)"؟
أجابت الحنفاء: بأن الكلام في المراتب صعبٌ، ومَن لم يصلْ إلى رتبةٍ؛ كيف يمكنه أن يستوفي الكلام في أقسامها، لكنّا نَعرف أن رتبة النبي (صلى الله عليه وآله) بالنسبة إلينا كرُتبتنا بالنسبة إلى مَن هو دوننا في الجنس - كالحيوانات - وكما أنَّا نَعرف أسامي الموجودات ولا يعرفها الحيوانات، كذلك هم يَعرفون حقائق الأشياء ووجوه المصالح في الحركات، وحدودها وأقسامها، ونحن لا نَعرفها.
وكما أن النوع الإنساني يستخدم الحيوانات ويملكها بالتسخير، فالأنبياء ملوك الناس بالتدبير، وكما أن حركات الناس معجزات الحيوان، كذلك حركات الأنبياء (عليهم السلام) معجزات الناس، فالحيوانات لا يمكنها أن تبلغَ إلى الحركات الفكرية حتى تميّز الحقّ من الباطل، ولا الحركات القوليّة حتى تميّز الصدق من الكذب، ولا الحركات الفعليّة حتى تميّز الخير من الشرّ.
فكذلك قياس حركات الأنبياء (عليهم السلام)، لأنّ منتهى فكرهم لا غاية له، وحركات أفكارهم في محالّ القدس ممّا تعجز عنها قوّة البشر حتى يسلم: "لهم مع الله وقت لا يسعهم فيه ملَك مقرَّب ولا نبيٌّ مرسل".
وكذلك حركاتهم القوليّة والفعليّة، لا تبلغ إلى غاية انتظامها وجريانها على سبق الفطرة حركة كلّ البشر، وهم في الرُّتبة العلياء والدرجة الأولى من درجات الموجودات كلّها، قد أحاطوا علماً بما أطلعهم الربّ تعالى على ذلك دون غيرهم من الملائكة والروحانيّين، ففي الأوّل يكون حالُهم حالَ المتعلّم
{ عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } [النجم:5]. وفي الآخر حالُهم حال التعليم، وذلك في حقّ آدم (عليه السلام): { يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ } [البقرة:33]. حين كان الأمر على بدءِ الظهور والكشف، فانظُر كيف يكون الحال في نهاية دور الظهور.
وأما إضافتهم إلى جناب القدس فالعبوديّة الخالصة:
{ { قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ } [الزخرف:81]. قالوا: "إنّا عبادٌ مربوبون وقولوا في فضْلنا ما شِئْتم" أحقّ الأشياء لهم وأخصّ الأحوال بهم "عبدُه ورسولهُ" لا جرم كان أخصّ التعريفات بجلاله تعالى بأشخاصهم: إله إبراهيم. وإله إسمعيل وإسحق. وإله موسى وهارون. وإله عيسى. وإله محمّد - صلّى الله عليه وآله وعليهم.
وكما أن من العبوديّة ما هو عامُّ الإضافة، ومنها ما هو خاصُّ الإضافة، كذلك التعريف إلى الخَلْق بالإلهيّة والربوبيّة، والتجلّي للعباد بالخصوصيّة منه ما له عموم
{ { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الفاتحة:2]. ومنه ما له خصوص { { رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ } [الأعراف:122].
فهذه نهاية مذهبي الصابئين والحنفاء في باب المفاضلة بين الملائكة والبشر، وفيها فوائد لا تحصى، ولهذا وقع في الرواية هذا التطويل، وليعذرنا فيه أهل الدراية والتحصيل.
فصل
في أقوال علماء الإسلام القائلين بأنّ الملَك أفضلُ من البشر
إعلم أن جماعة من أهل الشريعة كأكثر الأشاعرة موافقاً لمذهب أصحابنا الإماميّة كالشيخ المفيد، والسيّد المرتضى، وأبي جعفر الطوسي - رضوان الله عليهم - احتجوا بأمر الله للملائكة بالسجود لآدم (عليه السلام) على أنّه أفضل منهم، فذهبوا إلى أنّ الأنبياء (عليهم السلام) أفضل من الملائكة، وقالت المعتزلة، وأبو بكر الباقلاني من الأشاعرة وأبو عبد الله الحليمي من فقائهم: "بل الملائكة العلويّة أفضل". ولكلّ من الطائفتين وجوه من الاحتجاج والاستدلال، نذكرها تلخيصاً وتهذيباً.
فحجّة القائلين بأنّ الملائكة أفضل من وجوه:
الأوّل قوله تعالى:
{ { وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } [الأنبياء:19] إلى قوله: - { يُسَبِّحُونَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ } [الأنبياء:20] والاستدلال به من وجهين:
أحدهما: أنّ هذه العِنديّة معلوم أنّها ليست مكانيّة - لتعاليه سبحانه عن المكان والجهة - فيكون عنديّةً شَرَفيّة، ودُنوّاً معنويّاً، فعلم أنّ للملائكة هذا القرب والشرف حاصلٌ - دون غيرهم - .
وقد عورض هذا بقوله في صفة المؤمن بحسب الآخرة:
{ { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } [القمر:55]. وأما في الدنيا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) حكاية عن الله تعالى: "أنا عند المُنكسرةِ قُلوبهم لأجلي" وهذا أكثر إشعاراً بالتعظيم، لأنّ كون الله عند أحد أعظم إجلالاً من كونه عند الله.
وثانيهما: أنه تعالى احتجّ بعدم استكبارهم على أنّ غيرهم وجَب أن لا يستكبر وهذا الاستدلال إنّما يتمّ إذا كانوا أفضل من البشر كما لا يخفى.
ولأحد أن يقول: لا نزاع في أنَّ الملك أشدّ قوّة وقدرة من البشر، ويكفي في صحّة الاحتجاج هذا القدْر من التفاوت، إنّما النزاع في الأفضلية بمعنى الشرف والقرب، أو كثرة المثوبات.
الثاني: عبادات الملائكة أشقّ من عبادات البشر، فيكونون أكثر ثواباً من البشر. أمّا الصُغرى فلوجوه:
أحدها: أنّ ميلهم إلى التمرّد أشدّ، لأنّ العبد السليم الآفات، المستغني عن طلب الحاجات، يكون أميل إلى التنعم والالتذاذ من المنغمر في الحاجات، فيكون كالمضطَرّ إلى عبادة مولاه والالتجاء إليه ولهذا قال تعالى:
{ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [العنكبوت:65].
ومعلومٌ أن الملائكة سكّان السماوات، وهي جنان وبساتين ومواضِع نزِهة، وهم آمِنون من الفقر والحرص، ثمّ إنّهم مع ذلك أبداً مذْ خُلقوا مشغولون بالعبادةِ، خاشعون، وجِلون، كأنّهم مسجونون، لا يلتفتون إلى نعيم الجنان واللذات، بلْ مقبلون على الطاعات الشاقّة، موصوفون بالخوف الشديد، والفزع العظيم، وكأنّه لا يقدر أحدٌ من بني آدم أن يبقى كذلك يوماً واحداً، ويؤيّده قصّة آدم وحواء (عليهما السلام)، وتناولهما لما نُهيا عن أكله.
وأما الكبرى فلِما ورد في الحديث عنه (صلى الله عليه وآله):
"أفضَلُ الأعمالِ أحمَزُها" أي أشقّها.
وثانيها: إنّ انتقال المكلَّف من نوع عبادة إلى نوع آخر أروَح له، وأسهَل عليه من الادامة على عمل واحد، ولهذا السبب جُعلت التصانيف مقسومة بالأبواب والفصول، وجُعل كتاب الله مقسوم الأبواب بالسور والأعشار والأخماس، ثمّ إن الملائكة كلٌّ منهم مواظبٌ على عمل واحد لا يَعدل إلى غيره - كما مرّ - فعبادتهم في نهاية المشقّة، فيكون ثوابهم أفضَل، لِما مرّ.
ولقائل أن يقول على الوجهين: هبْ أنّ مشقتهم أكثرَ، فلِمَ قلتم: "فيكون ثوابهم أكثرَ؟". وذلك لأنّا نرى بعض المتصوّفة يتحمّلون من المشاق، والمتاعب في طريق مجاهدتهم ما نقطع بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يتحمّل شطر ذلك، مع أنّا نقطع بأنّ درجتهم لا تبلغ جزءاً من ألف جزء من درجة النبي (صلى الله عليه وآله). فعُلم أنّ كثرة المشقة في العبادة لا تقتضي زيادة الثواب، بل مبناها على الدواعي والقصود، فلعلّ الفعل الواحد يأتي به المكلّفان على السواء، والثواب لأحدهما أعظم بكثير من الآخر، لأنّ إخلاص أحدهما أشدّ.
على أنّا لا نسلّم أن عبادات الملائكة أشقّ، وما ذكرتم في بيانه "مِن أن السماوات كالبساتين النزِهة، والمواضع الطيّبة، وأن أسباب التنعّم إذا كانت كثيرة صعب تركُها اشتغالاً بالعبادة" معارَض بأن أسباب البلاء مجتمعة على البشر، ومع ذلك لا يمنعهم ذلك، ويرضون بقضاء الله ويواظبون على العبادة، وهذا أدخل في استحقاق الأجر والثواب.
وأمّا قولهم: "المواظبة على نوع واحد شاقّةٌ". معارَض بأنّ الشيء إذا صار عادةً صار كالأمر الطبيعي في نهاية السهولة، وكان خلافُه صعباً، ولهذا قيل: "العادةُ كالطبيعة الثانية". ولذلك نهى النبي (صلى الله عليه وآله) عن الوِصال في الصوم، وقال أفضلُ الصومِ صومُ داود (عليه السلام)، وهو أن يصوم يوماً ويفطر يوماً.
أقول: العبادة والتسبيح منهم كالغذاء والتنفّس منا ليس يعود عليهم لأجل ذلك تعب ومشقّة.
الثالث: قالوا: عبادات الملائكة أدوم، فكانت أفضَل: أمّا الأوّل فلقوله:
{ { يُسَبِّحُونَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ } [الأنبياء:20]. وأمّا الثاني: فلأنّ الأدوم أشقّ، والأشقّ أفضل - كما مرّ تقريره - .
وفيه أيضاً ما سبق، ولأنّه قال (صلى الله عليه وآله):
"أفضَل العبّاد من طال عمره، وحسن عمله" . وقال عليه وآله السلام: "الشيخ في قومه كالنبي في أمته" وهذا يقتضي أن يكونوا في البشر كالنبي في الأمّة. وذلك يوجب فضلهم على البشر.
ولقائل أن يجيب عنه بالنقض والحلّ:
أمّا النقض: فلأنّ كثيراً من الأنبياء (عليهم السلام) كانوا أطول عمراً من محمّد (صلى الله عليه وآله)، فلزم أن يكونوا أفضل منه، وهو باطلٌ بالاتفاق.
أمّا الحلّ: فلأنّ المراد من الحديث الأوّل أنَّ العباد إذا كانوا متساوين في الإيمان، والإخلاص، وسائر ما يناط بالعبودية، ثمّ كان بعضهم أدوم عبادة كان أفضل، دلّ عليه قوله: "وحسن عمله".
ومن الثاني: أنَّ الشيخ في قومه إذا كان مثلَهم، أو أزيد منهم في رتبة العلم والعمل كان كذلك.
الرابع: إنهم أسبقُ السابقين في كل العبادات، لا خصْلة من الخصال إلاّ وهم أئمّة متقدمون فيها، وهم المنشِئون العامرون لمساجد الله، والممهّدون لطرق الدين، والسبقة في العبادة جهة تفضيل وتعظيم لقوله:
{ { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ } [الواقعة:10 - 11]. وكذا التمهيد لها، لقوله (صلى الله عليه وآله): "مَن سَنَّ سَنَّةً حَسَنةً فلَه أجْرُها وأجْر مَن عَملَ بِها إلى يَومِ القيامة" فهذا يقتضي أن يكون قد حصل للملائكة من الثواب كلُّ ما حصل للأنبياء مع زيادة.
أقول: هذا الوجه قويّ جداً، ولهذا لم يذكر أحدٌ جواباً عنه. والجواب كما يعرفه المحقّقون ويتحقّقه المكاشفون أنَّ ذوات الأنبياء (عليهم السلام) بما لهم من الزلفى عند الله هي نتائج عبادات الملائكة وجزاء أعمالهم، وغاية مساعيهم العائدة إليهم، والغاية أفضل من ذي الغاية كما ثبَت في الحكمة الإلهية.
الخامس: إن الملائكةَ رسلُ الله إلى الأنبياء (عليهم السلام)، والرسولُ أفضل من الأمّة. أمّا الأوّل فلقوله:
{ عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } [النجم:5]. وقوله: { { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ } [الشعراء:193 - 194]. وأمّا الثاني فبالقياس على الأنبياء من البشر، فإنّهم أفضل من أممهم، فكذا هاهنا.
ولقائل أن يقول: أفضليّة الأنبياء على أممهم لا نسلِّم أنها من جهة الرسالة وتبليغ الأمر، بل لِما عُلم من حالِهم وقربِهم بما أبدوه من المعجزات والكرامات.
بل ربما قيل: إنّ السائس للدواب خادم لها من هذا الوجه، والخادم - بما هو خادمٌ - أنقصُ منزلة من مخدومه، إلاّ أنّ لخادم الدابّة جهة إنسانية في نفسه بها يكون فضيلته على الدّابة، فكذا حال النبيّ (صلى الله عليه وآله) مع الأمّة، قال (صلى الله عليه وآله):
"تناكَحوا وتناسَلوا، فإنّي أباهي بكم الأمَم يومَ القيامة" .
السادس: الملائكة أنقى من البشر، فوجب أن يكونوا أفضل منهم.
أمّا تقواهم، فلأنهم مبرؤون عن الزلاّت وعن الميل إليها، وأمّا الأنبياء فإنّهم وإن كانوا معصومين عن الكبائر - بل وعن الصغائر أيضاً كما ذهبت إليه الإماميّة - لكنهم لم يخلوا عن الميل إليها بحسب الطبيعة البشريّة، فثبَت أنّ تقوى الملائكة أشدّ.
وأمّا كون الأتقى أفضل، لقوله تعالى:
{ { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات:13].
فالجواب: لا نسلّم أنَّ تقواهم أشدّ، وذلك لأن التقوى مشتقّ من الوقاية، وكلّما كانت الدواعي والشهوات أكثَر كانت التقوى عنها أشدّ، ولمّا كان المقتضي للمعصية في حقّ البشر أكثر، كانت تقوى المتّقين منهم أكثر.
فإنْ قيل: لا نسلّم عدم الداعية فيهم أصلا، لكن لا شهوة لهم إلى الأكل والشُّرب والمباشرة، ولهم شهوة التقدّم والرياسة.
قلنا: هذا لا يضرّنا لأنّ هذه الشهوة مشتركة بين الفريقين، وقد حصلت للبشر أنواع أُخر من الشهوات الصارفة عن الطاعات، كشهوة البطن، والفرج، وغيرهما فيكون فضيلة التقوى في البشر أشدّ وأقوى.
السابع: قوله تعالى:
{ لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } [النساء:172] وجه الاستدلال به أنَّ قوله: { { وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } [النساء:172]. خرَج مخرج التأكيد للأوّل، ومثل هذا التأكيد إنّما يكون بذكر الأفضل، كما في قولك: "هذه الخشبةُ لا يقدرُ على حملِها العشرةُ، ولا المأةُ". وكذا في كثير من الأمثلة.
ولقائل أن يقول: هذه الآية إن دلّت فإنّما تدلّ على فضْل الملائكة المقرّبين على المسيح (عليه السلام)، لا على من هو أفضل منه - وهو نبيّنا (صلى الله عليه وآله)، وموسى، وإبراهيم (عليهما السلام) - وبالجملة، فلو ثَبت أنَّ المسيح أفضل من كلّ الأنبياء (عليهم السلام) كان مقصودهم حاصلاً، وإلاّ فلم يحصل.
ثم نقول: قوله: { وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } ليس فيه إلاّ واو العطف، التي لمطلق الجمعيّة، والأمثلة الجزئيّة غير مفيدة في الدعوى الكليّة، على أنّها معارَضة بأمثلة أُخرى، كقولك: "ما أعانَني عَلى هذا الأمْر زيدٌ ولا عمروٌ" فهذا لا يُفيد أفضليّة عمروٍ من زيد.
سلَّمنا أنّه يفيد التفاوتَ - أمّا أنه من جميع الوجوه، أو من جهة كثرة الثواب فغير مسلَّم. والسنَد أنَّ النصارى لمّا شاهَدوا من المسيح، إحياءَ الموتى، وإبراءَ الأكمهِ والأبرصِ، أخرَجوه من العبوديّة إلى المعبوديّة بسبب هذا القدْر من القُدرة، فقال تعالى: إنّ عيسى لا يستنكف بسبب هذا القدْر من القُدرة عن عبوديتي، بل ولا الذين هم فوقه في القوّة، والقدرة، والاستيلاء على عالَم السماوات والأرضين، فعلى هذا الوجه دلّت الآية على أنّهم أفضل من البشر في القوّة والشدّة، لا في كثرة الثواب كما هو المقصود.
وهاهنا وجهان آخران في الجواب:
أحدهما: إن الآية دلّت على أنّ مجموعَ الملائكة أفضلُ من المسيح (عليه السلام) لا كلّ واحد.
وثانيهما: لعلّ خطاب الله كان مع أقوام اعتقدوا فضلَ الملَك على البشر، فأورد الكلام على حسب معتقَدهم، كما في قوله تعالى:
{ { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم:27].
الثامن: قوله تعالى حكاية عن إبليس:
{ { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ } [الأعراف:20]. وهذا وإن كان قول إبليس - وهو ليس بحجّة - إلاّ أن آدم وحوّاء (عليهما السلام) لو لم يكونا معتقدين، "أن الملَك أفضلُ من البشر" لم يكن إبليس يغترّهما بذلك، ولا كانا اغترّا بذلك.
والجواب: أوّلاً: إنّ آدم (عليه السلام) لم يكن نبيّاً حينئذ، فلم يثبت فضلُ الملائكة على الأنبياء من كونهم أنبياء.
وثانياً: إن ما ذكر لا يدلّ على كون الملَك أفضل عاقبةً وأعظم مثوبةً عند الله، بل إنّ لهم ضروباً من الفضيلة غير ذلك، ولا شُبهة لأحد في أنّ لهم جهات فصل بالفعل على نوع البشر كالقوّة، والقُدرة، والحُسن، والجَمال، والصَّفاء، والنقاء من الكدورات المزاجيّة، والأمراض، والعاهات، وغيرها، فلأجلها رغب آدم (عليه السلام) في أن يكون مثلَهم في العاجِل وإن كان أفضلَ منهم في الآجل.
التاسع: قوله تعالى:
{ { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلاۤ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَلاۤ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } [الأنعام:50]. لم يُرد به نفي الصورة، إذ لا يفيدُ الغرضَ، وإنّما نفى أن يكون له مِثل ما لهم من الصفات الكمالية.
والجواب: إن الصدْق حاصلٌ بنفْي المماثلة في الصفات من كلّ الوجوه، ولا دلالة فيه على وقوع التفاوت بينهما في كل الصفات.
العاشر: قوله:
{ { مَا هَـٰذَا بَشَراً إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } [يوسف:31].
والجواب: إن المراد المشابهة في الصورة الظاهرة أو في المجموع من الصورةِ الحسَنة والسيرةِ الكريمة، ولا يلزم منه أن يكون المشبه به أقوى في الأخيرة، سيَّما ما يكون بمعنى كَثرة الثواب.
الحادي عشر: قوله تعالى:
{ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } [الإسراء:70]. وظاهر أنَّ ما عدا هذا الكثير المفضّل عليه، لا يمكن أن يكون إلا الملائكة، لسقوط غير المكلف عن درجة الاعتبار، وانحصار جنس المكلف في أربعة أنواع، ولا شكّ أنَّ الإنس أفضَل من الجنّ والشياطين، فلو كان أفضل من الملَك أيضاً لكان أفضل من جميع المخلوقات، وحينئذ لم يبق للتقييد بالكثير فائدةٌ فعلم أنَّ الملَك أفضل من البشر.
وأجيب عنه بجوابين:
أحدهما: أنّ في الكلام تمسّكاً بدليل الخطاب، وهو ضعيفٌ لا يعوَّل عليه في العقائد الكليّة.
وثانيهما: إنّه لا يلزم منه إلاّ تفضيل الجنس على الجنس لا تفضيل الكلّ على الكلّ.
الثاني عشر: إن الأنبياء (عليهم السلام) ما استغفروا لأحد إلا بدؤوا بالاستغفار لأنفسهم، ثم للمؤمنين. قال آدم:
{ { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } [الأعراف:23]. وقال نوح: { رَّبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً } [نوح:28]. وقال إبراهيم: { { رَبَّنَا ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ } [إبراهيم:41]. وقال موسى: { { رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلأَخِي } [الأعراف:151]. وقال تعالى لمحمّد (صلى الله عليه وآله) وعليهم وآلهم: { { وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } [محمد:19].
أما الملائكة فلم يستغفروا إلاّ لغيرهم من المؤمنين، كما حكى الله عنهم بقوله
{ فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ } [غافر:7]. وقال: { { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } [غافر:7]. ولو كانوا محتاجين إلى الاستغفار، لبدَؤوا أولاً لأنفسهم ثم لغيرهم، لأن دفع الضرر عن النفس مقدّمٌ على دفعه عن الغير، لقوله (صلى الله عليه وآله) "إبدأ بنفسِك" فهذا يدل على أنّهم أفضل من البشر.
والجواب - بعد تسليم دلالة عدم الاستغفار على عدم الزَّلَّة - لا نسلِّم أنَّ التفاوت في ذلك مناط الأفضلية كما تقدّم، ومنهم من قال إنّ استغفارهم للبشر كالعذر لما طعنوا فيهم.
الثالث عشر: قوله تعالى:
{ { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ } [الانفطار:10 - 11]. وهذا عام للجميع، فيدخل فيهم الأنبياء (عليهم السلام) وغيرهم. وجّه دلالته على أفضليّتهم بوجهين:
أحدهما: إنّ الحافظ للشيء يجب أن يكون أبعد من الخطإ، والزلّة، والمعصية، من المحفوظ، فيكون أفضَل.
وثانيهما: إنّه تعالى جعَل كتابتَهم حجّةً للبشر وعليهم في الطاعات والمعاصي، فقولهم أقوى بالقبول من قول البشر، فهذا يدلّ على أنّهم أعظم قَدْراً.
وقد أجيب بمنع كِلا الوجهين، مسنداً بأنّ الملك قد يوكّل بعض عبيده على حفظ ولده، فلا يلزم أن يكون الحافظ أشرف من المحفوظ، وبأنّ الشاهد قد يكون أدون حالا من المشهود له وعليه.
أقول: وكِلا المنعين مكابرة في الأفاعيل الذاتيّة الطبيعيّة. قياساً على الأفاعيل الصناعيّة الكسبيّة.
الرابع عشر: قوله تعالى:
{ { يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلاَئِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ } [النبأ:38]. والمقصود من ذكر أحوالهم شرح عظمته تعالى يومَ الآخرة، ولو كان في الخلق طائفة، قيامهم وتضرّعهم أقوى في ذلك من قيامهم لكان ذكرهم أولى.
وأجيب بمثل ما مرّ مِن أنّ المزيّة لهم من بعض الوجوه، لا ينافي المفضوليّة من جهة الشرف والمثوبة.
الخامس عشر: قوله تعالى:
{ { وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } [البقرة:285]. بين أنَّه لا بدّ في صحّة الإيمان الاذعان بوجود هذه الأشياء، ثم بدأ بنفسه، وثنّى بالملائكة، وثلَّث بالكتب، وربَّع بالرسل. وكذا في قوله تعالى: { { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ } [آل عمران:18]. الآية والتقديم في الذكر يدلّ على التقديم في الدرجة.
وأجيب: بأنَّ الحجَّة ضعيفة، لأنّها منقوضةٌ بكثير من المواضع، منها تقديم "سورة تبَّت" على "سورة التوحيد".
السادس عشر: قوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ } [الأحزاب:56]. فجعل صلواتهم كالتشريف للنبي، فيكونون أشرف.
وأجيب: بأنه منقوض بقوله:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ } [الأحزاب:56].
السابع عشر: يتكلّم في المفاضلة بين جبرائيل ومحمّد (صلى الله عليه وآله)، فيدلّ على تفضيل جبرائيل قوله تعالى:
{ { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } [التكوير:19 - 22].
وصَف جبرائيل (عليه السلام) بستّة أوصاف شريفة من أوصاف الكمال. ووصفَ محمّداً (صلى الله عليه وآله) بصفة واحدة - هي عدم آفة الجنون - ولو كانا متساويين في الكمال، لكان وصفه (صلى الله عليه وآله) بهذه الصفة الواحدة، بعد وصْف جبرائيل بهذه الصفات، حطّاً لشأنه، وتحقيراً لمنصبه، وابطالا لحقّه؛ وهو غير جائز عليه تعالى، فدلّت الآية على كون جبرائيل أفضل منه (صلى الله عليه وآله).
فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون تلك النعوت لمحمد (صلى الله عليه وآله)؟
قلنا: لأنّ قوله:
{ { وَلَقَدْ رَآهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ } يدفع هذا الاحتمال.
والجواب: إنكم تُوافقونا في أنَّ لمحمّد (صلى الله عليه وآله) فضائل أُخرى، لم تذكر في هذا الموضع، فلِمَ لا يجوز أن يكون هو بتلك الفضائل أفضل من جبرائيل؟ فإنّه تعالى كما وصَف جبرائيل هاهنا بهذه الصفات الستّ، وصف محمداً صلوات الله عليه وآله بصفات ستّ في قوله:
{ { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً } [الأحزاب:45 - 46].
وبالجملة - فإفراد أحد الشخصين بالوصف في مقام لا يدلّ على انتفاء تلك الأوصاف عن الثاني.
الثامن عشر: المعلّم أعلَم من المتعلّم، والأعلم أفضل، سيّما في العلوم المتعلقة بذات الله تعالى، وصفاته، وآياته، كالعلم بأحوال العرش، والكرسي، والسماوات واللوح والقلَم، والجنة والنار، وأصناف الملائكة والجنّ، وأنواع الحيوانات وغيرها.
ثمّ العلوم قسمان: قسمٌ لا يُعرف إلاّ بالوحي، فهو لم يحصل لمحمد (صلى الله عليه وآله) إلاّ من جهة الملك - سيّما جبرائيل (عليه السلام) - فيستحيل أن يكون النبيّ (صلى الله عليه وآله)، أفضل من جبرائيل (عليه السلام)، بل هو الواسطة بين الله وبينه (صلى الله عليه وآله)، ولكونه عالِماً بجميع الشرائع الماضية والحاضرة، وعالِماً أيضاً بشرائع الملائكة، وأديانهم، وسُننهم، فيكون أكثر علماً، فيكون أفضل، لقوله تعالى:
{ { هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } [الزمر:9].
وقسمٌ يمكن تحصيله بالعقل، فلا شكّ أيضاً أن جبرائيل (عليه السلام) أعرف فيها، لطول عمره، وكثرة مشاهدته إيّاها، فكان أفضل فيها.
والجواب: إنّ كون المعلّم - من جهة كونه معلّماً - أفضل من المتعلّم وقت التعليم - وإن كان مسلّماً - لكن يجوز أن يصير المتعلّم في مقام آخر، ووقت آخر أعلم وأفضل من المعلّم.
ولا نسلِّم أيضاً أن الملائكة أعلم من البشر في معرفة الأشياء وخواصّها، بدليل استفادتهم علومَ الأسماء من آدم (عليه السلام)، كما في قوله تعالى:
{ { يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ } [البقرة:33].
ثمّ إِنْ سلَّمنا مزيد علمهم ولكن ذلك لا يقتضي كثرة الثواب، لأنّ مبناه على الإخلاص في العمل، ولا نسلِّم أنّ إخلاص الملائكة أكثر.
أقول: إنكار أن يكون زيادة العلم المتعلّق بأحوال المبدإ والمعاد، مقتضية لزيادة الشرف والثواب مكابرةٌ صِرفة، فإنّ هذا النحو من العلم اينَما تحقَّق فهو عين الشرف والثواب، وكان الإخلاص من لوازمه الضروريّة، فلا حاجة إلى التقييد بها. والأولى في الجواب الاكتفاء بمنع كون الملائكة أكثر علماً، فيما يتعلّق بأحوال المبدإ والمعاد من الأنبياء (عليهم السلام).
التاسع عشر: قوله تعالى:
{ { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّيۤ إِلَـٰهٌ مِّن دُونِهِ فَذٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } [الأنبياء:29]. دلّت الآية على أنّهم بلغوا في الرتبة إلى حد أنّهم لو خالفوا أمرَ الله لما خالَفوه إلاّ بادعاء الإلهيّة - لا بشيء آخر من متابعة الشهوات - وذلك يدلّ على نهاية جلالتهم.
وأجيب: بأنّ علوّ درجتهم في القوّة والجلالة، والتبرّي عن آفات الشهوة مسلّم، لكن الخلاف معَكم في كثرة الثواب.
العشرون: قول النبي (صلى الله عليه وآله) رواية عن الله تعالى:
"وإذا ذكَرَني عَبدٌ في ملإ ذكرته في ملإ خير من ملئه" . وهذا يدلّ على أنّ الملائكة العلويّة أشرف.
وأجيب عنه بوجهين:
أحدهما: إنّه خبرٌ واحد لا يعوّل عليه في الأصول.
وثانيهما: إنّ هذا يدل على أن ملأ الملائكة أفضل من ملإ البشر، وملأ البشَر ومحتشَدهم عبارة عن مجمع العوامّ - لا الأنبياء - فلا يلزم من كون الملائكة أفضل من عوام البشر كونهم أفضل من الأنبياء (عليهم السلام).
أقول: هذا الخبر وإن كان آحادياً، إلاّ أنه مع انضمام سائر الأخبار والآيات يؤثّر تأثيراً عظيماً في كون الملك أفضل من البشر.
وأيضاً مؤيَّدٌ بما ذكره الشيخ محيي الدين الأعرابي في الفتوحات، وهو عندنا من أهل المكاشفة:
"إنّي سألتُ رسولَ الله (صلى الله عليه وآله) عن ذلك في الواقعة، فقال لي: إنّ الملائكةَ أفضل.
فقلت: يا رسول الله - فإن سُئلتُ: ما الدليل على ذلك؟ فما أقول؟
فأشار إليّ: أن علِمتُم أنّي أفضل الناس، وقد صحّ وثبت عندكم فهو صحيح أنّي قلت عن الله إنّه قال: من ذكَرني في نفسه ذكَرتُه في نفسي، ومن ذكَرني في ملإ ذكرتُه في ملإ خيرٍ منهم وكمْ ذاكر لله تعالى في ملإ أنا فيهم، فذكره الله تعالى في ملإ خيرٍ من ذلك الملإ الذي أنا فيهم"
.
فما سررت بشيء سروري بهذه المسألة" - انتهى.
ويعلم من كلامه تفضيل آحاد الملائكة على آحاد الأنبياء، لا المجموع على المجموع فقط.
فهذا آخر الكلام في الدلائل النقليّة في ترجيح الملَك وما فيها وستسمع منّا بيان التحقيق في هذه المسألة ورجحان جانب الأنبياء (عليهم السلام)، على معنى لا ينافي أمثال هذه الأخبار والآيات المذكورة.
فصل
في حجّة القائلين بفضل الأنبياء عليهم السلام على الملائكة
وهي من وجوه:
أحدها - وهو العمدة - إنّ الله أمر الملائكة بالسجدة لآدم (عليه السلام)، وثبتَ أنه لم يكن كالقبلة، بل كانت السجدة في الحقيقة له، وهي نهاية التواضع، وتكليف الأشرف بنهاية التواضع للأدني مستقبحٌ في العقول، فدلّ ذلك على أنّ آدم أفضل منهم.
وأجيب:
تارةً بما قال بعض الناس - كما سبق - إنّ المراد من السجود هو التواضع لا وضع الجبهة على الأرض.
وتارةً - كما سبق أيضاً - بأنّ السجود منهم وإن كان بذلك المعنى لكنّه كان للهِ، لا لآدم. وكان آدم كالقبلة للسجود.
وتارةً بأن السجود - وإن كان لآدم - لكن مع ذلك لا يدلّ على كونه أفضل وأشرف منهم، وذلك لأنّ الحكمة قد تقتضي ذلك كَسْراً من عُجْب الأشرف، وإظهاراً لانقياده وطاعته، فإنّ للسلطان أن يعظّم أقلّ عبيده ويأمر الأكابر بخدمته - إظهاراً لكونهم مطيعين له في كلّ الأمور، منقادين له في جميع الأحوال، فلِمَ لا يجوز أن يكون الأمر هاهنا كذلك؟
وتارةً بما ذهب إليه أكثرُ المتكلّمين من نفي الداعي، وسلب التعليل في فعل الله، وعدم الاعتراض عليه في خَلق الكفر والضلالة في الإنسان. وتعذيبه أبد الآبَاد، فيجوز عليه تقديم المفضول وترجيح المرجوح، وعلى هذا الأصل يبنى كثير من قواعدهم، فليكنْ هذا من جملتها.
أقول: فيه ما مرّ مراراً.
وثانيها: إنّ آدم (عليه السلام) كان أعلم، والأعلم أفضل وقد مرّ بيانه.
وأجيب بعدم تسليم كونه أعلم منهم، غاية الأمر، أنَّه كان عالِماً بتلك اللغات، وهم ما علِموها، ولعلّهم كانوا عالِمين بسائر الأشياء مع أنَّه عالِماً بها.
سلَّمنا أنَّه كان أعلم منهم ولكن لِمَ لا يجوز أن يقال: إنّ طاعتهم أكثر إخلاصاً من طاعة آدم (عليه السلام)، فلا جرَم كان ثوابُهم أكثر.
أقول: قد مرّ أنَّ هذا القول منشؤه الجهل بمعنى الثواب، والمنزلة عند الله، فإنّ جميع الخيرات، والعبادات، إذا لم تؤثر في تنوير القلب، وإعداده لنور المعرفة بالله وآياته وأفعاله، فهي من تفاريع العبَث، وشُعَب الرفَث.
وثالثها: إن الله تعالى جعل آدم (عليه السلام) خليفة في الأرض، والمراد منه الولاية، لقوله تعالى:
{ { يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ } [ص:26].
ومعلوم أنَّ أعلى الناس منصباً عند الملك، من كان قائماً مقامه في الولاية والتصرف، وخليفة له، فدلّ هذا على أنّ آدم أشرف الخلائق.
وهذا متأكّد بقوله: وسخَّر لكم ما في البر والبحر، ثم أكّد هذا التعميم بقوله:
{ { خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } [البقرة:29]. فبلغ آدم في منصب الخلافة إلى أعلى الدرجات.
فالدنيا خلقت متعةً لبقائه، والآخرة مملكة لجزائه، وصارت الشياطين ملعونين بسبب التكبّر عليه، والجنّ رعيته، والملائكة في طاعته وسجوده والتواضع له، ثمّ صار بعضهم حافظين له ولذريته، وبعضهم منزّلين لرزقه، وبعضهم مستغفرين لزلاّته. ثمّ إنّه تعالى يقول مع هذه المناصب الرفيعة
{ { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } [ق:35].
فإذاً لا غاية لهذا الكمال والجلال.
وأجيب عنه: بأنّ آدم، إنّما جعل خليفة في الأرض، فهذا يقتضي أن يكون أشرف ما في الأرض من الحيوان، والنبات، والجماد.
فإن قيل: فلِمَ لم يجعل واحداً من الملائكة خليفة فيها؟
قلنا: لوجوه:
منها: أنَّ البشر لا يطيقون رؤية الملائكة.
ومنها: أنَّ الجنس إلى الجنس أميل.
ومنها: الملائكة في نهاية الطهارة، والعصمة، والبراءة عن النقائص، وهذا هو المراد من قوله تعالى:
{ { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً } [الأنعام:9].
ورابعها: قوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } [آل عمران:33]. والعالَم عبارةٌ عن كلّ ما سواه كما تقدّم من أنه مشتقّ من العلم، أو العلامة، فمعنى الآية: "إنَّ الله اصطفاهم على كل المخلوقات" والملائكة من المخلوقات: فكانوا أفضل من الملائكة.
واعتُرض: بأنّه منقوض بقوله:
{ { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } [البقرة:122]. فإنّه يستلزم أن يكونوا أفضل من محمّد (صلى الله عليه وآله).
وأجيب عنه: بأنّ هذا الخطاب كان قبل وجوده (صلى الله عليه وآله)، وجبرائيل كان موجوداً حينئذ، فيلزم أن يكون قد اصطفاهم الله على الملائكة - دون محمّد (صلى الله عليه وآله).
وأيضاً هب أنَّ تلك الآية قد دخلها التخصيص لقيام الدلالة، وأما هاهنا فلا دليل يوجب ترك الظاهر، فوجَب إمضاؤها على ظاهرها في العموم.
وخامسها: قوله تعالى:
{ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [الأنبياء:107]. والملائكة من جملة العالَمين، فكان (صلى الله عليه وآله) رحمةً لهم، فوجب أن يكون أفضل منهم.
وأجيب: بأنّ كون محمد (صلى الله عليه وآله)رحمةً لهم، لا يلزم منه أن يكون أفضل منهم، كما في قوله:
{ { فَٱنظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ ٱللَّهِ كَيْفَ يُحْيِيِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ } [الروم:50]. ولا يمتنع أن يكون رحمةً لهم من وجهٍ، وهم يكونون رحمة له من وجه.
وسادسها: إن عبادة البشر أشقّ، فوجب أن يكونوا أفضل.
بيان كون عباداتهم أشقّ لوجوه:
منها: كثرة الموانع لهم إلى الطاعات، وكثرة الدواعي والأشواق فيهم إلى المعاصي، والفعل مع المعارض القويّ أشد منه بدون المعارض، والمبتلى بكثرة الدواعي والشهوات تكون الطاعة عليه أشقّ.
ومنها: إنَّ شبهاتهم أكثر، والحجب بينهم وبين المعبود أكثر، فاحتاجوا إلى الاستدلال، والاجتهاد.
ومنها: إنّ الشيطان مسلّط على البشر بالوسوسة، جارٍ في عروقهم مَجرى الدم، ولا سبيل له إلى وسوسة الملائكة، وذلك منشأ تفاوت عظيم في المشقّة، وإذا ثَبت ذلك، كانوا أكثر ثواباً من الملائكة، لقوله (صلى الله عليه وآله):
"أفضلُ العبادات أحمَزها" .
وأجيب: بما مرّ من أنّ ملاك الأمر في باب العبادة ومعظمه الإخلاص، دون المشقّة، لما نرى من كثرة المشقّة في عبادات جهّال المتصوّفة، ونسمع من رياضات كفَرة الهند، وبعض الملاحدة مع أنا نعلم يقيناً أنَّ منزلتهم خسيسة دنيَّة.
وسابعها: إن الله تعالى خلَق الملائكة عقولاً، وخلق البهائم شهوات بلا عقول، وخلق الآدمي، وجمع فيه الأمرين، فصار الآدمي بسبب العقل فوق البهيمة بدرجة لا حدّ لها، فوجب أن يصير بسبب الشهوة دون الملائكة، ثمّ وجدنا الآدمي إذا غلب هواه عقله - حتى صار يعمل بهواه دون عقله - فإنَّه يصير دون البهائم، فيجب أن يقال: إنّه إذا غلب عقلُه هواه حتى صار لا يعمل شيئاً إلاّ بمقتضى عقله، وبهداه - لا بمقتضى نفسه وهواه - وجب أن يكون فوق الملائكة، اعتباراً لأحد الطرفين بالآخر.
وأجيب: بأنّ هذا جمعٌ بين الطرفين من غير جامع.
وثامنها: إن الملائكة حفَظة، وبني آدم محفوظون. والمحفوظ أعزّ وأشرف من الحافظ، فيجب أن يكون بنو آدم أشرف من الملائكة.
والجواب: بالمنع من كليّة هذه الدعوى، فإنّ الأمير الكبير قد يكون موكّلا على المتهمين من الجُند.
وتاسعها: ما رُوي أنَّ جبرائيل (عليه السلام) أخذ بركاب محمد (صلى الله عليه وآله) حتى أركبه البُراق ليلة المعراج، ولما وصل إلى بعض المقامات تخلّف عنه جبرائيل وقال: "لو دنوت أنملة لاحترقت".
وأجيب: بأنه خبرٌ واحد.
وعاشرها: رُوي أنَّه (صلى الله عليه وآله) قال:
"إنّ لي وزيرين في السماء" وأشار إلى جبرائيل وميكائيل.
وأجيب: بالمنع عن ثبوته وصحته.
فصل
في وجوهٍ عقليةٍ ذكرتها واعتمدتْ عليها الفلاسفةُ المتأخّرون المتفقون على أن الأرواح السماوية المسمّاة بالملائكة أفضل من الأرواح الناطقة البشرية
وأكثر تلك الوجوه مما مرّ ذكرها في وجوه الصابئة، ونحن ذاكروها مع غيرها، والأجوبة المذكورة عنها، زيادة في الاستيضاح وتتميماً للاستبصار بها وبما فيها.
فالأوّل: إنذ الملائكة بسيطة الذوات مبرّأة عن الشرور والآفات، والبشر مركّب من النفس والبدن، والنفس مركّبة من القُوى الكثيرة، والبدن مركّب من الأجزاء، والأعضاء، والمركّب معلول للبسيط، وأسباب العدم له أكثر، ولذلك كانت الفردانيّة من صفات الربوبيّة.
وعورِض: بأنّ المستجمع للروحاني والجسمانيّ أفضل.
والثاني: إنّ الجواهر الروحانيّة مبرّأة عن الشهوة والغضب اللَّذين هما منبع الفساد وسفك الدماء. والخالي من الشر مطلقاً، أو البعيد عنه أفضل من المبتلى به.
الثالث: إنّها بريئة عن طبيعة القوّة والاستعداد، لأنّ كلّما كان ممكناً لها بحسب أنواعها المنحصرة في أشخاصها قد خرج إلى الفعل، والأنبياء ليسوا كذلك، ولهذا قال (صلى الله عليه وآله):
"إنّي لأستغفر الله في اليومِ والليلة مأة مرّة" . ولا خفاء أن ما بالفعل التامّ الذي خرجت كمالاتها من القوّة إلى الفعل اشرف ممّا بالقوّة.
الرابع: إنّ الروحانيّات أبديّة الوجود، مبرّأة عن التغيّر والفناء، والنفوس البشريّة ليست كذلك.
الخامس: إنّها نورانيّة، علويّة، لطيفة. والنفوس العنصرية ظلمانيّة، سِفليّة كثيفة. فأين أحدهما من الآخر.
السادس: الأرواح السماويّة تفَضُل الأرضيّة بقوى العلم والعمل. أمّا العِلْم: فبالاتّفاق على أنّ الأرواح السماويّة يحيطون بالمَغيبات، ولأنّ علومَهم فطريةٌ، كليةٌ، تامّة، وعلوم البشر بالضدّ من ذلك. وأمّا العمل؛ فلقوله تعالى:
{ { يُسَبِّحُونَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ } [الأنبياء:20].
السابع: إنَّ الروحانيّت لها قوّة على تقليب الأجسام، وقواهم ليس من القوى المزاجيّة حتى يعرضها الكلال واللُّغوب، وإنّك ترى الخاصّة اللطيفة من النبات في بدر نموّها تفتق الحجر، وتشقّ الصخرةَ الصمّاء، وما ذلك إلاّ لقوّة نباتيّة فاضت عليها من الجواهر العلويّة، فما ظنّك بتلك الجواهر أنفسها.
والأرواح السفليّة ليست كذلك، وما يحكى عن قوّة الشياطين على الأمور الصِّعاب فممنوعٌ. وإن سلّم فالأرواح العلويّة أقدر، لأنهم يصرفون قواهم في مناظمِ العالَم السفلي، لا فيما هو شرٌّ له.
الثامن: إن الملائكة لهم اختيارات فائضةٌ عن أنوار جلال الله، متوجهةٌ إلى الخيرات، واختيارات البشر متردّدة بين جهتي العِلو والسِّفل، والخير والشرّ، وإنّما يتوجّه بإعانة الملَك على ما ورَد في الأخبار من أن لكل إنسان ملَكاً يسدّده ويَهديه.
التاسع: إنّ الأفلاك كالأبدان والكواكب كالقلوب، والملائكة كالأرواح، فنسبةُ الأرواح إلى الأرواح كنسبة الأبدان إلى الأبدان، وكما أنَّ اختلاف أحوال الأفلاك مبادئ لحصول الاختلافات في هذا العالَم، فيجب أن تكون أرواح العالَم العِلوي مستوليَة على أرواح العالَم السِّفلي، بل تكون عللاً ومبادئ لها، فهذه هي الآثار، وهناك المنابع والمعادن، فكيف يليق بالعقل ادّعاءُ المساواة فضلاً عن الزيادة؟!
العاشر: الروحانيّات الفلكيّة مبادئ لروحانيّات هذا العالَم ومعادنها، منها نزلت، فتوسّخت بأوضار الجسمانيّات، ثم تطهَّرت بالأخلاق الزكيّة، وصعدت إلى عالمها، ومصدر الشيء ومصعده أشرف. منه المبدأ، وإليه المنتهى.
الحادي عشر: أليست الأنبياء لا ينطقون إلاّ عن الوحي؟ أليس أن الملائكة يعينونهم في المضائق، ويهدونهم إلى المصالح - كما في قصّة لوط - وكيوم بدْر وحُنين، وكما في قصّة نوح من نجر السفينة فمِن اين لكم تفضيل الأنبياء، مع افتقارهم إلى الملائكة في كلّ الأمور؟
الثاني عشر: القسمة العقليّة - بأن الأحياء إمّا خيِّرةٌ محضة، وهم الملائكة أو شرّيرةٌ محضة، وهم الشياطين. أو خيِّرةٌ من وجه شرّيرةٌ من وجه، وهم البشَر - تحكم بأفضليّة الملَك.
وكذا التقسيم بالناطق المائِت، وهو الإنسان. والناطق غير المائتِ، وهو الملَك. والمائتِ غير الناطق، وهي البهائم يُرشد إلى أنّ الإنسان متوسّطة الرتبة بين الكمال والنقصان. فالقول بأنّه أفضل قلْبُ القسمة العقليّة ونزاع في ترتيب الوجود.
وأما الجواب عن هذه الوجوه من جانب القائلين بتفضيل الأنبياء - صلوات الله عليهم - على الملائكة (عليهم السلام).
فعورِض:
الأوّل: بأنّ المستجمع للروحاني والجسماني ينبغي أن يكون أفضل مما له طرف الروحاني فقط. ولهذا جُعل أبو البشَر مسجوداً للملائكة.
ورُدّ الثاني: بأنّ الخدمةَ مع كثرة العلائق أدلّ على الإخلاص.
وأيضاً من البيِّن أنّ درجَتهم حينما قالوا:
{ { لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ } [البقرة:32]. أعلى منها حين قالوا: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ } [البقرة:30]. وما ذلك إلاّ بسبب الانكسار الحاصل من الزلَّة، وهذا في البشر أكثر. ولهذا قال (صلى الله عليه وآله) حاكياً عن ربّه: "أنينُ المذنِبين أحبُّ إليَّ مِن زَجل المسبِّحين" .
ورُدَّ الثالث: بأنّ بعض الأمور فيها لعلّها بالقوّة، ولهذا قيل: إنّ تحريكاتها للأفلاك لأجل استخراج التعقّلات من القوّة إلى الفعْل، كالتحريكات العارضة لأرواحنا، الحاملة لقوى الفكر والتخيُّل.
أقول: هذا المنع لا يجري في الملائكة المقرّبين، المسمّاة عندهم بالعقول المجرّدة، وإنذما يجري في النفوس الفلكيّة.
والرابع: بأنّه لا قديم في الوجود إلاّ الله.
ولِئن سُلّم أنَّها وإن كانت ممكنة الوجود، فهي واجبةُ الوجود بمبادئها عورض بما عليه كثير من المحقّقين من أن النفوس البشريّة أيضاً أزليّة بمبادئها، وكانت كأظلال تحت العرش يسبِّحون بحمد ربّهم، إلاّ أن المبدأ الأوّل أمرَها بالنزول إلى عالَم الأجساد، وشبكات الموادّ، فلمّا تعلَّقت بها استحكم إلفها، فبعث من تلك الظلال أشرفها، وأكملها إلى هذا العالَم، ليحتالَ في تخليص تلك الأرواح عن هذه الشبكات، وهذا هو المراد من "باب الحمامة المطوّقة" من كتاب كليلة ودمنة.
والخامس: بأن الشرف ليس بالمادّة، وإنّما هو بالقرب من ربّ العالَمين، والانقياد له.
والسادس: بأنّ المواظِب على تناول الأغذية اللطيفة لا يلتذّ بها كما يلتذّ المبتلى بالجوع، فلا يكون لذّة الملائكة بالعلْم والعمَل كلذّة البشر، لعروض الفتَرات لهم في أكثر الأوقات بسبب العلائق الجسمانيّة، والحجُب الظلمانيّة، فهذه المزيّة في اللّذة مما يختصّ بها البشر، ولذلك قالَت الأطبّاء: إنَّ الحرارة في حمّى الدقّ اشد منها في حمّى الغبّ، لكن الحرارة في الدقّ، لمَّا دامت واستقرّت بطل الشعور بها، فهذه اللذّة لعلَّها ليست للملائكة لأجل الاستمرار، ولا لغير الإنسان لعدم الاستعداد، فكان الإنسان لها بالمرصاد.
وأجيب عن:
السابع: بأنّه لا مانع من أن تتفق نفسٌ ناطقة مستولية على الأجرام العنصريّة بالتقليب والتصريف.
وعن الثامن: بما يحتمل أن يقال: فيكون إذن أعمالهم أشقّ، فيكون أجرُهم وجزاؤهم أعظم.
وعن التاسع: بأنّ لا مؤثِّر في الوجود إلاّ الله عندنا.
أقول: القائلون بأن لا مؤثّر إلاّ الله، إمّا الأشاعرة النافين للعلّة والمعلول فلا معنى لهم، ومعهم للخوض في المعقولات أصلاً، وإمّا جماعة من المحقّقين، القائلين بترتيب الوجود فهذا الجواب لا يضرّ، إذ المتقدّم في باب الاستفاضة للوجود خير من المتأخّر فيه.
وعن العاشر: بأنّ هذا مبنيّ على عدم حشر الأجساد، وبعثها في المعاد، ودون ذلك خرطُ القتاد.
وعن الحادي عشر: بأنّ أوّل الفِكر آخر العمل، ولا يلزم من كون الشيء واسطة أفضليّته.
وعن الثاني عشر: بأنّه كلام اقناعي، وبما اعتمدوا عليه مراراً من أنّ الكلام في أكثريّة الثواب.
فهذا تمام ما وجدناه من كلام الفريقين في هذا المقام، ولنُشر إلى طرف مما هدانا إليه بفضله ربُّنا المفضل المنعام.
فصل
في تحقيق الحقّ في كيفيّة المفاضلة بين الملَك والبَشر
وبيانه متوقّف على ذكر أُصول:
الأوّل: إنّ أُصول الموجودات هي الجواهر، دون الأعراض. وأصول الجواهر هي المجرّدات التي هي من عالَم الأمر، دون الماديّات والجسمانيّات التي هي من عالَم الخَلق. وأصول المجرّدات هي العقول المسمّاة بالأرواح الكليّة، دون النفوس، سواء كانت سماويّة أو أرضيّة. وأُصول الأرواح الروح الكلّي الذي لا واسطة بينه وبين الحق.
فهذه أصول الموجودات، ولا موجود خارج عن هذه الأجناس، وما يتفرَّع عليها.
الأصل الثاني: إنّ كلّ ما هو أقرب في سلسلة العلّية والمعلوليّة إلى واجب الوجود، فهو اشرف وأكرم، لأن فيض الوجود الفائض منه تعالى على كلّ موجود يصِلُ إليه أوّلاً، ثمّ يمرّ عنه إلى ما هو أبعد منه، فلا تصغ إلى قول مَن يقول: "إنّ الخسيسَ أكثرُ ثواباً من الشريف" بل إلى مَن يقول: "الخسيسُ يمكن أن يُنتقل جوهره من الخسَّة إلى أن يصيرَ أشرفَ من الشريف".
الأصل الثالث: إن الإنسان وإن كان بحسب صورته البشريّة نوعاً واحداً من جملة أنواع الحيوانات، متّفق الأشخاص في تمام حقيقتها النوعيّة، إلاّ أنّه بحسب قوّته النفسانيّة المصوَّرة بالصورة الباطنيّة الأخرويّة، قابلٌ لأن يصير أنواعاً كثيرة لحقائق متخالفة، بعضها من جنس الملَك، وبعضها من جنس الشيطان، وبعضها من جنس السبُع، وبعضها من جنس البهيمة، وبعضها مما هو أسفل من البهيمة.
وبالجملة ما من نوع من أنواع الموجودات - من أعلاها إلى أدناها - إلاّ ويمكن أن ينقلب إليه بعضُ الأشخاص الإنسانيّة، كما قال تعالى:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَوْلَـٰئِكَ هُمْ شَرُّ ٱلْبَرِيَّةِ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ هُمْ خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ } [البينة:6 - 7].
الأصل الرابع: إن الموجودات كما هي مترتّبة في سلسلة النزول الايجادي الصدوري من الأعلى فالأعلى، إلى الأدنى فالأندنى - وهي المادّة الجسمانيّة - كذلك مترتّبة في سلسلة الصعود الاعدادي من الأدنى فالأدنى، إلى الأعلى فالأعلى.
ففي سلسلة الإبداع والافاضة، كلّ ما كان أقدم في الوجود فهو أشرف وأفضل، وفي سلسلة التكوين، والاعداد للغايات، كلّ ما هو آخر فهو أشرف، لأنّ الأكوان الابداعيّة لكمال وجودها متفضّلة راشحة بالخير الدائم على ما دونها، والأكوان الحادثة متوجّهةٌ في الاستفاضة للخير عمّا فوقها، سالكةٌ في طلب التمام والكمال إلى غاياتها.
وقد ثبت أنّ للأشياء الطبيعيّة غايات، ولا يخلو موجود ناقص إلاّ وقد أودع الله فيه قوّة طبيعيّة محرّكة، أو شوقاً جبلياً يسلك به إلى طلب الكمال، وتوصِله إلى الغاية والتمام. ولهذا جزَم الحكماءُ الإلهيّون بسَريان نور العشق والشوق إليه تعالى في جميع الموجودات، ما من موجود إلاّ وهو عاشقٌ له، أو مشتاق ساكن إليه أو سالك، والله الباقي وكل شيء هالك.
واعلم أنَّ هذه القشور الكثيفة، وإن كانت خسيسة في الغاية، شبيهة بالعدم، لكن إعادة ترتيب الحدوث من هذه الحسيّات الزائلة إلى العقليّات الدائمة، ليس بأصعب على مَن له الخَلق والأمر من ابتدائه بالسياق عن العقليّات الدائمة إلى الحسيّات الدائرة، وليس القشر المتكاثف - وإن تناهى في الاظلام والكثافة - بممتنع عن قبول الأثر عن الجوهر اللَّطيف.
بل الأرض وإن تمكّنت بالاستفالة والاستقلال، واشتدّت قوّتها بمبالغ الانزال، فإنّها بتأثير قوّة الشمس فيها، وإشراقها عليها تستجلب اللَّطافة، وتصير مادّة للغذاءات والأقوات ومنشأ لتوليد النبات.
ولو كان القشر المتكاثف ممتنعاً عودُه إلى اللطافة، أو مصيّرة مادّة لتوليد اللباب فيه، أو منه، لما كان في جوهره وطبيعته قوّة قابلة منفعلة، بل لم يكن القشور من الحبوب المزروعة ليصير قوتاً للحيوانات، ولم يكن الثفل الكدر من الأشياء المأكولة ليصير مادة النبات.
الأصل الخامس: إنَّ الإنسان يختصّ من بين الموجودات، بأنّ له أن يتحرّك وينقلب من أدنى الموجودات إلى أعلاها، ويسلك من بعضها إلى بعض، ويتبدّل من طورٍ إلى طور، وهو في الحركة إلى الكمال أبعد مسافة، وفي السلوك إلى المعاد والمرجع أعظم قوساً للرجوع، وإنَّ ابتداء حركته أدنى وأخسّ من ابتداء حركة غيره، وانتهاء رجوعه أعلى وأرفع من انتهاء رجوع الكلّ.
فله أن يتصوّر أوّلاً بصورة خسيسة أدنى من كلّ خسيس، ثمّ يأخذ في الاستحالة والإنابة والرجوع، ويتصوّر بصورة شريفة متعاقبة، حتّى يصير أشرف الشرائف، وأحسَن الحسنات، وأفضَل الممكنات، وسبب ذلك ما نذكره الآن وهو هذا:
الأصل السادس: إعلم أنَّ منشأ انتقال الموجود من وجود أدنى إلى وجود أعلى، انتقالا بحسب انتقال الطباع والغريزة، إنّما هو ضعْف الصورة، ونقص المادّة وعناية الفاعل. وقد مرّ أنَّ جميع الموجودات كلّها طالبةٌ للكمال، والذي يسكِّنها عن طلب كمالٍ أعلى ويوقفها عنه، تأكُد ما لها من الكمال بالفعل، فإنّ غلبة ما بالفعل مما يبطل الاستعداد لأجل الذي هو بالقوة.
أو لا ترى أن أجرام كواكب الأفلاك لتماميّة صورتها لا يصير مادة لصورة أصلاً، ولا عنصراً لمركّب سماويّ أو أرضيّ، ولا أجساد السبع الشداد ممّا يقبل الانصداع، والانفطار، ولا الانشقاق والافتراق إلاّ بعد انقضاء الدنيا وبوار العالَم الأدنى، وحشر الخلائق، وانتقالها إلى النشأة الآخرة يوم طيّ السماوات، وانشقاق القمر، وانطماس نور الشمس وتكويرها، ونثر الكواكب وإظلامها وذلك يومٌ آخر ليس من أيام الدنيا.
ولا - أيضاً - يصير واحدٌ منها موضوعاً لأعراض مختلفة متضادّة، ولا لصفات متبدّلة مستحيلة، إلا ما هو أضعف الأعراض من باب الوضع النسبيّ، فلها قوّة قبول أضعف الأعراض المادّية، لكون صورتها أقوى الصور الجرميّة.
وإن أجرام العناصر لقصور صورتها الطبيعيّة، تصير مادّة لصور هي أكمل من صورتها، وموضوعة لأعراض قارّة، وكيفيات تشتدّ وتضعف، فيحصل من موادّها صور معدنيّة، ونباتيّة، وحيوانيّة.
ونوع الإنسان من جملة أنواع الحيوانات، وإن كان متميِّزاً عن الكائنات بصورة حيوانيّة. إلاّ أنَّها أضعف الصور الحيوانيّة، وأفراد البشر تكون ضعيفة الحيوانيّة في باب الحسّ والحركة، لا يمكنها الاكتفاء في الملابس بإهاب طبيعيّ يحفظه عن الحرّ والبرد، ولا في باب إصلاح المطاعِم وإنضاجها بمطبَخ طبيعيّ كالمعدة والكبد بل يحتاج في كلِّ ذلك إلى معاوِنٍ خارجيّ، وهذا لِضعف قواه الحيوانيّة، كما قال تعالى:
{ وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً } [النساء:28].
وهذا الضعف هو منشأ الانتقال والارتحال من حالهِ الأدني إلى حالٍ أعلى، وبهذا يستعدّ لأن ينتقل من مقام الحيوانية الحسيّة، إلى مقام الملكيّة العقليّة، وأنت لو تأمّلت في أحوال الموجودات، لوَجدت الجميعَ إمّا واقفةً في مقاماتها التي لها، أو بطيئة في توجّهها إلى نحو الغاية المطلوبة، والسالك السريع الحركة نحوها منحصر في بعض أفراد الناس.
أمّا الملائكة المقرّبون، فلا حاجة لهم إلى الاستكمال والحركة نحو الكمال، لأنّهم دائمي القرب والوصول إلى معبودهم الأعلى - جلّ ذكره - .
وأمّا الملائكة السماويّة، فلكلّ منهم مقامٌ في العبوديّة الدائمة، لا باعثَ لهم في الخروجِ عمّا هم عليه، لدوام إشراقاتهم المتوالية، وقوّة حالاتهم، ووفور ابتهاجاتهم ولذّاتهم، كأحوال أهل الجنة في طبقاتهم، ومنازلهم، ومقاماتهم.
وأمّا الشياطين، فلقوّة ناريّتهم، ورسوخ أنانيّتهم، وحبّ رياستهم، لم ينقادوا للعبوديّة والانكسار، ولم يتغيَّروا عما فطروا عليه من الاستكبار والافتخار.
ويقرب من حالهم أحوال الجنّ، وإن كان بعضٌ منهم أخياراً مسلِمين، إلاّ أنّهم كلّهم مخلوقون من النار، والنار أقوى العناصر وأبعدها عن قبول التأثير.
وأما الجمادات التي ليست واقعة في حدود المادّة الإنسانية، فهي إمّا قويّة الجماديّة كالأحجار واليواقيت فلصلابتها لا تنقلب إلى غيرها. وإمّا أن تكون ملائم الجوهر لصورة أخرى، لكنها ما قبِلت صورة صلبة فوقفَت عندها، فهي صعب الانقلاب إلى غيرها، وكذا الحكم في سائر النباتات والحيوانات.
وأمّا الإنسان الذي خُلق لبلوغ النهاية فهو أبداً في الحركة والرجوعِ والإنابة والسلوك، لكونه ما بين صرافة القوّة، ومُحوضة الفعلية.
والعجب أنّ الذين فضَّلوا الملائكةَ على الإنسان - كالصابئة وغيرهم - جعلوا اشتمالَ الإنسان على القوّة والنقصان، منشأ انحطاط درجتِه عن درجة الملائكة، وهذه الصفة بعينها تصير منشأ لأن يتفضل عليهم، ويتجاوز عن مراتبهم.
الأصل السابع: إنّ كلّ ما يتعلق بالبدن سواء كان صورةً، أو نفساً حيوانيّة، أو إنسانيّة، أو فلكية، بالقوّة والاستعداد، محتاج إلى جوهر عاقل يكمله ويخرجه من القوّة إلى الفعل، وكماله عبارةٌ عن صيرورته عقلاً، وعاقلاً بالفعل، ومعقولاً بالفعل، وكلَّما صار عقلاً بالفعل يصير كلّ الموجودات.
لأنّ كلّ موجود من شأنه أن يَعقِل، فهو إما بتغيُّر من جانب المعقول، كالصور المادية المعقولة بالقوّة، المحتاجة في أن يصير معقولةً بالفعل إلى مغيِّر يغيِّرها، ومجرَّد يجرِّدها وينتزعها من المادّة. وإمّا بتغيُّرٍ من جانب العاقل إذا صار عاقلاً بالقوّة، فيحتاج إلى حركات فكريّة يسافر من بعض الصور الخياليّة إلى بعض، حتى ينتهي إلى العقول الصريحة، كالعقول القادسة وما فوقها.
فكلّ ما هو كامل بالفعل، لزمه أن لا يخلو عنه شيء من المعقولات، بل يجب أن يكون عقلاً بسيطاً هو صورة الكل في وحدة. ومثْل هذا الموجود يجب أن يكون مكمِّلا للنفوس.
ويجب أيضاً أن لا يكون المتعلِّق بالبدن سبباً قريباً لتكميل النفوس المستعدة، إلاَّ على سبيل الاعداد والتعليم البشري، دون الافاضة والتكميل العقلي، كالمعلّم من البشر إذا حاوَل التعليم، يعدّ نفْسَ المتعلِّم لأن يَقبل ما يُلهمه المعلّم العقليّ الروحانيّ الذي هو عقلٌ بالفعل، ويفيض عليه من عالَم الغيب كماله الحقيقي.
ولو كان المتعلِّق بالبدن ما دام كذلك، سبباً مفيضاً على النفوس صوَراً عقليّة لكان متساوي النسبة إلى الكلّ، وكيف يكون مَن تعلَّق ببدنٍ خاص وتعمل بتوسّط آلاته قواه، متساوي النسبة إلى جميعِ الخلائق أجمعين حاضرهم وغائبهم، أوّلهم وآخرهم.
نعم انتهاء النفوس الإنسانيّة يكون لا محالة إلى نفسٍ شريفة هي أكملها، وأقبلها للفيض العِلوي العقليّ، ثمّ الإلهي؛ بحيث - وهي بعدُ في عالَم البدن - قد صارت متجاوزةً بحسب قوّة انفعالها عن المبادئ بل عن البادئ، عن حدود النفوس إلى حدود العقول، بل إلى الطبقة العالِية منهم - لا بما هي نفسٌ، ولا حين ما هي في هذه الحياة الدنيا - بل من حيث المقام العقلي الذي ستنقلب إليه بعد الخروج عن زيارة هذه المقابِر الحسيّة.
وبالجملة قد يكون من النفوس الإنسانيّة ما قد انقلب باطنها إلى رتبة العقول فصارت عقولاً بالفعل، بمعنى أنها متى خرجَت من قالب هذا الأدنى وصلَت إلى مقامها الأعلى.
ومن هذه العقول الإنسانية ما هو أفضل الأفاضل، ومقامه أعلى المقامات العقليّة، وقوّته القدسية أشرف القوى القدسيّة، يكاد زيت قوّته القدسية يضيء بنور ربّها، ولو لم تمسَسه نارُ العقل الفعّال، فلما مسَّها صار نوراً على نور يهدي الله لنوره مَن يشاء كما قال جلّ اسمه:
{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً } [الأحزاب:45 - 46].
الأصل الثامن: إن الموجودات الممكنة الصادرة عن الحقّ، لا بدّ وأن يقع منها سلسلتان: سلسلةُ البدوِ والصدورِ، وسلسلةُ العودِ والرجوعِ. ولا بدّ أن تكونا متكافئتين عكساً.
أما سلسلةُ البدو، فممّا لا شبهة في تحقُّقها، وحصولها على المبدإ على سُنّةِ الأمر والإبداع، لعدم الباعث على الامساك والتعطيل، واستحالة تحقُّق المضادّ المدافع للجود، المانعِ عن الخير والافاضة، فيصدر منه الأشرف فالأشرف، فالترتيب المعنوي فيها، يقتضي أن يكون كلّ ما هو أقرب إلى عالَم الصور، والقشور، والأجسام فهو أبعد من الحقيقة الأحدية، والهُوية الصمَديّة، لأنّ تلك الحقيقة حقيقة الحقائق، ومعنى المعاني كلها.
فأوّل ما صدر منه، أو تجلَّى له، أو ظهر فيه - على اختلاف ا لاعتبارات والاصطلاحات - هي العين الواحدة المسمّى عند بعضهم بالعقل الأوّل، المعبَّر عنه بالحقيقة المحمديّة، والاسم الأعظم، والعقل الكلّي، وعالَم العقول.
ثمّ النفس الكلّية، وعالَم النفوس المجرّدة المدركة للحقائق الكلّية بالذات - أي بنور العقل الكلّي - وللجزئيات بالآلات - أي بأنوار الحواسّ - ثمّ النفس الخياليّة المجرّدة عن الأجسام لا عن الأجرام. ثمّ النفس المنطبعة المدركة للجزئيّات بذاتِها المثاليّة. ثمّ قواها المنطبعةِ. ثمّ النفوس النباتيّة من حيث حقائقها ونوعيّاتها الطبيعيّة، ثمّ الجواهر المعدنيّة، من تلك الحيثيّة. ثمّ الصوَر العنصرية. ثمّ الهيولى التي هي أخسّ الجواهر وأدونها، ومنها يتصاعد الوجود بعد تنزّلها الأقصى.
وأمّا سلسلةُ العود والرجوع إلى الكمال بعد الهبوط إلى أنزل المنازل والأحوال فوجودها أيضاً محقّق لا شبهة فيه، بناء على ما ذكرنا مراراً من أن التوجُّه إلى الغايات في جبلّة كل ناقص. وأنَّ كل حادث من الحوادث، كما لا بدّ فيه من فاعل ومادة وصورة، كذا لا بدّ لصورته من غايةٍ، والكلام في غايته كالكلام في نفسه، فلغايته غايةٌ أُخرى.
ولا تتسلسل الغايات الذاتية إلى غير النهاية، بل تنتهي إلى غايةٍ لا غاية لها، ويجوز في الغايات العرَضية التعاقب الغير المنقطع إلى غاية أخيرةٍ عند جمهور الفلاسفة، كما يجوز ذلك عندهم في السوابق العرَضية المسمّاة بالمعدّات.
ولكن كلامنا في الغاية الذاتيّة التي وجد الشيء لأجلها، وهي التي تقدمت على المعلول في التصوّر العلمي، وتأخرت عنه في الوجود العيني، عندما يقع المعلول تحت الحركة والكون، إذا لم يكن التصوّر العلمي له عين وجوده العينيّ، وأمّا فيما ارتفع وجودُه عن عالَم الحركات والانفعالات، فالغاية له سابقة عليه علماً، وعيناً.
فالموجودات الصوريّة ممّا يجب أن تترتب ترتّباً ذاتياً، رجوعياً غائيّاً على عكس الترتّب الذاتيّ الابتدائيّ من الأدنى إلى الأعلى، فالوجودُ الذي يتصاعد في الشرف يظهر أولاً في المعدن، ثم في الحيوان، ثم في الإنسان.
والصورة الإنسانيّة آخر المعاني الجسمانيّة، وأوّل المعاني الروحانيّة، كالبرزخ الجامع بين العالَمين. وهي باب الله المؤتى منه إلى عالَم القدس والرحمة. وهي آخر باب لسور حاجز بين النار والجنة، وبعد مرتبة الإنسان البشري مراتب كثيرة في الصعود حتى يبلغ الوجود إلى النهاية.
واعلم أنَّ النفوس الإنسانيّة كما أنَّها تكون متفاوتة في النهاية، كذلك كانت متفاوتة في البداية، واختلافها من اختلاف معادنها الأصلية "الناسُ معادنُ كمعادنِ الذهبِ والفضَّة". كما أخبر عنه سيّد الأنبياء عليه وآله وعليهم السلام والصلاة، وقد خلق الله في كل نفس معنى مخصوصاً، وقوّة محرّكة مخصوصة يجرّها إلى معدنها الأصلي، ولا يقف بها دونه. قال تعالى:
{ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } [الأنبياء:104]. وقال أيضاً: { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } [البقرة:60].
وحركات الجوارح آثار تلك المعاني المُحرّكة التي أودعتها القدرة في النفوس، إتماماً للحكمة، وإظهاراً لكمال الرحمة، فالنفوس التي لا تكون بينها وبين الأوّل تعالى واسطة تنجذب إلى جنابه طبعاً، كانجذاب إبرة من حديد إلى مغناطيس غير متناهي القوّة. وقوله:
{ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة:54]. كنايةٌ عن هذا الجذب والانجذاب، كما أنّ قوله: { { نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة:67]. كنايةٌ عن الطرد والدفع عن جناب القدس إلى جانب البعد.
وبالجملة نهاية كلّ واحد رجوعه إلى البداية، وإلى هذا المعنى أشار العارف الربّاني صاحب منازل السائرين، عبد الله الأنصاري: "إلهي تلطّفتَ لأوليائك فعرفوكَ، ولو تلطَّفت لأعدائك لما جحَدوك".
فحكم النفوس التي لم تكن بين مصدرها وبين الأوّل تعالى واسطة، أن يعرفوها ويصلوا إليها راجعين، راضين مرضيّين. وأمّا النفوس التي بينها وبين الأوّل حجُب العزّة، ووسائط القدرة فتحشر إلى طبقات مختلفة المراتب في الصعود، والهبوط،
{ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ } [الأنعام:132]. وربما صارت بعض النفوس أبخس ممّا كانت في أوّل الأمر، فيكون مرجعها إلى المهاوي النازلة، وليس هذا الموضع محلّ بيانِه.
فإذا تمهدت هذه الأصول نقول: قد تبيَّن وانكشف أنَّ الإنسان يمكن أن يصير في آخر مقاماته أشرف من الملائكة، إذ كما أنَّ للملائكة طبقات متفاوتة في الوجود النزولي وأشرفها طبقة الأرواح المهيّمة التي هي باصطلاح الحكماء تسمّى العقول الفعّالة فكذلك للإنسان درجاتٌ متفاوتةٌ في الصعود إلى الله، وأشرفها وأكملها درجة الأرواح النبويّة هي التي أيضاً عقول بالفعل، وعند القيام إلى الله تعالى تكون فعّالة للعلوم العقليّة، مكمِّلة للنفوس، شفعاء للخلائق إلى الله تعالى.
وكما أنَّ أوّل الأرواح العقليّة مَن لا واسطة في الشرف بينه وبين الله، كذلك آخر الأرواح النبويّة من لا واسطة بينه وبين الله، كما قال (صلى الله عليه وآله):
"لي معَ الله وقتٌ لا يسَعني فيه ملَك مقرَّبٌ ولا نبيٌّ مرسلٌ" . وهذا لا ينافي كون جبرائيل أو غيره من الملائكة معلِّماً له في بعض الأحوال، لما علمت أنَّ الإنسان ذو نشآت متفاوتة.
فجميع ما ذكروه من الدلائل الدالّة على تفضيل الملائكة على البشر حقٌّ وصدق، ولا ينافي كونه أشرف منهم في آخر أمره، وحقُّ المقام أن تقع المفاضلة بين الملَك وبين آخر مقام الإنسان، وأن يُعتبر مع كل صنف من الملَك صنف من الناس الذين يكونون بإزائهم، ويقعون في عالَمهم.
وكما أنَّ الملائكة أنواعُ كثيرة بعضهم ملائكة العلوم، وبعضهم ملائكة الأعمال. وملائكة الأعمال بعضهم ملائكة الجنّة والرحمة، وبعضهم ملائكة النار والعذاب كالزبانية ولكلّ منهم منازل ومراحل كثيرة فكذلك أصناف البشر بعضهم من أهل العلم والمعرفة والقرب، وبعضهم من أهل العمل. فمنهم مطيعين، وهم أصحاب الجنّات. ومنهم عاصين، وهم أهل النار. والكفَرة بإزاء أهل العلم مخلَّدةٌ في الجحيم.
فإذا سئل عن التفاضلُ بين ملائكة الأعمال، وأصحاب الأعمال من البشر فالفضل للملَك، لأنّهم أقدر على الطاعات. وإذا سُئل عن ملائكة العلوم وأهل الولاية والنبوّة من البشر، فالفضلُ للأنبياء والأولياء (عليهم السلام) لكونهم جمعوا بين العلم والعمل، وكانوا متّصفين بصفات الخلائق كلّها، متخلّقين بأخلاق الله، عارفين بجميع الأسماء، لأنّهم كانوا أوّلاً في عالَم المحسوسات والجسمانيّات، ثمّ في عالَم المتخيّلات والمثاليّات ثمّ في عالَم الحقائق والمعقولات.
فلهم الجامعيّة الكبرى، فاستحقّوا للخلافة الإلهيّة مدّة في عالَم الأرض لقوله:
{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة:30]. ثمّ في عالَم السماء "لَولاَكَ لَما خَلَقْتُ الأَفْلاَكَ". ثمّ في عالَم الأسماء، كاسم الله الأعظم الجامع لجميع الأسماء: { { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [النساء:80]. وقوله (صلى الله عليه وآله): "مَن أطاعَني فقَد أطاعَ الله" .
وبالجملة: الإنسان الكامل الواصل إلى مقام الملَك، مساوٍ معه في الشرف والقُرب، لكنّه أتمّ كمالاً من الملَك باعتبار جمعيّته، واحتوائه على سائر المقامات، ومروره عليها.
وأمّا ما ذكَره العلاّمة القاشاني - صاحب الاصطلاحات - من "أنّ الملائكة المقربين باعتبار ارتفاع الوسائط بينهم وبين الله، يكونون أشرف من الإنسان الكامل، وهو أكمل منهم باعتبار الجامعيّة" فليس بجيّد، وذلك لما ثبتَ وتحقّق عند المعتبرين من الحكماء المتألّهين وانكَشف لدى أذواق العرفاء المكاشِفين، أنَّ النفس الإنسانيّة إذا تجاوزتْ عن حدّ العقل الهيولاني، وما بالملكة، وما بالفِعل تتّحد بالعقل الفعّال، وتصير هي هو بعينه في المقام الجمعيّ المسمّى عندهم بالعقل البسيط الفعّال للعقول التفصيليّة النفسانيّة.
وهذا الاتّحاد بين العقل الإنساني والعقل الفعّال في المقام الجمعيّ العقلانيّ لا ينافي امتيازه عنه بالعادات النفسانيّة، والأخلاق والملكات الحسنَة البشريّة المكتسبة بواسطة تهذيب القوى، وتكميل الذوات، وتعديل الصفات.
ثمّ العجَب أنَّ العقل الفعَّال - مع كونه فاعِلا مقدّماً مكمّلاً للنفوس محيياً لها بإذن الله بالحياة السرمديّة - هو بعينه غايةٌ أخيرةٌ مترتّبة على استكمالاتها، وثمرة حاصلةٌ عن شجرة وجودها.
وهذا أمر عجيبٌ غريبٌ؛ لكنّه حقّ لا مِريَة فيه لنا، وهو مما ساقَنا إليه البرهان، وأُلهمنا به بفضل الله العظيم المنّان.
فهذا ما حضَرنا الآن في هذه المسألة، ولها زيادة تفصيل ذكرناها في تفسير آية النور، يظهر لمن أراد ذلك بالمراجعة إليه والله أعلم.
فصل
مسألةُ الجبر والتفويض في هذه الآية
استدلّ القاضي بهذه الآية على بطلان قول المجبِّرة من حيث أنّها دالّة على أنَّ الشيطان كان قادراً على السجدة، ولم يسجد من غير عذرٍ من وجوه:
أحدها: قوله: { أَبَىٰ } فإنّ مَن لم يقدِر على شيء لا يقال له: "أباه".
والثاني قوله: { ٱسْتَكْبَرَ } ولا يقال لمَن لم يقدر على الفعل: "أنّه استكبر" بل: "لم يفعَل".
والثالث: قوله: { وَكَانَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ } ولا يجوز إسناد الكفْر إلى أحد من جهة أنّه لم يفعل ما لم يقدر عليه.
والرابع: إنّ إِباه، واستكباره، وكفْره خلْق من الله، فهو بأن يكون معذوراً أولى من أن يكون مذموماً.
ثمّ قال: "مَن اعتقد مذهباً يُقيم العذر لإبليس فهو خاسر الصفقة".
وأجاب عنه صاحب التفسير الكبير بالمعارضة بقوله: "إن كان صدور ذلك الفعل عن قصدٍ وداعيةٍ فمن أين حصَل ذلك القصد؟ أوَقَع عن فاعلٍ هو العبدُ أيضاً بقصد آخر وهكذا فيتسلسل إلى لا نهاية، ويسدّ إثبات الصانع. وإن وقَع عن فاعلٍ هو الله فيعود عليك كل ما أوردتَه علينا وإن قلت: وقعَ ذلك الفعل عنه لا عن قصد وداع فقد ترجّح الممكن من غير مرجّح، وهو سدّ باب إثبات الصانع.
وأيضاً فإن كان ذلك كان وقوع ذلك الفعل اتّفاقاً، والاتّفاق لا يكون في وُسعه واختياره، فكيف يؤمر به وينهى عنه؟".
ثمّ قال: "فيا أيُّها القاضي ما الفائدة بالتمسّك بالأمر والنهي، وتكثير الوجوه التي يرجع حاصلُها إلى حرف واحد وهو "وقوعُ الأمر والنهي من الله على العبد". مع أنَّ مثل هذا البرهان القاطِع القالِع خلفَك يستأصل عروقَ كلامك، ولو اجتمع الأوّلون والآخرون على هذا البرهان، لَما تخلَّصوا إلا بالتزام وقوع الممكن لا عن مرجّح به وحينئذٍ يسندّ باب إثبات الصانع - أو بالتزام أنْ يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد وهو جوابنا".
أقول: قد مرّ تحقيق هذا المقام مِراراً على وجهٍ لا يلزم عنه شيءٌ من المفاسد، ولا ينافي أصلاً من الأصول والمقاصِد، فلا نعيد الكلام بذكره، إذ المستقيم السلوك المهتدي بالنور يكفيه أقلّ من ذلك، والغويّ المنحرف المطيع للوهم لا ينتفع بالأكثر منه
{ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [النور:40].
فصل
الكفْرُ والإيمانُ، والأقوالُ في كفر إبليس
وأمّا قوله: { وَكَانَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ }. فمعناه: كان كافراً في الأصل متظاهراً بصورة الأعمال الحسنة، مترائياً بالطاعات الظاهرة في مجامع أهل الملكوت، حتّى أظهر الله ما كمن في باطنه على رؤوس الاشهاد من التمرّد، والإباء، والعصيان، والجحود والانكار لأهل الله، والطغيان، والحسد، واللداد، والتكبّر والعناد، كما هو دأب متابِعيه من أهل النفاق، المغترّين بلامعِ سراب الأعمال الظاهرة في ظلمات الهوى، وتيه الجهالة والردى.
واختلفت الفقهاء في قوله تعالى: { وَكَانَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ }. على قولين:
أحدهما: إنّ إبليس حين اشتغاله بالعبادة كان منافقاً، كافراً. واستدلّوا في تقرير هذا القول بدليلين مرّ ذكرهما في المفاتيح.
أحدهما: ما نُقل عن شارح الأناجيل الأربعة من شُبهات إبليس السبعة، على شكل مناظرة بينه وبين الملائكة بعد الأمر بالسجود.
والثاني: التمسّك بقول أصحاب الموافاة، وعليه أكثر أصحابنا الإماميّة من أن الجمع بين الكفْر والإيمان في شخص واحدٍ مستحيل - ولو في زمانين - وذلك لأنّ أحدهما يوجب استحقاق الثواب الدائم، والآخر يوجِب استحقاق العقاب الدائم، والجمع بين الثواب الدائم والعقاب الدائم محال، فكذا الجمع بين الاستحقاقين معاً محالٌ، فَطرَيَان كلّ منهما إمّا أن يكون مزيلاً للآخر، أو كاشفاً عن عدمه رأساً.
والأوّل باطل - لأنّ القول بالإحباط باطلٌ - فبقي الثاني وهو المطلوب، فإذا فُرض كون واحدٍ مؤمناً، ثمّ ظهرَ منه الكفْر بعد ذلك، عُلِم أن المفروض محالٌ، فإذا كانت الخاتمة لواحد على الكفر، علِمنا أنّ الصادر منه أوّلاً لم يكن إيماناً. فهكذا الحال في إبليس.
أقول: للباحث المتكلّم أن يمنع أنَّ مجرد الإيمان في أيّ وقت كان يوجب استحقاق الثواب الدائم، بل بشرط أن يكون مستمرّاً عليه إلى خاتمة العمر. وكذا له أن يمنع أنّ مجرّد الكفْر يوجب ما ذكره، إلاّ أن يكون استمراريّاً أو ارتدادياً عن فطرة.
واعلم أنَّه يمكن تصحيح ما ذهبتْ إليه أصحاب الموافاة بوجه مناسب لمذهب الحكماء، وهو إن الإيمان الحقيقي ليس مجرد القول بالشهادتين، بل عبارةٌ عن اعتقادات مخصوصة يقينيّة، وعلومٌ حقّةٌ برهانيّة، أو كشفيّة. وقد ثَبت أنَّ العلْم الحاصل للنفس بالبرهان، ليس يمكن الزوال عنها، فكلّ من تحلّت نفسه بالإيمان بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتب، والرسل، والشهداء، فلا يمكن زوال إيمانه على التحقيق.
وكذا الكفْر الحقيقي عند التحقيق، ليس عبارة عن عدم النطق بالإيمان، أو عدم الاعتقاد فقط، أو خطور صورة باطلة بالبال مقابلةً لأصل من الأصول. بل عبارةٌ عن اعتقاد الشرك مع الرسوخ فيه، والجُحود لقول الحقّ وقول الرسولِ (صلى الله عليه وآله) وأئمة الدين (عليهم السلام). وإلاّ فمجرّد الجهل البسيط بأُصول اللإيمان، لا يوجب استحقاق العذاب الدائم، بل يوجِبه الجهل المركب المشفوع بهيئة نفسانيّة، وملكة ظلمانيّة، يتأكد في النفس سدّاً بين يدي القلب، وغشاوة على البصيرة.
فإذا تقرَّر ما ذكرناه، ظهرَ لقول أصحاب الموافاة وجهٌ صحيحٌ، وصورة علميّة يستحسنها ذوق أرباب التحقيق.
الثاني: إنَّ إبليس كان مؤمناً، ثمّ طرأ عليه الكفر.
واعلم أنَّ هذا القول مما يستكرهه العارف بآيات رحمة الله، وآثار لطفه وعنايته، ومما يسيء الظنَّ بربّ العباد وحكمته، وإحكام صُنعه، وإتقان فعْله، فإنّ تجويز أنّ أحداً كان مؤمناً مخلصاً لله في عبادته سنين متطاولة، وأحقاباً كثيرة متمادية، ثمّ تغيَّر حالُه وانصرفَ قلبُه عمّا كان مستمرّاً عليه، راسخاً فيه في تلك السنين والأحقاب المتطاولة بأدنى شيء يستلزم أن لا يبقى لأحد اعتمادٌ على اليقينيّات، ولا اعتقاد بشيء من الأصول المثمرة للسعادات، فيكون كل أصل من الأصول اليقينيّة ممكن الزوال، جائز الاضمحلال، فيكون مدار الاعتقادات على الظنّ والتخمين، وبناء الأمور على البختِ والاتّفاق.
والحقّ
{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [التوبة:120]. { يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ } [إبراهيم:27]. { { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً } [الأحزاب:67].
واعلم أنَّ الإيمان الحقيقي صورةٌ في نفس المؤمن، أحكَمُ وأتقنُ من صورة الشمس والقمر، وصورةُ سائر الأجرام الفلكيّة. بل لا نسبة في الإحكام بين صورة المؤمن، وصورةِ تلك الأجرام العظيمة، الراسخة، الشامخة، لأنّ صورتها زائلةٌ منكسفة النور يوم القيامة، واهيةٌ يومئذٍ، وصورةُ المؤمن قائمةٌ عند ربِّه، مشرِقة، ضاحكةٌ، مستبشرةٌ أبد الآبدين، ودهر الداهرين.
ثمّ القائلون بهذا القول اختلفوا في تفسير قوله: { وَكَانَ } فمنهم من قال: كان في علم الله من الكافرين: أي كان الله عالماً في الأزل أنَّه سيكفر. فصيغة "كَان" باعتبار العلْم، لا باعتبار المعلوم.
ومنهم مَن قال: إنّه بعد مضي كفره صدقَ عليه أنَّه كان من الكافرين في ذلك الوقْت، ومتى صدَق المقيَّد، صدق المطلَق؛ لأنّه جزء المقيّد، فصدق عليه أنَّه كان من الكافرين.
ومنهم من قال: المراد من "كَانَ" معنى "صَار" أي: صار بعد إبائه عن الإتيان بالسجدة لآدم مِن الكافرين.
فصل
إبليس أوّلُ مَن كفَر
إنّ كلمة "مِنْ" في قوله: { مِنَ الْكَافِرِينَ } للتبعيض، فظاهر الكلام يدلّ على وجود قوم آخرين من الكافرين قبل إبليس في ذلك الوقت، ولهذا وقع الاختلاف في ذلك.
فمنهم مَن قال: بأنّه وُجد قبله جمع من الكافرين. ويؤيِّده ما رُوي عن أبي بريدة أنَّه قال "إنّ الله تعالى خلَقَ خلْقاً من الملائكةِ، ثمّ قال لهم:
{ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ص:71 - 72] فقالوا: لا تفعَل ذلك. فبعث الله عليهم ناراً فأحرقتهم. وكان إبليسُ من أولئك الذين أبوا".
ومنهم مَن قال: معنى الآية أنَّه صار من الذين وافَقوه في الكفر بعد ذلك وهو قول الأصم.
ومنهم مَن قال: إنّ هذا من باب إضافة فردٍ من أفراد الماهيَّة إلى تلك الماهيّة، وصحّة هذه الإضافة لا تقتضي وجود تلك الماهيّة كما أن الحيوان الذي خلقه الله أوّلاً يصدق عليه أنَّه فردٌ من أفراد الحيوان لا بمعنى أنَّه واحدٌ من الحيوانات الموجودة في خارج الذهن، بل بمعنى أنَّه واحدٌ من أفراد هذه الحقيقة، أعمّ من أن تكون الأفراد محقّقة، أو مقدّرة.
والحقّ عندنا: أنَّ إبليس أوّل من كفَر الله؛ وأوّل من سنَّ كلّ كفْر، وبدْعة، ومعصية وقعت في العالَم، أو ستقع إلى يوم القيامة، وهذا رأيُ الأكثرين.
ثمّ: إنّه هل هو أكفَرُ الكفَرةِ، وأعنَدُ المنافقين، أم لا؟ فيه تأمّل.
ثمّ على تقدير أنّه أكفَر الكفَرة، هل هو أشدُّ الكفّار عذاباً يوم الآخرة، أم لا؟ فيه أيضاً موضع تأملٍ من ذي بصيرة.
هل العاصي كافرٌ؟
واعلم أنَّ المعصية عند أصحابنا الإماميّة، وعند المعتزلة، والأشاعرة، لا تُوجِب الكفْر، وأمّا عند الخوارج: فكلّ معصيةٍ كفرٌ، وهم تمسّكوا بهذه الآية، قالوا: إنّ الله كفَّر إليس بتلك المعصية الواحدة، فدلّ على أنّ كلّ معصيةٍ كفْرٌ.
وهذا الاستدلال في غاية الضعف. إذ على تقدير أن يكون منشأ كفْره تلك المعصية، لا يثبت به مطلوبهم؛ لأنّه ربما كان لبعض المعاصي خصوصيّة لا توجد في غيره.
على أنّا نقول: إنّما لاستقباحه أمر الله إيّاه بالسجود لآدم، ولاستكباره، واعتقاده كونه محقّاً في ذلك التمرّد لأنّه أفضل منه - والأفضل لا يحسن أن يكون مأموراً بالتخضّع للمفضول، والتوسّل - واستبداده برأيه واستدلاله على ذلك بقوله:
{ { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ } [الأعراف:12] جواباً لقوله: { { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ } [ص:75]. وعملِه بقياسِه المغالطي - المختلّ الأصل والفرع - في مقابلة النصّ.
ثمّ على القول بأنّه "كان كافراً من أوّل الأمر، منافقاً حين اشتغاله بالعبادة" يكون هذا الاستدلال ساقطاً رأساً.
واعلم أنَّ من فوائد هذه الآية استقباح الاستكبار، وأنّه قد يُفضي بصاحبه إلى الكفر، وكونه علامة لظلمة كامنة في النفس، باعثة على الفرقة والأنانيّة.
والحثّ على الطاعة والائتمار - وإن لم يعلم سرّ الأمر - وترك الخوض في البحث.
وأنّ الأمر يكون للوجوب.
وأنّ الذي عَلِم الله من حاله أنه يُتوفّى على الكفر، هو الكافر على الحقيقة - لأن علْم الله بالأشياء هو عين حقائقها - لأن العبرة بالخواتيم، وإن كان بحكم الحال مؤمناً. وهو الموافاة المنسوبة إلى أصحابنا رضوان الله عليهم.
فصل
في أن المأمورين بسجدةِ آدم عليه السلام هل كانوا جميع الملائكة، أم بعضهم؟
فالأكثرون على الأوّل، واستدلّوا بوجهين:
الأوّل: صيغة الجمع المحلّى بلام التعريف تفيد العموم، سيّما وقد قورِنت بأبلغ تأكيد في قوله:
{ فَسَجَدَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [الحجر:30].
والثاني: وجود الاستثناء من الجمع دالّ على أنّ ما عدا المستثنى كان داخلاً في الحكم. وقوله: { إِلاَّ إِبْلِيسَ } دلّ على أنّ الملائكة كلّهم سجدوا لآدم، فدلّ على أنّهم كلّهم كانوا مأمورين بالسجود.
ومن الناس من أنكر ذلك وقال: "المأمورون بالسجدة هم ملائكة الأرض" واستعظموا لأن يكون أكابرُ الملائكة مأمورين بسجدة آدم.
والمشهور من آراء الباحثين من الحكماء مثلُ هذا، لأنّ الملائكة السماويّة - وهي الجواهر الروحانيّة المحرّكة للأجرام العالية عندهم - يستحيل على أُصولهم أن تكون منقادة للنفوس الناطقة الأرضيّة، فلهذا ذهب أكثرهم إلى أنّ المراد من الملائكة المأمورين بسجدة آدم هي القوى البشريّة، المطيعة للنفس الناطقة، الخادمة إيّاها طبعاً.
أو يكون المراد منها النفس الحيوانيّة، والنباتيّة، المنقادة للإنسان حيث سخّرها الله له بما أعطاه من قوّة تسخيره إيّاها، وتصرّفه فيها لمصالح معاشه، ومعاده، وإليه ذهب صاحب إخوانِ الصفا.
والحقّ إنّ المأمور بالسجود، والانقياد لآدم جميع الملائكة السماويّة، والأرضيّة، كما دلّ عليه قوله تعالى:
{ { فَسَجَدَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [الحجر:30]. إلاّ أنّ الملائكة الأرضيّة في وقت ومقام، والملائكة السماويّة في وقت ومقام آخر. فإن للإنسان درجات ومقامات بحسب سيره إلى الله.
فما دام كونه في مقام النفسيّة، وعدم عروجه إلى عالَم القدس العقلي، فلا معنى لكون أكابر الملائكة - وهم المحرّكون للأجرام السماويّة - مطيعة له، لأنّهم إنما يطيعون أمرَ الله، وعالَم الأمر، ويلتمسون الأنوار العقليّة، ويتشوّقون إلى الاتّصال بالملإ الأعلى، وهم القاعدون في صوامِع الجبروت، ومصاقع الربوبيّة، ومجامع الإلهيّة.
وأما إذا خرج عن مقام النفسيّة إلى مقام العقليّة الصِّرْفة، وخلص عن التلوّنات، والتغيّرات إلى المرجع والمآب، واستقرّ في مقعد من مقاعِد الأُنس والرحمة، منخرطاً في سلك المقرّبين المهيّمين، فحينئذ يطيع له ملائكة السماء طاعتهم للملإ الأعلى؛ لأنّه صار معهم في مقام الوحدة الجمعية، والسعادة الكبرى، والبَهجة العظمى التي يكلّ اللِّسان عن وصفها، وتضيقُ الأسماع والأذهان عن سمْعها وفهمِها.
وأمّا الملائكة المهيّمون - وهم الذين لا تعلُّق لهم بعالَم الأجسام لاستغراقهم بمشاهدة جمال الأحديّة - فظاهرٌ أنَّهم خارجون عن أمر السجدة لغير الله، والانقياد لما سواه، ولا يشكل هذا بعموم قوله
{ { فَسَجَدَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [الحجر:30]. لأنّ إطلاق الملائكة بناء على أنّه مشتقٌّ من "الألُوكَة" بمعنى الرسالة - كما مرّ - إنما شاع على مَن له رسالة من الله إلى خلْقه، والأرواح المهيّمة مقامُهم فوق ذلك. والدليل على ذلك قوله تعالى: { أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ } [ص:75]. أي الملائكة المرتفعين عن الالتفات لهذا العالَم مطلقاً - والله أعلم بأسرار خلقه، وآثار أمره.