التفاسير

< >
عرض

فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَٰنُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ
٣٦
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

هذا هو آخر درجات النزول لآدم (عليه السلام) من عالَم القدس، ودار الكرامة، وذلك أنَّ آدم (عليه السلام) لما كان مستصلحاً لعمارة الدارين، وأراد اللهُ بحكمته الكاملة منه عمارةَ الدنيا كما أراد عمارةَ الآخرة والجنَّة، كوَّنه من التراب تكويناً، وركّبه تركيباً يناسب عالم الحكمة والشهادة، وهي هذه الدار الدنيا.
وما كانت عمارةُ الدنيا تأتي منه وهو غير مخلوق من أجزاء أرضيّة سفليّة بحسب قانون الحكمة، فمِن التراب كوَّنه، وأربعين صباحاً خمّر طينتَه - كما ورد في الحديث القدسي - ليبعد بالتخمير أربعين صباحاً أربعين حجاباً من الحضرة الإلهيّة، كلّ حجاب هو معنى مودع فيه يصلح لعمارة الدنيا، ويتعوّق به عن الحضرة الإلهيّة ومواطن القُرب. إذ لو لم يخرج عنها ولم يتنزّل إلى الدنيا لم يصلح لعمارة الدارين جميعاً، ولخلافة الله في أرضه، ثمّ لأن يكون زينةً للعالَم الأعلى وملَكاً في الآخرة ملكاً كبيراً.
فبالتبتّل إلى طاعة الله، والرجوع إليه بالعلْم والعمل، والاقبال عليه، والانتزاع عن التوجّه إلى السفليّات، يخرج كل وقت عن حجاب أمر مودع فيه عند التركيب، وعلى قدر زوال كلّ حجاب ينجذب إلى مقام نزل منه، ويتّخذ منزلاً في القرب من الحضرة الإلهيّة، التي هي مجمع الأُنس ومنبع العلوم، ومصدر الحقائق.
فإذا تمّ السلوك والتبتّل، وزالت الحجب، انصبّت على القلب مياه العلوم والمعارف، كما في قوله (صلى الله عليه وآله):
"مَن أخلَصَ لله أربعين صباحاً ظهرتْ مِن قلبهِ على لسانِه ينابيعُ الحكمةِ" . فهذه الأربعين صباحاً في التمحيص والتطهير في مقابلة تلك الأربعين صباحاً في التخمير والتركيب.
ثمّ اعلم أنَّ العلوم الحقيقيّة والمعارف هي بعينها أعيان صوريّة في عالَم الحسِّ والشهادة، انقلبت بإكسير نور العظمة الإلهيّة بها، كما أنَّ هذه الصور أُصولها أيضاً أعيان عليّة، وصور مفارقة عند الله صارت متمثّلة في هذا العالَم بتقدير الله. فلكلّ غيب شهادة، ولكلّ ظاهر باطن. فنزولها وصعودها على وفْق هبوط آدم (عليه السلام) وعُروجه تكميلا للحكمة وإظهاراً للقدرة.
فصل
قال بعض الحكماء في لِميَّة إخراج النفوس من جنّة الأرواح لجناية وقعت: إنّ النفوس الجزئيّة لمّا هبطت من العالَم الذي كانت، وسقطَت عن مراتبها العالية لجناية وقعت من أبيها وأمّها، غرقت في بحر الهيولى وغاصت في قعر أمواج الأجسام وقيل لها:
{ { ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ } [المرسلات:30]. فتفرّقت في هياكل الأجسام وتمزّقت بعد وحدتها وجمعيّتها؛ وتشتَّتَ شملُها، ووقعت بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، كما قال تعالى: { ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ }.
وعرَض لها عند ذلك من الأهوال، والدهش، والمصائب مثلُ ما عرَض لقوم ركّاب البحر لمّا اشتدت بهم الريحُ، واضطرب بهم البحرُ، وهاجت بهم الأمواجُ، وانكسرت منهم السفينةُ، وغرقوا في بحر الطبيعة، وغاصوا في ظلمات الماء، وتفرّقوا في كلّ فجٍ عميق من الجزائر والسواحل.
فكما أنَّ أولئك القوم في الوقت الذي انكسرت منهم السفينةُ تراهم بين غائصٍ، وطافٍ، أو متعلّق بخشَبَةٍ أو بحبلٍ، أو راكب بعضُهم كتفَ بعض، كلّ واحد يقول: "نفْسي، نفْسي" من شدّة الأهوال، لا يفكّر بغيره، ولم يرد النجاة إلاّ لنفْسه، ولا همُّه سواه، ولا يفكّر فيما كانت فيه فهكذا حال النفوس في هذا العالم وكونها مع هذه الأجساد. فمِن هذه الأشياء نسيَت النفوسُ عالَمَها ودارَها الحيواني، ولا نذكر شيئاً ممّا كانت فيه من أمر عالَمِها، ومعادِها، كما قال تعالى:
{ { وَإِذَا ذُكِّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ } [الصافات:13 - 14].
ثم قال: إنّ النفس إذا انتبهتْ من نوم الغفلة، ورقدَة الجهالة، واستبصرت ذاتَها، وعرفت جوهرَها، وتحقّقت بغربتها في عالَم الأجسام، وغرقِها في بحر الهيولى، وأسْرِها بالشهوات الطبيعيّة، وعاينت عالَمَها، واستبانَ لها فضلُ نعيمها على هذه اللذّات الكدِرة الظلمانيّة وتنسّمت بروح عالَمها وريحانها؛ اشتاقت إلى هناك وملَّت الكونَ مع هذه الأجسام، وزهدَت في نعيم الدنيا، وتمنَّت الموتَ لهذا الجسد، والخروج من ظلمته، فيكون مثَلُها مَثلُ جماعةٍ خرجوا من الحبوس والمطامير مع ضوء الصبح، فشاهَدوا هذا العالَم دفعة واحدة.
فأمّا النفس الغير المستبصرة فمَثَلُها كمَثَل العميان سواءٌ عندهم ضوءُ النهار وظلمة الليل.
وسُئل بعضُ الحكماء العارفين: "إنّا من أيّ موضعٍ جئنا إلى هذا العالَم؟"
فقال في الجواب: "اعلم إنّا جِئنا إلى هذا العالَم من ذلك العالَم. وحدُّ هذا العالَم من فوق فلَك البروج سِدرة المنتهى، تحت الفلَك المستقيم إلى هذه الأرض وحدّ ذلك العالَم من فوق الفلَك المستقيم إلى تحت مرتبة القلَم الإلهي، وهو العقل الكلّي. ومجيئنا من ذلك العالَم إنّما هو من الجنّة، جنّة الله التي هي حظيرة القدس التي بها قدّس المقدّسون، وتلك هي فوق ذلك العالَم.
فأمّا هذا العالَم فهو دار عمل، وذلك العالَم دار حساب والجنّة هي دار جزاء المحسنين.
واعلم إنّا جئنا من جنّة القدس إلى ذلك العالَم، ومن ذلك العالَم إلى هذا العالَم، ومن هذا العالَم نذهب إلى فلَك البروج، ومن فلك البروج نذهب إلى ذلك العالَم الذي هو موضعُ الحساب، ومن موضعٍ الحساب يرجع من أحسن عمله إلى جنَّة الله، وبقي بقاء سرمديّاً، ويبقى من أساءَ عمله تحت ذُلِّ الطبيعة، ونار الجحيم في دار جهنَّم،
{ مَا دَامَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [هود:107].
واحتاجوا إلى العمل من غير إرادةٍ منهم، لِيَصِلُوا إلى الصوَر الموافقة لأرواحهم في الجنَّة، وهم ينالون من تلك الصور التي في الطعام والشراب لذّة، ويجدون سُكوناً إلى الدنيا تحت الطبع والطبيعة.
وكذلك يكونون في قيد الطبيعة، يدخلون كارهين من غير إرادةٍ تحت قيد العقل الذي بذره العقل العملي الذي جاء به الرسل (عليهم السلام) ممّا يشهد به شرائعهم حتّى تستأنسَ النفسُ، وتطمئنَّ بتلك الصوَر العمليّة، والعقليّة، وتجدَ بها قراراً، لأنّ أصلها أيضاً من جنّة الله تعالى، وبتلك الاستفادة يُضيء لها طريق الصراط وقت ذهابها إلى معادها، ويخف حسابها، وتثقل موازينها.
فقد تبيَّن الآن أنَّ البشرَ بتقدير الابتداء، ومقام الاباء، فوق العقل والطبع، لكنَّهم اليومَ محبوسون تحت الطبيعة، مقيَّدُون بالعقل العملي، وخلاصُهم يكون عند إطلاقهم عن وثاقهم، وخروجهم عن قيد العقل، وليس يخلصون عن قيد العقل إلاّ حين يخرجون من سجن الطبع والطبيعة. وهذه معان منغلقة يفتحها الشرع للمستحقّين، وإنّها محرّمة على الجاهلين.
ثمّ سُئل مسألة ثانية هي: إنّا لأي شيءٍ جئنا إلى هذا العالَم، بعد أن كنّا مغبوطين؟
فأجاب: إعلم إنّ مجيئَنا إلى هذا العالَم لم يكن باختيارنا وإرادتنا، لكن بالقهر جئنا، وبالقهر نمسك، وبالقهر نخرج. وإنَّا جئنا للتمحيص، والتطهير
{ وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ ٱلْكَافِرِينَ } [آل عمران:141]. وطهارة النفس إنّما تكون بالعمل الشرعي، والعلْم الإلهي، وبهذين تتمّ الطهارة والتوجّه إلى المعاد، وكما أنَّ طهارة الجسد يكون بالماء، أو بالتراب عند عدم الماء، كذلك طهارة النفس بالعلْم الذي هو بمنزلة الماء، والعمل الذي هو بمنزلة التراب، فكل من أتى بالعمل الشرعي حتّى يصلَ إلى العلْم الإلهي، فيعلم حقيقته، ويعرف نفسه. فإنّه يخلص عند مفارقته هذه الدنيا، التي هي سجن المؤمن، وجنّة الكافر.
إشارةٌ مشرقيّةٌ
واعلم أن حكايةَ هبوطِ العقل الإنساني، والنفس الآدميّة من عالَم القدس إلى موطن الطبيعة الجسمانيّة، ممّا كثُرت في مرموزات الأنبياء (عليهم السلام)، وإشارات الأولياء والحُكماء.
ففي القرآن المجيد قد ذكر هبوط النفس وصعودها في آيات عديدة، كقوله:
{ { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [التين:4 - 6]. وكقوله: { قُلْنَا ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة:38]. وكقوله: { { قَالَ ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } [الأعراف:24 - 25]. وكقوله: { { أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ } [التكاثر:1 - 2] إلى قوله: { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ } [التكاثر:8]. وكقوله: { { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } [مريم:71 - 72]. وكقوله: { { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدَىٰ وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلاَلَةُ } [الأعراف:29 - 30]. وكقوله: { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [الأنعام:94].
وفي كلام أمير المؤمنين (عليه السلام): "رَحِمَ اللهُ امرئاً أعدّ لنفْسه، واستعدَّ لرمْسه، وعَلِم مِن أينَ؟ وفي أينَ؟ وإلى أين؟".
وفي كلامه (عليه السلام) أيضاً: "وليحضرَ عقلَه، وليكُن من أبناء الآخرة، فإنّه منها قدِم، وإليها ينقَلِب".
وفي كلامه (عليه السلام) أيضاً في بيان ماهيّة النفس ومبدئها ومعادها: "إعلم أنَّ الصورةَ الإنسانيّة هي أكبر حجج الله على خلقِه، وهي الكتاب الذي كتبَه بيده، وهي الهيكل الذي بناه بحكمته، وهي مجموع صور العالَمين، وهي المختصر من اللوح المحفوظ، وهي الشاهد على كلّ غائِب، والحجّة على كل جاحِد، وهي الطريق المستقيم إلى كلّ خير، وهي الصراط الممدود بين الجنّة والنار".
وفي كلمات الحكماء الراسخين إشارة لطيفة، ورموز شريفة إلى هبوط النفس وصعودها، وحكاياتٌ مرشدة إلى ذلك.
ومنها قصّة سلامان وأبسال التي ذكرت في مقامات العارفين، ومنها قصّة الحمامة المطوّقة المذكورة في كتاب كليلة ودمنة، ومنها حكاية الطير المذكورة في رسالة لأبي علي بن سينا، ومنها حكاية حيّ بن يقظان. يفهم من كلّ منها أنَّ للنفس قبل وجودها في هذا العالَم وجوداً سابقاً، وفطرة أوّلية أصليّة في المراتب المتقدّمة، وأنَّ لها بعد هذا الوجود رُجوعاً وعَوداً إلى ما هبَطت منه إن لم يعِقها عائقٌ عن الرجوع إلى أصلها.
قال بعض الحكماء مشيراً إلى ذلك: إنّي كنتُ في هورقليا مع الخلاّن، والرفقاء، والاخوان، والآباء، في فضاءٍ فسيح شديد البهاء، كثير الضياء، أبدَع الله بعلمه القديم صوَر الكائنات في أحسن تقويم، فيها رياض خُضر كان بينها نسج ديباج من الزهر، والنور، والزعفران، في أواسطها أنهار تجري على حصاة كأنّها الدرّ، والياقوت، والمرجان، فيها بيوتٌ علاية، وقصورٌ شاهقة، فيها سررٌ مَرفوعة، وأكوابٌ موضوعة، ونمارق مصفوفة، وزرابيّ مبثوثة يُطاف عليها وِلدان وغِلمان، وحورٌ حسان لم يطمثهنّ قبلهم إنس ولا جانّ. وقد استعمل أبي الفلاحة في الأصقاع وتزيين البقاع بالعمارة.
فبعثَني يوماً لتعمير قطر، فإذاً أنا بحمّام كدِر وغارٍ مظلمٍ منقوش بصورة العالَمين، استقرّ فيه أبناء الجنّ والشياطين العارفين بعلم السيمياء، القادرين على إراءة الأشياء لا على ما هي عليها.
فشاهدتُ عجائب عديدة وغرائب كثيرة. منها أنَّ رجلاً في مزبلة عليها سماد طريّة، وجِيَف منتنة، ويسأل الله أن يُثبِته على هذه الحالة أبداً. ومنها أنَّ رجلاً ضعيفاً عاجزاً به أوجاع وجراحات لا تُحصى كثرة في خَربة من المغارة المنقوشة يزعم ويدعي أنَّ تلك الخربة عمارات، وتلك الجراحات وتلك النقوش والصور خدمه، وحشمه، وهو ملك عظيم قدير، يعاقِب من يشاء، ويرحم مَن يشاء. فابتليت بصحبتهم طويلاً، وخرجت عن الفطرة كثيراً.
فنسيت ما كنت عليه، فحسبت النار نوراً، والظلَّ حَروراً، والقبيح حسَناً، والحسَن قبيحاً، والموتَ حياة، والحياة موتاً، والسرابَ شراباً، والذلَّة لذّة، والراحة جراحةً. حتى نبَّهني بعضُ آبائي الكرام، الذي زيَّنوا حافات تلك الظلام من أنوارهم بمصابيح، وجعلوها رُجوماً لأولئك الشياطين، ومَن انتمى إليهم من المرَدة المَلاعين، ووضعوا فيها سَلاليم ليسهل بها الرجوع والعُروج، ومفاتيح ينفتح بها أبواب الخروج، فأرسلوا من حَبْل شعاعهم خيوطاً ليعرج بها من مهاوي عالَم الزور والغرور إلى معارج عالَم النور والسرور، وذكروا أموراً بها يتذكّر معاهد القدس فيجانس الإنس.
فتذكّرت وعلِمت أنَّ أُولئك الشياطين عارفين بالسيمياء، قادرين على تغيير حقائق الأشياء في المرائي الموضوعة، فيخيّلون النور ظلاماً، والصحَّة سقاماً، فينسون أمر النفس وعهدها القديم، ويُحيلون بين المرء ومطلوبه. فأعرضت عن هؤلاء وتتبَّعت لأنوارهم، واقتفيتُ لآثارهم، وتعجبت من تبدّل الحالات، وتغيُّر الخيالات.
وقال بعض آخر: إنَّ النفس قطرةُ انفصلت من البحر، أو شعلةٌ انقطعت من النار، فعادت واتّصلت بما كان، وطارت بأجنحة الكروبيّين.
ومنها ما ذكره انباذقلس الحكيم، وهو: إنّ النفس إنّما كانت في المكان العالي الشريف، فلما أخطأتْ سقطَت إلى هذا العالَم، وإنّما صارتْ إلى هذا العالَم فراراً من سخط الله، لأنّها لمّا انحدَرت غلى هذا العالَم صارت غياثاً للأنفُس التي قد اختلطتْ عقولُها، فصارتْ كالإنسان المجنون. نادى الناس بأعلى صوته وأمرَهم أن يرفضوا هذا العالَم وما فيه، ويصيروا إلى عالَمهم الأوّل الشريف، وأمَرهم أن يستغفروا الإله عزَّ وجلّ لينالوا بذلك الراحةَ والنعمةَ التي كانوا فيها.
ومنها ما قاله أفلاطون الربّاني في كتاب له يُدعى "فاذان": "علّةُ هبوط النفْس إلى هذا العالَم سقوطُ ريشها، فإذا ارتاشَت ارتفعت إلى عالَمها الأوّل".
ومنها ما قال هو - أيضاً - في بعض كتبه الذي يدعى: "طيماوس": إن علّة هبوط النفس إلى هذا العالَم أمورٌ شتَّى. وذلك أنّ منها ما هبطت لخطيئةٍ أخطأها، وإنّما هبطَت إلى هذا العالَم لتُعاقَب وتُجازى على خطاياها. ومنها ما هبطت لعلّة أُخرى".
غير أنَّه اختصر في قوله: وذمَّ هبوطَ النفس وسُكناها في هذه الأجسام.
وقال في موضع آخر من طيماوس: إنّ النفْسِ جوهرٌ شريفٌ سعيدٌ، وإنّما صارت في هذا العالَم من فعل الباري الخير، فإنّ الباري لما خلَق هذا العالَم أرسَل إليه النفس، وصيرها فيه ليكون العالَم حيّاً ذا عقل، لأنّه لم يكن من الواجب إذا كان هذا العالَم متقناً في غاية الاتقان أن يكون غير ذي عقل، ولم يكن ممكناً أن يكون العالَم ذا عقل وليست له نفْس. فلهذه العلّة أرسَل الباري النفسَ إلى هذا العالَم وأسكنَها فيه. ثمَّ أرسل أنفُسنا وأسكنَها في أبداننا، ليكون هذا العالَم تامّاً كامِلاً، ولئلاّ يكون دون ذلك العالَم في التمام والكمال. فينبغي أن يكون في العالَم الحسّي من أجناس الحيوان ما في العالَم العقلي.
ثمَّ قال: إنّ هذا العالَم مركّب من هيولى وصورة، وإنّما صوّر الهيولى طبيعة هي أشرف من الصوَر، وهي النفس العقليّة، وإنما صارت النفْس تصوّر في الهيولى بما فيها من قوة العقل الشريف، وإنّما صار العقل مقوّياً للنفس على تصوير الهيولى من قِبَل الانيّة الأولى، التي هي علّة الانيّات العقليّة، والنفسانيّة، والهيولانيّة، وسائر الأشياء الطبيعية، وإنما صارت الأشياء الطبيعيّة حسَنة بهيّة من أجْل الفاعل الأوّل، غير أن ذلك الفعل إنّما هو بتوسّط العقل والنفس.
ثم قال: إنّ الانيّة الأولى الحقّ هو الخير المحض، وهو الذي يفيض على العقل الحياة أوّلاً، ثمّ على النفس، ثمّ على الأشياء الطبيعيّة.
ومنها ما قاله أرسطاطاليس وهو المحمود اسمه ونعته في شريعتنا، حتّى أنّه نُقل عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال في حقِّه:
"هو نبيٌّ من الأنبياء جهله قومُه" . وقال لعليّ (عليه السلام): "يا أرسطاطاليس هذه الأمَّة" . وفي رواية أُخرى: "يا علي أنتَ أرسطاطاليس هذه الأمّة وذو قرنَيها" . وبرواية: "أنا ذو قرنَيها". وقد رُوي أنَّه ذُكر في مجلس النبي (صلى الله عليه وآله) أرسطاطاليس، فقال (صلى الله عليه وآله): "لو عاشَ حتّى عَرف ما جئتُ به لاتّبعني على ديني" فلقد تكلّم في باب النفس الكلّية وهبوطها كلاماً يُشبه الرمز، وهو هذا:
"إنّي رُبما خلوتُ بنفسي، وخلعتُ بدني جانباً، وصرتُ كأنّي جوهرٌ مجردٌ بلا بدني، فأكون داخلاً في ذاتي راجعاً إليها خارجاً من سائر الأشياء فأكون العلم والعالم والمعلوم جميعاً فأرى في ذاتي من الحُسن والبهاء ما أبقى له متعجّباً بهِتاً.
فلما أيقنت بذلك رقيت بذهني من ذلك العالَم إلى عالَم العليَّة الإلهيّة، فصِرتُ كأنّي موضوعٌ فيها، متعلّق بها، فأكون فوقَ العالَم العقلي كلّه، فأرى كأني واقفٌ في ذلك الموقف الشريف الإلهي، فأرى هناك من النور والبهاء ما لا يقدر الألسن على صفته، ولا تعيه الأسماع، فإذا استغرقَني ذلك النور والبهاء ولم أقوَ على احتماله هبطت من العقل إلى الفكر والرويّة، فحجبَت الفكرةُ عني ذلك النور، فأبقى متعجباً أنّي كيف انحدرتُ من ذلك الموضعِ الشامخِ الإلهي... الذي هو علّة كلّ نور وبهاء.
ومن العجَب أنّي رأيت ذاتي ممتلئةً نوراً، وهي في البدن كهيئتها وهي غير خارجة منه غير أنّي أطَلتُ الفكرة وأجَلتُ الرأيَ فصِرتُ كالمبهوت، وتذكّرتُ عند ذلك أرقليطوس، فإنّه أمر بالطلب والبحث عن جوهر النفس، والحرص على الصعود إلى ذلك العالَم الشريف الأعلى وقال: إنّ مَن حرصَ على ذلك وارتقى إلى العالَم الأعلى جُوزي هناك أحسنَ الجزاء اضطراراً، فلا ينبغي لأحد أن يفترَ عن الطلب، والحِرص في الارتفاع إلى ذلك العالَم وإن تَعب ونصَب، فإنّ أمامَه الراحةُ التي لا تعَبَ بعدها ولا نصَب. وإنّما أراد بقوله هذا تحريصاً على طلَب الأشياء العقليّة لتجدَها كما وجَدَ، وتُدركَها كما أدرك".
ولأرسطاطاليس في كتاب المعروف باثولوجيا - معناه معرفة الربوبيّة - تصريحاتٌ وإشارات على أنّ صورة الإنسان قبل هذه النشأة الحسيّة كانت في العالَم العقلي موجودةً على وجه أعلى وأشرف من هذا الوجود الماديّ الظلمانيّ.
فقال في موضع منه: "إن الإنسان الحسيّ صنمٌ للإنسان العقلي، والإنسان العقليّ روحانيّ، وجميع أعضائه روحانيّةٌ، ليس موضع العَين غير موضع اليدِ، ولا مواضع الأعضاء كلّها مختلفة، لكنّها كلّها في موضع واحد".
وقال في موضع آخر منه: "إنّ في الإنسان الجسمانيّ، الإنسان النفساني، والإنسان العقلي، ولست أعني أنّه "هو هما" لكني "أعني أنّه يتّصل بهما لأنه صنم لهما، وذلك لأنّه يفعل بعض أفاعيل الإنسان العقلي وبعض أفاعيل الإنسان النفساني ففي الإنسان كلمات الإنسان العقلي وكلمات الإنسان النفسي، فقد جمَع الإنسان الجسماني كِلتَي الكلمتين، إلا أنّهما فيه قليلة، ضعيفة، نزِرة، لأنّه صنَمٌ للصنَم.
فقد بانَ أنَّ الإنسان الأوّل حسّاس إلا أنّه بنوع أعلى وأشرف من الحسّ الكائن في الإنسان السِّفلي، وهو إنّما ينال الحسَّ من الإنسان الكائن في العالَم الأعلى العقلي كما بيّناه" انتهى كلامه.
وكلامه في النشآت الثلاث للإنسان يطابِق القرآن كما وقعت الاشارة إليه، فإنّ الإنسان العقلي هو الإنسان التامّ الكامل، الذي كانت الملائكة كلّهم مأمورين بسجوده وطاعته، والإنسان النفْسي هو الذي كان في الجنّة قبل هبوطِه إلى هذا العالَم، لأنّ الجنّة من مسارح النفس ومراتعها، وفيها ما تشتهي الأنفُس وتلذّ الأعين، والإنسان السِّفلي هو المخلوط من التراب، المعرَّض للموت والفساد، والشرّ، والعداوة، والخصومة كما في قوله: { ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ }.
فصل
قوله تعالى: { فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَانُ عَنْهَا }
الزَلّة، والخَطيئَة، والمَعصِية، والسَيّئة بمعنى واحد بحسب العُرف. وضدّ الخَطيئة: الاصابَة. يقال: "زَلَّت قدمُه زَلاًّ" و "زَلَّ في مَقالَتِه زَلَّةً" والمزِلَّة: المكان الدَّحض. والأصل في ذلك الزوال. فالزَلّة زوالٌ عن الحق وتحوّل عنه.
قال صاحب الكشاف: "معناه: فأصدر الشيطان زلّتهما عنها ولفظة "عَنْ" في هذه الآية كهي في قوله:
{ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } [الكهف:82].
ومن قرأ: "أزالَهما" فهو من الزوال عن المكان.
وقال بعض العلماءِ: أزلّهما الشيطانُ، أي: استزلّهما. وهو من قولك: "زَلَّ في دينه، أو دنياه" نسب الازلال إلى الشيطان لما وقع بدعائه ووسوسته وإغوائه عنها أي: عن الجنة وما كانا فيه من عظيم الرتبة والمنزلة.
والشيطان المراد به إبليس. فأخرجهما ممّا كانا فيه من النِّعمة والدّعة.
ويحتمل أن يكون المراد أخرجهما من الجنّة حتّى أُهبطا. أو من الطاعة إلى المعصية. وأضاف الاخراج إليه لأنّه كان السبب فيه. كما يقال: "صرَفني فلانٌ عن هذا الأمر".
واختُلف في كيفيّة وصول إبليس إلى آدمَ وحواء حتّى وسوَس إليهما وإبليس كان قد أُخرج من الجنّة حين أبى السجود، وهما في الجنّة.
فقيل: إنّ آدم كان يَخرج إلى باب الجنّة، وإبليس لم يكن ممنوعاً من الدنوّ منه. فكان يكلّمه. عن أبي علي الجبائي.
وقيل: كان إبليس يدنو من السماء فيكلمهما.
وقيل: قام عند الباب فنادى.
ورُوي أنَّه "أراد الدخول فمنعَته الخزَنة، فدخل في فَم الحيَّة حتّى دخلت وهم لا يَشعرون". وهذا يُشبه قول القصّاص. ويحتمل أن يكون الحيّة إشارة إلى بعض قُوى النفس الإنسانيّة التي بوسيلتها يوقِع الشيطانُ الوسوسةَ في قلب الإنسانية، فكأنّه دخل بوسيلتها في روضة قلْبه.
وروي أيضاً ما يقرب من هذا، وهو أنَّ إبليس دخل الجنّة في صورة دابّة.
واختلفوا أيضاً في أنَّ إبليس هل باشَر خطابَهما، أو يقال: إنّه أوصل الوسوسةَ إليهما على لسان بعض أتباعه. وقوله تعالى:
{ وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّاصِحِينَ } [الأعراف:21].
وكذا قوله:
{ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ } [الأعراف:22]. يقتضي المشافهة.
ودليل الثاني: إن آدم وحوّاء كانا يعرفانه، ويعرفان ما عنده من العداوة والحسد، فبعيدٌ في العادة أن يقبلا قولَه، وأن يلتفتا إليه، فينبغي أن يكون وسوسته بالواسطة.
فصل
قوله: { ٱهْبِطُواْ }
خطابٌ للجمع. وفيه وجوه:
أحدها: أنَّه خاطَب آدمَ وحواءَ وإبليسَ، وهو اختيار الزَّجّاج، وبه قال جمع من المفسّرين، وهذا غير منكَر وإن كان إبليس قد أُخرج قبل ذلك بدلالة قوله:
{ فَٱخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } [ص:77]. فجمع الخبر للنبي (صلى الله عليه وآله) لأنّهم قد اجتمعوا في الهبوط وإن كانت أوقاتهم متفرّقة، كما يقال: "أُخرِج جميعُ مَن في الحبس" وإن أُخرجوا متفرقين.
والثاني: إنّه أراد آدمَ وحواءَ والحيّةَ وفيه بُعدٌ.
والثالث: إنّه أراد آدمَ وحواءَ وذريّتهما. لأن الوالدين يدلاّن على ذريّتهما وتتعلّق بهما.
والرابع: - وهو الأولى - أن يكون الخطاب يختص بآدمَ وحواء، والمراد هما وذريّتهما، لأنّهما كانا أصلَي الإنس ومتشعبهم، جُعلا كأنهما الإنس كلّهم. والدليل عليه قوله:
{ { قَالَ ٱهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } [طه:123]. وهو من قبيل قوله: { { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة:38].
والخامس: إنّ المراد هو آدمُ وحواء فقط، وخاطَب الاثنين على الجمع كما هو عادة العرب، وعليه قاعدة علم الميزان، وذلك لأن الاثنين أوّل الجمع. قال تعالى:
{ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ ٱلْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } [الأنبياء:78]. أراد حكم داوود وسليمان (عليهما السلام). وقد تأوّل قوله تعالى: { { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } [النساء:11]. على معنى فإن كان له أخوان.
والسادس: آدمُ وحوّاء والوسوسة - عن الحسَن - وهذا ضعيف.
سرّ هبوط آدم
واعلم أنَّ إخراج آدم وحوّاء من الجنّة وإهباطهما إلى الأرض لم يكن على وجه العقوبة، لأن الدليل قد دلّ على أنّ الأنبياء لا يجوز عليهم ما يوجبُ الذمّ والعقاب لهم عليه. ومن أجاز العقاب للأنبياء (عليهم السلام) فقد أساء عليهم الأدب، وأعظَمَ الفِرية على الله، وذلك لأنّ مقامَهم بحسب الباطن عالَم القدس العقلي، ومحلّ العصمة عن الشرور، والطهارة عن الخبائث الطبيعيّة، والأرجاس البدنيّة.
وإنّما أخرج الله آدم من الجنّة لأنّ المصلحة قد اقتضت تناوله من الشجرة، والحكمةُ الإلهيّة قد قدَّرت إهباطَه إلى الأرض، وابتلاءه بالتكليف والمشقّة تكميلاً للسعادات، واخراجاً للذريّات من ظَهْره، وبثّاً للخيرات، وانفتاحاً لأبواب البركات، فإنّ الرحمةَ الإلهيّة لمّا لم يجز وقوفها عند حدّ، يبقى وراءها الإمكان الغير المتناهي. لأن قوّته غير متناهية، وَجُوده غير محصور عند حلّ ليكون الفائض من رحمة وُجُوده قدرٌ متناه.
ثمّ أشرفُ الحوادث البدنيّة هي الأرواح الإنسيّة، المتعلّقة بالقوالب البشريّة، ولا يمكن خروجُ جميع النفوس الناطقة من القوّة إلى الفعل دفعةً واحدة على سُنّة الابداع، لا مع الأبدان.
فلا بدّ من تكثير هذا النوع الإنساني الذي تعلّقت العنايةُ الأوّلية بتدبير أفرادها، وتكثير أفرادها من التوالد والتناسل قرناً بعد قرن إلى يوم القيامة، ففي كلّ مدة يفيض من عالَم القدس الإلهي نفوساً إنسانيّة، يرجع ما كمُل منها بالعلم والتقوى إلى الوطن الأصلي، والمكان العالي، وما لم يكمل يمكث في بعض البرازخ السِّفليّة أزماناً طويلة، أو قصيرة، وأحقاباً كثيرة، وقليلة بحسب كثرة العوائق والأوزار وقلّتها، وإذا كان الاعتقاد فاسداً، والجهل راسخاً، كان العقاب أبديّاً والخلاص مستحيلاً.
فصل
في بيان عصمة الأنبياء عليهم السلام وما ذكر فيها على طريقة المتكلّم
لا شبهة في أنّ النبي لا بدّ في إثبات نبوّته ورسالته من معجزة، تقتضي صدق دعواه للنبوّة، وما يتعلّق بها من التبليغ وشرعيّة الأحكام، فما يتَوهّم صدوره عن الأنبياء من القبائح إمّا أن يكون منافياً لما تقتضيه المعجزة كالكذب فيما يتعلّق بالتبليغ أولا. والثاني: إمّا أن يكون كفْراً، أو معصية غيره. والثاني: إمّا أن يكون كبيرة كالقتل والزنا، أو صغيرة. والثانية: إمّا أن تكون منفّرة كسرقة لقمة، أو التطفيف بحبّة. أو غير منفّرة ككذبة، أو همّة بمعصية. كلّ ذلك إمّا عمداً أو سهواً. بعد البعثة، أو قبلها.
والجمهور من الإسلاميّين اتّفقوا على وجوب عصمتهم عمّا ينافي مقتضى المعجزة وما يتعلّق بالتبليغ - وإلاّ لارتفع الوثوق بالأداء - واتّفقوا على أنّ ذلك كما لا يجوز عمداً، لا يجوز سهواً. وقد جوّزه القاضي سهواً زعماً منه أنّه لا يدخل في التصديق بالمعجزة.
واتّفقوا أيضاً على وجوب عصمتهم عن الكفر، وقد جوّزه الأزارقة من الخوارج، بناءً على تجويزهم الذنب، مع قولهم بأنّ كلّ ذنب كفر. وجوّز بعض فرق الشيعة إظهاره تقيّةً واحترازاً عن إلقاء النفس في المهلكة. ورُدّ بأنّ أولى الأوقات بالتقيّة ابتداء الدعوة، لضعف الداعي وشوكة المخالف.
وكذا عن تعمّد الكبائر بعد البعثة، فعند الأشاعرة سمعاً، وعند غيرهم عقلاً وجوّزه الحشويّة إمّا لعدم دليل الامتناع لهم، وإمّا لِما سيجيء من شُبَه الوقوع.
وكذا عن الصغائر المنفِّرة لإخلالها بالدعوة إلى الاتّباع.
وكذا ذهب كثيرٌ من المعتزلة إلى نفي الكبائر قبل البعثة أيضاً.
وذهب الإماميّة إلى نفي الصغائر قبل البعثة وبعدها، مطلقاً، لا عمداً، ولا سهواً، وذهب الأشاعرة إلى نفي الكبائر بعد البعثة مطلقاً، والصغائر - عمداً لا سهواً - لكن لا يصرّون ولا يقرّون، بل ينهون وينتهون.
وذهب إمام الحرَمين منهم، وأبو هاشم من المعتزلة إلى تجويز الصغائر عمداً.
لنا: لو صدر عنهم الذنبُ لزم أمورٌ كلّها فاسدةٌ بالدلائل العقليّة والسمعيّة:
أحدُها: حُرمة اتّباعهم. لكن النبيّ واجب الاتّباع بالاجماع وبقوله تعالى:
{ { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ } [آل عمران:31].
الثاني: ردّ شهادتهم. لقوله تعالى:
{ { إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ } [الحجرات:6].
الآية لكن التالي منتفٍ للقطع بأنّ من يُردّ شهادتهُ في القليل من متاع الدنيا، لا يستحقّ القبول في أمر الدين القائم إلى يوم الدين.
الثالث: وجوب منعهم وزجرهم، لعموم أدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر. لكنّه منتفٍ لاستلزامه إيذاءَهم، وهو محرّم بالاجماع، وبقوله تعالى:
{ { ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } [الأحزاب:57]. الآية.
الرابع: استحقاقهم العذاب، والطعن، واللعن، واللَّوم، والذم، لدخولهم تحت قوله:
{ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } [الجن:23]. وقوله: { أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ } [هود:18]. وقوله: { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [الصف:2]. وقوله: { { أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } [البقرة:44]. لكن كلّ ذلك منتفٍ عنهم بالاجماع. لكون وقوعها من أعظم المنفّرات.
الخامس: عدم نيلهم عهد النبوّة لقوله تعالى:
{ { لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } [البقرة:124]. فإنّ المراد به النبوّة، أو الإمامة.
السادس: كونهم غير مخلصين، لأنّ المذنب قد أغواه الشيطان، والمخلص ليس كذلك، لقوله تعالى حكاية عن إبليس:
{ { وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [الحجر:39 -40]. لكنّ اللازم منتفٍ بالاجماع، وبقوله تعالى في إبراهيم وإسحق ويعقوب: { { إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى ٱلدَّارِ } [ص:46]. وفي يوسف: { { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ } [يوسف:24].
السابع: كونهم حزب الشيطان ومتّبعيه، واللاَّزم قطعيّ البطلان. وذلك لأنّه تعالى قسَّم الخَلق صنفين فقال في أحدهما:
{ { أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ } [المجادلة:19]. وقال في الآخر: { أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ ٱللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [المجادلة:22] ولا خفاء في أنّ حزب الشيطان مَن يفعل ما يرتضيه وهو المعصية.
الثامن: عدم كونهم مسارعين في الخيرات، معدودين عند الله من المُصطَفين الأخيار، إذ لا خير في الذنب لكن اللازم منتف لقوله تعالى في حقّ بعضهم:
{ { يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ } [الأنبياء:90] { وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ ٱلْمُصْطَفَيْنَ ٱلأَخْيَارِ } [ص:47]. ولفظ "الخيرات" للعموم، فيتناول الكلّ، والثاني أيضاً يتناول جميع الأفعال والتروك، بدليل جواز الاستثناء فيقال: "فلانٌ من المصطفين الأخيار، إلاّ في فعْلِه الفلاني" والاستثناء يُخرج من الكلام ما لولاه لدخل تحتَه. فثبتَ أنَّهم أخيارٌ في كلّ الأمور، وذلك ينافي الذنب عنهم.
وقال تعالى:
{ { ٱللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ ٱلنَّاسِ } [الحج:75]. وقال: { إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } [آل عمران:33]. وقال في إبراهيم (عليه السلام): { وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَاهُ فِي ٱلدُّنْيَا } [البقرة:130]. وفي موسى: { إِنِّي ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي } [الأعراف:144]. وقال تعالى: { وَٱذْكُرْ عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي ٱلأَيْدِي وَٱلأَبْصَارِ إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى ٱلدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ ٱلْمُصْطَفَيْنَ ٱلأَخْيَارِ } [ص:45 - 47]. فكلّ هذه الآيات دالّة على كونهم موصوفين بالاصطفاء والخيريّة، وذلك ينافي صدورَ الذنب عنهم.
التاسع: إن النبيّ أفضل من الملَك - كما مر - والملائكةُ، معصومون عن المعصية، لقوله تعالى:
{ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ } [التحريم:6]. وإذا كان الملَك معصوماً وجب أن يكون المساوي له في الفضيلة معصوماً - فضلاً عن الأفضيل - وذلك لقوله: { { أَمْ نَجْعَلُ ٱلْمُتَّقِينَ كَٱلْفُجَّارِ } [ص:28].
والعاشر: قوله تعالى في حقّ إبراهيم:
{ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } [البقرة:124]. والإمام مَن يؤتَمّ به، ولو صدَر عنهم الذنبُ لوجَب الائتمام بهم في ذلك الذنب، وذلك تناقضٌ.
وللمخالف في كل ما ذكرناه محلُّ بحثٍ وهو أنَّ وجوب الاتّباع والإئتمام إنّما هو متعلّق بالشريعة وتبليغ الأحكام، وبالجملة فيما ليس بذلة ولا طبْع. وردّ الشهادة إنّما يكون بكبيرة أو إصرار على صغيرة من غير إنابة ورجوع. ولزوم الزجر والمنع، واستحقاق العذاب، واللوم إنّما هو على تقدير التعمُّد وعدم الإنابة، ومع ذلك فلا يتأذّى به النبي، وبمجرد كبيرة سهواً، أو صغيرة - ولو عمداً - لا يعدّ المؤمن من الظالمين على الاطلاق، ولا مِن الذين أغواهُم الشيطان، ولا مِن حزب الشيطان، سيّما مع الانابة، وعلى تقدير كون الخيرات لعموم كل فعْل، وترك مسارعة البعض إليها لا ينافي صدورَ ذنب عن آخر سيّما سهواً ومع التوبة.
وبالجملة فدلالة الوجوه على نفي الكبيرة سهواً، والصغيرة الغير المنفّرة عمّداً - على ما هو المتنازَع فيه - محلّ نظر.
واحتجّ المخالِف بما نُقل من أقاصيص الأنبياء، وما شهِد به ظاهرُ كتاب الله من نسبة المعصية والذنب إليهم، ومن توبتهم واستغفارهم وأمثال ذلك.
والجواب عنه - أمّا إجمالاً - فهو أنَّ ما نُقل آحاداً فمردود، وما نُقل متواتراً، أو منصوصاً في الكتاب، فمحمولٌ إمّا على ترْك الأولى - كما عندنا - أو على السهو والنسيان - كما عند من جوّزهما عليهم - أو كونه قبل البعثة - كما عند من جوّز المعصية عليهم قبل البعثة - أو غير ذلك من المحامل والتأويلات.
وأمّا تفصيلاً فهو مذكورٌ في التفاسير، وفي الكتب المصنّفة، وسيأتي ذكرها في تفسير تلك الآيات على الاستقصاء، ونشير إلى معاقدها هاهنا.
أمّا ما ورَد في قصة آدم فأمران:
أحدهما: ما ورَد في التنزيل من أنَّه عَصى وخالَفَ النهيَ عن أكل الشجرة، واعترف على نفسه وعوتِب قولاً وفِعلاً أمّا قولاً: فبقوله تعالى:
{ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا ٱلشَّجَرَةِ } [الأعراف:22]. وأمّا فِعلاً فبِنزْع اللِّباس والإخراج من الجنّة ثمّ تابَ الله عليه واجتباه وبالجملة ففي قصّته سبع دلالات على عدم عصمته:
الأوّل: كونه عاصياً، لقوله: { وَعَصَىٰ }.
والثاني: ألغَيّ لقوله تعالى: { فَغَوَىٰ }. وهو ضدّ الرشد.
والثالث: التوبة. لقوله تعالى:
{ { فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ } [البقرة:37]. وهي لا تكون إلاّ من الذنب.
الرابع: ارتكابه المنهيّ في قوله:
{ { أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا ٱلشَّجَرَةِ } [الأعراف:22].
الخامس: سمّاه ظالماً في قوله:
{ فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّالِمِينَ } [البقرة:35]. وهو سمّى نفسَه ظالماً في قوله: { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } [الأعراف:23]. والظالمُ ملعون لقوله تعالى: { { أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ } [هود:18]. ومَن استحق اللعن لولا التوبة كان صاحب كبيرة.
السادس: كونه خاسراً لولا مغفرة الله، لقوله:
{ { وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [الأعراف:23]. وذلك يقتضي كونه ذا كبيرة.
السابع: إنّه أُخرج من الجنّة جزاء على ما أقدم عليه من طاعة الشيطان.
ولكلّ من هذه الوجوه جوابٌ تفصيليٌّ سيأتي. والجواب إجمالا من وجوه:
أحدها: وهو المختار - إنّ النهي، للتنزيه، وإنّما سُمّي ظالماً وخاسِراً، لأنّه ظلَم نفسه، وخسر حظه بترك ما هو الأولى له. وأمّا إسناد الغيّ والعصيان إليه فسيأتي. وإنّما أمرَ بالتوبة تلافياً لما فات عنه، وجرى عليه ما جرى معاتبةً له على ترك الأولى، لأنّ مثله عن مثلهم عظيمٌ "حسَناتُ الأبرارِ سَيِّئاتُ المُقرَّبين" ووفاءً بما قاله للملائكة قبل خَلقه.
وثانيها: إنّه فعلَه عن نسيان، لقوله تعالى:
{ { فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [طه:115]. ولكنه عوتِب بترك التحفّظ عن أسباب النسيان، وترك اليقظة، والتنبّه لإصابة المراد، ولعلّ النسيان - وإن حطّ عن الأمّة - لم يحط عن الأنبياء لعِظَم قدْرهم، كما قال: "أشدّ الناس بلاء الأنبياء، ثمّ الأولياء، ثمّ الأمثَل فالأمثل".
وثالثها: إنّه أدّى فعلُه إلى ما جَرى عليه على طريقة السببيّة المقدّرة دون المؤاخذة، كتناول السمّ على الجاهل بشأنه، وفيه مصلحة باقية.
لا يقال: إنّه باطلٌ، لقوله تعالى:
{ { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا } [الأعراف:20]. { { وَقَاسَمَهُمَآ } [الأعراف:21]. الآيتين لأنّه ليس فيهما ما يدلّ على أنّ تناولَه حينما قاله إبليس، فلعل مقاله أورث فيه ميلاً طبيعياً، ثمّ إنّه كفّ نفسه عنه مراعاة لحكم الله، إلى أن نَسي ذلك وزالَ المانع، فحمَله الطبع عليه بتقدير الله.
ورابعها: قيل إنّه أقدم عليه بسبب اجتهاد أخطأ فيه، فإنّه ظنّ أنَّ النهي للتنزيه، أو الإشارة إلى عين تلك الشجرة، وتناولَ من غيرها من نوعها، وكان المراد بها الإشارة إلى النوع كما رُوي أنّه (صلى الله عليه وآله) أخذ حريراً وذهباً بيده وقال:
"هذان محرّمان على ذكور أُمّتي، حِلٌّ لإناثها" وإنّما جرى عليه ما جرى تفظيعاً لشأن الخطيئة ليجتنبها أولاده.
وثانيهما: قوله تعالى:
{ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَماَّ تَغَشَّاهَا } [الأعراف:189]. إلى قوله: { { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا } [الأعراف:190]. قالوا: هذه الكنايات كلّها عائدةٌ إليهما، فيقتضي صدورَ الشرك عنهما.
والجواب: أنّه لم يقل أحدٌ في حقّ الأنبياء (عليهم السلام) الشرك في الألوهيّة مطلقاً، فالوجْه أن يقال: لا نُسلّم أنّ النفس الواحدة هي آدم، وليس في الآية ما يدلّ عليه. بل قيل: الخطاب لقريش، وهم "آل قُصيّ". والنفس الواحدة "قُصيّ". ومعنى
{ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [الأعراف:189] جعلها من جنسها زوجة عربيّة قرشيّة. واشراكهما فيما آتاهما الله تسمية أولادهما بعبد مناف، وعبد العزّى، وعبد الدار، وعبد قصيّ.
أو يقال: إنه على حذف المضاف، أي جعل أولادَهما شركاء له. بدليل قوله:
{ فَتَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الأعراف:190].
أو المراد، ما وقَع له من الميل إلى طاعة الشيطان ووسوسته ميلاً نفسانياً.
وأمّا الشبهة في حقّ نوح (عليه السلام) هو قوله تعالى:
{ { يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } [هود:46]. تكذيباً له في قوله: { { إِنَّ ٱبُنِي مِنْ أَهْلِي } [هود:45].
والجواب: إنّه ليس للتكذيب، بل للتنبيه على أنّ المراد بالأهل في الوعد هو الأهل الصالح. أو المعنى: إنّه ليس من أهل دينك بحسب القرابة المعنوية، وإن أضفته إلى نفسك بحسب البنوّة الصوريّة.
وقيل: إنّه كان ابن امرأته، فالمعنى: إنّه أجنبيّ منك، وكنت سمّيته بابنك لاختلاطه بأبنائك، والأجنبيّ إنّما يعدّ من آل النبي إذا كان له عملٌ صالح وهو عملٌ غير صالح.
وأمّا الشبهة في حق إبراهيم - صلوات الله عليه - فهو إنَّه كذب في قوله
{ هَـٰذَا رَبِّي } [الأنعام:76]. { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ } [الأنبياء:63]. و { إِنِّي سَقِيمٌ } [الصافات:89].
والجواب:
إنّ الأول: على سبيل الفرض والتقدير، كما يوضع الحكم الذي يراد ابطاله، أو على الاستفهام، أو على أنّه كان في مقام النظر والاستدلال.
والثاني: على سبيل التعريض والاستهزاء.
والثالث: على أنّ به مرض الهمّ والحزن من عنادهم أو الحمّى - على ما قيل - .
وأمّا الشبهة في حقّ يوسف فمن جهة يعقوب الإفراط، والمحبة، والحزن الشديد، والبكاء.
والجواب: إنّه لا معصية في ميل النفس، سيّما إلى مَن يَلوح منه آثارُ الخير والصلاح، وأنواع الكمال. ولا في بثّ الشكوى والحزن إلى الله في مصائب يكون من جهة العباد، سيّما قد قال: إنّه كان من خَوف أن يموتَ يوسفُ على غير دين الإسلام.
ومن جهة الاخوة ما فَعلوا بيوسف وما قالوا: من الكذب.
والجواب: إنّهم لم يكونوا أنبياء.
ومن جهة يوسف الهمّ المشار إليه بقوله:
{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } [يوسف:24]. وجعْل السقاية في رَحل أخيه، والرضا بسجود إخوته وأبويه.
والجواب: إنّ المراد:
{ { وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [يوسف:24] والبرهان هو ما عنده من الصوارف العقليّة الزاجرة للنفس عن فِعل القبيح. أو المراد من "الهمّ" الميل الشهوي الحيواني الموجود في الطبائع البشرية، ولولا الزاجر الشرعي لَما انتهى عن كلّ ما يمكنه من القبائح، ولولا المعرفة الكاملة للقوّة العقليّة المنوّرة بحقيقة التقوى لوقَع منه فعلُ ما لا ينبغي أحياناً. وليس المراد الهمّ بالمعصية والقصد إليها.
وقيل: هو من باب المشارفة، أي: شارَف أن يهمّ. وبالجملة فلا دلالة هاهنا على العزم والقصد إلى المعصية - فضلاً عمّا يذكره الحشويّة من الحشويّات - ولهذا ورَد في هذا المقام من الثناءِ على يوسف (عليه السلام) ما ورد، من غير أن يبقى عليه زلّة، أو يُذكر له استغفار وتوبة.
وأما جعْل السقاية في رحْل أخيه: فقد كان بإذنه ورضاه - بل بإذن الله - ونسبة السرقة إلى إخوته توريةٌ عمّا كانوا فعَلوا بيوسفَ، وممّا يجري مجرى السرقة. أو هو قول المؤذّن.
والسجدة كانت عندهم تحيّة وتكرمة، كالقيام والمصافحة. أو كانت مجردَ انحناء وتواضع لا وضع الجبهة على الأرض.
وأمّا الشبهة في قصة موسى (عليه السلام) بقتل القبطيّ وتوبته عنه، واعترافه بكونه من عمل الشيطان فمحمولٌ عندنا على أنه لترك ما هو الأولى. وقيل إنه كان خطأ وقبل البعثة.
وإذنه للسَّحرة في إظهار السّحر بقوله:
{ { أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ } [يونس:80]. ليس رضاً به، بل الغرض إظهار بطلانه أو إظهار معجزته، ولا يتمّ إلاّ به. وقيل: لم يكن حراماً.
وإلقاء الألواح كان عن دهشة وتحيُّر لشدّة غضبه.
والأخذ برأس هارون وجرّه إليه لم يكن على سبيل الايذاء، بل يدنيه إلى نفسه ليتفحّص منه حقيقةَ الحال، فخاف هارون أن يحمله بنو إسرائيل على سبيل الايذاء، ويُفضي إلى شماتة الأعداء، فلم يثبت بذلك ذنبٌ له ولا لهارون، فإنّه كان ينهاهم عن عبادة العجل.
وقوله للخِضر:
{ { لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً } [الكهف:74]. أي: عجباً. وما فعله الخضْر كان بإذن الله تعالى، فلم يثبت لهما ذنبٌ أصلاً.
وأمّا الشبهة في قصة داود (عليه السلام) فلم يثبت سوى أنه خطَب امرأة كان قد خطَبها أوريا، فزوّجها أولياؤها داود - دون أوريا - أو سأل أن ينزل عنها فيطلّقها، وكان ذلك عادةً في عهده، فكان زلّة منه لاستغنائه بتسعة وتسعين.
والخصمان كانا ملَكين أرسلَهما الله إليه لينبّهاه، فلما تنبَّه استغفر ربَّه وخرَّ راكعاً. وسياق الآيات يدل على كرامته عند الله، ونزاهته عما ينسب إليه الحشويّة، إلاّ أنّه بالَغ في التضرّع، والتحزّن، والبكاء، والاستغفار استعظاماً للزلّة بالنظر إلى ما لَه من رفيع المنزلة.
وتقرير الملَكين تمثيلٌ وتصويرٌ للقضيّة، لا إخبار بمضمون الكلام ليلزمَ الكذب ويحتاجَ إلى ما قيل: "إن المتخاصمين كانا لُصَّين دخَلا عليه للسرقة، فلما رآهما اخترَعا الدعوى. أو كانا راعيي غنمٍ ظلَم أحدُهما الآخر، والكلام على حقيقته".
وأمّا الشبهة في قصّة سليمان على نبيّنا وعليه السلام فأمور:
أحدها: ما يشير إليه بقوله تعالى:
{ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِٱلْعَشِيِّ ٱلصَّافِنَاتُ ٱلْجِيَادُ } [ص:31]. إلى آخره وذلك أنَّه اشتغل باستعراض الأفراس حتى غربت الشمس، وغفل عن العصر - أو وِرْدٌ كان له وقت العشي - فاغتمّ لذلك واستردّ الأفراس فعقَرها.
والجواب: إنّ ذلك كان لأجل الاستغراق في الالتفات إلى أسباب الدنيا، أو كان على سبيل النسيان - كما قيل - وعقْر الجياد، وضرْب أعناقها، كان لإظهار الندم، وقصد التقرّب إلى الله، والتصدّق على الفقراء من أحبّ ما له.
على أنّ من المفسِّرين مَن قال: المراد حبّه للجهاد وإعلاء كلمة الله، وضمير { تَوَارَتْ } للجياد لا للشمس. وإنّما طفِق مسحاً بالسوق والأعناق تشريفاً لها وامتحاناً، وإظهاراً لاصلاح آلة الجهاد.
وثانيها: ما أشير إليه بقوله:
{ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ } [ص:34]. الآية فإن كان ذلك ما روي "أنّه وُلد له ابنٌ، وكانَ يغذوه في السحابةِ خوفاً من أن تقتله الشياطين أو تخبِّله، فما راعه أن ألقي على كرسيّه ميتاً فتنبّه لخطئه في ترك التوكّل، فاستغفر وتاب" فهذا ممّا لا بأس به، وغايته ترك الأولى، إذ ليس في التحفظ ومباشرة الأسباب ترك الامتثال لأمر التوكّل، على ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إعقلها وتوكّل" .
وكذا ما روي أنَّه قال: "لأطوفنّ الليلةَ على سبعين امرأة كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله" ولم يقل: "إن شاء الله" فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق ولد له عين واحدة، ويدٌ واحدة، ورِجلٌ واحدة، فألقته القابلةُ على كرسيّه.
وأما ما روي من حيث الخاتم، والشيطانِ، وعبادةِ الوثن في بيته، وجلوس الشيطان على كرسيّه فعلى تقدير صحّته يجوز أن يكون اتّخاذ التماثيل غير محرّم في شريعته، وعبادة التمثال في بيته غير معلوم الوقوع.
وثالثها: ما يشعر به قوله تعالى:
{ وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ } [ص:35] من الحسد، وعدم إرادة الخير للغير.
والجواب: إنّ ذلك لم يكن حسداً، بل طلباً للمعجزة على وفْق ما غلب في زمانه ولاقَ بحاله، فإنّهم كانوا يفتخرون بالملك والجاه، وهو كان ماشياً في بيت المُلك والنبوّة ووارثاً لهما، أو إظهاراً لإمكان طاعة الله وعبادته مع هذا المُلك العظيم.
وقيل: أراد مُلكاً لا يورَث منه، وهو مُلك الدين - لا الدنيا - أو مُلكاً لا أُسلَبه ولا يقوم فيه غيري مقامي، كما وقع ذلك مرّة. وقيل: مُلكاً خفيّاً لا ينبغي للناس وهي القناعة. وقيل: كان مُلكاً عظيماً، فخاف أن لا يقوم غيرُه بشكره، ولا يحافظ فيه على حدود الله.
وأمّا الشبهة في قصة يونس (عليه السلام) بما يشعر به قوله تعالى:
{ وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } [الأنبياء: 87]. رزقه فلا يوجب شكّاً في قدرته لأنّ المراد: ذهب مُغاضباً لقومه، فظنَّ أي: استيقن أن لَّن نَقدِرَ عَلَيْهِ أن لن نضيق رزقَه. ومنه قوله تعالى: { فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ } [الفجر:16]. أي ضيق وقتَّر.
ومعنى الظلم في قوله: { إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } ترك الأفضل. وهو مثل هذه العبارة التي فرغ لها في بطن الحوت. هذا هو المرويّ عن الرضا عليّ ابن موسى (عليه السلام) في الجواب عن سؤال المأمون في هذا الموضع.
وأما في حقّ نبيِّنا (صلى الله عليه وآله) فمثل:
{ { وَٱسْتَغْفِـرْ لِذَنبِكَ } [غافر:55]. و { { لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ } [التوبة:117]. و { { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [الفتح:2]. فمحمول على ترك الأفضل.
قال الرضا (عليه السلام) في جواب المأمون عن قوله:
{ { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [الفتح:2]. "إنّه لم يكن أحد عند مشركي مكّة أعظم ذنباً من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لأنّهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمأة وستّين صنماً، فلمّا جاءهم (صلى الله عليه وآله) بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبُر ذلك عليهم وعُظم، وقالوا: { أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَٱنطَلَقَ ٱلْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ ٱمْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِى ٱلْمِلَّةِ ٱلآخِرَةِ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ ٱخْتِلاَقٌ } [ص:5 - 7]. فلمّا فتح الله على نبيّه (صلى الله عليه وآله) مكّة قال: يا محمد { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [الفتح:1 - 2] عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى توحيد الله فيما تقدّم وتأخّر".
فقال المأمون لمّا سمع هذا الجواب بعد الأجوبة عن سائر السؤالات المورَدة على عصمَة الأنبياء (عليهم السلام): "لقد شفَيتَ صدري يا ابن رسول الله وأوضحتَ لي ما كان ملتبساً، فجزاك الله عن أنبيائه وعن دين الإسلام خيراً.
وأمّا قوله:
{ { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ } [الضحى:7] فمعناه فقدان الشرائع والأحكام. وقيل: إنّه ضلَّ في صِباه في بعض شِعاب مكّة، فردّه أبو جهل إلى عبد المطلب. وقيل: ضلّ في طريق الشام حين خرج به أبو طالب - وبالجملة - لا دلالة على العصيان والميل عن طريق الحق. ولذا قال تعالى: { { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ } [النجم:2].
وأمّا قوله:
{ { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ } [الشرح:2]. فهو تمثيل لما كان يثقل عليه مِن حمْل أعباء النبوّة في أوائل البعثة، أو من تهالُكه على إسلام أهل العناد وتلهّفه.
وأمّا قوله تعالى:
{ { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [التوبة:43]. تلطفٌ في الخطاب، وعتابٌ على ترك الأفضل، وإرشاد إلى تدبير الحرب والاحتياط.
وأمّا قوله تعالى:
{ { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ } [الأنفال:67] إلى قوله: { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [الأنفال:68]. عتابٌ على ترك الأفضل، وهو أن لا يرضى باختيار أصحابه الفِداء.
وكذا الكلام في قوله:
{ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } [التحريم:1]. وقوله: { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ } [عبس:1 ـ 2].
وأما ما روي أنَّه قرأ بعد قوله:
{ { أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ } [النجم:19 - 20]. "تلك الغرانيق العُلى. وإنّ شفاعتَها لتُرتجى" فلمّا أخبرَه جبرائيل بما وقع منه حزن وخاف خوفاً شديداً فنزل قوله: { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَانُ فِيۤ أُمْنِيَّتِهِ } [الحج:52]. تسليةً له.
فالجواب: إنّه كان من إلقاءِ الشيطان في خياله لا تعمّداً منه.
وقيل: بل الغرانيق هي الملائكة. وكان هذا قرآناً فنسخ.
وقيل: معنى "تمنّي النبيّ". حديث النفس. وكان يوسوِس إليه الشيطان غير الهُدى، فينسخ الله وساوسَه من نفسه ويهديه إلى الصواب.
وأمّا قوله تعالى:
{ وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } [الأحزاب:37]. عتابٌ على أنّه أخفى في نفسه عزيمةَ تزويج زينب عند تطليق زيد إيّاها، خوفاً من طعْن المنافقين، ولا خفاء في أنَّ إخفاء أمر دنيوي خوفاً من طعن أعداء الدين ليس من الصغائر - فضلاً عن الكبائر - بل غايته له ترك للأولى. وكذا مَيَلان القلب لو ثَبت.
وأمّا مثل قوله:
{ { يۤا أَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ } [الأحزاب:1]. { { وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } [الأنعام:52]. { { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ } [يونس:94] { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر:65] { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ ٱلَّذِينَ يَقْرَءُونَ ٱلْكِتَابَ } [يونس:94].
فجوابه: إنّ الأمر لا يقتضي سابقةَ تركه، ولا النهي سابقة فعله، ولا الشرط وقوع مضمونه.
فظهرَ أنّ جواز الصغيرة على الأنبياء (عليهم السلام) عمداً - فضلاً عن الكبيرة - ممّا لم يثبت بقاطع. وقد دلّت الدلائل على وجوب عصمتهم. وأمّا وقوعها عنهم سهواً أو نسياناً فهو موضع اجتهاد.
فإن قيل: ما بال زلاّت الأنبياء (عليهم السلام) قد حكيت حيث يُقرء بأعلى الصوت على وجه الزمان مع أنّ الله غفّار ستّار أمَر بالستر على من ارتكب ذنباً؟
قلنا: ليدل على صدق الأنبياء (عليهم السلام)، وكون ما يتلقّون بأمْر من الله، من غير إخفاء لشيء، وليكون امتحاناً للأمَم كيف بأنبيائهم بعد الاطّلاع على زلاّتهم. وليعلموا أن الأنبياء (عليهم السلام) مع جلالة أقدارهم، وكثرة طاعاتهم كيف التجأوا إلى التضرّع والاستغفار في أدنى زلّة، وأقلّ تقصير.
فصل
قوله تعالى: { ٱهْبِطُواْ }
اختلفوا في أنّ هذا الأمْر هل هو أمر تعبُّد أو إباحة؟ والأشبه عند قوم أنّه أمْر تكليف، لأنّ فيه مشقّة شديدة، لأنّ مفارقة ما كانا فيه من الجنّة إلى موضع لا يحصل المعيشة فيه إلاّ بالمشقّة والكدّ من أشقّ التكاليف. وإذا ثبت هذا فبطل ما يظنّ أن ذلك كان عقوبة، لأنّ التشديد في التكليف لا يكون إلاّ لأجل الثواب، فكيف يكون عقاباً مع ما يترتّب عليه من النفع العظيم، والثواب الجزيل.
وعند قوم من أهل المعرفة أنّ أمره "إِهْبِطُوا" أمْر تكوين لهما ولذريّتهما، وذلك لأنّ الهبوط إلى الدنيا، أو الأرض من الجنّة، أو السماء ليس واقعاً تحت الاختيار، وكلّ ما ليس للعبد فيه اختيار فلا معنى للتكليف به. وأيضاً قوله: { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } حكم يعمّ الناس كلّهم، معناه ما عليه الناس من التعادي والتباغي وتضليل بعضهم لبعض. والقول بأنّ "الذريّة ما كانوا موجودين في ذلك الوقت فكيف تناولَهم الخطاب؟" ساقطٌ عند العارف بخطاب الله، وبأنّ الأزمنة كلّها في حكم زمان واحد عند الله، وبأنّ السامع لأمر التكوين وقول "كُنْ" يسمع الخطاب بسمْع ذاتي عقلي، قبل هذا السمع الظاهري.
إشارةٌ مشرقيّةٌ
قد مرّ أنّ للإنسان نشآت ثلاث بحسب البداية النزولية، وكذلك بحسب النهاية الصعودية للكمَّل. وله هبوطان وصعودان. وهذه النشأة الدنيوية آخر منازل الهبوط، وأوّل منازل الصعود وهي دار التضادّ والتفاسد، وعالَم التغالُب والتعادي، لِضيق عرصَتها الوجوديّة، وانحصار لذّاتها الكونيّة، وقصور خيراتها من أن يسع للجميع، فلذلك ينبعث فيها حبّ التغالُب المؤدّي إلى العداوة. فقوله: { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } إشارة إلى ما هو من خواصّ هذه النشأة التي هي مهبط آدم وأولاده.
ولهذا احتاج كلّ مَن في هذا العالَم إلى قوّة غضبيّة يذبّ بها عن نفسه الآفة والشرّ، وإلى قوّة شهويّة يجلب بها إلى نفسه النفع والخير، والحكمة في وجود هاتين القوّتين في الحيوان عموماً وفي الإنسان خصوصاً هو ما سبق ذِكره.
وفيه أيضاً إشارة إلى وجوب وجود خليفة من الله في الأرض في حفظ هذا النوع الإنساني، وعدم جواز أن يُترك الناسُ وآراؤُهم، إذ لا بدّ لهم من الشركة في الماء والطين - كما لا يخفى - ولا يتمّ المشاركة إلاّ بالمعاملة، ولا المعاملة - وهي مُثار الخصومات ومنبت العداوات - إلاّ بسنّةٍ وعدل. فإن لم يكن سُنّة سانّ، وعدل معدّل منصوبٍ من قِبل الله، مخصوصٍ بمعجزات وكرامات يدلّ على صدقه حتّى يسمع دعوته، وينقاد حكمه، ويتّبع قوله ورأيه، لأدّت العداوات والخصومات إلى الفساد وسفْك الدماء، والهرج والمرج.
وقيل: يعني بقوله: { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ } آدم وذريّته، وإبليس وذريّته، ولم يكن من آدم إليه ما يوجب عداوته إيّاه، ولكن حسده الملعون وخالَفه، فنشأت بينهما العداوة، ثمّ إنّ عداوة آدم له إيمان وحِكمة، للخلاص من شرّه. وعداوة إبليس كفر وحيلة.
وقال الحسن: بين بني آدم وبني إبليس.
وليس ذلك بأمر بل هو تحذيرٌ، لأنّ الله لا يأمر بالعداوة. فالأمر مختصّ بالهبوط، والعداوة تجري مجرى الحال. لأنّ الظاهر يقتضي أنّه أمَرهما بالهبوط في حالة عداوة بعضهم بعضاً.
فصل
قوله تعالى: { وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ }
المُسْتَقَرُّ: إمّا بمعنى المصدر، كقوله:
{ { إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمُسْتَقَرُّ } [القيامة:12]. أو بمعنى المكان الذي يُستقرّ فيه، كقوله: { أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } [الفرقان:24]. وقوله: { { فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ } [الأنعام:98]. فالأكثر على أنّ المراد هاهنا هو المعنى الثاني، أي أنَّها مستقرّكم حالتي الحياة الدنيا والموت.
وعن ابن عباس، أنّ المستقَرّ هو القَبر، أي يكون قبوركم فيها.
وقيل: الأوّل أولى، لأنّه تعالى قرَن المتاع به وهو لا يليق إلاّ بحال الحياة.
أقول: يحتمل أن يكون المستقرّ للأموات، والمتاع للأحياء، وفيه الإشارة إلى حال السائرين إلى الله، والواقفين في هذا المهبط.
وقوله: { إِلَىٰ حِينٍ } أي: إلى يوم القيامة - إن أُريد الخطاب للجميع - أو إلى ساعة الموت - إن أُريد لكلّ واحد - فإنّ نسبة يوم القيامة - أي الكُبرى - إلى الكلّ كنسبة حالة الموت - وهي القيامة الصُّغرى - إلى واحد واحد.