التفاسير

< >
عرض

يَٰبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّٰيَ فَٱرْهَبُونِ
٤٠
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

لما عمّم الله تعالى جميع الخَلْق بالحجَج الواضحة، الدلالةِ على التوحيد، والنبوّة، والمعاد، وذكَّرهم ما أنعم عليهم في أبيهم آدم (عليه السلام)، ونبَّههم على مكامن خِلقتهم، ومبادئ، نشأتهم عقَّبها بإزالة شُبه المنكرين، وقمْع أوهام المعاندين، باقامة الحجَّة على طائفة مخصوصين، وهم اليهود الذين كانوا بالمدينة، لأنّهم أكثرُ الناس انكاراً للنبوّة، كما أنَّ كفار قريش كانوا أكثر الناس انكاراً للتوحيد. وقيل: الخطاب لليهود والنصارى، وهم جميعاً من أهل الكتاب، المحجوبين عن الدين، بل عن الحقّ مطلقاً، واليقين.
فشرَع أوّلاً في ذكر الانعامات الخاصّة على أسلاف اليهود وآبائهم، تذكيراً لنعمه، وعظيم منَنه عليهم، واستمالة لقلوبهم، وتنبيهاً على ما يدلّ على نبوّة محمّد (صلى الله عليه وآله) من حيث اخباره عن المغيبات، والأحوال الماضية، والأديان السابقة، ثمّ أمرهم بايفاء عهد الله من الاقرار بالربوبيّة، والاعتراف بتمام نعمته في بعثة نبيِّه الخاتَم للرسل، وانزال كتابه الجامع للكلِم، والحاوي للحِكَم، المفصِح المعرِب عن كلّ دقيق وجليل، المصدّق لما بين أيديهم من التوراة والانجيل، ليكافئهم الله بإيفاء عهدهم من حسْن الجزاء وسعادة المسرى، ثمّ حذَّرهم ورهَّبهم عن التعرّض لما يوجِب سخطَه، ويحجب عن رحمته من انكار الحقّ وكتمانه، وتلبيسه بالباطل، أو ترويج الباطل وابرازه في صورة الحقّ لاتّباع الهوى وطلب العادلة وترك الآجلة.
فالكلام من هذه الآية إلى أوائل الجزء الثاني مسوقٌ مع طائفة أهل الكتاب ومتكلّمي اليهود والنصارى، احتجاجاً عليهم وإنذاراً لهم على أبلغ وجه وآكَده. ومن تأمّل في تضاعيف ما ذكر في هذه الآيات من الإشعار بفنون نِعم الله العامّة، والخاصّة لطائفة أهل الكتاب، ثمّ اردافها بالترغيب البالغ بقوله:
{ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } [البقرة:47] مقروناً بالترهيب البالغ بقوله: { { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } [البقرة:48] - إلى آخر الآية - علِم أنَّ هذا هو النهاية في حسن الترتيب لمن يريد الدعوة وتحصيل الاعتقاد في قلب المستمع.
ولنرجع إلى تفسير الألفاظ:
{ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ }: يا أولاد يعقوب. الابْن، والوَلَد، والنَسْل، والذُرِيَّة، متقاربة المعاني، إلاّ أنَّ "الابن" للذكَر، و "الولَد" يقع على الذكَر والأنثى و "النسْل" و "الذريّة" يقعان على جميع ذلك. وأصل "ابْن" من "البنَاء"، وهو وضْعُ الشيء على الشيء، لأنّه يبنى على الأبْ لأنّه الأصل، والابن فرعٌ له منسوب إليه، كما ينسب المصنوع إلى صانعِه. فيقال: "أبو الحَرب" وكأنّ اطلاق الأبْ على العلّة الموجِدة، والإبن على المعلول في بعض ألسِنة القدماء من هذه الجهة، لأنّ العلّة الموجِدة للشيء هي أصل وجوده، ووجودُ المعلول فرعه، فكانوا يسمّون المبادئ بالآباء، يقولون للباري جلّ مجده: "أب الآباء" أعني علّة العلل، لا بالمعنى الذي زاغت النصارى لأجل ذلك وصُلَت أفهامهم من قول المسيح (عليه السلام): "إنّي ذّاهِبٌ إِلى أبي وأبيكم" أي: ربّي وربّكم.
وإسرائيل لقب يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - على نبيّنا وعليهم السلام - وقيل: أصله مضاف، معناه بالعبريّة: صفوة الله. أو: عبد الله. لأنّ "اسر" معناه: عبد و "إيل" هو: الله في لغة العبرانيّين، فصار مثل "عبد الله" مركّباً اضافياً، وكذلك جبرائيل ومكائيل. والقراءة المشهورة "إسرائيل" مهموز، ممدود، مشبع الياء. وقرئ "إسرإل" بحذف الياء. و "إسراييل" بقلب الهمزة ياء. و "إسرال" بحذفها و "إسرائين" بالنون. قال أبو علي: "العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه".
و "الذِّكْر" الحفظ للشيء. وضدّه النسيان. والحقّ أنَّ الذِّكر هو إدراك الشيء المحفوظ أوّلاً، ولا بدّ فيه من قوّتين باطنيّتين: الواهمة، والحافظة، و "الاسترجاع" أخصّ منه، إذ لا بدّ فيه من قوى ثلاث - هما والمتصرّفة - فالذاكرة من الإنسان وكذا المسترجعة ليست قوّة بسيطة، بل قوّة مركّبة من القوّتين أو أزيد، فلا يلزم بسببها اثبات قوّة أُخرى في الإنسان غير الخَمس الباطنيّة.
وربما يطلق "الذِّكر" على جَري لفظ الشيء على لسانك، وهو ليس بذِكْر للشيء حقيقة، كما أنَّ لفظ الشيء ليس وجوده، بل ذكر الشيء عبارة عن احضار معناه في حضرة النفس. قال تعالى:
"أنا جَليسُ مَن ذَكَرني" فلو كان المراد به ذكْر اللسان دون القلب يلزم أن يكون اللهُ جليسَ هذا الجِرم المخصوص.
وأمّا القلبُ الذاكِرُ للحقِّ فليس المراد به هذا العضو العنصري المتخصّص بالوضع والأين. بل الذي أُشير إليه في الحديث الإلهي:
"لا يسَعني أرضي ولا سمائي، ولكن يسَعني قلب عبدي المؤمن الوادع" .
و "الذِّكْر" قد يكون بمعنى ما يتذكر، فيطلق على الكتاب الذي فيه تفصيل الدين { إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [الزخرف:44]. فكل كتاب من كتب الأنبياء (عليهم السلام) ذِكر.
و "الذِّكْر" هو الصلاة والدعاء، وفي الأثر: "كانَت الأنبياءُ إذا حزنَهم أمرٌ فزعوا إلى الذكر" أي: إلى الصلاة.
تقول: "وفيتُ بعهدِك وفاء" و "أوفيتُ" لغة تهامة.
والعَهْد: الأمْر والوصيّة.
والرَهْبة: الخوف. وضدها الرغْبة. وفي المثل: "رَهبُوت خير من رحَموت". أي: لأن تَرهب خير من أن تُرحم.
فصل
قوله تعالى: { ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ }
أراد بذلك النعَم التي أنعَم بها على أسلافهم من تكثير الأنبياء فيهم، والكتب، وانجائهم من فرعون وجنوده، ومن الغرق على أعجب الوجوه، وانزال المنّ والسلوى عليهم، وكون الملِك منهم في زمن سليمان (عليه السلام)، وغير ذلك.
وعدّ النعمة على آبائهم نعمةً عليهم، لأنّ الأولاد يتشرّفون بفضيلة الآباء. وهذا كما يقال في المفاخرة: "قَتلناكُم يومَ الفخار، وهَزمناكم يومَ ذي قار، وغَلبناكم يومَ النسار".
وذكر النعمة بلفظ الواحد، والمراد به النعم الواصلة إليهم مما اختصّوا به أو اشتركوا مع آبائهم، حتّى تناسَلوا فصاروا من أولادهم، ومن ذلك خلْقُه إيّاهم على وجه يمكنهم اكتساب المعرفة بالله، والاستدلال على توحيده، والوصول إلى مكاشفة أسمائه وصفاته وملَكوته وآياته، فيشكروا نعمتَه، ويستحقّوا ثوابَه وجنّته.
واعلم أنَّ "النعمة" يعبَّر بها عن كلّ خير، ومنفعة، ولذّة، سواء كان في الدنيا أو في الآخرة. و "الخير" هو المؤثّر المختار بحسب الواقع.
و "المنفعةُ" ما يكون وسيلة إلى الخير بالذات، فهي تكون خيراً بالعرض، و"اللذّة" قد تُطلق بمعنى الشهوة، وهي التي تكون مختصَّة بادراك الحواسّ، كلذّة البطن، والفرج، والمال، والجاه. وقد تطلق بمعنى ادراك الملائم سواء كان للعقل أو الحسّ. والأوّل تكون خيراً، إلاّ أنَّها يمكن أن تكون منفعة، وذلك إذا كانت على وجه يؤدّي إلى الخير الحقيقي.
وكلّ واحد من هذه المعاني الثلاثة يمكن أن يصدق على بعض أفراد الآخرين، فإنّ الشيء يمكن أن يكون خيراً، ولذيذاً، ومنفعة، كالعلم بمسألة إلهيّة يؤدّي إلى العلم بمسألة أُخرى منها، فإنّ العلوم الإلهيّة كلّها خير، لأنّه كمال عقليّ باق دائماً، وكلّ موجود باق دائماً فهو خير، وهو أيضاً وسيلة إلى خير آخر فيكون منفعة، وهو نفسه لذيذ عند العالِم به، وإن لم يكن لذيذاً عند فاقد القوّة التي بها تُدرك المعارف الإلهيّة. والله سبحانه أحبّ الأشياء عند العرفاء الأحباء، وهم أيضاً أحبّ الأشياء عنده، كما يدل عليه قوله
{ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة:54]. وهو أبغض الأشياء عند المُبعدين المُنكرين وبالعكس، كما في قوله (صلى الله عليه وآله): "مَن أحبَّ لقاءَ الله أحبَّ اللهُ لقاءَه. ومن أنكَر لِقاءَ الله أنكَر الله لقاءه" .
وحدَّ القومُ "النعمة" بأنّها المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، أمّا كونها منفعة فلأنّ المضرّة المحضة لا يجوز أن يُعدّ نعمة، وأمّا التقييد بكونها مفعولة على جهة الإحسان: فلأنّه لو كان نفعاً ولكن لم يقصد الفاعل نفعه - بل ضرّه - لم يكن نعمة عليه، كمن أحسَنَ إلى أحدٍ وأراد به اختداعه أو استدراجه إلى ضرر.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ جميع ما خلقه الله لعباده فهو نعمة منه، لأنه لا يخلو عن أمرين: إمّا خيرٌ، وإمّا منفعة أي: وسيلة إلى ما هو الخير بالذات. أمّا الخير بالذات: فيرجع حاصله مع انشعاب أقسامه إلى الإيمان، وحسْن الخُلق، وينقسم الإيمان إلى علوم المكاشفة، وهي العلم بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وأوليائه، وعلم المعاد واليوم الآخر. وإلى علوم المعاملة: وهي تحصيل حُسْن الخُلق.
والأولى عدّ علوم المعاملة من جملة المنافع، لأنّها وسيلة إلى حُسن الخُلق الذي هو عبارة عن سلامة القلب، وطهارة النفس، وصفاء الضمير، وشيء منها ليس خيراً بالذات، لأنّها عدميّة، والعدَم لا يكون خيراً بالذات، وإنّما هو وسيلة إلى قبول الخير، وهو صورة المطلوب - أي الحضرة الإلهية وأفعاله وآثاره - .
فعلوم المعاملة من المنافع المؤدّية إلى الخير الحقيقي، والسعادة الأخروية، إذ لا سبيل إلى سعادة الآخرة إلاّ بالعمل والسعي في طريقها و
{ { لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } [النجم:39] وليس لأحد في العقبى إلاّ ما تزوّد في الدنيا.
وهي تنقسم إلى عفّة وهي سياسة قوّة الشهوة، حتّى لا تكون مستولية ولا مطموسة وإلى شجاعة، وهي تعديل قوّة الغضب، حتّى لا يكون الإنسان من جهتها متهوّراً ولا جباناً مقهوراً، بل يكون اقدامه واحجامه بمقتضى العقل المنور بنور الإيمان، وإلى حكمة، وهي اصلاح القوّة الادراكية حتّى لا تكون جربزة مكّارة كالشيطان في استنباط دقائق الحيل في الدنيا، والتفريعات الجزئية من العلوم التي ضرّها أكثر من نفعها. ولا يكون أيضاً بليداً غير مروٍّ في الأشياء النافعة.
وهذه الحِكمة غير الحكمة التي أثنى عليها كتابُ الله بقوله:
{ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [البقرة:269]. فإنّها كلّما كانت أكثر فهي أجلّ وأشرف.
ومن تعديل هذه الثلاثة - أعني ملكة العفّة، والشجاعة، والحكمة - تحصل للنفس ملكة أُخرى تسمّى بالعدالة، وهي ميزان أنزله الله تعالى على لسان رسوله، إذ قال:
{ { أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي ٱلْمِيزَانِ وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ ٱلْمِيزَانَ } [الرحمن:8 - 9]. فمن أخصى نفسه لترْك شهوة الجماع، وترْك النكاح مع الاستطاعة والأمن من الغائلة، أو ترَك الأكل حتّى ضعُف عن العبادة والفكر فقد أخسَر الميزان، ومَن انهمك في الشهوات فقد طَغى في الميزان، وإنما العدْل أن يخلو الوزن والتقدير عن الطغيان والخسران، وتتعادل كلتا كفَّتي الميزان، وفي ذلك تحصل النجاة عن عالَم الأضداد وخلاص النفس عن أسْر عفاريت الظلمات، وأفاعي الشهوات، فإنّ التوسّط بين الأطراف بمنزلة الخلوّ عنها.
فهذه هي الفضائل والخيرات المحضة، وهي سعادة الآخرة، ويرجع حاصلها إلى أربعة أمور: بقاء لا فناء له، وسرور لا غم فيه، وعلم لا جهل معه، وغنى لا فقر معه، وهي النعمة الحقيقية. ولذلك قال (صلى الله عليه وآله)
"لا عَيْش إلاّ في الآخرة" وصدَر هذا القول منه (صلى الله عليه وآله) مرّتين: مرّة في الشدة تسلية للنفس، وذلك في وقت حفر الخندق في شدّة الضرّ، ومرّة أُخرى في السرور منعاً للنفس من الرُّكون إلى سرور الدنيا وذلك عند احداق الناس به في حجّة الوداع.
وقال رَجل:
"إنّي اسألك تمامَ النعمة فقال (صلى الله عليه وآله): وهلْ تعلَم ما تمامُ النعمة؟ قال: لا. قال: دخولُ الجنّة" .
وأمّا المنفعة - أعني النعمة التي هي وسيلة إلى ما هو خيرٌ حقيقي - فتنقسم إلى الأقرب الأخصّ بالخير، كفضائل النفس، وهي كما مرّ: عفّةٌ وشجاعةٌ، وحكمةٌ وعدالة. وإلى ما يليه في القرب، كفضائل البدن، وهو الثاني. وإلى ما يلي هذا في القرب، كالأسباب المطيفة بالبدن من المال، والأهل، والعشيرة، وإلى ما يجمع بين هذه الأسباب الخارجة عن النفس، وبين الحاصلة لها كالتوفيق والهداية.
فجميع نعم الله التي هي دون الخير الحقيقي، والشرف الذاتي وهو المعرفة بالله، وأفعاله، من ملائكته، وكتبه، ورسله، ومعرفة النفس، ومواطنها، وغاياتها - المعبّر عنهما بالإيمان بالله واليوم الآخر، كما مرّت إليه الإشارة - منحصرة مع عدم تناهيها وعدم امكان العدّ والاحصاء فيها كما قال:
{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [إبراهيم:34]. في أربعة أنواع:
النوع الأوّل منها: هي الفضائل النفسانيّة التي ترجع إلى سلامة القلب، وطهارة النفس. وهي الأربعة المذكورة - العفّة، والشجاعة، والحكمة، والعدالة - وهذه الفضائل لا تتمّ إلا بالنوع الثاني منها، وهي الفضائل البدنيّة، وهي أيضاً أربعة: - الصحّة، والقوّة، والجمال، وطول العمر - ولا تتهيّأ هذه الأمور الأربعة إلاّ بالنوع الثالث، وهي النعم الخارجة المطيفة بالبدن - وهي أربعة: المال، والأهل، والجاه، وكرم العشيرة - ولا ينتفع بشيء من هذه الأسباب الخارجيّة البدنيّة إلاّ بالنوع الرابع وهي الأسباب التي تجمع بينها وبين ما يناسب الفضائل النفسانيّة الداخلة - وهي أيضاً أربعة: هداية الله، ورشده، وتسديده، وتأييده - وقد مرّ شرح هذه المعاني في تفسير الفاتحة.
فمجموع هذه النعم ستّة عشر قسماً وهذه الجملة يحتاج بعضها إلى بعض، إمّا حاجة ضروريّة أو نافعة.
أمّا الحاجة الضروريّة فكحاجة سعادة الآخرة إلى حُسن الخُلق، وسلامة القلب، وكذلك حاجة الفضائل النفسانيّة - ككسب العلوم وتهذيب الأخلاق - إلى صحّة البدن ضرورية.
وأمّا الحاجة النافعة على الجملة، كحاجة هذه النعم النفسيّة، والبدنيّة إلى النعم الخارجيّة مثل المال، والعزّ، والأهل، فإن ذلك لو عدم ربما تطرّق الخلل إلى بعض النعم الداخلية، أو لا ترى أنَّ الفقير في طلب العلم والكمال الذي ليس معه كفاية كساعٍ إلى الهَيجا بغير سلاح، أو كَبازٍ يرومُ الصيد بغير جناح.
ولذلك قال (صلى الله عليه وآله): "نِعم المالُ الصالِح للرجلِ الصالحِ" وقال (صلى الله عليه وآله):
"نِعم المالُ المالُ الصالِح للرجلِ الصالحِ" وقال (صلى الله عليه وآله): "نعمَ العونُ عَلى تَقوى اللهِ المالُ" وكيف، ومَن عَدم المالَ مستغرق الأوقات في طلب القوت، وتهيئة اللباس، والمسكن، وضرورات المعيشة، ثمّ يتعرض لأنواع الأذى من الأدنى حتّى يشغله عن الفكر، والذكْر، ويحرم من فضيلة الحجّ، والصدقات، وافاضة الخيرات.
سُئل بعض الحكماء، وقيل: ما النعيم؟ فقال: الغِنى، فإنّي رأيت الفقير لا عَيش له. قالوا: زِدنا؟ قال: الأمن، فإنّي رأيتُ الخائفَ لا عيش له. قالوا: زِدنا؟ قال: العافيةُ، فإنّي رأيت المريضَ لا عيش له. قالوا: زِدنا؟ قال: الشبابُ، فإنّي رأيت الهرم لا عيش له.
وكأنّ ما ذكره اشارة إلى نعيم الدنيا، ولكنّه من حيث إنّه معينٌ على الآخرة فهو نعمة. ولذلك قال (صلى الله عليه وآله):
"مَن أصبحَ مُعافىً في بدنِه آمناً في سِرْ به، وله قوتُ يومه، فكأنّما حيزت له الدنيا بحذافيرها" .
وأما الأهل والولد الصالح فلا يخفى وجه الحاجة إليهما، إذ قال (صلى الله عليه وآله): "نِعْم العونُ على الدين المرأةُ الصالحة" . وقال في الولد: "إذا ماتَ الرجُل انقطع عملُه إلاّ من ثلاث: ولدٌ صالح يدعو له الحديث" .
وأمّا العزّ والجاه فَبه يدفع الإنسان عن نفسِه الذلّ والضيم، ولا يستغني عنه مسلم، فإنّه لا ينفكّ عن عدوّ يؤذيه، وظالم يشوش عليه عامّة عمله وفراغه، ويشغل قلبه، وقلبه رأس ماله، وإنما تندفع هذه الشواغل بالعزّ والجاه. ولذلك قيل: الدين والسلطان توأمان { وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ٱلأَرْضُ } [البقرة:251].
ولا معنى للجاه إلاّ مُلك القلوب، كما لا معنى للغِنى إلاّ مُلك الدراهم، وعلى هذه القصد كان الأنبياء الذين لا مُلك لهم ولا سلطنة يراعون السلاطين، ويطلبون ما عندهم وكذلك كان أئمّتنا سلام الله عليهم يتوجّهون إلى الأمراء، ويقصدون التناول من خزانتهم، والاستيسار، والاستكثار في الدنيا بملاقاتهم، ومعاشرتهم، ولا تظنّن أن نعمة الله على رسوله (صلى الله عليه وآله) حيث نصَره، وأكمَل دينَه، وأعزّه في الأرض، وأظهرَه على جميع أعدائه، ومكّن له في القلوب حتى اتّسع عزه، وجاهه، كان أقلّ من نعمته عليه حيث كان يؤذى ويُضرت حتى افتقر إلى الهرب والهجرة.
وأمّا كرم العشيرة فهو أيضاً من النعم الجليلة، ولذلك منّ الله تعالى على بني إسرائيل في هذه الآية، وفي قوله...، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
"الأئمّة من قريش" ولذلك كان (صلى الله عليه وآله) من أكرم أُرومة في نسَب آدم (عليه السلام)، ولهذا المعنى قال (صلى الله عليه وآله): "تخيَّروا لِنُطفكم" . وقال: "إيّاكُم وخضراءُ الدمن فقيل: وما خَضراء الدمن؟ قال: المرأة الحَسناء في المنبت السوء" .
فهذا أيضاً من النعم، وليس المراد منه الانتساب إلى الأشرار، والظلَمة، وأرباب الدنيا، بل الانتساب إلى أكابر الأخيار كشخص رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)، والعلماء والشهداء، والصالحين.
فإن قلت: فما منفعة الفضائل البدنيّة وغناؤها؟
فنقول: لا خفاء في شدّة الحاجة إلى الصّحة، والقوّة، وإلى طول العمر، ولذلك قال (صلى الله عليه وآله):
"أفضل السعادةِ طولُ العُمر في عبادة الله" .
وإنّما يستحقر من جملتها أمْر الجمال. فيقال: يكفي أن يكون البدنُ سليماً من الأمراض الشاغلة عن تحرّي الخيرات. نعم الجمالُ قليل الغِناء. ولكن لعمري إنّه من الخيرات أيضاً. أمّا في الدنيا فلا يخفى نفعُه فيها، وأمّا في الآخرة فمن وجهين:
أحدهما: إنّ القبيح مذموم، والطباع عنه نافرة، وحاجات الجميل إلى الإجابة أقرب، وجاهه في الصدر أوسع، فكأنه من هذا الوجه جناح مبلغ كالمال والجاه، إذ هو نوع قدرة، إذ يقدر جميل الوجه على تنجّز حاجات لا يقدر عليها القبيح، وكلّ مُعين على حاجات الدنيا، فهو مُعين على الآخرة بواسطتها.
الثاني: إنّ الجمال في الأكثر يدلّ على فضيلة النفس، لأنّ نور النفس إذا تمّ إشراقه، تأدّى إلى البدن، فالمنظَر والمخْبر كثيراً ما يتلازمان، ولذلك عوّل أصحاب الفراسة في معرفة مكارم النفس على هيآت البدن، وقالوا: الوجهُ والعينُ مرآة الباطن، ولذلك يظهر فيه أثرُ الغضب، والسرور، والغمّ، ولذلك قيل: "طلاقةُ الوجهِ عنوان ما في النفس".
واستعرض المأمون جيشاً، فعُرض عليه رجلٌ قبيح المنظر فاستنطقه، فإذا هو ألكن. فأسقط اسمه من الديوان. وقال: "الروحُ إن أشرقَت على الظاهر فصباحةٌ وإن أشرقت على الباطن ففصاحة، وهذا ليس له ظاهرٌ ولا باطنٌ" وقد قال (صلى الله عليه وآله):
"أُطلبوا الخير عند حِسان الوجْه" . وقال الفقهاء: "إذا تساوتْ درجاتُ المصلّين فأحسنُهم وجهاً أولاهم بالإمامة" وقال سبحانه ممتناً بذلك: { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي ٱلْعِلْمِ وَٱلْجِسْمِ } [البقرة:247].
وليس المراد بالجمال ما يحرّك الشهوة، فإنّ ذلك أُنوثة مذمومَة، وإنّما يعنى به ارتفاع القامة في الاستقامة مع الاعتدال في اللَّحم، وتناسُب الأعضاء، وتناصف خِلْقة الوجْه، بحيث لا تنبو الطباع عن النظر إليه.
فإن قلت: كيف يكون المالُ، والجاه، والنسب، والأهل، والولد في حيّز النعم وقد ذمّ الله تعالى المالَ، والجاهَ، وكذا رسولُه صلى الله عليه وأهل بيته عليهم السلام وقال:
{ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ } [التغابن:14] وقال تعالى: { { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } [التغابن:15]. وقال: { وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات:13]. وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): "الناسُ أبناءُ ما يحسنون، وقيمةُ كلّ امرئٍ ما يحسنه" وقيل: "المرءُ بنفسِه لا بأبيه" فما معنى كونها نعمة - مع كونها مذمومة شرعاً - ؟.
فاعلم أنَّ مَن يأخذ العلوم من الألفاظ المنقولة المأوّلة، والعمومات المخصّصة كان الضلال عليه أغلب، ما لم يهتد بنور الله تعالى إلى إدراك الأمور على ما هي عليها، ثمّ تبيّن النقل على وِفْق ما ظهر له منها بالتأويل مرّة، وبالتخصيص أُخرى.
فهذه نِعم معينةٌ على الآخرة لا سبيل إلى جحدها، إلاّ أنَّ فيها فتناً ومخاوِف، فمِثال المال مثال الحيّة التي فيها ترياق نافعٌ وسمّ ناقعٌ: فإن أصابها المعزّم الذي يعرف وجه الاحتراز عن سُمّها، وطريق استخراج ترياقها النافع كانت نعمة، وإن أصابها سواديّ فهي عليه هلاك وبلاء. وهو مِثل البحر الذي تحته أصناف الجواهر واللآلي فمن ظفَر بالبحر، فإن كان عالماً بالسباحة، وطريق الغوص، وطريق الاحتراز عن مهلكات البحر، فقد ظفر بنعمه، وإن خاضَه جاهل بذلك فقد هلَك.
ولذلك مدَح الله المال وسمّاه خيراً: ومدَحه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال:
"نعمَ العونُ على تقوى الله المال الطيب" وكذلك مدَح الجاهَ والعزَّ، إذ منَّ الله على رسوله (صلى الله عليه وآله) أن أظهره على الدين كلّه، وحبّبه في قلوب الخلْق، وهو المعنيّ بالجاه.
ولكن المنقول في مدحهما قليل، والمنقول في ذمّهما كثير، حيث ذمّ الرياء وهو ذمّ الجاه. إذ الرياء المقصود فيه اجتلاب القلوب، ومعنى الجاه مُلك القلوب وإنّما كثر هذا وقلَّ ذلك، لأنّ الناس أكثرهم جهّال بطريق الرقية لِحيَّة المال، وطريق الغوص في بحر الجاه، فوجب تحذيرهم، فإنّهم يهلكون بسمّ المال قبل الوصول إلى ترياقه، ويُهلكهم تمساحُ بحر الجاه قبل العثور على جواهره، ولو كانات في أعيانهما مذمومين بالإضافة إلى كل أحد لما تصوّر أن ينضاف إلى النبوّة المُلك - كما كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله) - ولا أن ينضاف إليه الغِنى - كما كان لسليمان (عليه السلام) - والناس كلّهم صبيان والأموال حيّات، والأنبياء والعارفون معزّمون وقد يضرّ الصبيّ ما لا يضرّ المعزّم. فإذن النعم الدنيوية كلّها مشوبة، وقد امتزج داؤها بدوائها، ومرجوّها بمخوفها ونفعها بضرّها، فمن وثق ببصيرته، وكمال معرفته، فله أن يعرف منها فسادها، ويستخرج دواءها، وإلاّ فالفرار الفرار، والبُعد كل البُعد عن مظانّ الأخطار، فلا تعدل بالسلامة شيء في حقّ هؤلاء، وهم الخَلْق كلّهم إلاّ من عصمه الله تعالى، وهداه لطريقه.
فهذه مجامع نعم الله وأجناسها الكليّة، ولكل منها أعداد لا تحصى، وأسباب لا تتناهى، بل كلّ ما يوجد من الله تعالى في الدنيا، فهي مما يصدق عليه بوجه من الوجوه أنَّه نعمةٌ، لأنّه إمّا خيرٌ، وإمّا وسيلةٌ إلى الخير. والشرّ مما لا ذات له، لأنّه إمّا عدم ذات، أو عدم كمال لذات، فالموت، والكفر، والجهل، والفقر، وأمثالها التي هي شرور بالذات أمور عدميّة، وأمّا الظلم والجحود، والقتل المحرّم، والفسق والتكبّر، والعناد، والجهل المركّب، وأمثالها، فهي شرور بالعَرض، لأنّها مؤدّيةٌ إلى ما هو شرٌّ بالذات، أعني عدم الحياةالأُخروية، أو عدم كمال تلك الحياة. ولهذا شرحٌ وتفصيلٌ يليق بموضع آخر غير هذا الموضع.
هدايةٌ
لماذا يُنسب الخيرُ إليه تعالى والشرُّ إلينا؟
اعلم أنَّ كلّ ما يصِل إلينا في كلّ وقت ولحظة من آناء الليل والنهار من النفع أو دفع الضرّ، فهو من الله تعالى على ما قال
{ { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ } [النحل:53]. وأمّا الشرور والآفات فهي من أنفسنا، ومن قصور قابليّاتنا، وسوء استعداداتنا، التي هي أيضاً منتهيةٌ بوجه الخير إلى الله، وبوجه الشر إلى الإمكانات، ولوازم الماهيّات الناشئة من قصور الموجودات، فإن وجود المعلول لا ينفكّ عن نقص، وإلاّ لم يكن فرقٌ بين المفيض والمفاض عليه.
فجميع ما في العالَم على التحقيق - إمّا نعمة، أو متنعّم به نفع، أو منتفعٍ به خير، أو ما يؤدي إلى الخير، بل يمكن أن يقال: إنّ جميع ما في العالَم. ممّا لا حدّ له ولا احصاء، هي نعمة من الله في حقّ الإنسان، إذ ما من شيء إلاّ وله الانتفاع.
أمّا التي أودعها فينا من المنافع، واللّذات، والجوارح، والآلات، فظاهر انتفاعنا بها، لأنّا نستعملها في جرِّ المنافع، ودفع المضارّ الدنيويّة، والأُخرويّة.
وأمّا التي خلقها الله تعالى خارجةً عنا فهي أيضاً إمّا نستلذّ بوجودها، أو ننتفع لمعرفتها، والاستدلال بها على وجود الصانع، وحكمته، وجوده، ولطفه، فهي كلّها منافع منتفع بها إمّا حالا أو مآلا، فإنّها وسائل إلى المعرفة والحكمة، وهي إمّا نفس السعادة واللذّة الدائمة، أو وسيلة إليهما فصحّ أنّ جميع مخلوقات الله نعم على العبد، وهي غير متناهية لا يمكن عدّها ولذا قال تعالى:
{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [إبراهيم:34].
فإن قلت: إذا كانت النعم غير متناهية فكيف يمكن الانتفاع بها؟ وأيضاً إذا كانت غير متناهية لا يمكن علم العبد بها فكيف أمَر الله إيّاه بتذكّرها في قوله: { ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ }؟
والجواب عن الأوّل أنَّ المراد بالنعمة ما يمكن الانتفاع به - سواءٌ انتفع به أحدٌ، أم لا - فكلّ واحد من الأمور المخلوقة ممّا يمكن الانتفاع به للعبد، فيكون نعمة في حقه.
وأمّا عن الثاني: فإنَّ الأشخاص غير متناهية، والطبائع النوعيّة متناهية، ويمكن لنا العلم بالطبائع والعنوانات، والحكْم بها على وجه يسري في أشخاصها الغير المتناهية مجملة، كما في القضايا الكليّة، مثل قولنا: "كلّ إنسان له قوّة الكتابة" ففي هذا الحكم تصوَّرنا طبيعة العنوان - أي ماهيّة الإنسان - بالكُنه، وتصوّرنا أفرادَه كلّها بالوجه، وحكَمنا عليها بقوّة الكتابة. وهذا ضرْب من العِلم، وهو يكفي للتذكّر الذي يفيد العلم بوجود الصانع، وحكمته عن آثار صُنعه وأنوار حكمته.
فقد ثبت أنّ جميع ما في العالَم من المخلوقات، فهو نعمةٌ في حقّ الإنسان، وقد مرّ أنَّها كلّها خيرات بالقصد، شرور بالتَبع.
هذا على ما هو مذهب أهل الحق، وأما على مذهب أهل السنّة فيجوز من الله خلْق الشرور وايلام البري، من غير أن يكون القصد فيه إلى اصلاح حالهم، أو مآلهم ثمّ اختلفوا في أنّه هل لله تعالى نعمة على الكافر في الدنيا، أم لا؟
فمنهم مَن قال: هذه النعم في الدنيا لمّا كانت مؤدّية إلى الضرر الدائم في الآخرة لم يكن تلك نعمةً، فإنّ من جعَل السمّ في الحلوى لم يعدّ النفع الحاصل منْ أكل الحلوى نعمةً، لمّا كان وسيلة إلى الضرر العظيم. ولهذا قال تعالى:
{ { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً } [آل عمران:178].
ومنهم مَن قال: إنّه تعالى وإن لم ينعم على الكافر بنعمة الدين، لكن أنعم عليه في الدنيا - وهو قول الباقلاني - وهذا أقرب إلى الصواب.
لكن الإشكال المذكور في مثال الحلوى المسمومة باق، لا يمكن حلّه بقوّة فكْر المتكلّم، وصنعته وتلفيقه للكلام، وإنّما ينحلّ وينكشف بقوّة نور البصيرة الكاشفة لأسرار حكمة الله في خلق الكفّار، وتنعيمهم مدّة لعمارة هذه الدار، وتعذيبهم في دار القرار، فهذا التنعيم بعينه إمّا عين ذلك التعذيب، أو منجرّ إليه. قال تعالى:
{ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ ٱلْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَٱلْجُلُودُ وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا } [الحج:19 - 22] وقيل لهم: { { ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } [الحج:22].
أي الذين انقطعوا عن الله وعالَم ملَكوته، أعرَضوا عن أصحاب القدس والتجريد، وأهل الروح والعقل باتّباع الهوى، والشهوة، والطبيعة، قُطّعت لهم بتقطيع خيَّاط القضاء ثياب من نار القَدر على قدْر نفوسهم، المحترقة بنار الهوى، وكبريت الشهوة، وحطَب الطبيعة، وهي ثياب أخلاق ذميمة، نُسجت من سُدى مخالفات الشرع ولُحمة موافقات الطبيعة. وَيُصَبُّ مِنْ فَوقِ رؤوسهم - أي من مبدإ الإفاضة عليهم - حميمُ الشهوات النفسانية؛ لسوء قابليتهم لِمَاء الإفاضة، فيصير حميماً في حقّهم على ما قيل:

ومَن يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ يَجِد مُرّاً به الماءَ الزلالا

فيُذاب به ما في بطونهم وقلوبهم، ويخرج ما في نفوسهم من الملكات والأخلاق من القوّة إلى الفعل يوم تُبلى السرائر، فتصير مصوّرة بصوَر مؤلمة معذّبة للروح، ولهم مقامع من حديد قلوبهم، وهي الملكات الذميمة الراسخة، كلّما أرادوا أن يخرجوا من دار الجحيم، وسعير الهوى، ونار الهاوية من غمّ ما هم فيه أعيدوا فيها بمقامع تلك الأخلاق؛ لغلبة الجهل، واستيلاء الحرص عليهم، وقيل لهم: "ذوقوا عذابَ ما أحرقت منكم نار الشهوات، وأذابت سموم الأخلاق المهلكات من محاسن الاستعدادات" كما قال (صلى الله عليه وآله): "الحسدُ يأكل الحسنات كما تأكل النارُ الحطب" .
ومما يدلّ على أنّ نعمة الله شاملةٌ للكفار آيات كثيرة في هذا الباب، كقوله تعالى: { { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } [البقرة:28]. وقوله: { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً } [البقرة:21 - 22]. وقوله: { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } وهذا نصٌّ صريح في أن الله تعالى أنعَم على الكفار، لأنّ المخاطب بذلك هم كفَرة أهل الكتاب.
وقوله:
{ { قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } [الأنعام:63]. إلى قوله: { { ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ } [الأنعام:64]. وقوله: { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } [الأعراف:10]. وقوله: { ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا } [الأنفال:53]. وهذا صريح وقوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ ٱلْبَوَارِ } [إبراهيم:28]. إلى غير ذلك من دلائل النعمة العامّة، وشواهد الرحمة الواسعة، التي وسِعت كلّ شيء من غير اختصاص بأهل الإيمان.
وأمّا حديث العذاب الدائم والخلود في النار للكفّار فقد مضى لذلك ما فيه كفايةٌ للمستبصر، وشكايةٌ للمحجوب المستنكر.
فصل مشرقيٌّ
فضلُ هذه الأمّة على بني إسرائيل
اعلم أنَّ في الآية إشعاراً لطيفاً بانحطاط درجة هؤلاء المخالفين من أهل الكتاب عن منازل المحبّبن والمقرَّبين حيث خاطَبهم الله بذكر النعمة، واستَمالهم وجذبَ قلوبهم بهذه الملاذّ الدنيويّة، والمقاصد النفسانيّة، كإنزال المنّ والسلوى لهم في التيه، وتظليل الغمام عليهم، وتفجير العيون الإثني عشر، واعطائهم الحجر الذي كرأس الرجل يسقيهم ما شاءوا من الماء متى أرادوه، فإذا استغنوا عن الماء رفعوه، فاحتبس، واستنقاذِهم ممّا كانوا فيه من البلاء من فرعون وقومه، وتخليصهم من العبودية، وتنجيتهم من الغرق، وجعلِهم ملوكاً بعد أن كانوا عبيداً لآل فرعون والقبط، وإيراثهم أرضهم وديارهم كما قال:
{ { وَأَوْرَثْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } [غافر:53]. وإعطائهم عموداً من نور ليضيء لهم الليل، وكانت رؤوسهم لا تتشعّث، وثيابهم لا تبلى.
وهذه كلّها من النعم الدنيوية ولو كانوا من أهل القلوب المنوَّرة بأنوار المحبّة والمعرفة لما احتاجوا في تعلّم مسالك الدين، والاهتداء بهُدى المؤمنين إلى تذكّر أحوال النعم، بل كان المهمّ فيهم تذكّر أحوال المنعم، وكيفيّة صفات جماله وجلاله، وآيات ملكوته وجبروته، وقد قال بعض العارفين: "عبيدُ النعم كثيرون، وعبيدُ المنعم قليلون".
فانظُر إلى التفاوت بينهم وبين هذه الأمّة المرحومة، حيث قال لهم: { ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } وقال لهذه الأمّة بقوله:
{ { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } [البقرة:152]. ولم يقل: "فَاذكروا نعمتي" أو "اشكُروا نعمتي" أو "لا تكفُروا نعمتي".
وفيه أيضاً إشارة إلى أن ذكر خواصّ هذه الأمّة لله من نتائج خواصّ ذكر الله إيّاهم في الأزل بوجهين:
أحدهما: إنّ ذكْره عبارة عن عمله، وعلمه بالعبد متقدّم على إيجاده المتقدم على ذكْره لله.
وثانيهما: إنّه سبحانه أمَرهم بالذكْر مع "فاء التعقيب" فقوله: { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ } فيه تقديم وتأخير معناه "أذكركم فاذكروني" وهذا كقوله:
{ { رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [المائدة:119]. فإنّ رضاءَهم عنه تعالى نتيجة رضاه عنهم، وكقوله: { { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة:54].
الذكْر ومراتبُه وخواصُّه
واعلم أيّها الحبيب أنَّ للذكر مراتب. وللذاكر أيضاً مراتب، ونتيجة كلّ ذكر بما يوازيه ويناسبه في الفضل والثواب، ذكْر اللسان، وذكْر الأركان، وذكْر النفس، وذكْر القلب، وذكْر الروح، وذكْر السرّ.
فذكْر اللسان الإقرار: فاذكروني أذكركم بالأمان. وذكْر الأركان باستعمال الطاعات: فاذكروني بالطاعات، أذكركم بالكرامات. وذكْر النفس بالاستسلام للأوامر والنواهي: فاذكروني بالاستسلام، أذكركم بنور الإسلام، وذكر القلب بتبديل الأخلاق الذميمة، وتحصيل الملكات الكريمة: فاذكروني بالأحوال والمقامات أذكركم بالاستغراق في المشاهدة. وذكْر الروح بالتفريد والمحبّة: فاذكروني بالتفريد والمحبّة. أذكركم بالتوحيد والقربة، وذكر السرّ ببذل الوجود والفناء: أذكروني ببذل الوجود والفناء أذكركم بنيل الشهود والبقاء.
وهذا حقيقة قوله تعالى في الحديث الرباني:
"وَإن ذكَرني في نفسه ذكَرتُه في نفسي" والذكْر الحقيقي هو أن يجعل الذاكر مذكوراً، والمذكور ذاكراً. بل يكون الذكْر والذاكر والمذكور واحداً، كما قال سبحانه: { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر:16]. كما قال قائلهم:

رَقَّ الزجاجُ ورقَّت الخمْرفتشابَها وتشاكَل الأمْرُ
فكأنَّه خمرٌ ولا قدحٌوكأنها قدحٌ ولا خمرُ

وهذا الدعوى - أي فناء العبد عن نفسِه وبقاؤه بنور الحقّ على ما هو مشهود العارفين بالعيان - ممّا أُقيم عليه البرهان، وهو معلومٌ من علْم النفس، وكيفيّة تطوراتها في الأطوار، واتّحادها في مدارج الاستكمال بالعقل الفعّال، كما هو مذهب كثير من الحكماء الأقدمين منهم فرفوريوس، مثالُه حال الفراش مع الشمع واشتعاله بشعلة الشمع، فلمّا بذل الفراشُ للشمع وجودَه نالَ من وجودِ الشمعِ مقصودَه، كما قيل:

أنا مَنْ أهوى ومَن أهوى أنا نحنُ روحان حلَلْنا - إلى آخره -

ومثال آخر: الحديدة الحامية بالنار، حيث إنّها لا تزال تتقرب وتشبه بالنار حتى تزول عنها الهويّة الحديدية، وتصير فانيةً في هويّة الناريّة، وتفعل فعلها من الإحراق والإضاءة.
فلا تتعجب من النفس إذا استشرقت بنور الله، واتّصلت بعالَم الربوبيّة، وتخلّقت بأخلاق الله، ففعلت ما فعلت بقدرة الله - لا بقدرتها - وسمعت بسمع الله، وبصرت ببصره، فلها أن تقول: "مَن رآني فَقد رأى الحقَّ".
وهذا تحقيق قوله: "تخلَّقوا بأخلاق الله" وقوله تعالى:
"لا يزال يتقرّب العبدُ إليّ بالنوافل حتّى أحبُّه، فإذا أحبَبتُه كنتُ له سمعاً، وبصراً، ويداً، ومؤيِّداً. فبي يسمعُ، وبي يُبصر، وبي يَنطق، وبي يَبطش، وبي يَمشي" .
فصل
قوله تعالى: { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ }
هذا العهد هو عهد الإقرار بالربوبيّة المأخوذة عن الفطرة وهو الإيمان بالله وبتوحيده على وجه يُستعلم من دين محمد (صلى الله عليه وآله)، والطاعة له ولرسوله، فإنّ الإيمان بالله واليوم الآخر من العبد، وتقرّبه إلى الحضرة الإلهية كان متدرّجاً في الاستكمال من ابتداء الخلْق إلى بعثة محمد (صلى الله عليه وآله)، فعند بعثته (صلى الله عليه وآله) بلغ إلى حدّ الكمال الذي لا أكمل منه، . والتماميّة التي لا غاية فوقها، كما قال تعالى:
{ { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [المائدة:3]. أي: دين الإسلام ونعمة الإيمان.
فهذه النعمة التامّة الإيمانية هي بعينها من جنس النعمة التي أمَر الله بني إسرائيل بتذكّرها، ليعلموا من تذكّرها أنَّ كمالها وتمامها لا يكون إلاّ بهذه الملّة البيضاء المحمديّة، والنعمة الحقيقيّة الإيمانيّة، فإنّ درجات المعرفة بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر كانت متفاوتة في كل زمان بحسب الكمال والنقص، والقوّة والضعف، وكلّما قرُب من عصر نبيّنا (صلى الله عليه وآله) كانت أكمل، وأقوى، وأنور، وأصفى. فكانت هذه المعارف في الأمَم السابقة على هذه الأمّة - الذي هم خير الأمَم - مشوبة بالحسّ، والخيال، والوهم، والعقل.
فكانت العقائد حسّية في زمن آدم (عليه السلام) وما يَقربه، لغلبة نور الحسّ على تلك الأمّة، فكانوا أصحاب الأرصاد الفلكيّة والكوكبيّة، وأكثرهم كانوا عبَدة الأصنام، ولم يقدروا على تجريد معارف الدين، وأصول اليقين عن الأجسام، فكانوا يعبدون الله ويؤمنون به وبملائكته في قوالب الأصنام، وأمثلة الأجسام.
وأمّا أمّة موسى (عليه السلام) فكانت عقائدهم خياليّة لغلبة نور الخيال على تلك الأمّة بقوّة كرامات موسى (عليه السلام). وكان كتابهم الألواح التعليميّة، ولم يقدر نبيّهم على تجريد عقائدهم عن الخيال، ولذلك طلَبوا منه رؤية الله، وكان يبشّرهم برسول آخر الزمان (صلى الله عليه وآله).
وأمّا أمّة عيس روح الله (عليه السلام) فكان الغالب عليها نور العقل، والحكمة، والتجريد لا نور الحقيقة والتوحيد، وكانوا يعرفون الله وملَكوته مجرّداً منزّهاً عن العالَم وأعيانه، والأجسام وأعراضه، إلاّ أنّه لم تصل قوّة إيمانهم إلى حيث يجرّدون الله وملكوته عن التجسيم والتنزيه جميعاً، وعن المزاولة والمزايلة مطلقاً، كما في قول أمير المؤمنين (عليه السلام): "مع كلّ شيء لا بمزاولة، وغير كلّ شيء لا بمزايلة".
فهذا نور الحقيقة وهو فوق نور الحسّ ونور الخيال ونور العقل، وطوره وراء هذه الأطوار الثلاثة من الأنوار، وأنواعها الفائضة، كلّ منها على قوم، وهي كلّها حجب إلهيّة نوريّة، كما أُشير إليها في قوله (صلى الله عليه وآله):
"إنّ لله سبعين حجاباً من نور" .
وتلك الحُجب كانت كلّها موجودة في الأمم السابقة غير مرفوعة عنهم، وهي موجودة في هذه الأمّة متفرّقة، وبها افترقت إلى ثلاث وسبعين، كما أخبر عنه النبيّ (صلى الله عليه وآله) بقوله: "ستفترق أُمّتي الحديث" ، ولم يصل السالك إلى حجاب من تلك الحُجب، إلاّ وظنّ أنَّه قد وَصل.
وإليها الإشارة بقول إبراهيم الخليل، وهو فاتح باب التوحيد، وشيخ الموحّدين، وأبو العارفين - على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام - فعبَّر عن نور الحسّ بالكوكب، وعن نور الخيال بالقمر، وعن نور العقل بالشمس، ثمّ عبَر عنها وجاوزها جميعاً قائلاً:
{ وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [الأنعام:79]. وأشار إلى خواصّ هذه الأمّة في دعائه بقوله: { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [البقرة:128].
وبالجملة كان هذا النور الأحمدي في أصلاب عقائد العقول المتقدّمة، وأرحام استعدادات النفوس الماضية، منتقِلاً من طور إلى طور، ومن حالة إلى حالة مبشّرين ومنذرين به، حتى استقرّ إلى غايته، وبلغ نهايته، ووصَل إلى المبدإ الذي فارَقه واتّصل به آخر القوس الصعودية من دائرة الوجود إلى مبدإ القوس النزوليّة منها، فكان قاب قوسين أو أدنى.
فهذا هو معنى العهْد الذي أخذ الله الميثاق به على الأنبياء (عليهم السلام)، وقد أثبَت على طِبقه في الكتب المتقدّمة من وصف نبيّنا (صلى الله عليه وآله) وأنَّه سيبعثه الله في آخر الزمان، على ما صرّح به في سورة المائدة:
{ { وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ } [المائدة:12] إلى قوله: { { لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ } [المائدة:12].
وقال في الأعراف:
{ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَـاةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ } [الأعراف:156 - 157].
قال ابن عباس: "إنّ الله تعالى كان عهِد إلى بني إسرائيل في التوراة أنِّي باعثٌ من بني إسماعيل نبيّاً أميّاً، فمَن تبعه وصدَّق بالنور الذي يأتي به غفرتُ له ذنبَه، وأدخلتُه الجنَّة، وجعلت له أجرَين: أجراً باتّباع ما جاء به موسى، وجاءت به أنبياءُ بني إسرائيل، وأجراً باتّباع ما جاء به محمد النبي الأمي من وُلد إسماعيل وتصديق هذا في القرآن في قوله تعالى:
{ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ } [القصص:52] إلى قوله: { أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ } [القصص:54].
واعلم أنَّه قد وقعت في كتب الأنبياء المتقدّمين المنقولة إلى العربيّة، المشهورة بين أُممهم بشارات وإنذارات ناصَّة على بعثة نبيّنا (صلى الله عليه وآله).
فمنها: ما جاء في الفصل الحادي عشر من السّفر الخامس: "إنّ الربّ الهكم يُقيم لكم نبيّاً مثلي من بينكم ومن إخوانكم".
وفي هذا الفصل: "إنّ الرب تعالى قال لموسى: "إنّي مقيم لكم نبيّاً مثلَك من بين إخوانكم، وأيّما رجل لم يسمع كلماتي التي يؤدّيها عني ذلك الرجل باسمي أنا أنتقم منه" والمراد بـ "بني إخوة إسرائيل" هو إسماعيل على ما هو المتعارَف فلا يصرف إلى من بعد موسى من أنبياء بني إسرائيل (عليهم السلام)، ولا إلى عيسى، لأنّهم لم يكونوا من بني إخوتهم، ولا مِثل موسى في كونه صاحب شريعة مستأنفة فيها بيان مصالح الدارين. فتعيَّن محمد (صلى الله عليه وآله).
ومنها ما جاء في الفصل العشرين من هذا السفر: "إنّ الربّ تعالى جاء في طور سيناء وطلَع لنا من ساعير، وظهر من جبال فاران، وصفَّ عن يمينه عنوان القديسين، فمنَحهم العزّ وحبّبهم إلى الشعوب، ودعا لجميع قدِّيسيه بالبركة".
يريد الاخبار عن إنزال التوراة على موسى (عليه السلام) بطور سيناء، وإنزال الإنجيل على عيسى (عليه السلام) بساعير، فإنه كان يسكن من سيعير بقرية تسمّى "ناصرة" وإنزال القرآن على محمد (صلى الله عليه وآله) بمكّة، فإنّ "فاران" في طريق مكّة قبل العدن بميلين ونصف وهو كان المنزِل، وقد بقي اليوم على يسار الطريق من العراق إلى مكّة.
قال اليهود: إنّ النار لمّا ظهرت من طور سيناء ظهرت من ساعير نار أيضاً، وكذا من جبل فاران أيضاً، فانتشرت المواضع.
وما ذكروه باطلٌ، لأنّ الله لو خلَق ناراً في موضع فإنّه لا يقال: "جاء الله من ذلك الموضع" إلاّ إذا تبع تلك الواقعة وحيٌ نزل في ذلك الموضع، أو ما شابَه ذلك، وعندكم أنه لم يتبع ظهور النار وحيٌ ولا كلام إلاّ من طور سيناء، فما كان ينبغي إلا أن يقال: "جاء الله من طور سيناء فقط" فأمّا أن يقال: "ظهَر من ساعير ومن جبل فاران" فلا يجوز وروده، كما لا يقال: "جاء الله من الغمام" إذا ظهر في الغمام احتراق ونيران، كما يتّفق في الربيع.
وتصديق ذلك ما في كتاب حبقوق، وهو: جاء الله من طور سيناء، والقُدس من جبال فاران، لقد انكشفت السماء من بهاء محمّد (صلى الله عليه وآله)، وامتلأت الأرض من حمده، يكون شعاع منظره مثل النور يحفظ بلده بعزّة؛ تسير المنايا أمامه، ويصحب سباع الطير أجناده، قام فمسَح الأرض، وتأمّل الأمم، وبحث عنها، فتضعْضعت الجبال القديمة، واتّضعت الروابي الدهريّة، وتزعزعت سور أهل مدين، وركبت الخيول، وعلت مراكب الانقياد والغوث وستنزع في فيك إغراقاَ نزعاً، وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء، تخور الأرض بالأنهار، ولقد رأتك الجبال فارتاعت، وانحرف عنك شؤبوب السيل، ونفرت المهاوي نفيراً ورعباً ورهباً، ورفعت أيديها وجلاً وخوفاً، وتوقّفت الشمس والقمر عن مجراهما، وسارت العساكر في برق سهامك ولمعان بيانك تدوخ الأرض غضباً، وتدوس الأمم زجراً، لأنَّك ظهرت بخلاص أُمّتك وإنقاذ تراث آبائك".
هكذا نقل علي بن رزين الطبري إمام النصارى.
قال أبو الحسين في كتاب الغرر: وإنّي رأيت في نقولهم: "وظهَر من جبال فاران، لقد تقطَّعت السماء من بهاء محمد المحمود، وترتوي السهام بأمرك المحمود لأنّك ظهرت بخلاص أُمّتك وإنقاذ مسيحك".
فظهر أنَّ المراد بقوله تعالى: "ظهَر الربُّ من جبل فاران" ليس ظهور بالنار، بل ظهور شخص موصوف بتلك الصفات، وليس إلا محمّد (صلى الله عليه وآله)، فإن قالوا: المراد مجيء الله تعالى، ولهذا قال في آخر الكلام وإنقاذ مسيحك".
قلنا: لا يجوز وصف الله تعالى بأنّه يركب الخيول، وبأنّه جاء للمساعي القديمة. وأمّا قوله: "وإنقاذ مسيحك" فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنقذ المسيح من كِذب اليهود والنصارى.
ومنها: ما جاء في السّفْر الأوّل: إنّه تعالى قال لإبراهيم (عليه السلام): إنّ هاجَر تلِد، ويكون من ولدها من يكون يده فوق الجميع، ويد الجميع، مبسوطة إليه بالخشوع.
ومنها: ما جاء في كتاب أشعياء في الفصل الثاني والعشرين منه: قومي فأزهري مصباحك، يريد مكّة، قد دنا وقتكِ، وكرامة الله طالعة عليكِ، قد تجلل الأرضَ الظَّلامُ وغطّى على الأمَم الضباب، والربُّ يشرق عليك إشراقاً ويظهر كرامته عليك، تسير الأمَم إلى نورك، والملوك إلى ضوء طلوعك، ارفعي بصركِ إلى ما حولكِ وتأمّلي فإنّهم مستجمعون عندك ويحجونك، ويأتيك ولدك من بلد بعيد وتتزين بناتك على الأرائك والسرر، وحين ترين ذلك تسرين وتبتهجين من أجل أنَّه تميل إليك ذخائر البحر، ويحجّ إليك عساكر الأمَم، وتُساق إليك كباش مدين، ويأتيك أهل سبأ ويتحدثون بنعم الله ويمجّدونه، وتسير إليك أغنام فاران، ويدفع إلى مذبحي ما يرضيني، وأحدث حينئذ لبيت محمدتي حمداً".
قوله: "وأحدث لبيت محمدتي حمداً" معناه أنَّ العرب كانت تُلبّي قبل الإسلام فتقول: "لبّيك لا شريك لك إلا شريك هو لك. تملكه وما ملك ثمّ صار في الإسلام لبّيك اللّهم لبّيك لا شريك لك لبّيك" فهذا هو الحمد الذي جدّده الله لبيت محمدته.
ومنها: أنه روى السمان في تفسيره: إنّ في السّفْر الأوّل من التوراة "إنّ الله أوحى إلى إبراهيم (عليه السلام) فقال: "أجبت دعاءك في إسماعيل، وباركتُ عليه، فكبّرته وعظّمته جداً، وسيلد إثني عشر عظيماً وأجعله لأمّة عظيمة".
ودلالة هذا الكلام أنّه لم يكن في ولد إسماعيل من كان لأمّة عظيمة غير نبيّنا (صلى الله عليه وآله).
ومنها: دعاءُ إبراهيم وإسماعيل لرسولنا (صلى الله عليه وآله) وعليهما لما فرغا من بناء الكعبة، وهو قولهما:
{ { رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ } [البقرة:129].
ولهذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول:
"أنا دعوةُ إبراهيم وبشارة عيسى" وهو قوله تعالى: { { وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي ٱسْمُهُ أَحْمَدُ } [الصف:6].
ومنها ما ورد في الإنجيل:
فمنها: ما ورد في الإصحاح الرابع عشر منه: أنا أطلبُ لكُم إلى أبي حتّى يمنحكم ويعطيكم فارقليطا، ليكون معكم إلى الأبد.
وروي بهذه العبارة: أنا أذهب وسيأتيكم الفارقليط روح الحقّ الذي لا يتكلّم من قِبل نفسه، إنّما يقول كما يقال له" وتصديق ذلك
{ { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ } [الأنعام:50].
وقوله:
{ قُلْ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِيۤ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىۤ إِلَيَّ } [يونس:15].
وقيل في تفسير فارقليط وجوه:
أحدها: روحُ الحقّ واليقين.
وثانيها: الشافع المشفَّع.
وثالثها: قال بعض النصارى: معناه الفارق بين الحقّ والباطل، وكان الأصل "فاروق"، كما يقال: "راووق" للذي يروق به. وأمّا "ليط" فهو التحقيق في الأمر، وهو كـ "أست" في لغة العجم.
رابعها: إنّه مشتقٌّ من الحَمد.
وهذا الاسم ليس إلاّ لنبيّنا (صلى الله عليه وآله)، فإنّ اسمه محمّد وأحمد ومحمود، ويقال: إنّ صفته في التوراة: انّ مولده بمكّة، ومسكنه بطيْبة، وملكه بالشام، وامّته الحمّادون.
ومنه: ما في الإصحاح الخامس عشر: "فأمّا فارقليط روح القدس الذي يرسله أبي باسمي، هو يعلّمكم ويمنحكم جميعَ الأشياء، وهو يذكّركم ما قلته لكم، ثمّ قال: "وإنّي قد أخبرتكم بهذا قبل أن يكون، حتّى إذا كان ذلك تؤمنوا به" وقوله: "باسمي" يعني بالنبوّة.
ومنه ما في السادس عشر: "أقول لكم الآن حقّاً يقيناً إنّ انطلاقي عنكم خيرٌ لكم، فإن لم أنطلق عنكم إلى أبي لم يأتكم الفارقليط، وإن انطلقت أرسلت به إليكم، فإذا جاء هو يفيد أهل العالَم، ويدينهم، ويوبّخهم، ويوقفهم على الخطيئة والبرّ". ثمّ قال: "إذا جاء روح الحقّ واليقين يرشدكم ويعلمكم ويزيدكم بجميع الحقّ، لأنّه ليس يتكلّم بدعة من تلقاء نفسه".
ومنها ما في الزبور، قال داود (عليه السلام): "اللهم ابعث جاعلَ السُّنّة حتّى يعلمَ الناس أنَّه بشر" يعني: إبعث محمداً حتى يعلمَ الناس أنّ عيسى بشر.
قال بعض العلماء: وأمثال هذا كثير في كتب الأنبياء المتقدمين، يذكرها المصنفون الواقفون على كتبهم، ولا يقدر المخالف على دفعها أو صرفها إلى ملك أو نبيّ آخر، ولا على أن يكتُمها، ولقد جمع أبو الحسين البصري في كتاب غرر الأدلة ما تفرّقت من نصوص التوراة على صحّة نبوة محمد (صلى الله عليه وآله).
فصل
قوله تعالى: { أُوفِ بِعَهْدِكُمْ }
المراد من هذا العهد عند المعتزلة هو ما دلّ عليه العقل، من أنّ الله يجب عليه إيصال الثواب إلى المطيع، فصحّ وصف ذلك الوجوب بالعهد، لأنّه بحيث يجب الوفاء به.
وأمّا عند الأشاعرة فحيث لا وجوب ولا إيجاب عندهم على الله، فإمّا أن يكون إطلاقه عليه تعالى تجوّزاً، من باب صنعة المشاكلة، كقوله:
{ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [النساء:142]. { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ } [آل عمران:54]. وذلك لأن معناه الأمر بمعنى المأمور به، والموصوف به هو العبد، دون الله. أو يقال: إنّه لمّا وعد بالثواب - والكذب على الله محال - فكلّ ما وعَد به استحال أن لا يوجد، لأنّه لو لم يوجد لانقلب خبره الصدق كذباً والمفضي إلى المحال محال. فايفاء ذلك العهد - أي: مدلول ذلك الخبر - واجب الوقوع. وذلك آكد ممّا ثبت باليمين أو النذر هذا تلخيص ما ذكره الإمام الرازي في تفسيره.
أقول: فيه بحثٌ لأنّ نسبة الوجوب إليه تعالى إمّا على سبيل "عليه" أو على سبيل "عنه". فالأوّل: مذهب المعتزلة، والثاني: مذهب الحكماء. وشيء منهما لا يقول به الأشاعرة. فقولهم: "لما أخبر تعالى بالثواب فيجب وقوعه" ما معنى هذا الوجوب؟ إن كان أحد المعنيين المذكورين، فلا يصحّ إطلاقه عندهم على فعْله تعالى، وإن كان معناه أمراً ثالثاً غير ذينك المعنيين، فما لم يبيّن لا يمكن إثباته ولا نفيه، فالآية حجّةٌ عليهم.
والحقّ في تفسيره أن يقال: لما تقرَّر وسبق إليه الإشارة: أنّ المراد من هذا العهد هو النور النبويّ الربّاني المعبَّر عنه بالأمانة المعروضة على السماوات والأرض، الذي كلّف الإنسان بتحمّله، وكان ذلك النور محتجباً بالحجب الكونيّة في أوائل الخليقة، ثمّ لا يزال يظهر شيئاً فشيئاً بحسب ارتفاع الحجب الظلمانيّة والنورانيّة في كل زمان، وخروج النفوس الإنسانية من حدود القوّة إلى حدود الفعل في كلّ أوان، حتى ظهَر بعض ذلك النور في زمَن سائر الأنبياء كإبراهيم، وموسى، وعيسى (عليهم السلام)، وظهر تمامه في زمَن خاتم الأنبياء عليه وآله السلام.
فإيفاء العبد بهذا العهد هو معرفة هذا النور الذي أنزل الله على قلب رسوله (صلى الله عليه وآله)، بل هو بالحقيقة رسول الله، كما دلّ عليه قوله:
{ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } [المائدة:15].
فالنور هو لوح ضميره الذي هو نورٌ من أنوار الله، وسرّ من أسراره. وأمّا الكتاب فهو كلام الله النازل عليه، الدالّ على معرفة الحقّ الأوّل، وآياته، وملائكته، وكتبه العقليّة، والنفسيّة، وأحكامه القضائيّة والقدريّة، وكيفيّة تعلق علمه وقدرته بجميع الموجودات، وكيفية عنايته وحكمته في خَلْق السماوات والأرض وانبساط نور وجوده على صفحات الماهيّات، وهياكل الممكنات، ومعرفة المعاد، وكيفة حكمه برجوع الأشياء كلّها يوم القيامة إلى الواحد القهّار، والإيمان بجميع هذه المعارف إيماناً يقينيّاً شهوديّاً.
فمَن آمن بهذه المعارف إيماناً بالغيب مع إصلاح الجزء العملي من القلب فقد سعد ونجا من العذاب، ومن عرفها عرفاناً شهودياً راسخاً فقد فاز فَوْزاً عظيماً، وكاد أن يكون من المقرّبين مشاهِداً لما هو الخير المطلق، والحسن المطلق، والجمال المطلق الحق منخرطاً نوره في سلك نوره.
وأما إيفاء الله عهد العبد فهو إفاضة أنوار الرحمة عليه في كل مرتبة من مراتب عبوديّته، وبحسب كل مقام من مقامات سلوكه إلى الله، حتّى إذا قطع المنازل والمراحل الحسيّة، والخياليّة، والعقليّة، وبلغ الحدَّ الأقصى فاض عليه من نور جماله الأزلي، وصيّره من المحبوبين بعدما كان من المحبِّين، وجعله من الواصلين إلى العين، بعد ما كان من السامعين للأثر، فصار علمه عيناً، وإيمانه عياناً، وقراءته قرآناً، وكلامه متكلّماً.
فصل
قوله: { وَإِيَّايَ فَٱرْهَبُونِ }
معنى "الرَهْبة" هو الخوف والخشية، وهي حالة تحدث في القلب من قبيل الخواطر، وكذا الرجاء. والمقدور للعبد مقدماتهما.
والخوف عند العلماء على ظن مكروه تناله، والخشية نحوه، لكن الخشية تقتضي ضرباً من الاستعظام والمهابة. وضد الخوف الجرأة، لكن قد يقابل بالأمن، فيقال: "خائِفٌ وآمِن"خَوفٌ وأمن" لأنّ الأمن يوجِب الجرأة على الله فبالحقيقة الجرأة تضادّه.
قال المتكلّمون: الخوف منه تعالى هو الخوف من عقابه وأمّا أهل المعرفة: فالخوف عندهم كما يكون من العقاب يكون من القُرب. قال الله تعالى:
{ { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ } [فاطر:28].
والحقّ أنَّ عذاب الآخرة إنّما يصل إلى الكفّار وأهل النار بواسطة أنَّهم صاروا في الدنيا مبعدون عن مقام القُرب، فإذا بطلت هذه الحياة الدنيا، وانكشف الغطاء، وبعثوا إلى الآخرة، وجاء الحقّ للحساب والميزان، لم يتحمّلوا سطوة القهّارية فيتعذّبون بسطوع شمس الآخرة على رؤوسهم، ويعاقَبون بنار الجحيم، وتذوب بها أبدانُهم وجلودُهم.
بل كلّ عذاب وألم - سواء كان في الدنيا أو في الآخرة - إنّما يرجع إلى عذاب القرب لمن لم يكن مستعداً له، لأنّ جميع ما يعدّ عند الناس من جملة المؤذيات، والمولمات، فإنّما هو من مظاهر رحمته وجوده، ومن منازِل عنايته وحكمته، والتضادّ الحاصل بينها إنّما يقع من لحوق الأعدام والنقائص بها، التي منشؤها البُعد عن المقامات الإلهيّة. فما يتعذّب متعذّب، أو يتضرّر من شيء مؤلم مضرّ إلاّ بواسطة تضادّ بين المتألّم وما يؤلمه، والمتضرّر وما يتضرّر به، ومنشأ التضادّ بين الشيئين - كما علمت - فَقْدُ وجود أحدهما لما في وجود الآخر، وقصوره عن رتبة الجمعيّة بينهما.
أوَ لا ترى أنَّ كثيراً من الهيآت والكيفيّات المتضادّة والقوى المتخالفة قد اجتمعت في الحقيقة الإنسانيّة بواسطة القوّة الجمعيّة، التي فاضَت على الإنسان من عالَم الأمر؟ فالنار، والماء، والأرض، والهواء، مع كونها أموراً متضادّة إلا أنَّها قد اجتمعت في المركّب بواسطة الوحدة الاعتداليّة التابعة للصورة الوحدانيّة الحافظة للمزاج، وكلّما كانت الصورة أقوى جوهراً، وأقرب منزلةً إلى عالَم الحافظة للمزاج، وكلّما كانت الصورة أقوى جوهراً، وأقرب منزلةً إلى عالَم الأمر الواحد، فهي أوسع جمعيّة للمتضادّات إلى أن ينتهي إلى العقل البسيط، المدرِك بذاته للأشياء التفصيليّة إدراكاً حضوريّاً، وشهوداً نوريّاً، وإحاطة جمعيّة شموليّة.
وهذا ما قاله بعض الحكماء: "إنّ العقل كلّ الموجودات" فالإنسان ما لم يصل إلى مقام العقل يجوز في حقّه أن يتعذّب ببعض أنوار القهاريّة وسطوات الإلهيّة، ومن لم يعرف هذه المعاني صار يتعجّب من معنى عذاب القُرب وخوفه، مع أنَّ الحقّ تعالى محض الرحمة. وأمّا العلماء الراسخون فإنّهم يخشون الله - دون عقابه - ولا يخشون شيئاً آخر، ولهذا قال تعالى: { وَإِيَّايَ فَٱرْهَبُونِ } دلالة على الحصْر، وأنَّ المرء يجب أن لا يخاف أحداً إلا الله، فكلّ خوفٍ يرجع إلى خوف جلاله.
وإذا ثبتَ هذا في الرَّهبة والخَوف ثبت في الرَّغبة والرَّجاء، فيجب أن لا يرجو أحداً إلاّ الله، لأنّ كلّ محبّة ورجاء يرجع إلى حبّ الله ورجائه، إذا كان المنظور إليه في كلّ شيء كونه أثراً من آثار قدرته، ولمعة من لَمَعات نور جماله.
قال بعض العرفاء: الخوفُ خوفان: خوفُ العقاب، وخوفُ الجلال. والأوّل: نصيب أهل الظاهر، والثاني: نصيب أهل القلب. والأوّل: يزول. والثاني: لا يزول.
أقول: وهكذا ينقسم الرجاء إلى الثواب ورجاء الله. الأول نصيب أهل الحجاب، والثاني نصيب أهل اليقين. أمّا خوف أهل القلب فهو قوله تعالى:
{ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ } [فاطر:28]. وقوله: { { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } [البينة:8]. وقوله { { وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ } [آل عمران:30]. وقوله: { وَإِيَّايَ فَٱتَّقُونِ } [البقرة:41].
وقد جمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين خوف العقاب، وخوف الجلال، وخوف الجمال ومقابل كل منها في دعائه، حيث كان يقول
"اللّهمّ إنّي أعوذُ بعفوك من عقابِك وبرضاكَ منْ سخَطك وبكَ مِنك" تنبيهاً على منازل الخلْق وتفاوت أحوالهم في الرغبة والرهبة.
وأمّا خوف الظاهر، فقوله:
{ { ذٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } [إبراهيم: 14].
وأمّا رجاء أهل اليقين فقوله:
{ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ } [الأحزاب:21].
وأمّا رجاء أهل الظاهر، فقوله:
{ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ٱللَّهِ } [التوبة:106].
واعلم أنَّ الخوف والرجاء يجب أن يكونا مجتمعين في القلب، غير منفكّ أحدهما عن صاحبه.
فمن آيات الخوف هذه الآية، وقوله:
{ وَإِيَّايَ فَٱتَّقُونِ } [البقرة:41]. وقوله: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } [المؤمنون:115]. وقوله: { { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى } [القيامة:36]. وقوله: { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [العنكبوت:2]. وقوله: { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ } [النساء:123]. وقوله: { { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [الكهف:104]. وقوله: { وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [الفرقان:23]. { وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ } [الزمر:47].
ومن آيات الرجاء قوله:
{ { لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً } [الزمر:53]. وقوله: { وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ } [آل عمران:135]. { غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ } [غافر:3]. { { وَهُوَ ٱلَّذِي يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ ٱلسَّيِّئَاتِ } [الشورى:25] { { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } [الأنعام:54]. { { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } [الأعراف:156]. { إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [البقرة:143].
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
"يقولُ الله عزَّ وجلّ أخرجوا مِن النار مَن كان في قلبه مثقال ذرة مِن الإيمان" ثمّ يقول الله: "وعزّتي وجلالي لا أجعلُ مَن آمَنَ بي في ساعة من ليل أو نهار كمَن لا يؤمن بي" .
ومن آياته اللطيفة الجامعة بين الخوف والرجاء، قوله تعالى: { نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ ٱلْعَذَابُ ٱلأَلِيمُ } [الحجر:49 - 50]. لئلاّ يستولي عليك الرجاء بالمرَّة، وقوله { { شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ } [غافر:3] عقّبه بقوله: { { ذِي ٱلطَّوْلِ } [غافر:3]. لئلاّ يستولي عليك الخوف بالمرَّة.
وأعجب من ذلك قوله تعالى: { وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ } ثمّ قال في عقبه:
{ { وَٱللَّهُ رَؤُوفُ بِٱلْعِبَادِ } [آل عمران:30].
وأعجب من ذلك وألطف قوله تعالى:
{ مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ } [ق:33]. علّق الخشية بالرحمن، دون اسم الجَبّار، والمنتقِم، والمتكَبِّر، ونحوه، لتكون الخشية مع ذكر الرحمة، لئلاّ تكون الخشية تطير قلبك بالمرَّة، فيكون تخويفاً في تأمين، وتحريكاً في تسكين. وفي ذلك أيضاً إشارة إلى ما سبَق من أن وجوده تعالى رحمة للمطيعين وعذاب للعاصين كما قيل في الفُرس:

أي نوشِ لبان جو زهرِنابى بر من أي راحتِ ديكَران عذابي برمن

وقال سهل التستري: "الخوفُ ذَكَر، والرجاء أُنثى" أي منهما يتولّد حقائق الإيمان. وقيل: "إنّ الله تعالى جمَع للخائفين ما فرّقه على المؤمنين، وهو الهدى والرحمة والعِلْم والرضوان، فقال تعالى: { { هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } [الأعراف:154]. وقال: { { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ } [فاطر:28]. وقال: { رِّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } [البينة:8]. وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "رأسُ الحكمةِ مخافةُ الله". وروي عنه (صلى الله عليه وآله): "إِنّه كان داوود النبيّ (عليه السلام) يعوده الناس يظنّون أنَّ به مرضاً وما به مرضٌ إلاّ خوف الله والحياء منه". وقال سهل: "كمال الإيمان بالعلم، وكمال العلم بالخوف" وقال أبو علي الرودباري: "الخوفُ والرجاء كجناحَي الطائر، إذا استويا استوى الطير وتمّ في طيرانه".
فصل
أسباب الخوف والرجاء
واعلم أنَّ النظر في أفعال الله ومعاملاته مع الخلْق، كما يؤدّي إلى الرجاء العظيم كذلك النظر فيها يؤدّي إلى خوفٍ شديد.
أمّا جانب الرجاء: فمن تأمّل لطائف نعم الله بعباده في الدنيا، وعجائب حكمته التي راعاها في فطرة الإنسان، حتّى أعدّ له كلّ ما هو ضروريّ له في دوام الوجود كآلات الغذاء، والنموّ، وغيرها، وما هو محتاجٌ إليه في طلب الفضيلة، وما هو زينة له كاستقواس الحاجبين وحمرة الشفتين، وتقعير الأخمص من القدمين، وغير ذلك مما لا ينثلم بفقده غرضٌ مقصود - وإنّما يفوت به من الجمال - فالعناية إذاً لم يقصر عن عباده في أمثال هذه الدقائق حتّى لم يرض لعباده أن يفوتهم المزايد والمزايا في الزينة والحاجة، فكيف يرضى بسياقتهم إلى الهلاك المؤبّد؟ فسنّة الله لا تجد لها تبديلا.
فالغالب أنَّ أمر الآخرة على هذا القياس يكون، فهذا إذا تأمله أحدٌ قوَّى أسباب رجائه. وكذا التأمّل في أنّه يهب كفرَ سبعين سنَةٍ بإيمان سَنَة، بل بإيمان ساعة.
وقوله:
{ { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [الأنفال:38].
وفي أنّه كيف عاتَب إبراهيم (عليه السلام) في دعائه على المجرمين بالهلاك.
وكيف عاتب موسى (عليه السلام) في أمْر قارون، فقال له: "استغاث بك مِراراً فلمْ تغثه، فوَعزّتي لو استغاث بي مرّة لأغثته وعفوتُ عنه".
وكيف عاتَب يونس في شأن قومه: "إنّك تَحزن على شجرة من يقطين أنبتُّها في ساعة وأيبستها في ساعة، ولا تَحزن على مأة ألف أو يزيدون". ثم كيف قبِل عذرَهم وصرَف عذابَه الأليم عنهم بعد ما أضلّهم.
ثمّ كيف عاتَب سيّد المرسلين فيما رُوي أنَّه دَخل من باب بني شيبة، فرأى قوماً يضحكون. فقال لهم:
"أتَضحكون! لا أَراكم تَضحكون حتّى إذا كان عند الحجَر رجَع إليهم القهْقرى وقال: جاءني جبرائيلُ فقال: يا محمّد إنّ الله يقول: يا محمّد لا تقنط عبادي من رحمتي. نَبِّئ عِبَادي أَنِّي الْغَفُورُ الرَّحِيم" .
وهذا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "الله أرحَم بالعبدِ من الوالدةِ الشفيقةِ بولدِها" وفي الخبر المشهور عن النبي (صلى الله عليه وآله) "إن للهِ مأة رحمة، فواحدة منها قسَّمها بين الإنس والجنّ والبهائم، فيها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وذخَر منها تسعة وتسعين لنفسه يرحم بها عبادَه يومَ القيامة" .
وإذ قد أعطاك من الرحمة الواحدة كلّ هذه العطايا الكريمة العزيزة من معرفته والكون من هذه الأمّة المرحومة. ثمّ غير ذلك من النعم الباطنة والظاهرة، فمرجوّ من فضله العميم أن يتمّ ذلك الأمْر، فان من بدأ بالإحسان والإكرام فعليه الاتمام، ويجعل لك من تسعة وتسعين رحمة الحظّ الوافر فأسأله أن لا يخيّب آمالَنا بفضله وكرمه.
وأمّا من جانب الخوف فأوّلاً: إنّ إبليس عبده ثمانين ألف سنَة فلم يترك - فيما قيل - موضع قدَمٍ إلاّ وسجَد لله تعالى فيه سجدةً، ثمّ ترَك له أمراً واحداً، فطرده من بابه، وضرَب بوجهه عبادةَ ثمانين ألف سنَة، ولعنَه إلى يوم الدين، وأعدّ له عذاباً أليماً أبد الآبدين، حتّى روي أنّ الصادق الأمين صلوات الله عليه وآله، رأى جبرائيل متعلِّقاً بأستار الكعبة وهو يتضرع: "إلهي لا تغيِّر اسمي، ولا تبدّل جِسمي".
ثمّ آدم صفيّ الله، خلقَه بيده وأسجَد له ملائكتَه وحملَه على أعناقهم إلى جواره فأكلَ أكلَة واحدةً لم يؤذَن فيها، فنُودي "ألا! لا يجاورني من عصاني" فأمَر الملائكة الذين حمَلوا سريره يرمونه من سماء إلى سماء، حتّى أوقعوه بالأرض، ولم يقبل توبته - فيما روي - حتّى بكى على ذلك مأة سنَة، ولحقه من الهوان والبلاء ما لحقَه وبقيت ذريّته في تبعات ذلك أبد الآبدين.
ثمّ إنّ نوحاً - شيخ المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين - احتمل في أمْر دينه ما احتمَل، لم يقل إلاّ كلمة واحدة على غير وجهها، إذ نودي:
{ لاَ تَسْأَلْنِـي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّيۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } [هود:46]. حتى روي في بعض الأخبار أنَّه لم يرفع رأسَه إلى السماء حياءً من الله سبحانه وتعالى أربعين سنَة.
ثمّ إنَّ إبراهيم الخليل - صلوات الله عليه - لم يكن منه إلاّ هفوةً واحدة، فكمْ خاف وتضرّع وقال:
{ { وَٱلَّذِيۤ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ ٱلدِّينِ } [الشعراء:82]. حتّى روي أنَّه كان يبكي من شدّة الخوف، ويرسل الله إليه الأمين جبرائيل فيقول: "يا إبراهيم هلْ رأيتَ خليلاً يعذب خليلَه بالنار"؟ فيقول: "يا جبرائيل إذا ذكرتُ خطيئَتِي نسيتُ خُلّتي".
ثمّ موسى بن عمران (عليه السلام) لم يكن منه إلاّ لطمة واحدة عن حدّة، فكم خافَ واستغفَر وقال:
{ { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَٱغْفِرْ لِي } [القصص:16].
ثمَّ في زمانه بلعم بن باعورا كان بحيث إذا نظر يَرى العرش وهو المَعنيُّ بقوله تعالى:
{ { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِيۤ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَٱنْسَلَخَ } [الأعراف:175]. ولم يقل: "آيةً واحدة" مَالَ إلى الدنيا وأهلِها ميلةً واحدة، وتَرك لوليّ من أوليائه خدمة واحدة، سلب عنه معرفته، وجعله بمنزلة الكلْب المطروح، فقال: { مَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ } [الأعراف:176] فأوقَعه في بحر الضلالة والهلاك إلى الأبد، حتّى كان بعض العلماء يقول: "كانَ أمرُه بحيث يكون في مجلسه اثنى عشر ألف محبرة من المتعلّمين يكتبون عنه، ثمّ صار بحيث كان أوّل من صنَّف كتاباً "أن ليس للعالَم صانعٌ" نعوذ بالله، ثمّ نعوذُ بالله من سخَطه وخذلانه - فانظر إلى الدنيا وشؤمها وما يحدث للعلماء - فتنبّه.
ثمّ إنّ داوود (عليه السلام) خليفته في أرضه وقَع منه شيءٌ، فبكى على ذلك حتى نبَتَ العشبُ من دموعه وقال: "إلهي أما ترحَم بكائي وتضرّعي؟" فأجيب: "يا داودُ، قد نسيتَ ذَنْبك وذكرتَ بكاءك".
ونقل مجاهد: إنّه بكى داوود (عليه السلام) أربعين يوماً ساجداً - لا يرفع رأسه - حتّى نبَت المرعى من دموعه، حتّى غطّى رأسَه، فنودي: "يا داوود أجائعٌ أنت فتُطعَم؟ أم عار فتكسى"؟ فنخب نخبَة هاجَ العود فاحترق من حرّ خوفه. ثمّ أنزل الله عليه التوبة والمغفرة. فقال: "يا ربّ اجعل خطيئتي في كفّي" فصارت خطيئته مكتوبة في كفّه، وكان لا يبسط كفّه لطعام ولا لشراب ولا لغيره إلا رآها فأبكته، وكان يؤتى بالقدح - ثُلثاه ماء - فإذا تناول أبصَر خطيئتَه، فما يضَعه على شفتيه حتّى يفيض القدح من دموعه.
وروي أنَّه ما رفع رأسه إلى السماء حتّى مات - حياءً من الله - وكان يقول: "يا إلهي إذا ذكرتُ خطيئَتي ضاقتْ عليَّ الأرض برَحبها، وإذا ذكرتُ رحمتَك ارتدّت إليّ روحي".
ثمّ يونس غضب غضبَة واحدة في غير موضعها فسجَنه في بطن الحوت تحت قعر البحر أربعين يوماً، وهو ينادي
{ { لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } [الأنبياء:87] وسمِعَت الملائكة صوتَه، فقالوا: "إلهنا وسيّدنا صوتٌ معروفٌ في مكانٍ مجهولٍ" فقال الله تعالى: "ذلك عبدي يونس" فشفّعت الملائكة. ثمّ مع ذلك كلّه غيَّر اسمه فقال: { وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً } [الأنبياء:87]. فنسَبه إلى سِجنه، ثمّ قال: { { فَٱلْتَقَمَهُ ٱلْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [الصافات:142 - 144]. ثم ذكر مِنَّتَهُ ونعمته فقال: { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِٱلْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ } [القلم:49]. فانظر إلى هذه السياسة أيّها المسكين.
وكذلك هلمّ جرّاً إلى سيّد المرسلين أكرم خلْقه (صلى الله عليه وآله)
{ { فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [هود:112]. حتّى كان يقول: "شيَّبتني سورة هود وأخواتها" قيل: عنى هذه الآية وأشكالها في القرآن، قال الله تعالى: { وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } [محمد:19]. إلى أن منَّ الله تعالى عليه بالغفران، فقال: { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ٱلَّذِيۤ أَنقَضَ ظَهْرَكَ } [الانشراح:2 - 3]. وقال: { { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [الفتح:2].
فكان بعد ذلك يصلّي الليل حتّى تورّمت قدماه، فيقولون:
"أتفعل هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخّر؟ فيقول: أفلا أكون عبداً شَكوراً وكان يصلّي بالليل ويبكي ويقول في سجوده: أعوذُ بعفوك من عقابِك، وبرضاك من سخَطك، وبك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" .
كان بعض العلماء يقول: "لا تأمَن مَن قطَع من ربع دينار خير عضو منك أن يكون عذابه هكذا غداً" نسأل الله الكريم أن لا يعاملنا إلاّ بفضله، إذ لا طاقة لنا بِعَدله.
وفي الأدعية السجاديّة في الصحيفة الكاملة - على قائلها وآبائه السلام والتحيّة - : "اللّهم إن تشأ تعفُ عنا فبِفضلِكَ، وإن تشَأ تُعذبنا فَبِعَدلِك، فسهِّل لنا عفوَك بمنِّك، وأجِرنا من عذابِك بتجاوزِك، فإنه لا طاقة لنا بَعَدلِك ولا نجاة لأحد منّا دون عفوك".
قال صاحب كتاب الإحياء بعد ذكر مخاوِف الأنبياء (عليهم السلام): "فهذه مخاوِفُهم ونحن أجدَرَ بالخوف منهم، لكن ليس الخوفُ بكثرة الذنوب، بل بصفاء القلوب وكمال المعرفة، وإلاّ فليس أمْننا لقلّة ذنوبنا، وكثرة طاعتنا، بل قادَتْنا شهواتنا، وغلبتْ علنيا شقوتنا، وصدّتنا عن ملاحظة أحوالنا غفلتُنا وقسوتنا، فلا قُربُ الرحيل ينبّهنا، ولا كَثرةُ الذنوب تُحرّكنا، ولا مشاهدةُ أحوال الخائفين تُخوّفنا، ولا خطر العاقبة يزعجنا، فنسأل الله تبارك وتعالى أن يتدارك بفضله وجُوده أحوالَنا فيصلحنا، إن كان تحريك اللسان بمجرّد السؤال دون الاستعداد يَنفعنا.
ومن العجائب أنّا إذا أردنا المال في الدنيا زرَعنا، وغرَسنا، واتّجرنا، وركبنا البحار، والبرَاري، وخاطَرنا، وإن أردنا طلب رُتبة العلم تفقّهنا، وتعبنا في حفظه، وتكراره وسهَرنا، ونجتهد في طلب أقواتنا، ولا نثِق بضمان الله، ولا نَجلسُ في بيوتنا فنقول: "اللهم ارزقنا" ثمّ إذا طمحت أعيننا نحو المُلك الدائم المقيم، قنَعنا بأن نَقول بألسنتنا: "اللهم اغفر لنا وارحمنا" والذي إليه رجاؤنا وبه اغترارنا ينادينا ويقول:
{ أَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } [النجم:39] فما هذه إلاّ محنةٌ هائلة إن لم يتفضّل الله علينا بتوبة نصوح... فنسأل الله أن يسوق إلى التوبة سرائرَ قلوبنا".
تذكرةٌ
اعلم أنّ في الآية دلالة على أنّ كثرة النعم يعظّم المصيبة وعلى أنّ تقدّم العهد يعظّم المخالفة، وعلى أنّ الخطْب في العلماء والتشديد عليهم في باب الذنوب أعظَم، وعلى أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما كان مبعوثاً إلى العرَب، كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل.
وفي قوله: { وَإِيَّايَ فَٱرْهَبُونِ } دلالةٌ على أنّ الكل بقضاء الله، ولا استقلال للعبد في فعْله، وإلاّ لوَجب أن لا يخاف إلاّ من نفسه، لأنّ مفاتيح ثوابه بيده - لا بيد الله - .
وفيها أيضاً دلالة على وجوب معرفة الله على وجهٍ يعلم به كون الكلّ بقضائه، وأن لا تأثير لأحدٍ في حُكمه ولا رادّ لقضائه، وهذا متوقّف على علوم كثيرة، ومسائل شريفة يجب الخوضُ فيها، لأنّها ممّا لا يتمّ هذا الواجب إلاّ بها، ومقدّمات الواجب واجبة، فالعلم به تعالى، وبصفاته، وبكيفيّة أفعاله بقدر الطاقة واجبٌ، والله أعلم بأسراره.
قرئ: "اذّكَروا" وهو من باب الافتعال. وقرئ: "نعمتي" بإسكان الياء واسقاطها في الدرج، وهو مذهب من لا يحرِّك الياءَ المكسورة ما قبلها. وقرئ "اوَفّ" بالتشديد للمبالغة.