التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـٰقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ
٤٦
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

أي يتوقّعون لقاء الله ونيل ما عنده، ويتيقّنون أنهم يُحشرون إلى الله. فالظنّ هاهنا بمعنى العلْم، كما في قوله تعالى: { { إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ } [الحاقة:20]. ويؤيّده أنَّ في مصحَف ابن مسعود "يعلمون" وأنَّ الظنّ هو الاعتقاد الراجح الذي يقارنه تجويز النقيض، وذلك يقتضي أنّ صاحبه غير جازم بيوم القيامة، وذلك كفْر فكيف يمدح الله لهم عليه.
وعلاقة التجوّز أنَّه شابَه العلم في الرجحان، ولتضمين معنى التوقّع.
ومن حمل اللفظ على ظاهره، وجعل ملاقاة الرب مجازاً عن الموت، فإمّا أن يقول: المراد "الذين يظنّون الموت في كلّ لحظة فإنّهم لا يفارق قلوبهم الخشوع فهم يتبادرون إلى التوبة، لأنّ خوف الموت من دواعي التوبة". وإمّا أن يفسّر "ملاقاة الرب" بملاقاة ثوابه، وذلك مظنون غير معلوم، أو يقول: إنّ المعنى: "يظنّون أنهم ملاقوا بذنوبهم" فإنّ الإنسان الخاشع لا وقْع لطاعاته عنده، فيغلب على ظنّه أنَّه يلقى الله بذنوبه، فعند ذلك يتسارع إلى التوبة، والانابة، والصبر، والصلاة.
وهاهنا وجه آخر، وهو أنَّ العلم بكيفية المعاد، وبأنّ أفراد الإنسان وغيرهم ملاقون ربّهم يرجعون إليه بالحقيقة علمٌ شريف، غامض، لا يحصل لأحد على وجه اليقين إلا للكمّل من العرفاء، وليس لعامّة أهل الإيمان إلاّ مرتبة الظنّ به على سبيل التخيّل، والتسليم.
ولأجل غموضه، وعلوّ سمْكه عن مدارك العقول، كرّر ذكره في القرآن، وكثر المنكرون له في كلّ زمان، حتّى أنّك ترى كثيراً من العقلاء القائلين بوجود الصانع للعالَم وتوحيده، منكرين للمعاد، وحشر الخلائق إليه تعالى، فالظنّ به حاصل لكلّ مؤمن خاشع لله، وذلك الظنّ كافٍ في أن يبعث له على الصبر، والصلاة، وسائر العبادات.
وأمّا مرتبة علم اليقين بلقاء الله، والرجوع إليه، فهي ثمرة العبادات، وغاية الصبر، والصلاة.
فصل
كلام في رؤيته تعالى
قال الإمام الرازي في تفسيره: استدلّ بعض الأصحاب بقوله تعالى: { مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } على جواز رؤية الله.
وقالت المعتزلة: لفظ "اللقاء" لا يفيد الرؤية. والدليل عليه الآية والخبر والعُرف:
أمّا الآية فقوله تعالى:
{ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } [التوبة:77]. والمنافق لا يرى ربَّه. وقوله: { { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثَاماً } [الفرقان:68]. وقال تعالى في معرض التهديد { { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ } [البقرة:223]. فهذا يتناول المؤمن والكافر. والرؤية لا تثبت للكافر. فعلمنا أنّ اللقاء ليس عبارة من الرؤية.
وأمّا الخبر فقوله صلى الله عليه وآله:
"مَن حلَف على يمين ليقتطع بها مال امرئٍ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان" وليس المراد "رأى الله" لأنّ ذلك وصف أهل النار.
وأمّا العرف فهو كقول المسلمين "مَن مات لقى الله" ولا يقولون: "رأى الله" وأيضاً: فاللقاء يراد به القرب ممّن يلقى على وجه يزول الحجاب بينهما، ولذلِك يقول إذا حجب عن الأمير: "ما لقيته بعد ذلك" وإن كان قد رآه، وإذا أذن له في الدخول عليه يقول: "لقيته" وإن كان ضريراً.
ويقال: "لقي فلانٌ جحداً شديداً" و "لقيت من فلان الداهية" و "لقي فلان جماعة". وكلّ ذلك يدلّ على أنّ اللقاء ليس عبارة عن الرؤية، ويدلّ عليه قوله تعالى:
{ فَالْتَقَى ٱلمَآءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } [القمر:12].
ثمّ قال: "قال الأصحاب: "اللقاء" في أصل اللغة عبارة عن وصول أحد الجسمين إلى الآخر بحيث يماسّه بسطحه. يقال: "لقي هذا ذاك" إذا ماسّه واتّصل به، ولمّا كانت الملاقاة بين الجسمين المذكورين سبباً لحصول الإدراك. فحيث يمتنع اجراء اللفظ على المماسّة وجَب حملُه على الإدراك، لأنّ اطلاق لفظ السبب على المسبّب من أقوى وجوه المجاز، فثبَت أنَّه يجب حمل أنَّه يجب حمل اللِّقاء على الإدراك.
أكثر ما في الباب أنَّه ترَك هذا المعنى في بعض الصور لدليل يخصُّه، فوجب اجراؤه في البواقي على الإدراك وعلى هذا التقدير زالت السؤالات انتهى كلامه.
أقول: من أراد أن يقتنص حقائق المعارف الإلهيّة - خصوصاً العلم بهذه المسألة الغامضة، التي تحيّرت فيها مدارك أهل الفكر والنظر، وعجزت عن ادراكها عقول الأوائل والأواخر إلاّ من أيّده الله بنوره، وفتح بصيرته لمشاهدة عالَم الآخرة - بوسيلة الألفاظ الوضعية، والاطلاقات العرفيّة، فالضلال أسرع إليه من الهدى.
واعلم يقيناً أنَّ من فارَق طريق التسليم، والقبول، والإيمان بالغيب - كسائر الضعفاء - وخاض في مثل هذه الأدلّة الكلاميّة في باب معرفة الله، ومعرفة لقاء الله يوم الآخرة، فقد تعرَّض لخطر عظيم من سوء العاقبة، فإنّه إذا جاء وقت حضور الموت، وكشف الغطاءِ، ظهر عليه بطلان ما اعتقده، وفساد الأدلّة التي لفَّقها ونسجها كبيت العنكبوت، واعتمد عليها في حياته تعصُّباً وجهلا.
إلاّ إذا جاوَز من حدود معقولة إلى نور المكاشفة الذي يشرق في عالَم النبوّة والولاية والقُرب، ويقع اشراقه على قلب من توجَّه بمرآة باطنه إلى باطن النبوّة، وحاذى بها شطره، وصحّح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وآله بإحكام المحبّة، وسلوك طريق المتابعة له. ولآله عليهم السلام، حتى نال شيئاً مما نالوه، ووقَف على شيء مما وقَفوه، وشرب من ماء عين اليقين كما شربوه. وحينئذ لاحَ له أحوال الملكوت، وأسرار القيامة، ولقاء الله، ومعنى رجوع الكل، وذلك هو الكبريت الأحمر، والفاروق الأكبر، لا يقع إلاّ بيد ملوك الآخرة وسلاطينها، وليس يحصل للأُسراء المحبوسين في عالَم الحسّ والمحسوسات، المقيّدين بقيود التعلّقات إلا اسم ورسم فالاسم لعوامهم، والرسم لعلمائهم، لأنّهم المقتصرون على السمعيّات والرسوم، وما يلفّقون بأفكارهم منها، فلذلك أمْرهم دائرٌ في هذه المسألة بين اعتقاد رؤيته تعالى بهذا البصر الدائر في اليوم الآخر، وبين حمل اللقاء على لقاء الثواب، وكلّ منها بمعزل عما هو معلوم أُولي الألباب.
واعلم أنّك لو أردت أن تكون عالِماً ربّانياً مفسّراً للكلام الإلهي من دون أن تتعب نفسك، وتداوم على الأُمور المقرّبة للقدس - من الرياضة، والخضوع، والخشوع، والصبر والصلاة، وتجريد الذهن عن الخواطر، وسدّ أبواب المشاعر، ودوام النظر في الإلهيات - فقد حدّثت نفسك يممتنع، أو شبيه بالممتنع.
والناس يجتهدون في طلَب أمر باطل، أو تحصيل موهوم خياليّ غاية الاجتهاد، ويرتكبون الأُمور الشاقّة وترك المألوفات لا لغرض شريف. فقبيحٌ لطالب الحقّ أن يرضى بالقعود ولا يجتهد في السعي إلى ذكر الله ودرك ما عند الله.
فإن طلبت واجتهدت لا تلبث زماناً طويلاً إلاّ ويأتيك بارقةٌ نورانيّة، ثمّ تتوالى عليك حتّى يصير ورودُه لك ملكَة، فتعلَم أنَّ فيك نوراً شارقاً لذيذاً، تعلم باشراقه أنَّ جميع الأشياء متوجّهةٌ نحو الأوّل تعالى توجّهاً جبلياً، سالكة إليه سلوكاً جوهريّاً ذاتياً ولها رجوع إليه تعالى كما تكرّر ذكره في القرآن، وساعَده البرهان.
وأنت قبل أن يحصل لك الارتقاء إلى هذا المقام، يجب أن تعتقد أنّ جميع الموجودات بحسب مالها من الكمالات - عقليّةً كانت، أو نفسانيّةً، أو طبيعيةً - طالبةٌ لكمالاتها الثانية، ومتشبّهة بعللها ومباديها في تحصيل ذلك الكمال بحسب ما يتصوّر في حقّ كلّ منها ويليق به، وأنّ لكلّ نوع من الأنواع المفارقة، والأثيريّة، والعنصريّة كمال مّا، وعشق إلى ذلك الجمال، وإنْ تصوَّر فقْدَ ذلك الكمال، فشوق اراديّ لِمالَه حياة ظاهرة، أو طبيعيّ لما ليس له حياة ظاهرة. والكلّ عند أهل الله حيوان، فاهِمٌ، عاقلٌ. ولولا عشق العالي لانطمَس السافل.
وإذا ثبت هذا، وثبت أنَّ لكل موجود غاية في وجوده كما أنَّ له فاعلاً، وأنَّ لكل فاعل في فعله غرضٌ ولفعله غاية، ولو كان لكلّ غايةٍ غايةٌ من غير أن تنتهي إلى غاية الغايات لتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية - وهو محال - ويلزم أيضاً بطلان الغاية بالكلّية - كما لا يخفى - فلا بدّ أن يكون لجميع الموجودات غاية أخيرة تنتهي إلى الغايات بأسرها، ولا بدّ أن تكون عين المبدإ الأوّل للكلّ وإلاّ لزم تعدّد الباري، فإنّ الغاية الذاتيّة للشيء يجب أن تكون دائماً متقدمة على وجوده، وهي نفس ما هو الفاعل بالحقيقة.
وأمّا التقسيم الذي وقَع في كلام الحكماء "وهو أنَّ ما لأجله الشيء قد يكون في بعض الأمور في نفس الفاعل، كالفرح، والغلبة، وقد يكون في بعضها في غير الفاعل وذلك تارة في القابل، مثل آخر الحركات التي تصدر عن فكر، أو طبيعة كصورة الكرسي في الخشَب - وتارة في شيء ثالث - كمَن يفعل فِعْلاً ليرضى به فلان، فيكون رِضى فلان غايةً خارجة عن الفاعل والقابل". والتحقيق أن هذا التقسيم إنّما يجري فيما هو غايةٌ بالعرض، وأمّا الغاية بالذات فلا تكون خارجة عن ذات الفاعل أبداً. فإن من فعَل فِعْلا ليرضى به فلان إنّما غرضه الأصلي حصول راحة، أو لذّة تعود إلى نفسه، وإلاّ لَما فعَله.
فالغاية الذاتيّة بالحقيقة ما اتّصل بالفاعل، أو وصل إليه الفاعل، فإنّ محصِّل صورة الكرسي في الخشب بعمَل، وقاصد رضاء فلان بفعل، ليس غرضُه إلاّ طلب أولويّةٍ تعود إلى نفسه. وكذا الباني في بناء بيت للاستقرار، أو للأُجرة، لا يبنيه إلاّ لحصول غاية أخيرة، وهي الأولوية العائدة إلى نفسه.
وممّا يجب أن تعلم أنَّ في الغاية أشياء ثلاثة:
أحدها: الغاية بمعنى ما يجعل الفاعلَ فاعلاً ويسمّى "علّة غائِيّة" وهي علّة فاعليّة لفاعليّة الفاعل. ولا شبهة في تقدّمه على الفعل - بل على الفاعل من حيث هو فاعل - وهذا في الفاعل الأوّل - أي صانع العالَم - عينُ ذاته، فإنّ ذاته بعينه فاعل للأشياء، وعلّة غائيّة، لأجل علمه بوجوه الخير، الذي هو الداعي لايجاد الخير في العالَم، وذلك الداعي هو عين ذاته.
وثانيها: الغاية بمعنى ما يترتّب على الفعل وينتهي إليه الفعل ترتّباً وانتهاء ذاتيّا - كصورة الخشَب والسيف، التي انتهت إليه حركة النجّار والسيّاف -.
وثالثها: الغاية بمعنى الضروري اللاَّزم لما هو الغاية الأخيرة من غير أن يتوجّه إليه الفعل والحركة، كالدُّكنة الحاصلة في السيف مثلاً. والذبول والموت من هذا القبيل، فإنّ الحرارة مستولية على البدن للأفاعيل النباتيّة، أو الحيوانيّة، لأجل الغايات المطلوبة منها، فإذا استولت تقلّل الرطوبات الغريزيّة شيئاً فشيئاً لأجل تلك الغايات، فيحصل للمادة الذبول بالعرَض. وكذا يطرأ على البدن الموت بهذا السبب، أو لأجل تماميّة النفس، وانصرافها، وتوجّهها إلى النشأة الثانية. ويقال لهذا القسم: "غاية اتفاقيّة".
وقد تكون الغاية الاتفاقيّة لشيء غاية ذاتيّة لشيء آخر، فلها سبب اتّفاقي، والسبب الاتّفاقي يجوز أن يتأدّى إلى غاية ذاتيّة. وقد يجوز أن لا يتأدّى، مثل الحجر الهابط من الجبل إذا شجّ، فربما هبَط إلى مهبط، وربما لم يهبط. فإن وصل إلى غايته الطبيعية، يكون بالقياس إليها سبباً ذاتيّاً، وبالقياس إلى الغاية العرضيّة سبباً اتّفاقياً. وأمّا إذا لم يصل إليها كان بالقياس إلى الغاية الذاتيّة باطلاً.
والاتّفاق من حيث هو اتّفاق لا يكون دائميّاً ولا أكثريّاً. بل يقع على سبيل الندرة، لما علمت أنَّ ما هو اتّفاق بالقياس إلى سبب فهو ذاتيٌّ بالقياس إلى سبب آخر، فالأسباب الطبيعيّة، أو الإراديّة متقدمة على السبب الاتّفاقي - تقدّم ما بالذات على ما بالعرَض - وجميع الأمور الطبيعيّة، والاتّفاقية، متوجّهة نحو غايات بالذات لا بالعَرض، وأنّ الاتّفاق طار عليها، وأنّ الغايات الاتّفاقية، غايات بالعرَض وأمّا وجودها فهو بالذات، وله غايةٌ أيضاً بالذّات.
فثبت وتحقّق أنَّ وجود العالَم بأسره ليس على سبيل الاتّفاق، وإن كان للاتّفاق فيه مدخل، وذلك بالقياس إلى بعض أفراد العنصريّات، حيث لا تعتبر الأسباب المقتضية المكتنفة، ولا يقاس إلى الأسباب القصوى للكل، وإلى السبب الأوّل، والغاية العظمى، وغاية الغايات.
وكذا وجود العالَم خير كلّه، وقع من فاعل هو خير محض. والشرّ واقع بالعرَض بعلّة عرضية منتهية إلى عدم، أو نقص، أو ذات ناقصة، كإبليس ونحوه.
فبطَل ما حكاه قوم عن انباذقلس، أو ذيمقراطيس من القول بالاتّفاق، وكذا ما قالت الثنوية القائلة بوجود مبدإ آخر للشرور بالذات، وكذا ما زعمه أقوام من أنّ الباري يفعل الأشياء ويتركها من غير نظام، وغاية، وداعٍ. فانّ ما زعموه يجري مجرى القول بالاتّفاق، أو القدَر الذي قاله الثنوية تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.
وقد ذكر الحكماء في كتبهم ابطال هذه المذاهب الخبيثة ببيانات، ودلائل موضَّحة، من جملة تلك الدلائل أنّ البقعة الواحدة إذا سقط فيها حبّة بُرِّ، وحبّة شعير، أنبت البُرّ بُرّاً، والشعير شعيراً البتّة.
ومنها: إنّ الغايات الصادرة عن الطبائع الأصلية في حال ما تكون غير معوّقة كلّها كمالات. وإنَّها إذا تأدّت إلى أمور ضارّة كان ذلك في الأقل. فلهذا ما يقال: لِمَ لا ينبت الشعير بُرّاً؟ ولِمَ لا يتولّد شجرة مركّبة من تين وزيتون؟ ولِمَ لَم تبق الأنواع محفوظة على الأكثر.
ومنها: إنّا إذا أحسسنا بقصور من الطبيعة نُعينها بالصناعة. وإذا طرأ وَهنٌ، أو آفةٌ، أو مرض يعوق الطبيعة عن فعلها. نُعالجها بالدواء، كما يفعله الطبيب معتقداً أنَّه إذا زال العارض، وصلح القابِل، واشتدّت القوّة، توجّهت الطبيعة إلى فعلها من الصحّة، وليس للرويّة، والفكر مدخل في حصول الغاية.
فليس إذا عدمت الرويّة وجَب أن لا تكون الطبيعة لفعلها غاية. فإنّ الرويّة لا تجعل الفعل ذا غاية، بل لها مدخل في تعيين الفعل الذي يختاره من بين أفعال يمكن صدورها عنا، لكل منها غاية تخصّه، فإنّ لكلّ فعل يلزمه غاية بالضرورة لا بفعل فاعل، وليس الفاعل يجعل الفعل ذا غاية، بل الغاية ممّا يجعل الفاعل ذا فعل يفعله لأجل تلك الغاية.
ولو كانت النفس مسلّمة من المعارضات لكانت يصدر عنها فعل متشابه على نهج واحد طلباً لما هو كمال لها، وحال السماويّات وملكوتها هكذا، لكونها سليمة عن المعارضات، والقواطع للطريق، فلا جرم هي مؤدّية إلى غاياتها.
وقد علمت أنَّ الغاية غير خارجة عن ذات الفاعل، فيكون الفعل الصادر عن فاعله مؤدّياً وواصِلاً إليه، متقلّباً إليه، بل منقلباً إيّاه وقد صار أعلى وأشرف ممّا كان.
وكذا الكلام في الغاية، حيث إنَّ لها غاية أيضاً. والكلام في غاية الغاية كالكلام في الغاية، بل غاية الغاية إذا كان وجودها وجوداً إمكانياً أولى بأن يكون لها غاية، كما أنّها أولى بأن يكون لها فاعل. لأنّ وجودَها أقوى، وأشرف، وأدوم. فكيف يكون عبثاً بلا غاية، أو اتفاقاً، أو جزافاً؟ فسلسلة الغايات تنتهي إلى واجب الوجود.
هذا في غير الإنسان. وأمّا في الإنسان فقد ينتهي بعض مِن أفراده مِن أدنى المراتب إلى أعلى الغايات لكونه مختصّاً من بين سائر الأنواع بالاستحالة إلى الحالات والتطوّر في الأطوار والنشآت، فرجوع الأشياء إلى الباري نحو آخر، ورجوع السالك الإنساني المجذوب إليه نحو آخر.
وذلك لأنّ سائر الأشياء - ما سوى الممكن الأشرف والعقل الأوّل - معنى انتهائها، ورجوعها إلى الربّ تعالى، إمّا عبارة عن انتهاء مبادئها، وغاياتها، وأسبابها إليه تعالى. فهي راجعة إلى الوسائط، والوسائط متأدّية إلى الممكن الأشرف المتوسّط بينها وبين سائر الممكنات، وهو منتهٍ راجع إليه تعالى دائماً، لأنّه تعالى غايته ولا غاية له سواه. وإمّا عبارة عن معيّة الحق الأوّل لكلّ موجود - معيَّةً قيُّوميّة - لشمول نور وجوده للأشياء.
وأمّا معنى رجوع العبد وعوده إليه تعالى، فهو عبارةٌ عن وصوله إلى الحضرة الإلهيّة بعد طيّ منازله، ومقاماته البعيدة والقريبة، فمن ابتداء حركته الرجوعيّة إلى وصوله إلى لقاء الله تعالى قد قطَع جميعَ القوس العروجيّة، وهي نصفُ دائرة الوجود من المادّة الأرضيّة إلى الحضرة المقدّسة، وهو بإزاء النصف النزولي منها، وهو من الحضرة المقدّسة الهويّة الأولى إلى الهاوية السفلى.
والعجب من بعض الحكماء - كأبي علي وأتباعه - كيف أنكروا على بعض المتقدّمين فيما ذهب إليه من القول بأنّ النفْس الإنساني تتّحد بالعقل الفعّال عند الاستكمال. وقد بالَغ الشيخ أبو علي في الردّ على مقدَّم المشائين بعد أرسطو المسمّى بفرفوريوس وهو عندي أعظم تلامذة ذلك الحكيم الموحّد الربّاني لوثاقة قوله، ومتانة رأيه، وحُسن سماعه، واهتدائه بكلام معلّم القوم بالتوحيد، والمعاد ما لم يسمع غيره، ولم يهتد به مَن سواه مِن شركائه في التعليم، والصناعة، كالإسكندر الافروديسي، وثامسطيوس، وغيرهما من شرّاح كلماته وأسراره، ونقلَة كتبه وأسفاره، وحفظَة علومه وأخباره.
ووجْه العجَب أنَّه كيف خَفي الحالُ على مِثل أبي عليّ ومَن يحذو حذوَه حتى شنّعوا على القول باتّحاد العقل المنفعل بالعقل الفعّال؟! وقد شاهَدوا من الإنسان الانتقال في الصوَر والأحوال.
فكان قد أتى عليه شيءٌ من الدهر لم يكن شيئاً إلا القوّة والاستعداد، والحامل لها الهيولى التي هي أخسّ المواد، ثمّ اكتسى بصورة العنصريّة، بل الأرضيّة التي هي أظلم الأجساد - فإنّها الغالب على مادّة بدنه - ثمّ تصوّر بصورة المنويّة - وهي من أوهن الأشياء وأضعفها - وهكذا تدرّج في الاستكمال حتّى صار حيواناً سميعاً بصيراً. ثمّ استكمل وصار قابلا للاهتداءِ إلى طريق الحقّ - إمّا عارفاً مهتدياً، وإمّا جاهِلا ضالاًّ - كما أشار تعالى إليه بقوله:
{ { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ } [الإنسان:1] إلى قوله: { إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [الإنسان:3].
فمَن جوَّز صيرورة اللاشيء - كالمادّة الأولى - شيئاً أي صورة بناء، على ما هو التحقيق من الاتّحاد بين المادّة والصورة المقوّمة إيّاها، اتّحاداً في الوجود، وإن كانا مختلفين في المعنى والمفهوم، كالاتّحاد بين الجنس والفصل، لأنّ الجنس والفصل هما عين المادّة والصورة بالذات وغيرهما بالاعتبار وكذا جوّز صيرورة الجماد كالنطفة حيواناً، والحيوان جوهراً عاقلاً بالقوّة. كيف أنكَر صيرورة العاقل بالقوّة عاقلاً بالفعل؟ أو صيرورة العقل المنفعل عقلاً فعّالا؟! فإنّ المباينة هناك ليست بأقلّ من المباينة هاهنا.
فإن قال قائل: إنّ المادّة ما صارت صورة قبلتها، فإنّ الإنسان من مبدإ تكوّنه في الرحم عند الشهر الرابع أو من حين استقرار النطفة فيه إلى آخر كماله في العلم والولاية شيء واحد بعينه في الوجود والجوهريّة بالذات، وقد طرأ عليه صفات وأعراض، حتّى لم يكن فرقٌ بين أجهل الناس كأبي جهل وأعقلِهم كمحمّد (صلى الله عليه وآله) فقد كابر مقتضى عقله وفِطرته.
بل الإنسان أبداً في التحوّل إلى النشآت والأطوار، إلى أن ينقلب إلى الدار الآخرة. وهذا عامٌّ لكلّ أحد، سواء أتمّ حركته التحوّليّة في القوس الرجوعيّة - حتى إذا وصل منتهاه، وبلغ إلى مناه، وفاز بلقاء مولاه - أو قصّر في ذلك فضلّ عن الطريق، وهوى في هاوية الهوى، أو نزل إلى أفق البهائم، وترَك الترقي إلى أفق الملإ الأعلى، وخانَ في الأمانة التي أودعها الله فيه، وأنعَم بها عليه.
بل هو أسوأ حالاً من البهيمة، لأنّها تتخلص بالموت، وأمّا هو فلا بدّ له من الرجوع. لأن عنده أمانة سترجع إلى مودعها، وكانت تلك الأمانة في مبدإ الفطرة قبل نزولها إلى القالب مشرقةً زاهرة كالشكس، فإذا هبطت إليه وغربت فيه مدة ستطلع من مغربها، وستعود إلى مبدئها وبارئها إمّا مظلمة منكسفة، وإمّا مشرقة زاهرة.
والمشرقة غير محجوبة عن الحضرة الإلهيّة. والمظلمة أيضاً راجعةٌ إليه مع الحُجب الظلمانيّة. لما أشرنا إليه أنَّ الأشياء كلّها راجعةٌ إليه، صائرة إليه تعالى بوجه آخر، إذ المرجع والمصير للكلّ إليه. إلاّ أنّ النفوس المجرِمة الشقيَّة ناكِسةٌ رؤوسها عن جهة ربّها إلى جهة الهَوى والهاوية، كما قال تعالى:
{ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ } [السجدة:12]. فانقلبت وجوهُهم إلى أقفيتهم، وانتكسَت رؤوسهم من جهة أعلى عليّين إلى جهة أسفل سافلين، وذلك حكم الله فيمَن حرَمه التوفيق، وأضلّه الهَوى عن طريق الهُدى نعوذ بالله من سوءِ العاقبة.
فصل
في زيادة الاستبصار في تحقيق المصير إلى لقاء الله في دار القرار
اعلم أنَّه كما أفادنا النظر في الوجود وعلله اثبات فاعل أوّل، كذلك أفادنا فيه إلى اثبات غاية أخيرة له، ويجب أن تكون تلك بعينها ما فرضناه فاعلا، إذ الغاية ما يجعل الفاعل فاعلاً ويكمله إذا كان مما يعتريه قصورٌ، أو نقص.
وأمّا الفاعل التامّ الذي فوق الكل ووراء الوراء فليس له كمال منتظَر يبلغ، بل الأشياء مما يصير به تامّاً كاملاً، إذ به تمام كلّ شيء، وكمال كلّ ذي كمال، فما سواه ناقص بذاته كامل به.
فالله هو الأوّل الذي لا أوّل له، وهو الآخر الذي لا آخر له، لَيسَ كمِثْلِه شَيء لأنّه أصل الوجود، ومنه ابتداء الأمر، وإليه ينساق الوجود، وهو العلّة الفاعليّة للوجود، والعلّة الغائيّة له.
فإن قيل: كيف يكون ما هو العلّة الفاعليّة علّة غائيّة، والعلّة الفاعليّة قبل الشيء لينبعث منه الشيء، والعلّة الغائية يجب أن تكون متأخّرة الوجود عن الشيء ليستتبعها الشيء؟
فالجواب: إنّ العلّة الغائيّة - إن تأمّلت - فهي في الحقيقة عين العلّة الفاعليّة دائماً - لا في هذا الموضع خاصّة - فإنّ الجائع إذا أكل ليشبع، فإنّما أكل ليشبع لأنّه تخيَّل الشّبع، فحاوَل أن يستكمل له وجودُ الشّبع، فيصير من حد التخيُّل إلى حدّ العين. فهو من حيث إنّه شَبعان تخيُّلاً هو الذي يأكل ليصير شبعان وجوداً، فالشبعان تخيّلاً هو العلّة الفاعلية، والشبعان وجوداً هو الغاية.
فالأكل صادر من الشبع، ومصدر للشبع، فالشبع هو الذي كان علّة فاعليّة للأكل، وعلّة غائيّة له، ولكن باعتبارين مختلفين، فهو باعتبار الوجود العلمي فاعلٌ، وباعتبار الوجود العيني غايةٌ.
والأمر فيما نحن فيه على عكس ذلك بوجه. فإنّ الله عز وجل حيث أنبأنا عن غاية وجود العالَم، قال:
"كنتُ كنزاً مخفيّاً، فأحببتُ أن أُعرف، فخلَقتُ الخَلْق لأُعرف" . فدلَّنا على أن غاية وجود العالَم هو الله معروفاً، فهو موجوداً علّة فاعليّة للعالَم، وهو مشهوداً علّة غائيّة.
فهذا وجهٌ من تحقيق هذا الكلام، وهاهنا وجه آخر أدقّ من هذا، فغاية الوجود هي لقاء الله عز وجل، لذلك بُنيَ العالَم، ولأجله نظّم النظام، وإلى ذلك ينساق الوجود. و
{ { أَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ } [النجم:42].
تتمّةٌ
غاية سير الأشقياء والسعداء
واعلم أنَّ هاهنا غاياتٌ وهمية مجعولة للأوهام، زيّنت لطوائف من الناس، فهم سالكون إليها في لبس وعماية من غير بصيرة ولا دراية، وهم كلّ الناس، إلاّ عباد الله المخلصين.
واعلم أنَّ هؤلاء الطوائف ليسوا بمحلّ نظر وليّ الوجود، ولا يعبأ الله بهم، فإنّهم مع وليّ الوجود في شقاقٍ بعيد، فإنّهم متوجّهون إلى غير ما وجَّه الله إليه الوجود، ونظَّم له النظام، فهم في شقٍ والوجود في شقّ. فهم ليسوا بعباد الله، ولا الله مولاهم وسيّدهم، وإنّما أولياؤهم ما تولّوا إليه من الهوى والشهوات،
{ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً } [الفرقان:77]. وإذ لما هم عليه من الهوى نظامٌ جزئيٌّ، فله لا محالة وليّ وهو شيطان من الطواغيت. فإن شئتَ سمِّهم عَبَدة الهَوى، وإن شئتَ سمّهم عَبَدة الطواغيت فقد نزَل بكلّ ذلك القرآن.
فمَن تولّى الله وأحبّ لقاءه وجرى على ما أجرى عليه النظام الحقيقي، تولاّهم وهو يتولى الصالحين. ومن تعدّى ذلك فطغى وتولّى الطواغيت، واتّبع الهوى - ولكلّ نوع من الهوى طاغوت - ولاّه الله ما تولاّه، فشخَص لكلٍّ معبوده، ووجّه إليه.
وإنّك لتعلَم أنَّ النظامات الوهميّة، والغايات الجزئيّة، تضمحلّ ولا تبقى حتّى هلاك هذه الدار، انتقل الأمر إلى الواحد القهّار، فمن كان وليّه الطاغوت - والطاغوت من جوهر هذه النشأة الدنيويّة - فكلما أمعنَت هذه النشأة في العدم والدُثور ازداد الطاغوت في الاضمحلال.
فطاغوت الإنسان من حين مات الإنسان يأخذ متحرّكاً في العدم، والإنسان يتبعه، لأنَّ الله تعالى يولّي كلاًّ ما تولاّه. وهذا منه عدْل، فيذهب به الطاغوت ممعِناً في وروده العدم، متقلّباً به في الدركات حتّى يحلّه دار البوار لا يموت فيها ولا يحيى.
لا يموتُ، لأنّ ذلك عند خراب الدنيا بالكلّية، وإذا خرِبت فتح الله خزائن الحياة، وأفاض بكلّ النور، ومسح به البريّة مسْحة، التحم بها وجودُهم التحاماً لا يداخلهم الفساد بعد ذلك. ولا يحيى لأنّه استقبل بوجهه الطاغوت، والطاغوت عدمٌ وباطل، والمسْحة النوريّة الوجوديّة إنما تأتيه من وراء ظهره، وانّما تأتي من قِبَلِ الوجهِ عبادَ الله الذين استقبلوا اللهَ بوجوههم.
فإذا حلّ دار البوار اشتعل فيه النار، وأحاط به سرادقها. لأنّ نار النيران قد خلَقها عزّ وجل وأسكنها دار البوار. وهي نار الله الموقدة التي تطّلع على الأفئدة، والعذاب الأكبر للذي قدم من ذنوبه العذاب الأدنى فافهم ما تلوناه عَليك فإنّه لُباب المعرفة.
نتائج ما مضى من التحقيق
وبما حقّق به المقام وفسِّر به الكلام انفسح احتجاج المجسّمة بهذه الآية على تجسّم الإله - تعالى عن ذلك - من أنّ الرجوع إلى غير الجسم محال.
واضمحلّ أيضاً احتجاج التناسخيّة بها من أنّ الرجوع إلى شيء يقتضي السابقة إليه، فدلّ على كون النفوس قديمة في عالَم الروحانيّات، إذ قد علمت أنَّ هذا الرجوع رجوعٌ معنويّ بعد تطوّر النفس في الأطوار، وطيّ مراتب الأكوان في النشآت الطبيعيّة، والحسيّة، والخياليّة، والوهميّة، والعقليّة. وأنَّ هذا الرجوع رجوعٌ غائيّ، وحكم السابقيّة فيه على محاذاة حكم اللاَّحقيّة.
غاية الأمر أنّ للنفس نحواً من الحصول سابقاً - ولو باعتبار صورتها العقليّة، أو العلميّة، أو الاسميّة كما عليه العرفاء - وأين هذا من التناسخ، وبينهما من الفرق كما بين الأرض والسماء، والظُّلمة والضياء. فظهَر فساد قول المجسّمة والتناسخيّة.
وظهَر أيضاً ضلال الثنويّة، لما علمت أنَّ توجّه الأشياء إلى ما هو الخير الحقيقي.
وقد علمتَ أيضاً فساد رأي القائلين بالبخت والاتفاق. وظهَر لك أيضاً كذْب الطباعيّة، والدهريّة من أوساخ البريّة القائلين: بأن ليس لطبائع الأنواع كالأفلاك والعناصر وما فيهما غاية أُخرى يؤدّي إليها.
ولمَّا دريت امتناع "تكوّن الأشياء عنه تعالى حاصل من غير داع وغاية هي عين الفاعل الأوّل" علمتَ فساد رأي الأشاعرة النافين للداعي والحكمة.
وعلمت أيضاً بطلان رأي المعتزلة لاثباتهم الداعي له تعالى في فعله أمراً مغايراً لذاته، كذات الوقت، أو الأصلح بحال العبد، أو ما يجري مجراهما، وذهلوا عن أنّ ذلك يؤدّي إلى القول بنقصانه تعالى في ذاته عمّا هو الأولى له، والأليق به، واستكماله بالممكن - تعالى عن ذلك علوّا كبيراً -.
فبقي أن يكون المذهب المنصور هو الذي عليه أهل الله وأهل اليقين، المنتمون إلى أهل بيت الولاية والعصمة سلام الله عليهم أجمعين.