التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَٰقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ
٥٤
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

هذا هو الإنعام الخامس من الله لهم، وذلك لأنّه نبَّههم على عظيم ذنبهم، ثمّ نبَّههم على طريق تخلُّصهم من عذاب يوم القيامة، وذلك من أعظم النِّعَم في الدين، ثمّ إنّه تاب عليهم قبل فنائهم بالكليّة، فكان ذلك نعمة في حقّ الباقين.
يعني: أذكروا يا أهل الكتاب { إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ } الذين عبَدوا الْعِجْل عند رجوعه من الوعد الذي وعده ربّه: { يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ }. أي نقصتم أنفسكم الثواب الواجب بالإقامة على عهد موسى (عليه السلام)، أو أضررتم بها حيث وضعتم العبادة غير موضعها { بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ } إلهاً.
والمفعول الثاني محذوفٌ لدلالة القرينة عليه، فإنّ الظلم إمّا بمعنى النقص، أو الإضرار الذي ليس بمستحقّ ولا فيه نفعٌ، ولا رفع مفسدة لا علماً ولا ظناً، فلمّا عبَدوا العِجْل فقد نقَصوا أنفسهم عن تمام الإنسانيّة، فإنّ الإنسان إذا كفَر بالله انسلخ عن الفطرة، وانخرط في سلْك البهائم والحشَرات. أو كانوا أضرّوا بأنفسهم لأنّ لا ضرر أعظم مما يؤدّي إلى عذاب الأبد، ولذلك قال تعالى:
{ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان:13].
{ فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ } أي: ارجعوا وأنيبوا إلى خالقكم بالطاعة والتوحيد.
والفرق بين "البارئ" و "الخالِق" أنّ الباري هو المبدِع المحدِث، والخالِق هو المقدِّر الناقل من صورة إلى صورة، ومن حال إلى حال. وأصل التركيب في اللغة لخلوص الشيء عن غيره إمّا على سبيل التقصّي، كقولكم: "بِرئَ المريضُ من مرَضه، والمديونُ من دَينه" أو على سبيل الإنشاء، كقوله: "بَرأَ الله آدمَ من الطين".
سؤالٌ: لِمَ اختصّ هذا المقام بذكر هذا الاسم دون غيره من الأسماء الحسنى؟
جوابٌ: لأنّ الباري هو الذي خلَق الخلْق بريئاً من التفاوت لقوله تعالى:
{ { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتِ } [الملك:3]. ومتميزاً بعضه من بعض بصور متباينة وأشكال مختلفة، فكان فيه تقريعٌ لهم بما وقع منهم من تَرك عبادة العالِم الخبير، الذي برأهم بلطف حكمته على الأشكال والصور المختلفة، وأبرياء من التفاوت إلى عبادة البقرَة التي هي مثَلٌ في الغباوة والبلادة وفي أمثال العرب: "أبلَد من ثورة" حتى عرَّضوا أنفسَهم لسخط الله.
قوله: { فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } تتميماً لتوبتكم، إمّا بترك الشهوات واللَّذات وإماتة القُوى الحيوانيّة، بمنعها عن دواعيها كما قيل: "مَن لم يعذّب نفسه لم ينعِّمها، ومن لم يقتلها لم يحيها" وفي كلام بعض أعاظم الحكماء: "مُتْ بالإرادة تحيى بالطبيعة". وفي الحديث النبوي على قائله وآله أشرف سلام الله:
"مُوتوا قبل أن تمُوتوا" وروي أنّه قال أيضاً: "من أراد أن ينظر إلى ميّت يمشي فلينظر إليَّ" أو بالبخع، أو بقَتل بعضكم بعضاً فإنّ الأقوال فيه مختلفة.
وقال قوم من المفسّرين - كالقاضي عبد الجبار وغيره -: لا يجوز أن يراد به قتل كلّ من التائبين نفسه، واحتجّوا عليه بوجهين:
أحدهما: إنّهم ما قَتلوا أنفسهم بأيديهم ولو كانوا مأمورين به لعصَوا بتركه.
وثانيهما: إنّ القتل اسم لنقص البُنية بفعل مزهق للروح في الحال، وأمّا ما يؤدي إلى الزهوق وقتاً آخر فإنّما سمّي قتلاً على سبيل المجاز. فإذا كان كذلك فلا يجوز من الله الأمر بقتل الإنسان نفسَه، لأنّ الأوامر الإلهية والتكاليف الشرعيّة إنّما وقعتْ لمصلحة للمكلف به في المستقبل، ولا يتصوّر وجودها بعد عدمه.
وفي هذه المقدّمات مواضع نظر، على أنّ المصلحة لا يجب أن تعود إليه، بل ربما تعود مصلحة قتله لنفسه إلى غيره، بأن ينتفع به ذلك الغير، ثمّ الله يوصل العوض العظيم إليه. ثمّ على تقدير عودها إليه لا يلزم أن يكون في الدنيا بل تكون في العقبى.
سلّمنا أنّه يلزم عودها إليه في الدنيا. لكن لِم لا يجوز أن يكون علمُه بكونه مأموراً بهذا القتل، وامتثاله للأمر مصلحة له في هذا الآن، أو الزمان القليل؟ كما أنّه لو أُمر بأن يقتل نفسَه غداً، فإنّ علمه بذلك يصير داعياً له إلى ترْك المعاصي من ذلك الزمان إلى ورود الغَد، فالوجه الأوّل أقوى، ولهذا عوّل عليه المفسِّرون.
فعَلى هذا يجب صرف الآية عن ظاهرها إمّا إلى ما ذكَرنا أوّلاً، أو إلى غيره وهو اثنان:
أحدهما: أن يقال: أمَر سبحانه التتائبين أن يقتل بعضُهم بعضاً وهو قول ابن عبّاس وسعيد بن جبير ومجاهد وغيرهم وهذا كقوله سبحانه:
{ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ } [النور:61]. أي ليسلّم بعضُكم على بعض. وكقوله: { { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ } [النساء:29] ومعناه لا يقتل بعضكم بعضاً.
وتحقيق ذلك أنَّ المؤمنين كنفس واحدة، بخلاف غيرهم من الكفار والمنافقين، فإنّهم ذو آراء متناقضة، ومذاهب متخالفة، وأخلاق متشتّتة بعضها: بهيميّة، وبعضها سبُعيّة، وبعضها شيطانيّة. ولذلك حشروا إلى صوَر مختلفة بحسب ما غَلب واستولى على نفوسهم من الأخلاق كما هو معلوم من مباحث علم المعاد. أمّا نفوس أهل الإيمان والتوحيد فقد ثبَت في موضعه أنّها ستَصل بعالَم القدس.
ومذهب بعض أئمّة الحكمة والتوحيد من الأقدمين أنّ النفس العارفة العاقلة عند خروجها عن القوّة إلى الفعل في باب العاقليّة والمعقوليّة تتّحد بروح القدس المسمّى عندهم بالعقل الفعّال، فعلى هذا صحّ القول بأنّها كنفس واحدة.
وكذا على مذهب أفلاطن ومن وافَقه من عظماء الحكماء في باب، أنّ لكل نوع صورة مفارقة في عالَم الأرواح العالية هي حقيقة ذلك النوع وتمامه، وهي جوهرٌ واحد قائم عند الله ماثلٌ بين يديه. ومع وحدته هو تمام كلّ واحد من أفراد ذلك النوع، وكذلك لنوع الإنسان وأفراده صورة واحدة في عالَم الربوبيّة هي تمام جوهر الإنسانيّة، وأن أفراد الناس إذا لم ينسلخوا عن الفطرة الإنسانيّة بالكفر ونحوه، يكونون متّحدين في تمام حقيقتهم، وكمال وجودهم العقلي الباطني بجوهر قدسيّ واحد، هو نفس حقيقة الجميع، وكانت هذه النفوس البشريّة أجزاء لذلك الجوهر، لأنّه الأصل. وهذه هي الفروع الصادرة منه، العائدة إليه عند تمامها وكمالها.
وإليه الإشارة بقوله تعالى:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } [النساء:1]. وقوله: { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [لقمان:28]. ولذا قيل في قوله: { { وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } [الحجرات:11]. أي إخوانكم من المؤمنين. وفي قوله: { { لَّوْلاۤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً } [النور:12]. أي بأمثالهم من المؤمنين.
ثمّ قال المفسّرون القائلون بهذا القول: إنّ أولئك التائبين برَزوا صفّين فضرب بعضهم بعضاً إلى الليل.
وثانيهما: إنّ الله أمرَ مَن لم يعبُد العِجل أن يقتلوا العبَدَة وأمرَ التائبين أن يسلّموا للقتل، وهذا أقرب هذين الوجهين.
وعن ابن إسحاق والجبائي أنَّ معنى { فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } استسلموا للقتل. فجعل استسلامهم للقتل قتلاً منهم لأنفسهم على وجه التوسّع.
واعلم أنَّ الروايات مختلفة في باب المأمورين بالقتل، ففي بعضها أنّ موسى (عليه السلام) أمَرهم أن يقوموا صفّين، فاغتسلوا ولبسوا أكفانهم، وجاء هارون باثني عشر ألفاً ممَّن لم يعبد العِجل، ومعهم الشّفار المُرهَفة، وكانوا يقتلونهم، فلمّا قَتلوا سبعين ألفاً تاب الله على الباقين، وجعل قتْل الماضين شهادة لهم.
وفي بعضها: إنّ السبعين الذين كانوا مع موسى في الطور هم الذين قتلوا ممّن عبَد العِجل سبعين ألفاً، فما تحرّكوا حتى قتلوا ثلاثة أيام ذكره محمد بن إسجاق.
وفي بعضها: - وهي رواية الكلبي -: لمّا أمَرهم موسى (عليه السلام) أجابوا، فأخَذ عليهم المواثيق ليصبرنّ على القتْل، فأصبحوا مجتمعين كلّ قبيلة على حدة.
فأتاهم هارون بالإثني عشر ألفاً الذين ما عبَدوا العِجل، وبأيديهم السيوف وقال التائبون: إنّ هؤلاء إخوانكم قد أتوكم شاهرين السيوف، فاتّقوا الله واصبروا، فلعَن اللهُ رجلاً قام من مجلسه، أو مدّ طرْفه إليهم، أو اتَّقاهم بيدٍ أو رِجْل، يقولون "آمين" فجعلوا يقتلونهم إلى السماء، وقام موسى وهارون يدعوان الله ويقولان: "البقيّة، البقيّة يا إلهنا" فأوحى تعالى إليه: "قد غفرتُ لمن قُتل. وتبتُ على مَن بقي" قالوا: وكان القتلى سبعين ألفاً.
وفي بعضها: إن بني إسرائيل كانوا قسمين: منهم من عبَد العِجل، ومنهم من لم يعبده، ولكن لم يُنكِر على مَن عبَده، فأمَر مَن لم يشتغل بالإنكار بقتل من اشتغل بالعبادة.
وفي الكشاف وغيره: روي أن الرجل كان يبصر ولدَه ووالدَه وجارَه وقريبَه، فلم يمكنهم المضيّ لأمر الله، فأرسل الله ضَبابة وسَحابة سَوداء لا يتباصرون تحتَها، وأمروا أن يحتبوا بأفنية بيوتهم، فقُتلوا إلى المساء، حتّى دعا موسى وهارون، فقالا: "يا ربّ هلكت بنو إسرائيل، البقيّة البقيّة" فانكشفت السحابة ونزلت التوبة، وسقطت الشّفار من أيديهم.
وقوله: { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ } أي: فعْل التوبة، أو القتل من حيث كونه طهارة عن الشرك، أو وصلة إلى الحياة الأبديّة، والبهجة السرمديّة، خيرٌ لكم عند خالِقكم، فإنّ حالتهم كانت دائرة بين ضرر الدنيا ونعيم الآخرة أبداً، وبين التمتّع في الدنيا أيّاماً قليلة، والعذاب في الآخرة أبداً، وضرر الدنيا أولى بالتحمّل، لأنّه متناه من ضرر الآخرة، لأنّه غير متناهٍ، ونعيم الآخرة أولى بالإيثار من نعيم الدنيا لأنّه دائم وهذا منقطع. ولأنّ الموت واقع لا محالة، فليس في تحمّل القتل إلاّ تقديم أمر ضروري الوقوع لا محالة، وفي عدم تحمّله تأخيره، وأمّا النجاة مِن العقاب الدائم والفوز بالثواب الدائم، فهو سعادة لا أعظم منها.
وقوله: { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } أي: قبِل توبتكم.
واعلم أنَّه قد تقرَّر عند أهل المعرفة والشهود، وثبَت بالأخبار المتكثّرة المتظافرة أنّ الإنسان كلّما قرُب من الحقّ قرُب هو تعالى منه، وكلّما رجع إلى الله رجع إليه. وفي الحديث الإلهي:
"مَن قرب إليّ شِبراً قربت إليه ذراعاً، ومَن قرب إليّ ذراعاً قربت إليه باعاً" .
قوله: { إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } أي قابل التوبة عن عباده مرّة بعد أخرى، كثير العطوفة عليهم، يمحو السيّئات ويغفر الخطيئات.