التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
٦٣
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

"المِيثاق" مفعال من الوثيقة إمّا بيمين أو بعهد أو غير ذلك من الوثائق كالعقل والفطرة.
و "الطُّور" في اللُّغة: الجَبل. وقيل: اسم جبَل بعينه ناجى الله عليه موسى (عليه السلام). وهو المرويُّ عن ابن عباس. وهذا هو الأقرب، لأنّ لام التعريف حمله على معهود عرف كونه مسمّى بهذا الاسم. والمعهود هو الجبل الذي وقعت المناجاةُ فوقَه، فقد يجوز أن ينقله الله إلى حيث هم، فجعله فوقَهم وإن كان بعيداً منهم، لأنّ القادر على أن يجعل الجبل فوق الهواء قادر على قلْعِه ونقلِه من موضع بعيد إليهم. وسيجيء إعادة الكلام في تحقيق هذا المرام.
وقال ابن عباس: أمَر الله جبلاً من جبال فلسطين، فانقلَع من أصلِه حتّى قام فوقَهم كالظُّلَّة، وكان المعسكر فرسخاً في فرسخ.
والقُوّة هاهنا بمعنى القدرة. وهي في الأصل يقال لمبدإ التغيُّر في شيء آخر من حيث هو آخر. سواء كان فعلاً أو انفعالاً. وقد يقال لما به يمكن أن يصدر عن الشيء فعل أو انفعال وأن لا يصدر. وهي بهذا المعنى يقابل الفعل بمعنى الحصول والتحقّق. وقد يقال لما به يكون الشيء غير متأثّر عن مقاوم، ويقابله الضعف والوهْن. والقوّة الفعليّة إذا كانت مع شعور وإرادة تسمّى قدرة، وهي المراد هنا.
واعلم أنَّ أكثر المتكلّمين على أنّه ليست قدرة إلاّ لما من شأنه الطرفين: الفعْل والترْك. وأمّا الفاعل الذي يَدوم فعْله - وإن كان بمشيئته - فهم لا يسمّونه قادراً والحقّ خلافه. فإنّ من فعَل بمشيئة وإرادة يصدق عليه أنّه لو لم يشأ لم يفعل، سواء اتّفق عدم المشيئة، أو لم يتّفق. لأنّ صدق الشرطيّة لا يتوقّف على تحقّق طرفيها.
واعلم أنّ القوّة الفعلية قد تكون مبدأ الوجود، وقد تكون مبدأ التغيّر، والإلهيون من الحكماء إنّما يعنون بالفاعل مبدأ الوجود، والطبيعيّون يعنون به مبدأ التحريك. والأحقّ باسم الفاعل مَن يطرد العدم بالكليّة عن الشيء بالكليّة، وما هو إلاّ الواحد الذي بقوّته أخرَج الأشياء من اللَّيس المطلق إلى الأيس. وأبدع الأشياء من غير مِثال. وأمّا الذي جعله الله واسطة للتهيُّؤات والاستعدادات، فالأولى أن لا يسمّى بالفاعل، لكن بالمحرّك والسائق وما يجري مجراهما.
المعنى:
ثمّ عاد إلى خطاب بني إسرائيل بذكر إنعامه عليهم. وهذا هو الإنعام العاشر من الإنعامات الواقعة عليهم. فقال: اذكروا { إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ } أي: عهدكم.
والمفسّرون اختلفوا في المراد من هذا الميثاق ما هو؟ فذكروا وجوهاً:
الأول: ما أُودع في العقول وارتكز في الفِطَر من الدلائل على وجود الصانع، وقدرته، وحكمته، وما نصَب لهم من الحُجج الواضحة، والبراهين الساطعة على ذلك وعلى صدْق الأنبياء والرسل (عليهم السلام). وهذا النوع من الميثاق أقوى المواثيق والعهود، لأنّها لا تحتمل الخُلف، والنقص، والتبدّل، بوجه البتّة.
والثاني: إنّ المراد به الذي أخذه الله على النبيّين في قوله تعالى:
{ وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ } [آل عمران:81] الآية.
الثالث: ما روي عن عبد الله بن عوف بن أسلم أنّ موسى (عليه السلام) لمّا رجع من عند ربّه بالألواح قال لهم: "إنّ فيها كتاب الله وحكمته، فخذوها" قالوا: "لن نأخذ بقولك حتّى نرى الله جهرة فيقول: هذا كتابي" فأخذتهم الصاعقة فماتوا. ثمّ أحياهم، ثمّ قال لهم بعد ذلك: "خُذوا كتابَ الله" فأبوا. فرفع فوقَهم الطور وقيل لهم: "خذوا الكتاب وإلاّ طرحناه عليكم" فأخذوه.
فرفع الطور هو الميثاق. وذلك لكون رفْعه آية باهرة عجيبة توجب الانقياد من التكذيب إلى التصديق. ومن الشكّ إلى اليقين. فأقرّوا لموسى (عليه السلام) لأجله - مضافاً إلى سائر الآيات - بالتصديق، ولله بالعبوديّة والطاعة، وأعطوا العهد والميثاق أن لا يعودوا إلى ما كانوا من عبادة العِجل، وأن يقوموا بالتوراة. فأخذوا التوراة وسَجدوا لله تعالى ملاحظين إلى الجبَل، فمِن ثمّ يسجد اليهود على أحد شِقّي وجوههم.
وهذا هو معنى أخذ الميثاق، لأنّه عهد موثق جعلوه لله. وكان في حال رفْع الجبَل فوقَهم، لأنّ في هذه الحال قيل لهم: { خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ } يعني: التوراة بقوّة، أي: بجدّ ويقين لا شكّ فيه. وهو قول ابن عباس والسدّي.
وقريب منه ما روى العيّاشي أنّه سُئل جعفر الصادق (عليه السلام) عن قول الله تعالى: { خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ } أبقوّةٍ الأبدان، أو بقوّة القلوب؟
فقال: بهما جميعاً.
وقيل: أخْذه بقوّة هو العمل بما فيه بعزيمة وجِدّ.
والرابع: إنّ لله ميثاقين على عباده: الأوّل: حين أخرجَهم من ظهْر آدم (عليه السلام) وأشهدَهم على أنفسهم. الثاني: إنّه ألزم الناس متابعة الأنبياء. والمراد هاهنا هو هذا العهد. وهو قول ابن عباس. وعلى هذا يكون "الواو" في قوله تعالى: { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ } للعطف، وعلى تفسير غيره للحال.
قال القفّال: إنّما قال: "ميثاقكم" ولم يقل مواثيقكم لأنّه أراد به الدلالة على أنّ شيئاً واحداً أخذ من كل واحد منهم كما أخذ من غيره. فلا جرم كان كلّه ميثاقاً واحداً. ولو قيل: "مواثيقكم"، لاشتبه أن يكون هناك مواثيق مختلفة أُخذت عليهم - لا ميثاق واحد -.
وقوله: { وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ } الضمير في "فيه" يعود إلى الموصول - يعني التوراة - أي: احفظوا ما في التوراة، وادرسوه من أحكام الحلال والحرام، ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه.
فإن قلت: هلاّ حمَلتموه على معنى أصل الذّكْر؟
قلنا: لأنّ الذكْر الذي ضد النسيان هو من فعْل الله ليس بإرادة العبد. فكيف يجوز الأمر به، ولذلك حمَلناه على المذاكرة، والمدارسة، والمحافظة عليه.
فصل
كيف يمكن رفْع الجبل؟
من المتفلسفة من أنكر إمكان وقوف مثل الجبل ونحوه من الأثقال في الهواء من غير دِعامَة ولا عِماد. وأمّا مثل الصواعق، وذوات الأذناب، وغيرها ممّا فيه حرارة مُصعدة، أو أدخنة غليظة بقوّة حرارتها تقاوِم الهابط من الجوّ، فيمكن وقوفها زماناً في الهواء. وكذا الأرض معلّقة فيما بين الهواء لأنّها متدافعة من جميع الجوانب لتكافؤ ثِقل أطرافها، فوقَفت بطبعها عند المركز. بخلاف وقوف الجبل في الهواء إذ لا سبب له.
والجواب من وجهين:
أحدهما: إنّ أسباب وقوف الثقيل في الهواء ليست منحصرة فيما ذكَرتم من الدعامة، أو الحراة المصعِدة، أو تدافع الجوانب أو ما يجري مجراهما فإنّ هاهنا أسباباً إلهيّة، سماويّة، أو نفسانيّة، مقتضية لمثل هذه الأفاعيل الغريبة، فإنّ للنفس أن تُصعِّد الجسم الثقيل بمجرد الهمَّة والعزم.
ومن هذا القبيل وقوف الطير في جوّ السماء. كقوله تعالى:
{ { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ } [الملك:19]. ومن هذا الباب صُعود الحيوان إلى فوق بقوّة نفسانيّة - لا بدعامة جسمانيّة - ومنه قلْع باب خيبر ورفْعه، فإنّه (عليه السلام) قال: "قلَعتُه بقوّة ملكوتيّة، لا بقوّة جسمانيّة" فإنّ نسبة النفوس القويّة، العالية، إلى غير بدنها من أجسام هذا العالَم، كنسبة سائر النفوس الضعيفة إلى بدنها، فلا جرم أثرت همّة نفس موسى (عليه السلام) بقوّة استفادها من الله في رفْع الجبل فوق قومه.
وثانيهما: إنّ للأجرام والأعظام نحوين من الوجود: أحدهما: وجود مادي متعلّق بمادّة واستعداد خاصّ. والآخر: وجود صوريّ متعلّق بالفاعل، غير متعلّق بمادّة قابلة للحركة والفساد.
والذي يراه الإنسان في هذا العالَم ويشاهده بحسّه الظاهر على وجهين:
أحدهما: الشائع المتعارف الأكثري، وهو أن يأخذ الحسّ البصري صورة ما يراه وينتزعها من مادّته.
والآخر: أن ينحدِر إلى حسّه من جهة الباطن - وهذا على سبيل النُّدرة - ومن هذا القبيل رؤية النبي (صلّى الله عليه وآله) وأصحابه تمثُّل جبرائيل (عليه السلام) لهم بصورة دُحية الكلبي، وهذا باب من المعجزة. وقد يقع لبعض الكهَنة وغيرهم من هذا القبيل رؤية بعض الأجسام بأسباب باطنيّة. ولهذا قد يصعب الفرق بين المعجزة والكهانة على النفوس العاميّة.
ومن وقَف على حكاية الجوهري رأى عجباً من هذا الباب، حيث خرج بالعجين من بيته إلى الخبّاز ليطبخ له الخُبزَ في الفُرن، وكانت عليه جنابة، فجاء إلى شطّ النيل ليغتسل، فرأى - وهو في الماء - مثل ما يراه النائم، كأنّه تزوّج في بغداد، وأقام مع المرأة ستّ سنين، وأولدَها أولاداً. ثمّ ردّ إلى حاله - وهو في الماء - ففرغ من غسله، وخرج ولبس ثيابه وجاء إلى الفرن وأخذ الخُبز وجاء إلى بيته وأخبر أهلَه بما أبصره.
فلمّا كان بعد أشهر جاءت تلك المرأة التي رأى أنّه تزوّجها في تلك الحالة تسأل عن داره، فلما اجتمعت به عرفها، وعرف الأولاد وما أنكرَهم. وقيل لها: متى تزوّج؟ فقالت: "منذ ستّ سنين، وهؤلاء أولاده مني". فخرج في الحسّ ما رآه في الباطن أوّلاً.
وهذه إحدى المسائل الستّة التي أوردها ذو النون المصري، التي تُحيلها العقولٌ المتفلسفة، والحكايات في هذا الباب كثيرة ذكرها يؤدّي إلى الإطناب. فعلى هذا لم يبق شكّ في جواز رفع جبل طور فوق بني إسرائيل معجزة لموسى (عليه السلام)، فقد خصّ الله أولياءه بقُوى شريفة، قويّة، نورانيّة، يقوى على مثل هذه الأحكام. فلا ينكره إلاّ جاهل بما ينبغي للجناب الإلهي من الاقتدار.
وفي معراج رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كفاية في هذا المقام مع خَرقه للأفلاك، ونفوذه في مسافاتها البعيدة، التي قطعَها في الزمان القليل. كما سنوضح لك في تفسير سورة الإسراء إن شاء الله تعالى.