التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
٨
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

اتّفق المفسرون على أن ذلك وصفُ المنافقين، وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم.
واعلم أنّ الناس بحسب العاقبة، ستّة أصناف، لأنّهم إمّا سُعداءٌ؛ وهم أصحاب اليمين، وإما أشقياء وهم أصحاب الشمال، وإمّا السابقون المقرّبون. قال الله تعالى:
{ { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } [الواقعة:7]. الآيات.
وأصحاب الشمال: إما المطرودون الذين حقّ عليهم القول، وهم أهل الظُّلمة والحجاب الكلّي، المختوم على قلوبهم أزلاً كما قال تعالى:
{ { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } [الأعراف:179]، الآية.
وفي الحديث الإلٰهي الربّاني المتّفق عليه نقلاً:
"هؤلاء خلقتهم للنار ولا أبالي" .
وأما المنافقون الذين كانوا مستعدّين بحسب الفطرة، قابلين للنور في الأصل والنشأة، لكن احتجبت قلوبُهم بالرَّيْن المستفاد من اكتساب الرذائل، وارتكاب المعاصي، ومباشرة الأعمال البهيميّة والسَّبُعية، ومزاولة المكائدة الشيطانيّة، حتى رسخت الهيئات الغاسقة والملكات المظلمة في نفوسهم، وارتكمت على أفئدتهم، فبقوا شاكّين حيارىٰ تائهين، قد حبطت أعمالهم، وانتكست رؤوسهم، فهم أشدّ عذاباً وأسوأ حالاً من الفريق الأوّل، لمنافاة مسكة استعدادهم لحالهم، والفريقان هم أهل الدنيا.
وأصحاب اليمين، إمّا أهل الفضل والثواب، الذين آمَنوا وعملوا الصالحات للجنّة، راجين لها راضين بها، فوجَدُوا ما عملُوا حَاضِراً على تفاوت درجاتهم ممّا عملوا.
ومنهم أهل الرحمة، الباقون على سلامة نفوسهم وصفاء قلوبهم، المتبوّئون درجات الجنّة على حسب استعداداتهم من فضل ربّهم، لا على حسب كمالاتهم من ميراث عملهم.
وإما أهل العفو، الذين خلَطُوا عَمَلاً صالحاً وآخرَ سّيئاً، وهما قسمان: المعفوّ عنهم رأساً لقوّة اعتقادهم، وعدم رسوخ سيّئاتهم لقلّة مزوالتهم ايّاها، أو لمكان توبتهم عنها:
{ { فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [الفرقان:70].
والمعذَّبون حيناً بحسب ما رسَخ فيهم من المعاصي، حتّى خلَصوا عن درنِ ما كسَبوا فنجَوا، وهم أهل العدل والعقاب، والذين ظلَموا مِنْ هؤلاءِ سَيصُيبُهمْ سيّئات ما كسَبوا، لكن الرحمة تتداركهم وتنالهم بالآخرة.
والسابقون وهم العرفاء بالله واليوم الآخر خاصّة امّا محبّون وإمّا محبوبون، فالمحبّون؛ هم الذين جاهَدوا في الله حقّ جهاده، وأنابوا اليه حقّ إنابته، فهداهم سبله.
والمحبوبون؛ هم أهل العناية الأزليّة، الذين اجتباهم وهداهم الى صراطٍ مستقيم. والصنفان هما أهل الله ومآلهما واحد، لأنّ أهل المحبّة الخاصّة ينجرّ سلوكهم بالأخرة الى الجذبة، ولهذا جعلناهما في التقسيم قسماً واحداً.
اذا علمت هذا، فاعلم أن الله سبحانه لما افتتح بشرح حال الكتاب، وأشار الى أنّه منزَل من عالَم الكرامة والغيب، مشتملٌ على العلوم التي لا تعتريها وصمةُ شكّ وريب، وموجب للهداية لمن وفّق له بالتقوى، وساقَ لبيانه ذكر المؤمنين الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبُهم ألسنتهم، واندرج فيهم الأقسام الخمسة، سوى الفريقين اللذين هما من قسم الأشقياء.
فإنّ القرآن ليس هدىً للفريق الأول من الأشقياء، لامتناع قبولهم للهداية، لعدم استعدادهم، ولا للثاني، لزوال استعدادهم، ومسخهم وطمسهم بالكليّة لفساد اعتقادهم، فهما جميعاً أهل الخلود في النار.
ولفظ "هُدىً لِلْمُتَّقِينَ"، وإن عمّ الأصناف الخمسة - لأنّ المراد بهم في هذا الموضع هم المستعدّون الذين بقَوا على فطرتهم الأصليّة، واجتنبوا رَيْن الشرك والشكّ لصفاء قلوبهم وبقاء نورهم الفطري فلم ينقضوا عهد الله في الميثاق، فلهم نصيبٌ من القرآن كلٌّ بوجهٍ - إلا أنّه تعالى خصّ بالإشارة صنفين منهم الى أحوالهما، لمزيد منزلتهما وحالهما.
أحدهما: أهل الفضل والثواب من أصحاب اليمين المشار إليهم بقوله:
{ { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [البقرة:3].
والثاني: السابقون المقرّبون، المشار اليهم بقوله:
{ وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [البقرة:4]، فقد علم من أحوالهم أنّهم من أهل الرسوخ العلمي.
ولمّا ذكَر المؤمنين بقسيمه - أي العاملين والعالمين - ثنّاهم بأضدادهم الذين محَضوا الكفر لساناً وضميراً، ظاهراً وباطناً، ولم يلتفتوا لغة الايمان رأساً بقوله:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [البقرة:6] -الآيتين.
وهم الفريق الأول من الأشقياء، الذين هم أهل القهر الإلٰهي، لا ينجع فيهم الإنذار، ولا ينفع لهم التذكار، ولا خلاص لأحدهم من النار،
{ { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ فَسَقُوۤاْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [يونس:33]. { { وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ } [غافر:6]. سُدّت عليهم الطُّرق، وأغلقت عليهم الأبواب، إذ القلب هو المشعر الإلهي الذي هو محلٌّ الإلهام، ومنزِلُ الكرامة، فحُجبوا عنه بختمه.
والسمع والبصر هما مشعران للإنسان، اللذان هما بابا الفهم والاعتبار، فحُرموا عن جدواهما لامتناع نفوذ المعنى فيهما الى القلب، فلا سبيل لهم في الباطن القلبي الى عالَم العلم الإلٰهي الكشفي، ولا في الظاهر السمعيّ والبصري الى الباطن القلبي والعلم التعليمي الكسبي.
فحبسوا في سجون الظلمات، وحبوس التعلّقات، وقيود الجحيم والسلاسل والأغلال، والعذاب المقيم، فما أشدّ عذابهم.
ولمّا ذكر تعالى أوصاف القسمين، أعني المؤمنين والكافرين مطلقاً، ثلّث بذكر القِسم الثالث، وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبُهم، تكميلاً للتقسيم، وهم أخبثُ قلباً من الكفَرة، وأبغضهم الى الله لأنّهم موّهوا الكفْر بالإيمان، فخلطوا به خداعاً واستهزاءً، ولذلك طوّلَ في بيان خُبثهم وجهلهم واستهزائهم، وتهكَّم بأفعالهم، وسجلَ على عمههم وطغيانِهم، وضرب فيهم الأمثال وأنزل فيهم:
{ { إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ } [النساء:145] لأنّهم مع ادعائهم للإيمان بقولهم: { آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } سلب عنهم الايمان وما هم بمؤمنين.
لأنّ حقيقته العلم بحقائق الأمور الإلٰهيّة، ومحلّه هو القلب لا اللسان:
{ { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [الحجرات:14]. ومعنى قولهم: { آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } ادعاؤهم لعلمَي التوحيد والمعاد للذين هما أصل الدين وأساسه، أي لسنا من المشركين المحجوبين عن الحقّ، ولا من أهل الكتاب المحجوبين عن الدين والمعاد، لأن اعتقاد أهل الكتاب ليس مطابقاً للحقّ والصواب.
واعلم أنّ الكفر هو الاحتجاب كما مرّ، والاجتجاب إمّا عن الحقّ، فهو كما للمشركين، وإمّا عن الدين، كما لأهل الكتاب، والمحجوب عن الحق محجوبٌ عن الدين الذي هو طريق الوصول اليه بالضرورة.
وأمّا المحجوب عن الدين، فقد لا يحجب عن الحقّ، فهؤلاء ادّعوا رفع الحجابين، فكذّبوا بسلب الإيمان عن ذواتهم لمخادعتهم لله وأوليائه، ومُماكرتهم وزيادة المرض في قلوبهم مع الهلاك الأخروي، فهؤلاء أسوأ مآلا وأشد نكالاً من عامّة الكافرين.
ولهذا فرّق الله بين العذابين بالعِظَم والألم، لأن عذاب المطرودين في الأزل - وإن كان أعظم - لنزولهم في مهوى الحشرات والدوابّ والأنعام، فلا يدركون شدّة عذابهم، ولا يجدون غمّهم وألمهم لعدم صفاء إدراك قلوبهم بواسطة كثافة الحجاب، وغلظة النقاب، كحال العضو الميّت أو المفلوج أو الخدر بالنسبة الى ما يجري عليه من القطع والكَيّ وغير ذلك من الآلام.
وأما المنافقون، فلثبوت استعدادهم في الأصل، وبقاء إداركهم، يجدون شدّة الألم، فلا جرم كان عذابهم أليماً مسبَّباً عن المرض العارض المزمِن الذي هو الكذِب والخديعة والحسَد والنفاق، والجهل المشفوع بالإصرار واللداد وغيرها، وإذا نُهوا عن الفساد في الجهة السفلية، أنكروا وبالَغوا في إثبات الصلاح والإصلاح لأنفسهم، كما حكى الله عنهم فيما بعد، إذ يرون الصلاح في تنظيم أسباب المعيشة وتيسير أمور الدنيا لأنفسهم خاصّة، وإن كان مؤدّياً الى خسران العاقبة، لتوغّلهم في محبّة الدنيا وميل الجاه والثروة، وانهماكهم في اللذّات والراحات البدنيّة، واحتجابهم بالمنافع الجزئيّة والملاذّ الحسيّة عن المصالح العامّة واللذّات العقليّة، وهم لا يشعرون بذلك، وإن كان معلوماً بالمشاهدة الحسيّة، لأن محبّة الدنيا سلبت عقولَهم وأعمت قلوبَهم، واصمّت نفوسَهم، ولذا قيل: "حبّكَ للشيء يُعمي ويُصم".
فصل
[المنافق والكافر أيهما أسوأ حالا]
قد علمت تحقيق الفرق بين المنافق والكافر الأصلي، تصريحاً وتلميحاً في مواضع متعدّدة، لكن القوم اختلفوا في أنّ أيّهما أسوأ فعلاً وأقبحُ حالاً.
قال قوم: قبح الكافر الأصلي أقبح، لأنّه جاهلٌ بالقلب، كاذبٌ باللسان، والمنافقُ جاهلٌ بالقلب، صادقٌ باللسان.
وقال آخرون، بل المنافق أيضاً كاذب باللسان، فإنّه يُخبر عن كونه على ذلك الاعتقاد مع انّه ليس عليه، ولذلك قال تعالى:
{ قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا } [الحجرات:14]. وقال: { { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [المنافقون:1]. ثمّ إنّ المنافق اختصّ بمزيد أمور منكَرة:
الأول: إنّه قصَد التلبيس، والكافرُ ما قصدَ ذلك.
الثاني: إنّ الكافرَ على طبع الرجال، والمنافقُ على طبع الخنوثة.
أقول: الكائن على طبع الرجال هم المؤمنون حقّاً، لا الكفّار، فالأَوْلىٰ أن يقال: الكافرُ على طبع الأنوثة والمنافق على طبع الخنوثة. وطبع الخُنوثة أقبح من الأنوثة. وذلك لأنّ الآخرة دار المبادئ الفعّالة، والدنيا موضع القوابل المنفعلة، فموطن المؤمن - أي عالم القدس - موطنُ الرجال، وموطنُ الكافر - أي الدنيا وهي عروسه غدّارة رعناء - موطنُ النسوان.
والمنافق ذو الوجهين لا من هذا ولا من ذاك، فعاقبته البوارُ والهلاك، وانقطاع النتيجة والبقاء النوعي العقلي في النشأة الدائمة.
الثالث: إنّ الكافر ما رضيَ لنفسه بالكذب بل استنكف منه، ولم يرض إلاّ بالصدق، والمنافق رضيَ بذلك.
الرابع: إنّ المنافقَ ضمَّ الى كفره الاستهزاء، بخلاف الكافر. ولأجل غلظ كفره قال:
{ { إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ } [النساء:145].
الخامس: قال مجاهد: إنّه تعالى ابتدأ بذكر المؤمنين في أربع آيات، ثمّ ثنّى بذكر الكافرين في اثنتين، ثمّ ثلّث بذكر المنافقين في ثلاث عشرة آية. وذلك يدلّ على أنّ المنافقين أعظم جُرماً.
وهذا بعيدٌ لأنّ كثرة الاقتصاص بخيرهم لا يوجِب كونَ جُرمهم أعظم؛ فإنْ عَظُم فلغير ذلك، وهو ضمّهم الى الكفْر وجوهاً من المعاصي؛ كالمخادعة، والاستهزاء، وطلب الغوائل الى غير ذلك.
ويمكن أن يجاب عنه: بأنّ كثرة الاقتصاص بخبرهم يدلّ على أنّ الاهتمام بدفع شرّهم أشدّ من الاهتمام بدفع شرّ الكفّار، وذلك يدلّ على أنَهم أعظم جُرماً من الكُفار.
فصل
يستفاد من هذه الآية أمران:
أحدهما: إنّ من لا يعرف الله لا يكون مؤمناً وإن أقرّ به لساناً، لقوله تعالى: { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } خلافاً للكرّامية.
والثاني: بطلان قول من زعم من المتكلمين، إنّ جميع المكلفين عارفون بالله، وإنّ من لم يكن عارفاً به لا يكون مكلَّفاً، وذلك لأن غير العارف لو كان معذوراً لما ذمّ الله هؤلاء على عدم العرفان، فبطل قولهم: إنّ من لا يعرف هذه الأمور فهو معذور، وهذا المقام يحتاج الى تحقيق عميق لا يسع هذا الوقت ذكره.
فصل
اختلفوا في اشتقاق لفظ "الإنسان" الى وجوه:
الأول: ما يروى عن ابن عباس: إنّه من النسيان. لأنّه عهد إليه فنسي.
قال أبو الفتح البستي:

نسيتُ وعدَك والنسيانُ مغتفَرٌ فاغفِر فأول ناسٍ أولُ الناس

الثاني: إنّه من الأنس، لاستيناسه بمثله.
الثالث: إنّه سمّي إنساناً لظهورهم وأنّهم يؤنسون - أي يبصرون - قال تعالى:
{ { آنَسَ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ نَاراً } [القصص:29]. أي: أبصر. كما سُمّي "الجنّ" لاجتنانهم.
واعلم أنّه لا يجب في كل لفظ أن يكون مشتقاً من لفظٍ آخر، وإلاّ لتسلسَل الى ما لا نهاية.
والناس أصله اناس، بدليل قولهم: إنسانٌ وإنسي وأناسي، فحذفت الهمزة تخفيفاً كما حذف في لوقة لأن أصلها ألوقة. وعوّض عنها حرف التعريف، ولذلك لا يكاد يجمع بينهما إلاّ شذوذاً كقوله: إنّ المنايا تطلعن على الاناس الآمنينا.
وناس: اسم جمعٍ على زِنة فِعال. لأن الوزنَ يكون على الأصول، ولذلك تقول في وزن قِهْ افعَلْ وليس معك إلاّ العين وحدَها، وهو من أسماء الجمع كرِجال، وأما نُوَيس، فمن المصغّر الآتي على خلاف مكبّره كانيسيان ورُويجل - كذا في الكشّاف.
فصل
لام التعريف في "الناس" إمّا للجنس أو للعهد، والمعهود هم الذين كفَروا، المارّ ذكرُهم، و"من" على الأول تكون موصوفة كأنه قيل: ومن الناسِ ناسٌ يقولون آمنّا. كقوله:
{ { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ } [الأحزاب:23].
وعلى الثاني؛ تكون موصولة، كقوله:
{ { وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِيَّ } [التوبة:61] أي ومن هؤلاء الذين كفَروا من يقول - وهم عبد الله بن أُبَيّ وأصحابه ومَن في طبقتهم - فإنّ وقوعَهم لأجل النفاق تحت جنس الكفّار المختومِ على قلوبهم، ودخولَهم في أبواب الكفر، لا ينافي اختصاصهم بزوائدَ زادوها على أصل الكفر؛ من الخديعة والاستهزاء والأمراض القلبيّة وغيرها، ولا يُخرجهم عن حدّه وإن يكونوا بعضاً من جنسه، فإنّ الأنواع إنّما تنوّعت بزوائد على طبيعة الجنس بما هي مجرد طبيعته، أي بالمعنى التي هي مادة، وتلك الزوائد لا تأبى الدخول مع ما يزيد عليه تحت الجنس، وصدقه على المجموع بالاعتبار الذي هو به جنسٌ، وإن لم يصدق بالمعنى الذي هو به مادّة فتفطّن.
فصل
اعلم أنّ اختصاص (بالله وبِٱليَومِ الآخِر) بالذكر، تخصيص لما هو المقصود الأعظم والكمال الأتمّ, وهو العلم بأحوال المبدأ والعلم بأسرار المعاد، وتسجيلٌ بأنّهم مع خسّتهم ودناءة طبعهم، ادّعوا إثبات أمرٍ شريف عالٍ لأنفسهم. وهو الحيازة للإيمان من جانبيه، والإحاطة بكلا قُطريه.
وها هنا دقيقة اخرى؛ وهي الكشف عن إفراطهم في خبث الباطن وفساد الضمير، وتماديهم في قبح الباطن وسوء السريرة، حيث كان قولهم: آمَنّا بالله وَبِٱليَومِ الآخِر، خُبثاً متضاعفاً، وكفراً متراكماً، لأن القوم كانوا يهوداً، وكانوا يعتقدون في الله التشبيهَ واتّخاذَ الولد، وفي اليوم الآخر أن الجنة لا يدخلها إلاّ من كان هوداً أو نصارى، وأن النار لا تمسّهم إلاّ أياماً معدودة - الى غير ذلك - فإيمانهم بالله واليوم الآخر كَلا إيمان، فهم منافقون فيما يظنّون أنّهم مخلصون، فكيف بما يقصدون به النفاق ويرُون المؤمنين أنّهم آمنوا مثلَ إيمانهم، فهم في خُبث الباطن وسوءِ الضمير بحيث لو صدَر منهم هذا القول لا على وجه الخداع والنفاق وعقيدتهم، لم يكن ايماناً، فلم يكونوا صادقين، كيف وقد صدَر منهم تمويها على المسلمين وتهكّماً بهم.
ولفظة "مَن" صالحةٌ للجمع كما للواحد. كقوله تعالى:
{ { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } [يونس:42]، فإنّه موحّد اللفظ مجموع المعنى، والعائدُ إليه يرجع عند التوحيد الى اللفظ وعند الجمع الى المعنى، ففي قوله: مَنْ يَقولُ آمنّا، حصل فيه الأمران.
وتكرير الباء يدلّ على أن علم المبدأ وعلم المعاد كلاً منهما علمٌ شريف برأسه، ولا يلزم أن يكون داخلاً في مقول قولهم، وإن كان داخلاً، فالمعنى ادعاؤهم الإيمان بكلّ واحد مفصّلاً على الاستحكام.
و"القولُ" مصدرٌ معناه التلفّظ بما يفيد، وقد يطلق على القضيّة الملفوظة، وعلى صورتها الذهنيّة، وعلى الرأي والمذهب. وفي ايراد { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }، بدل "وما آمنوا" كما يستدعيه المقابلة من التصريح بشأن الفعل دون الفاعل لا العكس، انكارٌ لما ادّعوه وردع لما انتحلوه بأبلغ وجهٍ وآكده في التكذيب لهم، حيث أخرج ذواتهم من عداد المستعدين لاقتناء أنوار الإيمان واليقين مطلقاً.
ولذلك أكّد النفي بالباء، ونحوه قوله تعالى:
{ { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ } [المائدة:37]. وترك تقييد الايمان في الثاني بما قيّد به في الأول، إمّا لأنّه دلّ عليه المذكور أولاً، لأنّ هذا جوابه، وإمّا للإشعار بأنّهم ليسوا من الايمان في شيء أصلاً.
تنبيه فيه تذكير
[اليوم والليلة]
والمراد من اليوم، إمّا الزمان الذي لا حدّ له، وهو الأبد الدائم الذي لا مقطع له، وإما الوقت المحدود من النشور الى أن يدخل أهل الجنّةِ الجنّةَ وأهلُ النارِ النارَ، لأنه آخر الأوقات المحدودة وما بعده فلا حدّ له.
وانّما سمّي زمانُ الآخرة يوماً، لظهور شمس الحقيقة حينئذ، وطلوعها من أفق الأكوان ومطالع الحقائق الروحية، كما انّه قد اختفى ما دام الكون الدنيوي في مغارب الصوَر الحسّية، وفي القيامة تصير تلك الصور بعينها مظاهر أنوار الإلٰهية، ومشاهد أسرار الربوبيّة. فكأن مدّة الدنيا ليل نهاره يوم الآخرة، وصباحه عند قيام الساعة، والله أعلم بأسراره.