التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ
١٥
-السجدة

تفسير صدر المتألهين

لمّا ظهر من الآية السابقة كون الشقاوة الأبدية متسببة عن الكفر الذي هو ضرب من الجهل بالله وآياته واليوم الآخر، وعن النقصان الذي يحصل من فعل المعاصي وترك الطاعات، أراد أن يشير إلى أن أيّ مرتبة من المعرفة تحصل منه السعادة العلمية، ويتخلص به من الشقاوة التي بأزائها، وأيّ مرتبة من العمل الصالح توجب الفوز بنعيم الجنان، والنجاة من عذاب النيران.
ولمّا كان الإيمان اسماً جامعاً لمجموع هذين المعنيين، ذكر للمؤمن خواصٌ ثلاثة علمية قلبية، وخواص ثلاثة عملية بدنية، ليبيّن أن مجرد كلمة الشهادة من غير معرفة برهانية أو كشفية لا توجب الخلاص من الشقاوة الذاتية العلمية، ومجرد الأعمال البدنية من غير تهذيب الباطن وتصفية القلب، لا توجب النجاة من العذاب الأليم.
فالأولى من الصفات العلمية: كون العبد بكثرة مزاولة المعارف الإلهية، بحيث إذا ذكّر بآيات الله، أي المعارف المذكورة في القرآن، أو أُفيد بالحقائق الإيمانية، أو وُعِظ بتقوى الله والزهد الحقيقي، تذكّر بها واتعظ بمواعظها واعتبر بأمثالها، وفهم دثور الدنيا وفنائها، خاضعاً لآيات الله، للين قلبه وصفاء فطرته، ساجداً فانياً فيها، نازلاً مما كان قبل ذلك من نشأته الحيوانية، وعما يعتقده من حوله وقوته وقدرته، وهذا أخصّ خواص المؤمن الذي لا يوجد لغيره، كما أفصح الله عنه بقوله:
{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً } [الأنفال:2]. لأن هذه خاصية علمية لا توجد إلاَّ في العارفين بالله وآياته، وهي أساس الدين، وأصل سائر الحسنات.
والثانية: منها: ان يكون العبد مُسَبّحاً مقدّساً ربه، حامداً له، وهو عبارة عن تجريد ذاته عن صفات الأجسام، واتصافه بصفات الملائكة، وتشبهه وتخلّقه بأخلاق الله، فذلك هو تسبيح المؤمنين حقاً، كما صرح به بعض أئمة العلم والعرفان.
ووجه ذلك: ان كثرة مزاولة الفعل، والرسوخ في الاتّصاف بصفة على الكمال، يؤدي بصاحبه إلى صيرورته من حقيقة ذلك الفعل وجنس تلك الصفة، أوَ لاَ ترى أن كثرة تسخّن الحديد بمجاورة النار بواسطة النفاخات، تؤدي به إلى أن يكتسي صورة النارية ويفعل فعلها، فلا تتعجب من صيرورة المؤمن الحقيقي مفارقا محضاً كالملائكة المقرّبين الذين شأنهم التسبيح والتقديس، لأن دأب العرفاء والحكماء تجريد الحقائق عن الزوائد والمشخّصات، وتنقيح المقاصد عن الفضول والحشويات، والتفرقة بين الذاتي والعرضي في كل باب، كيف والتعقل ليس معناه في مصطلح القوم إلاَّ هذا التجريد والتوحيد، فبكثرة فعل التجريد والتوحيد الواقعتين منهم دائماً، بلغوا إلى مرتبة التجرد عن الخلائق، والتوحيد عن الغواشي البدنية، حتى عرفوا وشاهدوا تنزيه الباري وتوحيده وحمدوه حق حمده.
والثالثة: انهم لا يستكبرون عن سماع آياته، كما يستكبر عنه من يصرّ مستكبراً كأنَّ في أذنيه وقراً، لأنه لا يبلغ إلى مقام الإيمان إلاَّ بسماع العلوم والآيات، ونحوه قوله تعالى:
{ { قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ } [الإسراء:107 - 108]، ولا يتكبرون أيضاً على أحد بظهور صفات النفس والأنانية، وذلك لفنائهم ذاتاً وصفة، واستغراقهم في شهود ذاته تعالى وصفاته، كيف والوجود مقصور عندهم على ذاته تعالى وصفاته وأفعاله، فعلى من يتكبّرون؟
وأما خواصهم الثلاثة العملية فهي التي ذكرها الله في قوله سبحانه:
{ تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [السجدة:16].