التفاسير

< >
عرض

أَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ ٱلْمَأْوَىٰ نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٩
وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
٢٠
-السجدة

تفسير صدر المتألهين

{ جَنَّاتُ ٱلْمَأْوَىٰ }: نوع من الجنان، كل منها غاية ما يمكن لطائفة من الناس أن يبلغ إليها بقوة الإيمان والعمل الصالح، لأن صيغة الجمع تدل على أنها مراتب متفاوتة، قال جل عزّه: { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ * عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ * عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ } [النجم:13 - 15].
وقيل: سميت بذلك، لما روي عن ابن عباس، قال: تأوي إليها أرواح الشهداء، وقيل: هي عن يمين العرش، وقرأ: { جَنَّاتُ ٱلْمَأْوَىٰ } - على الإفراد -.
و"النزل" عطاء النازل، ثم عمم.
والمعنى: لما فارق الحق سبحانه في الآية السابقة بين المؤمن والكافر في الحقيقة والمرتبة، ونفى عنهما المساواة، أراد أن ينبه على ذلك بتفصيل دواعي كل واحدة من هاتين الطائفتين عن الأخرى، والفرق بين أعراضهما وغاية قصودهما ونهاية توجههما، لأنه تباين المأوى الطبيعي، يدل على تباين الطبيعة المقتضية، فإن لكل طبيعة حيزاً طبيعياً، ولكل من الطيور مأوى خاصاً، والتعبير عن مقام كل من القبيلتين بالمأوى، تنبيه بليغ لمن وفّق لإدراك الإشارات القرآنية والآيات الإلهية. على أن السعيد مفطور على أن يعمل عمل أهل الجنة، والشقي مفطور على أن يعمل أعمال أهل النار، وهما طالبان بالاختيار لما قدّر لهما في دار القرار.
وأما قوله في حق الكفار: { كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ - من غم - أُعِيدُواْ فِيهَا }: فهو نعي لهم، وبيان لكيفية تردّيهم إلى عالم البوار، فإن أحد الداعيين المقتضيين إذا كان جِبِلياً والآخر عرضياً اتّفاقياً، فلا محالة يغلب الأول على الثاني بالأخرة، أوَ لاَ ترى أن عمَّال الدنيا وأهل الحرف والمتوغلين في الشواغل الحسية، كلما بلغوا إلى صحبة الخائضين في العلوم، واستطابوا حالتهم، واستنشقوا روائحهم، وتهوّسوا الوصول إلى مرتبتهم، والخروج من ظلمة الجهالة وضيق النقص وخسة الرذالة إلى نور العلم وفسحة الكمال وشرف العرفان، غلبت عليهم شِقوتهم، وقويت فيهم جواذب الطبيعة السفلية، وأهبطهم ثقل الأوزار والأثقال والتعلقات مثل السلاسل والأغلال، حتى توصلهم إلى أسفل درك الجحيم، لاستيلاء الميل السفلي عليهم، وقهر الملكوت الأرضي بسبب رسوخ الهيآت الذميمة.
والآياتُ الدالة على أن أهل الحجاب الكلّي، والمتوغلين في الحسِّيات، اضطروا إلى التردي والتقلب في النار كثيرة، منها قوله تعالى:
{ { وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ } [البقرة:167]. وقوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [المائدة:36]. وقوله: { { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ } [المائدة:37]. وقوله: { { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [المائدة:41]. وقوله: { { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } [البقرة:126].
والسبب العقلي فيه، إن الجحيم الأخروي من جنس هذه الدار، فكل من غلبت عليه جهة الحس والمحسوسات، ولم يصدّق بوجود عالم آخر ضميراً واعتقاداً، وإن أَقَرَّ به قولاً ولساناً، وليس له ربتة الوصول إلى حقائق الإيمان، ولا العمل بمقتضاه والسلوك على وفق مؤدّاه، ولا يخرج طير روحه أبداً من قفص هذا العالم، فمآله إلى الجحيم وله عذاب مقيم.