التفاسير

< >
عرض

أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ
٢٦
-السجدة

تفسير صدر المتألهين

"الواو" للعطف على معطوف عليه أمر منوي من جنس المعطوف، والفاعل في "يَهْد" مضمر يدل عليه: "كم"، أي كثرة إهلاكنا القرون، لا نَفْس "كم"، لأنها لا تقع فاعلة، فلا يقال: "جاءني كم رجل"، ولأن "كم" في محل النصب على تقدير الاستفهام الذي له صدر الكلام، لأنه مفعول أهلك، و"يمشون" في محل النصب على الحال. ويحتمل أن يكون الفاعل نفس هذا الكلام بحسب المحكي عنه، والمعنى كقولك: "يعصم لا إله إلاَّ الله الدماء والأموال"، أو ضمير يرجع إلى الله بدليل قراءة زيد: "نهد" بصيغة المتكلم.
وقرأ يُمشّون - بضم الياء وتشديد الشين - أي: أوَ لَم يبصرهم ويبيّن لهم كم أهلكنا من القرون الماضية لكفرهم وعتوهم وارتكابهم المعاصي، فانتقمنا منهم، يمشون هؤلاء القوم - يعني كفار قريش - في مساكنهم، ويمرّون في متاجرهم على ديارهم وبلادهم، ويرون آثارهم.
وقيل معناه: أنا أهلكناهم بغتة وهم مشغولون بصنايعهم ومشاؤون في منازلهم، إن في ذلك دلالات واضحات على حقارة الدنيا والحثّ على طلب الأمور الباقية، أَفَلاَ يسمع هؤلاء الكفّار من أهل التواريخ والحكايات ما يوعظون به من المواعظ والمنبهات.
مكاشفة إلهامية
"المشي في المساكن": إشارة إلى وقوف قوم على أوائل الأنظار ومبادئ الأفكار، وعدم خروجهم عن عتبة باب المحسوسات والأوليات مع غاية سعيهم فيما لا يعني، ونهاية جدّهم في طلب هذا الفاني، وهم يمشون في الحقيقة في مساكنهم، ويجمعون تلفيقات أقوام بلا رويّة جمعاً، وهم
{ { ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [الكهف:104]. ومشاهدة هذا الحال في أكثر الجهّال المتشبهين بأرباب الكمال، المتورطين في مواقع الهلاك والوبال، الهائمين في أودية الشُبَه والضلال، تنبيه بليغ وهداية واضحة ودلالة كاشفة لأهل الاستبصار والسلوك إلى عالم الملكوت وقرب الحق المهيمن المتعال ذي الجمال والجلال، فيتفطن اللبيب الذكي، أنهم في واد وأهل الآخرة في واد آخر، إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون.
نصيحة
أهل الاستبصار لا يستنكفون عن التعلم استبداداً بالرأي، ولا يجحدون الحق استتباعاً للنفس والهوى، أو تقليداً وتعصباً للمذاهب والآباء، ومما يؤيد هذا الوجه، تعقيب هذه الآية بمثل وارد منه تعالى في غاية الملاءمة لما كنّا بصدده بحسب المضرب كما سنوجهه.