التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ
٤
-السجدة

تفسير صدر المتألهين

{ ٱللَّهُ } مبتدأ وخبره كلمة { ٱلَّذِي } مع صلتها، والجمل الواقع بينهما من باب حمل الحد على المحدود في القضية الطبيعية بالحمل الأولي الذاتي، لا مجرد الاتّصاف الاتّحادي المعتبر في الحمل المتعارف، فإنَّ كون الواجب لذاته مبدأ وخالقاً لشيء إنما يكون بنفس ذاته المقدسة، حتى أن مبدئيته وخالقيته بما هو حقيقته وذاته، لا كصانعية غيره من المبادي التي ليست مبدئيتها لشيء بما به ذاتها وحقيقتها، كالإنسان في كونه كاتباً، حيث لا يكفي في ذلك حقيقته التي هو بها هو، بل مفتقر معه إلى صنعة الكتابة وغيرها من الأسباب، كالآلة، والقابل، ورفع المانع، ووجود الداعي، كل ذلك خارج عن الإنسان بما هو انسان، وكذا الشمس في إضاءتها وجه الأرض تفتقر إلى وجود الأرض، ووجود المحاذاة بينها وبين الأرض، فليست هي بما هي شمس مضيئة لوجه الأرض، بخلاف الواجب القيّوم، فإنَّ قيّوميته وخالقيته للسموات والأرض وما بينهما بنفس ذاته الذي هو داع ومريد وقادر.
واعلم أنّا قد حققنا مفهوم هذه الكلمة الجلالية في تفسيرنا لآية الكرسي، وبيّنا هناك أنها بحسب المفهوم قابلة للشرح الحدّي، ويؤخذ في حده جميع الموجودات الصادرة عنه بنفس ذاته، بياناً مقنعاً من أراد أن يعلمه فليطلبه من هناك.
والمراد من "اليوم" ها هنا اليوم الربوبي الذي مقداره ألف سنة مما تعدون، ولما كان مدة تكوّن العالم من زمان آدم (عليه السلام) إلى زمان نبينا (صلّى الله عليه وآله وسلم) ستة آلاف سنة - على ما هو المشهور -، فعبر عنها بستة أيام، مدة كل يوم منها ألف سنة، يسمى باسم من أسامي أيام الأسبوع قبل يوم الجمعة، منسوب إلى أحد الكواكب السبعة سوى عطارد، وفيها ميلاد واحد من الأنبياء العظام قبل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) من آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله عليهم أجمعين.
وهذا موافق لما قد اشتهر فيما بين الناس في جميع الأمصار، ان مدة الدنيا سبعة آلاف سنة على عدد الكواكب، فكل ألف سنة يوم من أيام الله، لقوله:
{ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } [الحج:47] فالسنة منها هي التي خلق الله فيها السمٰوات والأرض، لأن الخلق حجاب الحق، فمعنى خلق اختفى بهما فأظهرهما وبطن، ويوم السابع هو يوم الجمع وزمان الاستواء على العرش والظهور بالأسماء، وهذا الظهور يبتدئ بالسابع من أول البعثة، ويزداد إلى تمام هذا اليوم، ويزول الخفاء بتمام الظهور لقيام الساعة، التي قد طلع فجرها ببعثة نبينا (صلّى الله عليه وآله وسلم) كما ورد في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: "بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتَين وجمع بين السبابة والوسطى" .
وقال: "بعثت في نفس الساعة فسبقتها كما سبقت هذه هذه وأشار باصبعيه السبابة والوسطى" وليطلب تحقيق هذا المطلب في تفسيرنا لسورة الحديد بما لا يكون عليه مزيد.
وهذا الاصطلاح في تقدير اليوم يستفاد من الأخبار أيضاً، كما روي (ع) عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
"اني لأرجو ان لا يعجز أمتي عند ربها ان يؤخرهم نصف يوم أعني خمسمأة سنة" وروي أيضاً أنه قال: "إن استقامت أمتي فلها يوم وإن لم تستقم فلها نصف يوم" .
واعلم أني منذ الآن ما رأيت أحداً عنده علم تام بتصحيح كون السمٰوات والأرض وما فيهما مخلوقة في ستَّة أيام، ولا وجدت في كلام أحد المفسِّرين وغيرهم ما يطمئن به القلب في بيان ذلك، فإن الأيام في مقادير الحركات، وهي متأخرة عن وجود الأجرام الكليّة، كالأفلاك وما فيها، سواء كانت عبارة عن مقادير أدوار الحركة اليومية كما هو المتعارف بين الناس، أو عن مقدار دورة القمر التي هي أسرع الدورات لكواكب السيارات، وهو الشهر في المشهور، أو هو مقدار دورة الشمس وهي السنة في المشهور، أو غيرها كدورة الفلك الثامن التي يكون مقدارها خمسة وعشرين ألف سنة تخميناً بحسب الأرصاد الجديدة، أو غيرها من الأيام الإلهية التي بحسب الأدوار القرآنية للكواكب السبعة، فإنَّ جميعها ليست إلاَّ مقادير الحركات الكليّة، وهي متأخرة عن وجود الأجرام الكرية الدورية الحركات كالأفلاك وما فيها، فكيف يكون ظرفاً لوجود هذه الأجرام بأنفسها ومقداراً لاصل تكونّها عنه تعالى.
وأكثر المشتغلين بالعلوم العقلية اعترفوا بالعجز عن تطبيق هذا الحكم على القوانين الحِكَمية، لأن الحكماء أقاموا حججاً فلسفية على ان وجود الأفلاك والفلكيات ليس الاّ على سبيل الإنشاء الإبداعي، لا على نهج التدرج في الحصول، ولا لأجل الأسباب الجسمانية، كاستعداد القوابل وتهيئة الآلات، وكذا فناؤها ليس بالذبول والضعف والمرض، بل مجرد إرادة الصانع البديع، فهذا الإشكال غير منحلّ إلى الآن.
وغاية ما ذكر ها هنا هو قول بعض المحققين من العُرفاء في تأويل هذه الآية وأمثالها، وهو ان يكون الخلق فيها بمعنى الاحتجاب، فقوله: { خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا } أي: احتجب بها في الأيام الستَّة الإلهية، التي هي مدة دور الخفاء من لدن آدم (عليه السلام) إلى دور محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم).
وأنت خبير بأن خروج الألفاظ القرآنية عن معانيها المتعارفة المشهورة، توجب تحيّر الناظرين فيها، والقرآن نازل لهداية العباد وتعليمهم وتسهيل الأمر عليهم مهما أمكن، لا للتعقيد والإشكال، فيجب ان تكون اللغات محمولة على معانيها الوضعية المشهورة بين الناس، لئلا يوجب عليهم الإلتباس.
كشف إلهامي
قد منّ الله علينا في تحقيق هذه الآية ونظائرها بما يشفي العليل ويروي الغليل من غير حاجة إلى صرف اللفظ عن مفهومه الظاهر، وهو يستدعي تمهيد مقدمات:
أولاها: أن الأمور الصادرة عن الحق أقسام:
أولها: ما لا يحتاج في وجوده وتعقله إلى قابل وحركة وزمان، ومنها ما يحتاج إليها في وجوده لا في تعقله، ومنها ما يحتاج إليها في الوجودين، فالأول كالعقول، التي هي ضرب من ملائكة الله، ويقال لأمثالها الأمور الإلهية، والثاني كالعدد والمقادير، ويقال لها الرياضيات، والثالث كأشخاص الأجسام الطبيعية وغيرها، ويقال لها الطبيعيات.
وثانيها: ان لوجود كل من هذه الموجودات عالماً آخر، فالدنيا للأمور الطبيعية، وهي عالم الشهادة وعالم الحس، والآخرة للأمور المقدارية من غير مادة، ويقال لها: عالم الغيب وعالم الجزاء، وما هو فوقهما للأمور الربّانية، ولكل من هذه الموجودات مشعر آخر للإنسان، فبالحس يدرك الدنيا وما فيها، وبالخاطر والعقل يدرك الأمور الأخروية، وبالروح والعقل النظري يدرك الأمور الإلهية.
وثالثها: ان الشيء قد يكون بحسب حقيقته وماهيته من الأمور العقلية، وبحسب تشخصه من الأمور المفتقرة إلى المادة وانفعالها، كالجواهر الصورية التي تقوُّم المادة وعوارضها بحسب سنخ تجوهرها، وأما بحسب تعيّنها الخاص وعوارض تعيّنها فهي مما تقوّمها المادة وانفعالاتها.
ورابعها: ان الأفلاك وما فيها تفتقر إلى المادة وعوارضها الانفعالية في التشكل والمكان وغيرهما من المشخصات.
وخامسها: ان تشخّص الشيء عبارة عن كونه مدركاً بالإدراك الحسي، وأما المحسوس بما هو محسوس - أي قابل لأن يناله الحسن - فوجوده إنما يتقوم بانفعال المادة وعوارضها، وكذا الجوهر الحاس مفتقر في وجوده إلى مادة محسوسة.
وسادسها: ان الأمر التدريجي الوجود من حيث هو كذلك، زمان بقائه عين زمان حدوثه.
فإذا تمهدت المقدمات. فنقول:
لما اشتهر أن ابتداء وجود العالم مقارن لابتداء وجود بني آدم، لأنه من الأنواع الشريفة التي لا ينفك العالم عن وجودها المستحفظ نوعها ببقاء الأشخاص، وجميع العقلاء قائلون بان للكاينات ابتداء وانقضاء بحسب الأدوار والأكوار والطوفانات العظيمة، حتى أن بعض الحكماء ذكر كيفية نشوء الإنسان من غير توالد عند ابتداء الكائنات، وعلمت أن كيفية وضع السماء على هذه الهيئة المخصوصة ليست الاّ بأمور زائدة على ذاتها، وتلك الأمور مفتقرة إلى انفعال المادة وتغيراتها، والهيولى حقيقتها محض الانفعال والقوة والدثور والتغير، حتى قيل إنها من باب الحركة في جوهرية الشيء. ثم ان اسم السماء كأنَّه معتبر في معناه الفوقية، لأنَّه موضوع للحقيقة السماوية مع هذا الشكل المخصوص المحسوس، وهذه الهيآت المخصوصة من الفوقية وغيرها، والعرب يقولون: "سماء كل شيء سَقْفُه"، وكذا الفلك معتبر في معنى اسمه الحركة الدورية، لأنه مأخوذ من فلكة المغزل، ولهذا يقال بالفارسية: "آسمان" أي: المشابه للرحى.
فحينئذ وبحكم المقدمة الأخيرة، يكون حدوث السماء بما هي سماء حاصلا بالتدريج المفتقر إلى زمان يقع فيه، وأما وجود الزمان والحركة فهما مفتقران إلى أصل حقيقة السماء، لا على وجه دوري مستحيل، بل على الوجه الذي حققه الراسخون في العلم عند كيفية استناد كل متغير إلى ثابت، وهذا أمر يحتاج تحقيقه إلى مقام آخر لبسط المقال، ومجال أوسع من هذا المجال.
فقد ثبت ان السماء بما هي شخصية محسوسة، وكذا غيرها من الأمور المحسوسة المادية الموجودة في عالم الدنيا، أمر زماني الوجود، تدريجي الحصول، مدة كونها البقائي عين مدة حدوثها الإنشائي، فهذه المدة المضروبة في الكلام الإلهي هي مدة بقاء وجودها الذي هو عين الحدوث، ويشير إلى هذا قوله سبحانه:
{ { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [الرحمن:29].
وأما قوله (صلّى الله عليه وآله وسلم):
"جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة" فهو بالقياس إلى عالم آخر فوق الدنيا وما فيها، ولو نظرت حق النطر إلى حقيقة كل أمر متغير محسوس من حيث حقيقته الثابتة العقلية، وجدتها خارجة عن الزمان والمكان، مرتفعة عن التجدد والتغير والحدثان، وعن قول "أين" و "متى"، فإنَّ قولنا "الله عالم" و "الإنسان إنسان" و "الفلك فلك" لا تعلق لها بهنا وهناك، ولا بغد وأمس، فكذا حكم جميع الصفات الذاتية للأشياء ولوازم الماهيات، فلو ارتفعت الحواس منا لارتفعت بارتفاعها جميع الاعتقادات الزمانية والمكانية الواقعة، وتبدلت الأرض غير الأرض، والسموات غير السموات، لكونها مطويات بيمين الحق، كما قال بعض الناظمين من حكماء الفرس، وهو السنائي المسمى بالإلهي. شعراً:

تازمين دل آدمى زايست خيمه روزكار بر بايست
آدمى جون نها دسردر خواب خيمه اوشودكَسته طناب

فقد انكشف مما بينّا بوجه حِكَمي، سرّ كون السموات والأرض وما بينهما مخلوقة في ستة أيام من الأيام الإلهية، وهي من يوم السبت إلى يوم الخميس يوم ولادة عيسى بن مريم (عليهما السلام)، وأما يوم الجمعة فابتداؤه وصبيحته وقت بعثه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وهو رسول آخر الزمان، وإمام الجماعة من الأنبياء والأولياء، وخطيب يوم الجمعة، وداعي الله والمنادي للصلاة في هذا اليوم، وفي ذكر الله تعالى وشهود وحدانيته، لقوله تعالى { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [الجمعة:9].
وقد قلت أبياتاً في هذا المعنى عند انشراح صدري وانفتاح قلبي في ذكري وهي هذه. - شعر -:

جون ظهور دين بيغمبر شدى دين توحيد خدا ظاهر شدى
مسجد جامع بانجام آمده در يكى هفته باتمام آمده
روز اين هفته بود هر يك هزار زين شمار دورهء ليل ونهار
"ان يوماً عند ربك" را بخوان بس ز آدم تا بخاتم هفته دان
روز جمعه جون شدى كَاه نماز شد خطيب أنبياء اندر نياز
در ميان روز آدينه يكى ميشود قائم قيامت بى شكى
بانكَك قد قامت بكَوش مردمان ميرسد بيش از قيامت يكزمان
مرتفع شد آفتاب معرفت تابسمت الرأس زين عالى صفت
اين مؤذن كَفته "قد قامت صلوة" اول اين روز اعلامى بكَاه
جذبة "فاسعوا إلى ذكر الله" است دردرون هر كسى كاندر رهست
اول اين روز وقت بعثت است كه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) رارسالت شدد رست
ازأذانش خفتكَان آكَه شدند روح قدسى باملائك صف زدند
تو "زقد قامت" كجادارى خبر كز قيامت نيست درجانت اثر

تبيان
قد تحيرت أفهام العقلاء وأفكار العلماء في معنى استوائه تعالى على العرش، وانقسموا في متشابهات القرآن إلى مجسّم كالحنابلة، وإلى مُأوّل كالمعتزلة، وإلى مقتصد - مجسّم في البعض ومُأَوّل في البعض - كأصحابنا الإماميين، ليسوا في مرتبة إسراف المؤولين في رفع الظواهر، ولا في مرتبة تقصير المجسمة في حسم باب التأويل.
وهنا قسم رابع هم الراسخون في العلم المشار إليهم في قوله تعالى:
{ { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ } [آل عمران:7] على قراءة الوصل - وقد أشرنا إلى طريقتهم في تفسيرنا لآية الكرسي، وذكرنا هناك أنموذجاً من مقامهم في كلام الله الملك العلاّم بمقتضى دينهم وديانتهم في ضبط الفاظ الكتاب المجيد عن التحريف والتحديد، فإنَّ مقتضى الدين والديانة ورعاية الضبط والأمانة، أن لا يُؤوِّل المؤمن شيئاً من الأعيان التي نطق بها القرآن والحديث، الاّ بصورها كما جاء وفسرها علماء التفسير الواقعين في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الماضين المعصومين عن الخطأ سلام الله عليهم أجمعين.
اللَّهمَّ إلاَّ أن يكون محققاً خصصه الله تعالى بكشف الحقايق والمعاني والأسرار والإشارات في فهم التنزيل وتحقيق التأويل، فإذا كوشف بمعنى خالص أو إشارة وتحقيق، وتقرر ذلك المعنى من غير أن يبطل صورة الأعيان، مثل الجنة والنار والميزان، وما في الجنة من الحور والقصور والأنهار والأشجار، وما في النار من الحميم والزقّوم وتصلية جحيم والمُهل يشوي في البطون كغلي الحميم، وغيرها من العرش والكرسي والشمس والقمر والليل والنهار، لا يؤوِّل منها شيئاً على مجرد المفهوم ويبطل صورته، بل يثبت تلك الأعيان كما جاء. ويفهم منها حقائقها ومعانيها، فإنَّ الله تعالى ما خلق شيئاً في عالم الصورة إلاَّ وله نظير في عالم المعنى، وما خلق شيئاً في عالم المعنى وهو الآخرة إلاَّ وله حقيقة في عالم الحق، وهو غيب الغيب فافهم جداً، وما خلق شيئاً في العالمين إلاَّ وله مثال وأنموذج في عالم الإنسان.
فإذا عرفت هذا على الكشف واليقين، فقد اعتصمت بحبل متين من حبال القرآن المبين، واستمسكت بعروة وثقى من عروة الدين - فالزم.
واعلم ان مثال العرش في العالم الصغير الإنساني قلبه، إذ هو محل استواء الروح عليه بخلافة الله تعالى، فكما أن كون القلب - بل البخار اللطيف الذي فيه - مستوي للنفس الإنسانية بل للروح العقلي، لا يوجب تجسماً لها، لأن حقيقة هذا الإستواء ليس كاستواء جسم على جسم، بل هذا تجلّ للروح بواسطة قوتها العملية في القلب، وظهورٌ منها عليه يوجب استعمالها له وتحريكها إياه بحيث تكون آثارها في سائر الأعضاء وغيرها بواسطة القلب، فما يفعل فعلاً إلاَّ ويظهر أولاً أثر من الروح في قلبه، ثم يسري منه في الأعضاء الآلية، ثم في الآلات الخارجية ان كان فعلاً خارجياً يفتقر إليها، ثم يوجد ذلك الشيء الذي يقال إنه أثر النفس، كالكتابة في مادة خارجية كالمداد وصفحة القرطاس، فكذلك معنى استوائه تعالى على العرش، استعماله تعالى إيَّاه بواسطة مَلَك مقرّب هو مثال رحمانيته وتجلّيه له وظهوره فيه، بحيث لا يتكون متكون في عالم العناصر الاّ ويظهر أصله في عرش الله، ثم بواسطته يسري في عالم السموات التي هي بمنزلة الأعصاب والرباطات للإنسان الكبير، ثم يوجد في هذا العالم صورة منه في هيولي العنصريات التي هي مداد كلمات الله على صفحة الأرض، وهي المعبّر عنه بالبحر المسجور وإليها الإشارة في قوله تعالى:
{ قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } [الكهف:109].
وها هنا أسرار عظيمة عزيزة أعز وأرفع من أن يمكن كشفها على غير أهلها كما هو حقه، بها يتبين تمام المضاهاة بين فعل الآدمي داخل العالم الصغير وخارجه، وفعل القدرة الإلهية داخل العالم الكبير وخارجه، فإنَّ من لم يعرف شمول جوهر النفس الآدمية جميع أفاعيلها الغيبية والشهادية، الداخلة والخارجة، يرجع ويقول اغتراراً بظواهر ما وصل إليه من كتب الحكماء، أو فهمه من كتب الأطباء إن فعل النفس لذاتها ليس إلاَّ إدراك المعقولات، وأمّا الأفاعيل البدنية الداخلة فهي منسوبة إلى القوى كالهاضمة والجاذبة والدافعة وغيرها، أما الأفاعيل الخارجة كالكتابة والحياكة والصياغة فهي منسوبة إلى الأعضاء بواسطة الآلات الصناعية، فلم يتم في حقه كون النفس مثالاً للرب تعالى ذاتاً وصفة وفعلا وآثاراً، ولم يتم عنده التوحيد الأفعالي المستفاد في هذه الآية من قوله: { مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } [السجدة:4].
ثم لا يخفى أن المكونات العنصرية خارجة عن العالم الكبير الحيواني، لِمَا ثبت في مباحث الغايات لحركات السماويات أن لها في حركاتها أغراضاً علوية وما يترتب على فعل الأفلاك والسماويات ليس بالذات وجود العنصريات، كما أن الفعل الذاتي للنفس هي الإرادات والتدبرات، ثم بواسطتها إنشاء الحوادث في عالمها الخاص - أعني بدنها - وغاية فعلها ما يلحق إليها من الحِكَم والمصالح والخيرات أو اللذّات، وأما الفعل الخارجي فهو فعل تبعي، وأما الغاية الخارجية كتسوّد وجه القرطاس، فهي غاية عرضية بأحد الوجوه المذكورة في بابها.
وبالجملة، فكما أن في الحيوان توجد أمور لا يسري إليها الحياة إلاَّ بالتبع كالظفر والشعر والظلف والقرن، فإنَّ هذه كثائف تؤدي إليها البخارات والأدخنة المزاجية، فينجمد عندها وينقطع دونها أثر تصرف النفس في انشاء الروح الغريزي النفساني، الحامل للحياة والحس والحركة الإرادية، فهي حية بحياة البدن بالعَرَض، فكذلك في الوجود أمور يقال لها في عرف العرفاء "الآثار"، وهي عبارة عن الموجودات العَرَضية التبعية، التي ليست الطبيعة الكلية متوجهة إليها، ولا هي غايات ذاتية للحركات الكلية، وهذه كالشخصيات العنصرية، فهي واقعة في الوجود اتّفاقاً بهذا المعنى الذي ذكرناه، كما ان وجود الكثائف والأوساخ التي تحصل في دكة القصّاب وينتفع بها الذباب، ليس من الغاية الذاتية لصنعة القصّابين، بل هي أمور ضرورية اتّفاقية لازمة للصنعة المذكورة، من غير توجه الفاعل إليها بالذات.
والله سبحانه عالم قادر بجميع الأشياء، لا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء، إلاّ أن غاية إيجاده للكائنات، وجود العقول النظرية العارفة لذاته تعالى، لقوله:
{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات:56] وأما غيرها من الشخصيات الكائنة الفاسدة، فوجودها خارج عن القصد الذاتي، لأنها طُفَيل ذات الإنسان الكامل.
ومن ها هنا استتم وجه من وجوه المضاهاة بين فعل النفس خارج البدن، وبين فعل الله تعالى بواسطة العرش فيما دون السموات في كون كل منهما أثراً من آثار فاعل قادر حكيم مدبّر.
بَسْطُ حِكْمة رحمانية
إنَّ استواءَه تعالى على العرش بعد الفراغ من خلق الأنواع على نهج الإبداع، تصرفه تعالى في العالم بواسطته، وتدبيره الأمور بوسيلة تحريك السماء الموجب لحدوث الأشياء المتجددة، وإنَّما خصَّ العرش بالإستواء، لأنه مبدأ الأجسام (الأشياء - ن) اللطيفة القابلة للفيض الرحماني.
وعند بعضهم، العرش فلك عظيم مشتمل على جميع الأجرام الفلكية والكوكبية، يحيط به سطحان: أحدهما: مقعّر مائل القمر، والآخر: ما هو منتهى الإشارة الحسية، أي جهة الفوق الحقيقي، وهو متحرك بالحركة اليومية السريعة الحافظة للزمان، المحيطة بسائر الحركات المستديرة، وبه تتجدد الأبعاد المكانية والزمانية، والحوادث والاستعدادات وغيرها، فما من حادث من الحوادث من الحركة والأجسام الكائنة والفاسدة، إلاَّ وللعرش مدخل في وجوده وعدمه، كما أن القلب الإنساني رئيس سائر الأعضاء، ولا تسري قوة الحياة والحس والحركة الفائضة من النفس على البدن إلاَّ بتوسط القلب، فإنه أول ما يتحرك من أعضاء البدن، وآخر ما يسكن منها، فهو بحسب حقيقته وذاته محيط بالبدن.
والنفس مستوية عليه على مثال استواء الرحمان على العرش، فإنَّ الاستواء صفة من صفاته تعالى لا يشبه استواء المخلوقين، كالعلم وساير الصفات، لا اشتراك بينه تعالى وبين الخلق إلاَّ بحسب الاسم والحكاية:
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } [الشورى:11] وهذه الآية توجب نفي المثل وإثبات المِثال، ولا مثال له تعالى ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً في الوجود إلاَّ النفس الآدمية بحسب جمعيته الأحَدية.
ولو أمعنت النظر في خصوصية خلافتك للحق تعالى، لعرفت نفسك فعرفت ربك، وذلك إن الله تعالى لما أراد خلق شخصك من النطفة المودعة في الرحم، استعمل روحك بخلافته ليتصرف في النطفة، وهو بذر شجرة عالمك وبدنك، كما أن الهيولى الكلية المطلقة بذر شجرة العالم الجسماني التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، فتصرفت فيها أيام الحمل في أطوارها، فجعلها عالماً صغيراً مناسباً للعالم الكبير، فتكون المعدة بمثابة الأرض، والرأس بمثابة السماء، والقلب بمثابة العرش، والصدر لمكان الكبد بمثابة الكرسي، وهذا كله بتدبير الروح وتصرفه خلافة عن ربه.
ثم استوى الروح بعد فراغه من الشخص الكامل على عرش القلب، لا استواءً مكانياً، بل استواءً ارتباطياً تعلقياً معنوياً، ليتصرف في جميع أجزاء الشخص، وتدبير أموره بإفاضة فيضه على القلب أولاً، ثم من القلب على الكبد والدماغ والأعضاء الشريفة الرئيسة ثانياً، ثم على سائر الأعضاء والجوارح بتوسطها، فالعرش مُقَسّم فيض الحق على العالم كله، كما ان القلب مُقَسّم فيض الروح إلى القالب كله.
فإذا تأملت في هذا المثال تأملاً شافياً، وجدته في نفي التشبيه عن الصفات المقدسة المنزهة كافياً، وتحققت بحقيقة قوله (صلّى الله عليه وآله وسلم):
"من عرف نفسه فقد عرف ربه" إن شاء الله.
تلويح عرشي
لا يستر على العارف المكاشف، ان في الوجود وجوهاً من المشابهة والمماثلة بين القلب الإنساني وعرش الرحمان، ذكرناها في بعض كتبنا العرفانية بوجه تفصيلي ولا بأس بذكر جملة منها على وجه التلخيص، وهي خمسة:
الأول: انهما يشتركان في كونهما محل استواء الرحمان، أما العرش فلدلالة هذه الآية ونظائرها على كونه كذلك، وأما قلب المؤمن العارف فلقوله تعالى في القرآن:
{ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [الحديد:4] وفي الحديث القدسي: "يا داوود فرّغ لي بيتاً، انا عند المنكسرة قلوبهم" .
وروي أيضاً أنه "سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أين الله؟ فقال: في قلوب عباده" ، فعليك ان تتفحص القلب الإنساني، فإذا وجدت وصرت ذا قلب فقد وجدت بيت الله، لأن الروح محل معرفة الله، وقلب المؤمن عرش الله، وهو لطيفة صافية تنبعث من صفوة الأخلاط الأربعة وبخاريتها ودخانيتها، كما ان السماء وهي دخان حاصلة من صفو الأجرام ودخانيتها.
الثاني: كونهما بين اصبعين من أصابع الرحمان، والإصبعان هما النفس والعقل، المحركان للأشياء، أحدهما بالمباشرة والتدبير، وثانيهما بالإمداد والتشويق، وهما مَلَكان مقرّبان روحانيان، أحدهما عقلي والآخر نفسي، أما كون العرش بينهما، فلما ثبت أن وجوده بعد القلم واللوح المعبِّران عن العقل والنفس والقضاء والقدر، وأما كون القلب بينهما، فلكونه مسبباً عن القوة العاقلة والعاملة من الروح الإنساني.
الثالث: اشتراكهما في السعة والإحاطة، أما العرش فلقوله تعالى:
{ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ } [البقرة:255] والعرش وسع الكرسي، فيكون أوسع منه ومما يحويه ويسعه، ولكثير من الأحاديث الدالة على ان العرش محيط بما في هذا العالم الجسماني، وأما قلب العارف فلقوله تعالى في الحديث القدسي: "لا تسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن" .
وأنت إذا تأملت في إحضارك لكل شيء تريده في قلبك، من الأفلاك العظيمة والكواكب بأي مقدار وعدد شئت، وإخطارك الصحارى الوسيعة في بالك بأي سعة شئت، والخلائق الكثيرة بأي كثرة شئت، فلا تتعجب في قول أبي يزيد البسطامي: "لو أن العرش وما حواه ألف مرة دخل في زاوية من زوايا قلب أبي يزيد لما أحس به" وما قيل: إن العرش مع نسبته باستواء الرحمانية كحلقة ملقاة بين السماء والأرض بالنسبة إلى وسعة قلب المؤمن.
الرابع: ان كلا منهما بمنزلة السرير للسلطان، تحته أربعة أركان، وفوقه أربعة قوائم، أما الأربعة الفوقانية فهي: العقل العملي، والنفس، والروح القدسي والطبع، وكل منها مَلَك عظيم، وأما الأربعة التحتانية فهي: الأرض والماء والنار والهواء، ولكل صورة من صور العناصر حقيقة روحانية، وهو ملك رباني يدبرها ويربّيها بإذن مبدع الكل، فإذا اتصل كل مستفيض بمفيضه، وانصب كل ماء بانائه، وانضمّ كل معلول إلى علّته، وصار عرش الله بارزاً، وبرزت كل الحقايق لله الواحد القهار، تنضم هذه الأربعة الجسمانية بتلك الأربعة الروحانية وتصير ثمانية:
{ { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } [الحاقة:17] وهي الأنوار القاهرة القدسية، أرباب الأصنام العنصرية مع طبايعها الأربعة التي هي الصور النوعية، تحمله بالاجتماع من الطرفين - العلوي والسفلي - عند البعث والنشور من كل طرف أربعة، فيكونون ثمانية، أي عند النشور.
ولهذا قال (صلى الله عليه وآله وسلم): على ما روي عنه:
"هم اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة آخرين، فيكونون ثمانية" .
ولكون تلك الأملاك مختلفة الحقايق بحسب اختلاف اصنامها العنصرية، قال بعضهم إنهم على صور مختلفة، ولكونها مستولية مستعلية على تلك الأجرام شُبّهت بالأوعال وسميت بها تشبيهاً لأجرامها بالجبال، ولكونها شاملة لتلك الأجرام بالغة إلى إفاضتها حيثما بلغت، لازمة لها، فاعلة أيضاً فيها.
قال بعضهم: هي ثمانية أملاك أرجلهم في تخوم الأرض السابعة، والعرش فوق رؤوسهم، وهم مُطرِقون، مُسَبّحون لله، والله أعلم بحقائق الأمور.
الوجه الخامس: ان كلا منهما نهاية الجسمانيات وبداية الروحانيات، وكل منهما صورة الصور في هذا العالم ومادة المواد في عالم الآخرة، وكل منهما برزخ جامع بوجه وحد فاصل بوجه، وخط واصل وصراط ممدود على متن جهنم، وطريق مستقيم إلى الله تعالى، وكل منهما بمنزلة سور ذي بابين، باب داخلي إلى عالم الرحمة والرضوان، لا يلج من يلج ملكوت السموات إلاَّ من هذا الباب، وباب خارجي إلى عالم المقت والنيران، لا ينزل ما ينزل إلى منازل الشياطين ومزابل الملاعين إلاَّ من هذا الباب، كما أشير إليه في قوله تعالى:
{ فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ } [الحديد:13] والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.