التفاسير

< >
عرض

ذٰلِكَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ
٦
ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ
٧
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ
٨
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ
٩
-السجدة

تفسير صدر المتألهين

{ ذٰلِكَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ (6) ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ }
ذلك المدبر "عالم" يكون علمه عين إيجاده للأشياء على أحكم وجه وأتقنه، وإيجاده للأشياء على أبلغ النظام والأحكام عين علمه وتدبيره، فيكون غيبه شهادة وشهادته غيباً وهو العزيز في غاية العظمة والكبرياء، لبراءة ذاته عن وصمة الحدوث والإمكان، وعن شوب الاشتراك والمماثلة مع الماهيات، "الرحيم" الذي يصل نور فيضه وأثر جوده إلى كل عال وسافل، وقاصٍ ودانٍ، لكونه في العلو الأعلى من جهة الذات والوجود، والدنوّ الأدنى من جهة الفيض والجود، ولذا عقبه بقوله: { أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ }، فإن ذاته لما كانت في غاية الجلالة والعظمة، وكانت الموجودات كلها نتائج ذاته وأشعة أنوار صفاته، فيكون في غاية ما يمكن من الحسن والجمال والكمال، ولأنه ما من شيء خَلَقَهُ إلاَّ وهو مرتّب على ما اقتضته الحكمة الإلهية، وأوجبته العناية الأزلية، فتكون جميع المخلوقات حسنة في غاية الحسن المتصور في حقه، وإن تفاوتت وانقسمت إلى حَسَن وأحسن إذا قيس بعضها إلى بعض، كما قال سبحانه:
{ لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [التين:4].
أما الشرور والآفات التي يتراءى في نظر المحجوبين، فهي ليست شروراً بالحقيقة، لأن الشر الحقيقي عدم أو عدمي لا وجود له، وأما الذي يؤدي إلى عدم ذات أو عدم كمال الذات مما يسمى باسم الشر مجازاً فهو إنما خلق لأجل النفع في أشياء آخر، لا يهملها خالق القضاء والقدر، وما يعد شراً، في تركه شرُّ أكثر بكثير منه، وهو أيضاً لا يوجد إلاَّ في جزء من وجه الأرض، وهي حقيرة بالقياس إلى السماء الدنيا الخالية عن هذه الآفات مع حقارتها بالنسبة إلى جملة السمٰوات المقهورة، المطموسة تحت أشعة الأنوار القادسات والقاهرات، الأسيرة كلها في قبضة الرحمن، ولا نسبة لعالم الإمكان الذي هو مثار القصور والنقصان، إلى جناب الكبرياء الباهر برهانه على الضياء.
فقد لاح أن الوجود كله على أحسن ما يتصور من الحُسن والنظام، ولنا براهين نيرة على هذا المطلب أوردناها في مواضع من كتبنا على وجه البسط والتحقيق، من أراد الوقوف عليها فليطلبها من هناك، والله ولي التوفيق.
وقيل: معنى { أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } علم كيف يخلقه، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "قيمة كل امرئ ما يحسنه". وحقيقته بحسن معرفته، أي يعرفه معرفة حسنة بتحقيق واتقان، وقرئ { خَلَقَهُ } على البدل، أي أحسن خَلْقَ كل شيء و"خلقه" على الوصف، أي كل شيء خلقه فقد أحسنه.
{ وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (9) }
لما وصف خلقه بالحسن، ولا ريب في أن حسن النظام بترتب الغاية المطلوبة منه، وغاية إيجاد العالم - كما بُيِّن - ذاته تعالى معروفاً ومعلوماً كما دل عليه الحديث القدسي من قوله تعالى: (كنتُ كنزاً مَخفياً فأحببت أن أعرف فخلقتُ الخلق لأعرف)، وحامل معرفة الله من جملة الأكوان الحادثة هو الروح الإنسانية التي هي نور من أنوار الله الفائضة على اللطيفة القلبية، وسره الواردة من أمر "كن" على عرش الجسم البخاري القلبي، المشابه للجرم السماوي المنعوت بقوله تعالى:
{ { وَهِيَ دُخَانٌ } [فصّلت:11]، فأراد أن يشير عقيب ذكر إحسان خلق كل شيء إلى كيفية خلقة الإنسان الذي هو الثمرة لوجود الخلائق.
ثم لما كانت حقيقة الإنسان ذات جهتين، مركّبة من أصلين هما خلاصة العالمين: بدن هو صفوة الأجسام العنصرية، وروح هي صفوة الأرواح - كما أن العالم بتمامه منقسم إلى غيب وشهادة -، كذلك الإنسان الذي هو على صورة العالم، عالم صغير مشتمل على غيب وشهادة، أي روح وجسم، فأشار إلى أصل تكوّن كل منهما، وقدّم بيان نشوء البدن على بيان نشوء الروح، لكونه أظهر وجوداً وأجلى معرفة على المتوطنين في دار المحسوسات، فقال مشيراً إلى انشاء البدن: { وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ }، هذا بحسب أصل خلقته الحدوثية في أول شخص وجد كآدم (عليه السلام)، فإنه كان إنساناً توّلد من غير مادة باقية من شخص آخر أو شخصين، استعدت لوجود ذلك الإنسان استعداداً قريباً.
ثم قال: "وجعل نسله من ماء مهين"، وهذا بحسب وجوده البقائي التوالدي، الحاصل من بقية أصل بدني، كان جزء من بدن مماثل للبدن اللاحق المسمى بالنسل، أي الذرية، وإنما سميت ذرية الإنسان نسلاً له، لأنها تَنْسل منه، أي تنفصل منه وتخرج من صلبه، ونحوه قولهم للولد: "سليل"، و "نجل".
وقال مشيراً إلى انشاء الروح وإبداعها: { ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ }، ونعم ما قال الزمخشري من قوله: وذلك بإضافة الروح إلى ذاته على أنه خَلْق عجيب لا يعلم كنهه إلاَّ هو، كقوله:
{ { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّن ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [الإسراء:85].
واعلم أن الخطْب في الروح العظيم، والكلام فيه طويل، قل من الحكماء من حصّل معناه، وقلّ من النظار من بلغ إلى فحواه، وليس هذا الروح المذكور في هذا الموضع ما أثبته الأطباء، وهو الجرم الشبيه بالأجرام السماوية، لصفائه واعتداله وتوسطه بين الكيفيات المتقابلة التي هي من أوائل الملموسات، والأطراف المتضادة، والتوسط بين الكيفيات المتقابلات بمنزلة الخلوّ عنها.
وليس المراد منه ما سمّاه الحكماء: "النفس الناطقة"، التي هي جوهر مدبّر للبدن، مرتبتها مرتبة العقل الهيولاني، ولها استعداد الترقي إلى مقام الروح الإلهي الذي هو من أمر الله، وكل ما كان من أمر الله وعالم جبروته وقاهريته، فشأنه التأثير في الأشياء بالقهر والإبداع من غير انفعال واستكمال بما تحته، فكيف يكون منفعلا عن البدن ويكون الحاصل منه ومن المادة البدنية نوعاً طبيعياً ذا مادة وصورة، له تركيب اتّحادي بينهما، كما هو شأن النفس، والنفس إذا أثرت في شيء ما أثرت إلاَّ بتأييد هذا الروح المسمى عند بعضهم بالعقل الفعّال.
وإليه أشار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله:
"إن الله تبارك وتعالى خلق العقل من نور مخزون مكنون في سابق علمه الذي لم يطلع عليه نبي مرسل ولا مَلَك مقرّب، وهو أول ما خلق الله، قال له: أدبِر فأدْبَرَ. ثم قال له: أقبِل فأقْبَلَ. فقال: تكلم فقال: الحمد لله الذي ليس له ضد ولا ند، ولا شبيه ولا كفو، ولا عديل ولا مثل، الذي كل شيء لعظمته خاضع ذليل.
فقال الرب تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحسنَ منك، ولا أطوع لي منك، ولا أرفع منك، ولا أشرف منك، ولا أعز منك، بك أُحيي وبك آخذ، وبك أعطي وبك أُوحّد، وبك أُعبد وبك أُدْعىٰ، وبك أُرتجىٰ وبك أُبتغىٰ، وبك أُخاف وبك أُحْذَر، وبك الثواب وبك العقاب.
فخرّ العقل عند ذلك ساجداً، فكان في سجوده ألف عام، فقال الرب تبارك وتعالى: إرفع رأسك، وسَلْ تُعْطَ، وأشْفَع تُشَفَّع.
فرفع العقل رأسه فقال: إلهي أسألك أن تُشَفّعني فيمن خلقتني فيه.
فقال الله جل جلاله: أشهدكم اني قد شفّعته فيمن أخلقه فيه"
.
وهذا الحديث متفق عليه بحسب الفحوى، وإن كانت العبارات مختلفة النقل، وإني اخترت هذا النقل لكونه أمتن وأوثق، وقد شرحت معنى الإدبار والإقبال المنسوبان إلى العقل الفعال في تفسيرنا لآية الكرسي بما لا مزيد عليه، وذكرنا هناك أن هذه الصفات كلها صادقة في حق النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) بحسب المقام المحمود عند ربه.
إشارة
واعلم أن الروح البخاري الموضوع لمسائل علم الطب، ظِلٌ مُحَاكٍ للروح الإلهي، ومحل استوائه عليه ومعسكر لقواه وجنوده، وهو أيضاً حاصل بعد تسوية العناصر وتعديلها وتوسطها في الكيفية بين الأطراف المتضادة، كما إن هذا الروح الإلهي الذي هو موضوع لمعرفة الله وعلم المعاد، حاصل بعد تسوية الأخلاق وحصول العدالة والتوسط في الصفات الأربعة بين أطرافها المتقابلة، فإن "العدالة" كيفية حاصلة من العفّة المتوسطة بين إفراط القوة الشهوية - المسماة بالفجور - وتفريطها - المسماة بالخمول -، ومن الشجاعة المتوسطة بين إفراط القوة الغضبية وتفريطها - المسماتين بالتهور والجبن -، ومن الحكمة المتوسطة بين طرفي القوة الإدراكية، المسماتين بالجربزة والبلاهة.
والعدالة أيضاً متوسطة بين الظلم والانظلام، الحاصلتين من إفراط بعض تلك القوى وتفريطها.
ومعنى قوله (صلّى الله عليه وآله وسلم):
"العِلم عِلمان، عِلم الأبدان وعِلم الأديان" إشارة إلى أن كمال الإنسان بحسب النشأتين منوط بإصلاح هذين الروحين، إذ بمعرفة الطب والعمل بمقتضاها ينصلح الروح الذي بدء خلقه من طين، لأن صفوة العناصر الغالب عليها الأرض ومرجعه إليها، وبمعرفة العلم الإلهي والدين الرباني ينصلح حال الروح الذي هو من الله ومرجعه إليه تعالى، فبإصلاح أحدهما وتعديله ينصلح أمر المعاش في الدنيا، وبإصلاح الآخرة ينصلح أمر المعاد في الآخرة، والأحوط عند الأكياس ترجيح صلاح المعاد على صلاح المعاش، وعيش الآخرة على عيش الدنيا، بل "لا عيْشَ إلاَّ عيشُ الآخرة" كما ورد في الحديث، وعليه الأنبياء والاولياء والصِدّيقون سلام الله عليهم أجمعين.
تنبيه فرقاني
إعلم أن أكثر الألفاظ الواردة في الكتاب الإلهي كسائر الألفاظ الموضوعة للحقائق الكلية، مجملةٌ، يطلق تارة ويراد به الظاهر المحسوس، ويطلق تارة ويراد به سره وحقيقته وباطنه، وتارة يطلق ويراد به سر سرّه وحقيقته وباطن باطنه.
وذلك لأن أصول العوالم والنشآت ثلاثة: الدنيا، والآخرة، وعالم الإلهية، وكلها متطابقة، وكل ما يوجد في أحد من هذه العوالم يوجد في الأخيرين على وجه يناسب كل موجود لما في عالمه الخاص به.
فالروح مثلاً، كما يطلق على الجسم البخاري، يطلق أيضاً على النفس الحيوانية أو الإنسانية، ويشترك جميع أفرد الإنسان في الاول والثاني، وكذلك يطلق على الروح الإلهي الذي هو محل استواء الرحمان بلا واسطة ومحل نفخه وفيضه، وله الخلافة الكبرى من الحق والسلطنة العظمى نيابة عنه تعالى.
فمن تلك الألفاظ: السمع، والبصر، والفؤاد، فإن هذه الثلاثة ربما يراد بها الأعضاء الثلاثة، كالأذن الغضروفي، والعين الشحمي، والقلب اللحمي، وما يتعلق بها من الأعصاب والأرواح التي كلها من عالم الخلق والتقدير وعالم الشهادة والحس، وربما يراد بها القوة السمعية المدركة للأصوات والألفاظ والنغمات، والقوة البصرية المدركة للأضواء والألوان، والقوة القلبية المدركة للمفهومات وأوئل المعقولات والمسلّمات المقبولات، وتارة يراد بالسمع سماع المواعظ والحِكَم القرآنية، والآيات الإلهية، وبالبصر مشاهدة أولياء الله وأحبائهم ومعارفهم وتصديق حالهم، وبالفؤاد الروح القدسي الواصل إلى الله تعالى بنور العرفان.
وهذه المعاني الأخيرة، مما لا اشتراك لجميع الناس فيه، بل تختص بالمقرّبين، وكذلك معانيها المتوسطة مما لا يشترك الجميع فيه، إلاَّ أنها أشمل وجوداً من الأخيرة، بل تختص بالمتوسطين من الناس، وهم أصحاب اليمين وأهل السعادة العملية، الفائزون بنعيم الآخرة بميراث عملهم، إن لم تكن أعمالهم مشوّشة مغشوشة بالجهل المركّب والاستبداد بالرأي، والخروج عن صفو الاستعداد المطلق بالأكدار الاعتقادية الباطلة الوهمية في أحوال المبدأ والمعاد.
فإذا علمت هذا، فاعلم أن قوله: { وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ }، لمّا وقع في معرض الامتنان وإظهار الإحسان، فالظاهر أن المراد بالسمع والبصر ها هنا ما يختص بأحبّاء الله والمتألّهين والمقرّبين، لا المبعدين الناكرين ممن ليس لهم نصيب من القرآن، وهم عن السمع لمعزولون:
{ وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } [الأنفال:23]، ولا من الذين كانوا عمي القلب عن مشاهدة الحقائق كأبي لهب وأبي جهل ونظرائهما في الجهل والعمى والصمم عن مشاهدة آيات الله وسماع ذكر الحبيب.
ولو كان لفظ السمع والبصر والقلب - أينما وقع في القرآن - كان المراد منه ما وقع فيه الاشتراك لجميع الناس من هذه المشاعر الحسية الدينوية، لما سلب الله سبحانه معانيها عن أهل الكفر والجهل بقوله:
{ { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [البقرة:171]، مع وجود هذه الآلات فيهم، وكذا قوله: { { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [الأعراف:179]، لعدم انتفاعهم بهذه الآلات بصرفها فيما خُلقت لأجله ليزيدهم بسبب شكر هذه النعم الدنيوية نعمة بواطن هذه المشاعر وحقائقها، أو لعدم نصيبهم من تلك النعم الباطنية، وزوال استعدادهم واستحقاقهم لها، كما لا نصيب للأنعام منها، وإنما هم أضلّ، لبطلان استعدادهم بالمسخ والطمس لعدم الشكر منهم لله على هذه النعم، والعمل بخلاف ما أعطيت له.
وفي قوله: { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ }، إشارة لطيفة إلى ان هذه الظواهر نِعَمٌ جليلة يجب الشكر عليها، ليصل إلى مقام أسرارها وحقائقها.
وقوله: { جَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ }، وإن كان ظاهره مشعراً بعموم هذه العطية، إلاَّ أن الواقع في معرض الامتنان والإحسان ليس إلاَّ ما يختص بالقليل النادر من الناس من بواطن هذه الظواهر وغيوب هذه الشواهد، لأن قوالب هذه الآلات بمجردها ليست من الأمور الشريفة الباقية الأخروية حتى يلائم ذكرها بعد ذكر الروح الأمري الحاصل بالنفخ الإلهي، وعدّها في معرض ذكر الأفعال الإلهية، وبعد ذكر عظائم الأمور الصادرة من الحق سبحانه.
ومن الدلائل القاطعة على أن أهل الحجاب الكثيف، وأصحاب التجسم والبُعد عن عالم الملكوت محرومون عن النظر إلى آيات الله وشهود أهل الله، مع وجود هذه الباصرة الدنيوية، قوله تعالى:
{ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [الأعراف:198] أي ينظرون اليك من حيث بشريّتك، ولا يبصرونك من حيث نبوّتك، فإنهم لا يرون من أولياء الله وأحبائه ومحبوبيه إلاَّ البشرية المحسوسة، وليس لهم اطّلاع على أعيان الآخرة وأهل القرابة الإلهيّة، ولذلك حكى الله عن نكرهم وجهلهم وإنكارهم واستنكارهم لوجود الأنبياء بقوله: { { قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } [يس:15]، وبقوله: { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } [إبراهيم:10].
وإن سألت الحق فليس معنى الكفر الاّ هذه النكرة، والاحتجاب بهذه الحياة الدنيوية، والالتباس بهذه الحواسّ الحسية، والإنسان ما لم يتجرد من هذه الغشاوات والأسبال (لاسباب - ن)، لم يخرج إلى فضاء الإيمان ومعارفة أهل الإيقان وأصحاب المشاهدة والعيان، فكن أحد الرجلين: إما سميعاً بصيراً بالسمع والبصر الأخرويين، عارفاً بحقائق الأمور، شاهداً بحال أولياء الله تعالى، وإما مقلّدة متشبثاً بذيل قائد يسمع آيات الله بسماع عقلي، ويرى ملكوت السموات والأرض ببصيرة كشفية، فتكون بصيراً ببصره وسميعاً بسمعه ماشياً بمشيه، كقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
"صلّوا كما رأيتموني أُصَلّي" ، ولو قال: "صلوا كصلاتي" من الذي قدر على مثل صلاته، فإنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) كان يصلي وفي قلبه أزيز كأزيز المرجل لهيبة الحضور من الرب سبحانه، ودهشته مشاهدة ملكوته.
فالرجل الاول حي بالذات حياة طيبة، والثاني حي بالعَرَض كشَعْر الحيوان وعظمه وظلفه.