التفاسير

< >
عرض

إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ
١٢
-يس

تفسير صدر المتألهين

فعقّب ذلك بقوله:
{ إِنَّا نَحْنُ }:
أي هو تعالى، أو ضَرْبٌ من ملائكته المقرَّبين المهيَّمينَ، الذين فعْلُهُم مطوي في فعل الحق، لفناء ذواتهم بغلبة سلطان النور الطامس الأزلي على أنوارهم، واختفاء أشعة تأثيراتهم العقلية، تحت شعاع الضوء القيُّومي.
{ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ }:
من النفوس الهالكة في عالم الظلمات ومقبرة الدنيا، وقبور الهيئات البَدَنيَّة النائمة نوم الغفلة، وقصور الوجود بروح المعارف والعلوم، ويقظة الكشف والشهود، ويؤيد هذا، ما ذُكِر عن الحسن: "إحياؤهم أن يخرجهم من الشرك إلى الإيمان". وقيل: "نحيي الموتى بِبَعْثِهِمْ بعد مَمَاتِهم".
{ وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ }:
قيل: أي ما أسلفوا من الأعمال الصالحة وغيرها، وَمَا هَلَكوا عنه من آثار حسنة: كعلم علموه، أو كتاب صنّفوه، أو بناء بنوه، من مسجد أو رباط أو قنطرة، أو نحو ذلك، أو سيئة: كوظيفة وخراج أنشأها بعض الظلمة على الناس، أو سِكة أحدثها، فيها تخسيرهم، أو لهو فيه صَدٌّ عن ذكر الله، من ألحان وملاهٍ، كالنرد والشطرنج، وكذلك كل سنَّة حسنة أو سنّة سيئة يُسْتَنّ بها، ونحوهُ قوله تعالى:
{ { يُنَبَّؤُاْ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [القيامة:13] قدّم من أعماله، أو أَخَّر من آثاره.
قاعدة فرقانية فيها مكاشفة قرآنية
الاشارة في تحقيق هذه الآية:
إن كل مَن فعل فعلاً، وتكلَّم كلاماً، أو عمِل عملاً صالحاً، أو اقْتَرَفَ معصيةً، حَصَلَ من ذلك أثر في نفسه، وحدث فيها حال وكيفية نفسانية، هي ضرب من الصورة والنقش، وإذا تكرَّرت الأفاعيل، وتكثَّرت الأقاويل، استحكمت الآثار في النفس، فصارت ملكاتٍ بعدما كانت أحوالاً، و "المقام" في لغة أهل التصوُّف، هو هذه الملكة، فيصدر بسببها الأفعال المناسبة لها بسهولة من غير رَوِية.
ومن هاهنا، يتأتى تعلّم الصنايع، وَتَهيُّؤ المكاسب العلمية والعملية، ولو لم يكن هذا التأثر للنفس، والاشتداد به فيها يوماً فيوماً، لم يكن للإنسان تعلّم الحرف والصنايع، بل يحتاج في كل تَراخٍ وتعطُّل، إلى تجشُّم كسب جديد، ولم ينجع التأديب والتهذيب في الإنسان، ولم يكن أيضاً في تأديب الأطفال وتمرينهم على الأعمال فائدة، فالآثار الحاصلة من الأفعال والأقوال في القلوب، بمنزلة النقوش والكتابة في الألواح
{ { أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ } [المجادلة:22] وتلك الألواح النفسية يقال لها: "صحائف الأعمال".
وتلك الصور والنقوش الكتابية، تحتاج في حصولها في تلك الألواح، إلى مصورين وكتاب غير تلك الموضوعات، لما علِمتَ، من استحالة كون كشيء واحد، مصوِّراً ومصوَّراً ونقاشاً ومنتقشاً، ومعلِّماً ومتعلماً، وبالجملة فاعلاً وقابِلاً، واستحالة كون المعطي للكمال قاصراً عنه، فالمصوِّرون والكتَّابُ يجب أن يكونوا أجلَّ رتبةً، وأشدّ تجرّداً، وأعظم كرامة من النفوس القابلة، فهم "الكرام الكاتبون"، وهم ضُرُوبٌ من ملائكة الله، المتعلقة بأعمال العباد وأقوالهم، لقوله تعالى:
{ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق:18].
وهُمْ على كثرة أصنافهم، حسب أصناف العباد قسمان: "ملائكة اليمين" وهم يكتبون أعمال أصحاب اليمين، و "ملائكة الشمال" وهم يكتبون أعمال أصحاب الشمال، وإليه الإشارة في قوله تعالى:
{ { إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ } [ق:17].
وفي الخبر: "كل من عمل حسنة يخلق الله منها ملكاً يثاب به، ومن اقترف سيئة يخلق الله منها شيطاناً يعذب به" فالأول أشير إليه بقوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ } [فصّلت:30 - 31]. والثاني إليه الإشارة بقوله تعالى: { { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [الشعراء:221 - 222]، وقوله: { { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [الزخرف:36].
وفي كلام فيثاغورس، وهو من أساطين الحكماء، المقتبسينَ أنوارَ معارفهم من مشكاة علوم الأنبياء (عليهم السلام): "اعلم أنك ستُعارض بأقوالك وأفعالك وأفكارك، وستظهر لك من كل حركة، فكرية أو قولية أو عَمَليَّة، صورٌ روحانية وجسمانية، فإن كانت الحركة غَضَبِيَّة شهويَّة، صارت مادةً لشيطان يؤذيك في حياتك، ويحجبك عن ملاقاة النور بعد وفاتك، وإن كانت الحركة عقلية، صارت مَلَكاً بمنادمته في دنياك، وتهتدي بنوره في أُخراك، إلى جوار الله وكرامته".
وهذا النور هو ما يُشار إليه بقوله تعالى:
{ { يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } [الحديد:12] وأمثال هذا في كلام الله كثير، كما سيلوح لك بفضله إنشاء الله.
فإذا تقرَّر هذا، فقوله: "مَا قَدَّموا" إشارة إلى تلك الأحوال النفسانية، والارتسامات المتتالية مرةً بعد أخرى، قبلَ رسوخ تلك الصفات، وصيرورتها مَلكَةً يعسر زوالها. وقوله: "وآثارَهُم" إشارةٌ إلى المَلَكَاتِ الراسخة، التي هي أثر حاصل بعد انقضائها، وانقطاع الأعمال المستدعيةِ لها.
ثم لما كان هذا العالم دارَ التغير والزوال، وألواحُ النفوس المتعلقة به قابلة للمَحْوِ والإثبات، يمكن فيها تبديل الصفات والهيئات، وإزالة السيئات بالحسنات، والتوبة عن المعاصي قبل حصول الأخلاق والمَلَكات، وسدّ أبواب المغفرة عند استحكام الرّين والظُلُمات، وأما عند ظهور الآخرة فتستحكم الأخلاق، بحيث يصير كلُ خلقٍ رديء (صورة) خلق آخر من الحيوانات، فَيُحشَر الناس على حَسَب هيئاتهم، كما ورد في الحديث، وهذا معنى قوله:
{ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ ٱلنَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [الزلزلة:6 - 8].
زيادة كشف
رسوخُ الهيئات، وتأكّدُ الصفات الحاصلة من تكرر أعمال الحسنات والسيئات، هو المسمى عند الحكماء بـ "المَلَكَة"، وفي لسان أهل النبوة والمشاهدة بـ "الملك" و "الشيطان"، والمعنى واحد وإن اختلفت الإشارات، ولو لم يكن لتلك المَلَكَات النفسانية، من الثبات ما يبقى أبَدَ الآباد، لم يكن لخلود أهل الطاعة والمعصية، في الثواب والعقاب وجه، لأن منشأ الدوام، لو كان نفسَ العمل أو الحالة الزائلة من النفس، يلزم بقاء المعلول مع زوال العلة.
وأيضاً، الفعل الجسماني الواقع في زمان متناه، ومكان خاص، كيف يكون منشأً للجزاء الثابت في الزمان الغير المتناهي؟ ومثل هذه المجازاة، لا تليق بالحكيم، وقد قال:
{ { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ق:29]. وقال: { وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } [البقرة:225]. ولكن، إنما يخلد أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، بالثبات في النيات.
ومن ها هنا، ظهرت نُكتة أخرى في قوله: { وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ }، وهي بيان السبب الموجب للعقاب، من غير ظلم وجَوْرٍ واعتِساف ومَيْل وحَيْف في الميزان والحساب، فكل من فعل مثقَال ذرَّة من الخير أو الشر، يرى أثره وملكوته في صحيفة ذاته، أو صحيفة أرفع من ذاته، في كتاب لا يُجلّيها إلاّ لوقتها، وإذا حان وقت أن يقع بصرُه إلى وجه ذاته عند كَشْف الغطاء، وفراغه عن شواغل هذه الأدنى وما يورده الحواس، ويلتفت إلى صفحة باطنه وقلبه، وهو المعبر عنه بقوله:
{ { وَإِذَا ٱلصُّحُفُ نُشِرَتْ } [التكوير:10]. فمن كان في غفلة عن ذاته، وحضور قلبه، يقول عند ذلك كما حكى الله عنه بقوله: { مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [الكهف:49]. وأُشيرَ إلى نشر الصحف أيضاً بقوله تعالى: { { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوۤءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً } [آل عمران:30].
وفي الخبر أيضاً: "أن من قال سبحان الله غُرِسَت له في الجنة شجرة" ومن قال كذا وكذا حسنة، خلق الله له الحور العين، وقصوراً وبيوتاً وأنهاراً يتمتع بها أبداً مخلداً.
وكذا الحكم في جانب المعصية، فيخلق الله من سيئات المجرمين والمنافقين، ما يكون سبب آلامهم دائماً مخلداً، وقال تعالى في قصة ابن نوح (عليه السلام):
{ { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [هود:46] وفي الخبر "خُلِقَ الكافر من ذَنْب المؤمن" ونظائر هذه كثيرة في الآيات والأخبار.
ومنشأ ذلك، أن الدار الآخرة دار الحياة لقوله:
{ { وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [العنكبوت:64] ومواد أشخاص الآخرة، هي التصورات الباطنة والتأملات القلبية، لأن الدار الآخرة ليست من جنس الدار الدنيا، لأن هذه دار الشهادة وهي دار الغيب، والإنسان إذا انقطع عن الدنيا، وتجرد عن مشاعر هذا الأدنى، وكشف عنه الغطاء، يكون الغيب بالنسبة إليه شهادةً وحضوراً، والعلم عيناً، والخبرَ عياناً، والسرَّ علانية.
فكل أحد يكون بعد كشف الغطاء، ورفع الحجاب، حديد البصر لقوله تعالى:
{ فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ق:22]. فيكون بصيراً بنتائج أعماله، مشاهداً لآثار أفعاله، قارئاً لصفحة كتابه، مطَّلعاً على حساب حسناته وسيئاته لقوله تعالى: { { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * ٱقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [الإسراء:13 - 14].
فَمَن كان مِن أصحاب اليمين، وأهل المعرفة واليقين، أوتي كتابه من الجهة التي تناسبه، وهي جهة عليّين
{ { إِنَّ كِتَابَ ٱلأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } [المطففين:18 - 21]. وَمن كان مِن أصحاب الشمال، والمنكوسين الفجّار، وصاحب الأنظار الجزئية، والأفكار المتعلقة بالأعمال والآثار، فقد أوتي كتابه بشماله لقوله تعالى: { { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ } [الحاقة:25] أو مِن وراءِ ظهره لقوله تعالى: { { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَىٰ سَعِيراً } [الانشقاق:10 - 12] ويكون أيضاً كتابه في سجّين لقوله تعالى: { إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ } [المطففين:7]، لأنه من جملة المجرمين المنكوسين لقوله تعالى: { { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ } [السجدة:12].
ثم اعلم، أن جميع هذه الكتب والصحائف، إنما تُنتَسَخُ عن أصل مقدَّس عظيم هي فروع له، وأبواب مأخوذة منه، وجداول منشعبة من بحره، وهو أمّ النُسَخِ وإمامُ الكُتب، وهو كتاب عقلي مُبِين، فيه صور جميع الممكنات على وجه أعلى وأرفع، لا يمسُّه إلاّ الملائكةُ المطهَّرون، والعقول المقدسة عن أرجاس عالم الحواس، وأدناس الوهم والوسواس، ولذلك قال بعد الإشارات إلى صحائف الأعمال، وكُتبِ الأفعال لأصحاب الشمال:
{ وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ } [12]:
أي عدَّدنا كلَ شيء من الحوادث، في كتاب ظاهر الكتابة، لأن حقائق الأشياء مسطورة أوَّلاً فيه، ثم تتفرع منه العلوم المفصَّلة، وتتشعّب من بحره أنهار الحقائق، وجداول المعارف، وهو "اللوح المحفوظ"، و "لوح القضاء الإلهي"، النافذ حكمه في المدارك النفسانية، والألواح القَدَرية، وعنده مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلاّ الله، والراسخون في العلم، وعنده خزائن العلوم والمعارف المتعلقة بالحوادث الكائنة والآتية، لقوله تعالى:
{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } [الأنعام:59]، وقوله: { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [الحجر:21]. وتلك المفاتح لخزائن العلوم والمعلومات، هي قلوب الملائكة المقرَّبين، المحفوظين بحفظ الله، وتبقيَتهِ وحراسته إيّاهم، عن الخَلَل والنقصان والذهول، وعالمُهُم "عالم القضاء" السابق على عالم القدر واللوح النفسي، وعالم اللوح الخارجي، - أي المادة بما فيها من الصور العينية -.
قيل: الوجه في إحصاء كل شيء في الكتاب الإلهي، اعتبار الملائكة به، إذ قابلوا به ما يحدث من الأمور، فإنّ صدور الأنواع الكثيرة، يحتاج إلى جهات كثيرة في عالم الألوهية، يوجب تكثّر الفيض من الواحد الحقيقي، الذي ما أمره إلاّ واحد كلمح بالبصر، ففي هذه دلالة على حصول صوَرِ الأشياء كلها، في ذلك الكتاب، على وجه مفصَّل مرتَّب، يجمع ويرتقي إلى أمر واحد، وقد بسطنا القول فيه بوجه تحقيقي في مقام آخر، ذكره يؤدي إلى التطويل، ويخرج عن طَور الكلام في التأويل.