التفاسير

< >
عرض

إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوۤاْ إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ
١٤
-يس

تفسير صدر المتألهين

{ إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱثْنَيْنِ }:
أي رسولَينِ مِن رُسُلنَا، وإنما أُضيفَ الإرسال هاهنا إلى الله تعالى، وإن كان عيسى (عليه السلام) هو الذي أرسلهما، لأن إرسالَه كان بأمر الله - كما قيل -، أو لأنه لغاية قربِ عيسى (عليه السلام) من الله، وتجرّده عن أغراض النفس، واستهلاك نوره في نور الحق، كان في مقام العبودية، فكان فعله فعلَ الحق، من قبيل قوله تعالى:
{ { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } [الأنفال:17].
ومثل قول النبي (صلى الله عليه وآله):
"من أطاعني فقد أطاع الله" .
وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "من رآني فقد رأى الحق" .
وكما في الحديث المشهور: "لا يزال العبد يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أحببته" .
وها هنا سر آخر، وهو أن الإنسان إذا بلغت منزلته في البراءة عن الهوى والنفس، إلى أن مات عن نفسه، واتّصل بعالم القدس، يصير بحيث يفيض عليه نور الحق، بلا توسط ملك مقرَّب أو نبي مرسَل، فإذا كان مأموراً باصلاح النوع، كان لغاية استعداده وقربه من الحق، يقبَلَ منصب الرسالة أو الخلافة بلا واسطة، وإن كان حصول هذا المقام له بنور المتابعة لمن استخلفه، وهذا كما لأمير المؤمنين (عليه السلام)، حيث كان إماماً للمؤمنين، وخليفةً لرسول رب العالمين، بنَصٍّ من الله، لأجل كرامته في نفسه، وقربه من الله بحسب التابعية، كما تدل عليه أحاديث كثيرة، مثل قوله (صلى الله عليه وآله): "أنا وعلي من نور واحد" وقوله: "لا تسبّوا علياً فإنه ممسوس بنور الله" ، ونظائر ذلك.
وبالجملة، بعض المناصب لِشَرَفِها، لا بد وأن تكون من قِبَلِ الله، بلا مشاركة أحد، لقرب الاستعداد، وإن كانت الأمور كلها من الله، إلاّ أن بعضها مترتب على بعض، وبعضها فائض من الله بلا واسطة الخلق، وذلك كالنّبوة والرسالة والولاية، فإن "الولي" وليٌّ بكرامة باطنية من الله، وكذا "الحكيم"، و "العارف"، فإن كلاً منهما فيض ورحمة من الله، لا يمكن انتقاله من شخص إلى آخر باختيار العباد، وليست كذلك السلطنة والحكومة، والقضاء والإمارة، وتولية الأوقاف وما يجري مجراها.
ولهذا، حكي في قصة رسولَيْ عيسى (عليه السلام)، كما سننقل، أنهما قالا، حين سألهما ملكُ القرية: "مَنْ أرسلكما؟": "أرسلنا الله الذي خلق كل شيء" ومن ها هنا، عُلِمَ أن أمثال هذه المناصب موهبة، وإن كان للكسب فيه مدخل ما، على وَجْه الإعداد والتقدمة، بتوفيق من الله وتيسيره.
{ فَكَذَّبُوهُمَا }:
أصحابُ القرية: قال ابن عباس: "ضَرَبوهُما وسَجَنوهُما".
وشَرْحُ قصتهما - كما نقل -، أنهما لمّا قَرُبا من المدينة، رأيا شيخاً يرعى غنيمات له، وهو حبيب النجار، صاحب يس، فسألهما عن حالهما فأخبراه، فقال: "أمعكما آية؟" فقالا: "نشفي المريض ونبريء الأكمَهَ والأبرص؟"، وكان له ولد مريض من سنتين، فمسحاه، فقام، فآمن حبيب وفشا الخبر، فشفي على أيديهما خَلْق كثير.
ورقي حديثُهما إلى الملك، فقال لهما: "ألنا إله سوى إلهنا؟" قالا: "نعم، من أوْجَدَك وآلهتَك" فقال: "قُومَا حتى أنظرَ في أمركما" فَتَبِعَهُما الناس وضربوهما وقيل: حُبِسا.
ثم بَعَثَ إليهم عيسى (عليه السلام) رسولاً آخر لقوله:
{ فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ }:
أي: فقوَّيناهما وشددنا ظهورَهما برسول ثالث، يقال: "المطر يُعَزِّزُ الأرض" إذا لبّدها وشدَّها، و "تعزَّز لحم الناقة" وقريء بالتخيف، مأخوذاً من "العزة" و "المنعة" من "عزه، يعزه" إذا غلبه وقهره، أي فغلبنا وقهرنا بثالث، وهو شمعون.
وتَرْكُ ذِكر المفعول به، وإضمارُه، للإشْعار، بأن الغرض ذكر المعزز، وما لطف فيه من حسن التدبير، حتى قهر الباطل وأذلَّ المنكِر، وإذا انصبَّ الكلام في محطّ الغرض من سياقه، فلا ضيرَ في طرح ما سواه ورفضِه، كقولك: "حَكَمَ الأمير اليوم بالحق"، منن غير ذكر المحكوم له أو عليه.
وحُكِيَ، أنه لما أُرسِلَ شمعونُ إلى أهل القرية، دَخَل متنكّراً، وعاشر حاشية الملك، حتى استأنسوا به، ورفعوا خبره إلى الملك فأنِسَ به، فقال له ذاتَ يوم: "بلغني أنك حبستَ رجلين، فهل سمعت ما يقولانه؟"
قال: "لا، حالَ الغضب بيني وبين ذلك".
فدعاهما، فقال شمعون: "من أرسلكما؟".
قالا: الله الذي خَلَقَ كل شيء وليس له شريك".
فقال: "صِفَاهُ وأوجِزا".
قالا: يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد".
قال: "وما آيتكما؟".
قالا: "ما يتمنى الملك".
فدعا بغلام مطموس العينين، فدعيا الله حتى انشق له بصره، وأخذا بندقتين، فوضعاهما في حدقتيه، فكانتا مُقْلَتَيْن ينظُرُ بِهما، فقال له شمعون: "أرأيتَ لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا، فيكون لك وله الشرف؟".
قال: "ليس لي عنك سِر، ان إلهنا لا يُبصر ولا يسمع، ولا يُضرُّ ولا ينفع".
وكان شمعون يدخل معهم على الصنم فيصلّي ويتضرَّع، ويحسبون أنه منهم، ثم قال: "إن قَدِر الهكما على إحياء ميّت آمنّا به" فدعَوا بغلام مات من سبعة أيام، فقام وقال: "إني أُدخِلْتُ في سبعة أودية من النار، وأنا أحذِّرُكم ما أنتم فيه فآمنوا، وقال: فُتِحَت أبوابُ السماء، فرأيتُ شاباً حسنَ الوجه، يشفع لهؤلاء الثلاثة".
قال الملك: "مَنْ هُم؟".
قال: "شمعون وهذان".
فتعجّب الملك، فلما رأى شمعون أن قوله قد أثَّر فيه، نصحَهُ فآمن، وآمنَ قومُه، ومَن لَمْ يؤمنْ، صاح عليهم جبرئيل صَيْحة فهلكوا.
{ فَقَالُوۤاْ إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ } [14]:
قال شعبة: "كان اسم الرسولَين الأوَّلَيْن، شمعون ويوحنّا، واسم الثالث بولس". وقال ابن عباس وكعب: "الأوَّلان صادِق وصَدُوق، والثالث سلوم". قالوا لهم: يا أهل القرية قد أرْسَلَنا الله إليكم.