التفاسير

< >
عرض

قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ
١٩
-يس

تفسير صدر المتألهين

قريء "طَيْرُكُم معكم" أي: سببُ شؤْمِكُم معكم، وهو الكفر، أو أسباب شؤمكم معكم، وهو الكفر والمعاصي، فإن رأس الشقاوة الأبدية الكفر مع الجحود، لأنه جهل مضادٌّ لليقين، وبعده المعاصي والأعمال القبيحة، كما أن رأس السعادات الأبدية، الإيمان الحقيقي، لأنه ضَرْبٌ من العلم اليقيني بالأمور الإلهية، وأحوال المبدء والمعاد، لأن معنى السعادة، إدراكُ الخير والملائم، وخير الخيرات هو الله سبحانه، وملائكته ورسله، وأولياؤه وعباده الصالحون، فإدراكه وإدراك مقرّبيه ومعتكفيه، ألذ الخيرات وأشرف السعادات، وبعد هذه السعادة الذاتية، السعادة الحاصلة من فعل الحسنات، لأنها توجب الفوز بدرجات الجنان، والنجاة من عذاب يوم القيامة والنيران.
فإذا تقرّر أن السعادة والشقاوة، بحسب العلم والجهل، ذاتيّتان أزلاً وأبداً، مخلّدَتان دائماً سَرْمداً، وبحسب الأعمال والأفعال تترتب عليهما المكافأة، والمجازاة، وتتقدر بِحسَبهما المثُوباتُ والعُقُوبات بقوله:
{ { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [التوبة:95]. فلا شؤمَ كشؤمِ الكفر، ثم المعاصي. ولا خير كخير الإيمان، ثم الحسنات، إلاّ أن هذه المسألة مع وضوحها وإنارتها، قد خفِيَت على أكثر الأذهان، لاشتغالهم بما يلهيهم عن الذكر، وينسيهم عن طلب السعادة، وترك الشقاوة، ولذا قال: "أئِنْ ذُكِّرتم"، معناه إن تدبّرتم عرفتُم صحة ما قلناه، وقيل معناه: "إن ذُكّرتُم تطيَّرتُم بِمَا مَعكم".
وقريء: "أإن ذكرتم" بهمزة الاستفهام، "وإن" الشرط.
وقريء: "آإن ذكرتم" - بألف بينهما - بمعنى "أتطيَّرون إن وُعِظْتُم".
وقريء: "أأنَ ذكرتم" - بأن الناصبة بعد الهمزة الاستفهامية - بمعنى "أتطيُّركم لأن ذكرتم".
وقريء: "أنْ" الناصبة بغير استفهام، فيكون إخباراً، أي "تطيَّرتُم بأنفسكم لأن ذكرتم".
وقريء: "أين ذكرتم" - على التخفيف - أي شؤمكم لازم معكم، بحيث يسري في كل مكان ذُكِّرتُم، وذلك يُتصور بوجهين: إما بأن كانوا إذا ذُكِرَت اسماؤهم، لُعِنوا وشُتِموا وشُئِموا بهم، لقبح أفعالهم وسوء أعمالهم، وابدائهم الظلم والبدعة كأمَراءِ الجَور، وإما بأن كان ذكرُهم يؤدي إلى الوحشة والغيبة والعداوة والبغضاء بين الناس، وإلاّ فصيرورة المكان مشؤوماً بمجرد ذكر طائفة - كما فسّره صاحب الكشاف - حيث قال: "وإذا شؤم المكان بذكرهم كانوا بحلولهم فيه أشأم"، فلا وجه له ظاهراً، لأن المكان لو شؤم بذكر الكفار والظلمة، فما من مكان ومَجْمع، كالمساجد والمساكن الشريفة، إلاّ وقد يُذكر فيها أحياناً الكفارُ الأشرار، خصوصاً إذا كانوا ملوكاً وأمراء في الدنيا، فتُذكر اسماؤهم في كل مجمع، بفنون من الذكر مدحاً وذَمَاً، فيلزم أن يكون أكثر المجامع مشؤوماً.
ثم ذكر سبب شؤمهم، ومبدأ شرهم، وهو إفسادهم لفساد عقولهم بقوله: "بل أنتم قوم مسرفون"، لأن "الإسراف" في اللغة: الإفساد، ومجاوزة الحد "والسرف": الفساد، ومعناه: ليس فيها ما يوجب التشؤم بنا، ولكنكم متجاوزون عن الحد في التكذيب والمعصية، فمِن قَبلِكُم أتاكم الشؤم، لا من قبل رسل الله وتذكيرهم، أو (قيل): بل أنتم قوم مسرفون في ضلالكم، متمادون في غيّكم، حيث تتشاءمون بمن يجب التبرّك بهم، واستفاضة الخير من صحبتهم، من رسل الله وأوليائه، المذكرّين بالله، وسبيل العافية، والدار الآخرة، فغاية منشأ الشؤم، التشؤم بما يجب التبرّك به، كما أن غاية الجهل، عناد أهل العلم والمعلمين، وغاية الضلال معاداة أهل الهداية والهادين.