التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
٤٥
-يس

تفسير صدر المتألهين

وإذا قيل للمشركين والفجّار، المنافقين المغترِّين بعقولهم القاصرة، وفطانتهم المبترة: اتقوا ما بَيْنَ أيديكم من أمر الآخرة، فاعملوا لها، واحذروا عقوبتها وعذاب نيرانها، وما خَلْفَكُم من أمر الدنيا، فأحذروها ولا تغترّوا بظاهر زينتها وَرَوْنقها وَتَزْويقها، وذلك كما في قوله تعالى: { { أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } [سبأ:9].
لعلَّكم تُرحمون: أي لتكونوا على رجاء رحمة من الله، لأن من خاصيّة الإتّقاء استجلاب الرحمة الالهية.
وعن مجاهد: اتقوا ما مضى من الذنوب، وما يأتي من الذنوب، أراد به: اتقوا عذاب الله بالتوبة للماضي، والإجتناب للمستقبل. وعن قتادة: اتقوا العذاب المُنْزَل على الأمم الماضية، وما خلفَكم من عذاب الآخرة.
وروى الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: "معناه اتقوا ما بينَ أيديكم من الذنوب، وما خلفَكم من العقوبة". وسيأتي لك لهذا الوجه زيادة تحقيق وتطبيق.
وأما جواب "إذا" فهو محذوف، دلَّ عليه قوله:
{ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } [يس:46] تقدير الكلام: إذا قيل لهم اتقوا أعْرَضوا عن التأمل في الحُجَج والبيِّنات، وعن التفكر في أمور الآخرة، عن مأخذ العلوم اليقينيّة دون ظواهر النقول والحكايات.
مكاشفة قلبية
إعلم أن المعلوم المكشوف عند أهل الله، أن تكرار الأفاعيل والأعمال، يوجب حدوث الأخلاق والمَلَكَات، وهي مما سيظهر في النشأة الآخرة بصورة تُنَاسِبُها، فما هو سبب إيلام الأشقياء في العقبى، من الحيّات والعقارب والنيران والحميم، والزَّقُوم، فهو بعينه موجود في سرّ قلبه، ومكنون باطنه، وإن لم تشاهده هذه العين وهذه الحواس، لأنها ينحصر إدراكها، بملاحظة الظواهر في صورها الدنيوية، وأما إدراكها بحقائقها وصورها الباطنية، فإنما تختص بذلك مشاعر باطنية ومدارك أخروية.
فما وَرَدَ الأمر باتقائه في قوله: { مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ }، يرجع إلى أمر واحد، تارةً يكون في الدنيا بطور يناسب ظهوره في هذه النشأة، من صورة شهية مُلِذَّة تتلذذ به الحواس، ويشتاق له الوَهْم الحيواني والتخيّل البهيمي، وتارة يكون في الآخرة، بطور يناسب ظهوره فيها، من صورة مؤلمة موحشة مؤذية: تتألم بها نفوس الأشقياء، ويستوحش منها كلٌ من المشتغلين بها ها هنا، قائلاً عند كشف الغطاء ورفع الحجاب وحلول العذاب:
{ { يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ } [الزخرف:38].
فبالحقيقة، ما يكون في الآخرة سبب إيلام المعذَّبين، ومنشأ عقوبة الفاسقين، هو معهم ها هنا، وفي إهابهم من العقائد الباطلة والنيّات الفاسدة والأغراض النفسانية والدواعي الحيوانية، من حب المال والجاه والكِبْر، والفَخْر والحسد، والرُّعونَة والمكر، والحيلة والرياء، وطلب الشُّهرة ومَيْل الرياسة، وغير ذلك من الأمور، التي تندرج جميعها تحت حب الدنيا، التي هي رأس كل خطيئة.
وهو "التنيّن" الذي يَتَوَلَّد منه للمحب للدنيا، المعرض عن طلب الآخرة، تسع وتسعون حيّة، لكل حيّة تسعة وتسعون رأساً، ينهشونه ويلحسونه وينفخون في جسمه إلى يوم القيامة، كما ورد في الحديث في باب عذاب الكافر في قبره، فهذا التنيّن متمكِّن من صميم فؤاد الكفّار والمنافقين، ينهشهم ويلحسهم، لكن لا يُدْرِكونَ إيلام لَدْغه ولَسْعه، وإيحاش هيئته وشكله، لسُكْر نفوسهم بمسكرات الدنيا، ونوم غفلتهم بمرقّدات الهوى، واشتغالهم بمزَخْرَفات هذه الأدنى.
وأهل الآخرة لصحة معرفتهم، وقوة بصيرتهم، يشاهدون إيلام هذه المشتهيات، وَيتَّقون سميّةَ هذه الحيّات، المكنونة تحت نقوشها المُزَخْرَفات، المستورة عن إدراك المُكِبيّن على طلب اللّّذات، وتحصيل المألوفات الحسِّيات، المعرِضينَ عما أعد الله لعباده الصالحين، من إدراك الحقائق المعقولات، والمعارف الالهيات، مِمّا لا عينٌ رأَتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ.
تعليم فُرقاني فيه سر ربَّاني
هل تعلم ما النكتة في التعبير عن الصُّور الواقعة في الدنيا، التي هي دار المتغيِّرات والمتجدِّدات، ودار الزراعة والحراسة، بـ "مَا خَلْفَكُمْ"، وفي التعبير عن أمور الآخرة التي هي دار الباقيات الثابتات، ودار الثمرة والجزاء بـ "ما بينَ أيديكم".
النكتة فيه، أن نَفْسَ الإنسان من جملة المكوِّنات لها، توجُّه طبيعي إلى عالم الآخرة وعالم البقاء، فهي منذ خُلِقَت مجبولة بحسب الفطرة، على أن تسافر من منزل إلى منزل، وتتخطى من مرتبة إلى مرتبة، ومن حالة إلى حالة، ومن طَوْر إلى طَوْر، حتى تنتهي إلى آخر منزل من منازل الدنيا، وأول منزل من منازل الآخرة، ولكل إنسان، سواء كان من السعداء أو الأشقياء، درجة معيَّنة في الآخرة، ومقام من الجنة والنار يقف عنده - هو آخر سَيْره ومنتهى سَفَره - إذ السلوك منقطع هناك، فالمنازل والدرجات هناك، بحسب مراتب السير ها هنا، كمالاً ونقصاً.
فإذا تقرر هذا فنقول: ما مِن منزل من المنازل الدنيوية، ونشأة من النشآت الصورية، إلاّ وتتجاوزه النفوس وتتخطاه، وتجعله خَلْفَ ظهرها، وما من منزل من منازل الآخرة، إلاّ وتستقبله نفس من النفوس، وتجعله نصْب عينها، ويكون حاضراً بين يديها، فكل نفس من النفوس البشرية، لها جادة معلومة عند الله تسير فيها، بحسب ما يَسَّر الله لها، فإن كانت بحسب ما تَقَرَّر في القضاء السابق، أنها من جملة الأشقياء، فهي أبداً تتقوَّى في تجوهرها، وتشتد في صورة طينتها، وتتطور في أطوار شقاوتها ودرجات بُعْدِها من رحمة ربها، إلى أن بَلَغَتْ غايةَ أشُدِّها الباطني.
وإن كانت بحسب التقدير من السعداء، فلا تزال تتقوى روحها بالأغذية الروحانية العلمية، والأشربة العملية، فتترقى من طور إلى طور في سعادتها، وسَلْكِ سبيل سيرها، ودرجاتِ قربها من الرحمان، إلى أن بلغت أشدَّها العقلي. ورُشْدَها المعنوي، فإذا رُفعَ الحجاب، وكُشِفَ الغطاء، كانت كل واحدة منها في مرتبتها التي بلغت إليها طرفةَ عَيْن.
وإنما الغرض الأصلي من إرسال الرسل وإنزال الكتب، الاعلامُ والتأكيد لأهل الهداية، وزيادة التشويق والترغيب والإنذار والترهيب لهم، وإبلاغ الحجة على أهل الشقاوة والجحود، وزيادة الإبعاد والطرد والحجاب فيهم، فإن التعليم والإرشاد لا يوجب لأهل النقمة إلاّ غيّاً وضلالاً، كما أن الماء الصافي، لا يزيد في الجِيفَة إلاّ تَعْفيناً وإفساداً، كقوله تعالى:
{ { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَاسِقِينَ } [البقرة:26] وكقوله تعالى: { { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } [الأنفال:42].
فقوله: "اتَّقوا": خطاب للمشركين أو لجميع المكلَّفين، إلاّ أن السامع لهذا الكلام، والمطيع له، من عَرَفَ نهاية حال الواغلين في الشهوات، ووخامةَ عاقبة المتلذِّذين بهذه المزخرفات، وأما الجُهَّال والمنافقون، فشأْنهم الإعراض عن سماع هذه الآيات، والإستهزاء بِمَن أتى بالحجج والبيّنات، كما دلَّت عليه هذه الآية وما يتلوها كنايةً وتصريحاً.
وقوله: "ما بينَ أيديكم": إشارة إلى الصورة المؤلِمة التي يشاهدها الأشقياء في القبر والقيامة، وعند البعث والحَشْر، وعند الصراط والسِّياق إلى الجحيم.
وقوله: "وما خَلَفكم": إشارة إلى الأعمال والأفعال القبيحة، المؤدِّية إلى المَلَكات والأخلاق الردية في عالم القلب الإنساني، المنكوس إلى السُّفْل، المنتجة في عالم الآخرة إلى الصورة المؤلمة الموحشة المعذبة، من النيران والجحيم وسلاسلها وأغلالها، وحميمها وزقّومها، وعقاربها وحيّاتها، ووهداتها.