التفاسير

< >
عرض

إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ
٥٣
-يس

تفسير صدر المتألهين

{ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً }:
ثم أخبر سبحانه عن سرعة بعث الخلائق إلى المحشر، وسعيهم إلى ربهم يوم العرض الأكبر، بأن تلك المدة لم تكن إلاّ صيحة واحدة بالقياس إلى قدرة الله تعالى، وعالم قدرته وجبروته وسكان ملكوته من أهل قربته وولايته، وان كانت صيحات عظيمة كثيرة حسب كثرة الخلائق، متمادية الأزمنة والدهور بالقياس إلى من يقع عليهم من أهل القبور وسكنة عالم الهلاك والدثور، كما أن الصاخّة الصغرى زجرة واحدة لموت شخص واحد وقيامته، وهي زجرات متعددة متمادية بالقياس إلى كثرة أعضائه وقواه، فإن جميع أحوال القيامة الصغرى وأهوالها عند موت الإنسان واحد، وبعث روحه ونشر صحيفته وزلزلة أرض بدنه، واندكاك جبال عظامه، وانفجار عرق جبينه، وتكور شمس قلبه، وانكدار نجوم حواسّه، وتعطّل عشار قواه كلها دلائل وشواهد على أحوال القيامة الكبرى التي لجميع الخلائق، لقوله (صلى الله عليه وآله):
"من مات فقد قامت قيامته" ، وذلك لكون الإنسان عالماً صغيراً فيه أنموذج من جميع ما في العالم الكبير.
ولست أطول في موازنة جميع الأحوال، ولكني أقول كما قال بعض محققي الإسلاميين وحكمائهم وموحّديهم: إن بمجرد الموت تقوم عليك هذه القيامة، ولا يفوتك من القيامة الكبرى شيء مما يخصّك، بل ما يخصّ غيرك، فإن بقاء الكواكب في حق غيرك ماذا ينفعك وقد انتشرت حواسك التي بها تنتفع بالكواكب، والأعمى يستوي عنده الليل والنهار، وانكشاف الشمس وانجلائها، لأنها قد كسفت في حقه دفعة واحدة، وهو حصته منها، فالانجلاء بعد ذلك حصة غيره، وكذلك من انشق رأسه فقد انشق سماؤه، إذ السماء عبارة عما يلي جهة الرأس، فمن لا رأس له لا سماء له، فمن أين ينفعه بقاء السماء في حق غيره؟.
فهذه هي الصاخة الصغرى، والخوخ بعد أخضر والهول بعد مدخّر، وذلك إذا جاءت الطامة الكبرى، وارتفع الخصوص، وبطلت السموات والأرض ونسفت الجبال وتمت الأهوال.
فهذه هي الصغرى، وإن طول في وصفها فانا لم نذكر عشر عشير أوصافها، فهي بالنسبة إلى القيامة الكبرى كالولادة الصغرى بالنسبة إلى الولادة الكبرى، فإن للإنسان ولادتين:
احداهما: الخروج من الصلب والترائب إلى مستودع الرحم في قرار مكين إلى قدر معلوم، وله في سلوكه إلى الكمال منازل وأطوار، من نطفة وعلقة ومضغة وغيرها، إلى أن يخرج من مضيق الرحم إلى فضاء العالم، فنسبة عموم القيامة الكبرى إلى خصوص القيامة الصغرى كنسبة سعة فضاء العالم إلى سعة فضاء الرحم، ونسبة سعة العالم الذي تقدم عليه بالموت، إلى سعة فضاء الدنيا، كنسبة سعة فضاء الدنيا أيضاً إلى الرحم، بل أوسع وأعظم بكثير.
فقس الآخرة بالأولى:
{ { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [لقمان:28] وما النشأة الثانية إلاّ على قياس النشأة الأولى { { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُولَىٰ فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } [الواقعة:62]. بل أعداد النشآت ليست محصورة في اثنين { { وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [الواقعة:61].
فالمُقرّ بالقيامتين مؤمن بعالم الغَيب والشهادة، موقن بالملك والملكوت، والمقرّ بالقيامة الصغرى دون الكبرى، ناظر بالعين العوراء إلى أحد العالمين، وذلك هو الجهل والضلال والاقتداء بالأعور الدجال.
قوله سبحانه:
{ فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [53]:
يعني إذا نُفخ في الصور نفخة واحدة، اجتمعت الخلائق كلهم حاضرين عند الله كما كانوا دائماً، وعند أنفسهم جميعاً في ساعة واحدة، لارتفاع الحُجُب الواقعة بينهم بالموت، فيشاهد بعضهم بعضاً، وكلهم كلاً، فكل من وجد في وقت من الأوقات وفي حيّز من الأحياز من أول الدنيا إلى آخرها فهو محشور مجموع مع غيره في زمان واحد متصل، هو مجموع الأزمنة، ومكان واحد متصل هو مجموع الأمكنة، ومجموع الأزمنة كساعة واحدة في القيامة ومجموع الأمكنة كمجلس واحد في الحشر.
وتحقيق ذلك؛ أن الموجودات الدنيوية لها أكوان ناقصة، لأنها من حيث كونها الدنيوي أمور مادية وموجودات تعلقية، لأن جواهرها المفتقرة إلى مواضعها كالأعراض المفتقرة إلى موضوعاتها، فهي لنقص تكونها وضعف وجودها وتغيرها وانقلابها من صورة إلى صورة، وانتقالها من حال إلى حال، تحتاج كالأطفال والصبيان إلى قابلة كالزمان ومهد كالمكان، وقد سبق منّا أن المتحرك من حيث كونه متحركاً كالحركة في كونه غير قار الذات، وكذا الزماني كالزمان، والمكاني كالمكان، وكل واحد من الزمان والمكان من الأمور الضعيفة الوجود، لأن وجود كل جزء من كل منهما يقتضي عدم الجزء الآخر، وحضور كل جزء يقتضي غيبة الجزء الآخر.
وأما وجود الآخرة فهو الكون التام، وموجوداتها أكوان دائمة ثابتة مستقلة، فيزول التغير عن المتغير، والزوال عن الزائل، والغيبة عن الغائب، فيتصف المتغير هناك بالثابت، والغائب بالحاضر، لأن الآخرة دار الحقائق، ولكل شيء حقيقة ثابتة، فلزمان الآخرة خاصية البقاء والثبات، ولمكانها خاصية الحضور والجمعية
{ { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ٱلْجَمْعِ } [التغابن:9]. لكن إذا أريد أن يخبر عنهما للمحبوسين في حبس الزمان، والمسجونين في سجن المكان، يعبر عنهما بأمثلة زمانية أو مكانية. فعبر عن حقيقة الزمان بأقل زمان. لأن الموجود من الزمان عند الجمهور ليس إلا ما يسمونه "آناً" فقيل: { { وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [النحل:77]. وإذا أشير إلى مكان الآخرة وحقيقة المكان، عبّر عنهما بأوسع مكان، لأن المكان شأنه السعة والإحاطة، ويتحدد بأوسع الأجسام، فقيل: { جَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ } [آل عمران:133].
وكذلك يعبر عن زمان القيامة. بـ "الساعة"، وعن مكانها بـ "الساهرة"، فيكون الخلائق مجموعين حاضرين في محشر واحد في ساعة واحدة، فكما أن يوم القيامة يجمع فيه الناس كلهم من الأزل إلى الأبد، فكذلك جميع أمكنتهم وأزمنتهم.
فوجه الأرض بمساحته المعيّنة التي عند المهندسين ها هنا يصير يوم القيامة انبساطه وتماديه بحسب تمادي الأزمنة المارّة عليه، فإن وجه الأرض في كل لحظة وساعة غيره في لحظة وساعة أخرى، ووجه الأرض باعتبار محليّته لوقوع خلائق عليها غيره باعتبار محليته لوقوع خلائق أخرى، فإذا اجتمعت يوم القيامة الخلائق الواقعة في القرون والدهور الماضية والمستقبلة، اجتمعت بحسبها وجوه الأرض التي كانت الخلائق جميعاً فيها من ابتداء الدنيا إلى انتهائها في كل قرن ودهر، فيكون وجه الأرض يومئذ بمقدار يسع فيه أهل المحشر كلهم.
ومن ها هنا يزول الاستبعاد ويندفع استنكار أهل الجحود والعناد، وينحل شبهة المنكرين للمعاد في حضر الخلائق كلهم، السابقين واللاحقين في صعيد واحد، لعدم تصورهم أرض القيامة التي هي بوجه غير أرض الدنيا:
{ يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [إبراهيم:48]..