التفاسير

< >
عرض

ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
٦٥
-يس

تفسير صدر المتألهين

وقرئ "يختم" بصيغة الغائب المجهول، و "تتكلم أيديهم" وقرئ "ولتكلمنا أيديهم وتشهد" بلام (كي) والنصب على معنى: "ولذلك نختم على أفواههم"، وقرئ فيها بلام الأمر والجزم على أن الله يأمر الأعضاء بالكلام والشهادة.
في الكشاف: "يروى أنهم يجحدون ويخاصمون، فيشهد عليهم جيرانهم وأهاليهم وعشائرهم، فيحلفون ما كانوا مشركين، فحيئنذٍ يختم على أفواههم وتكلم أيديهم وأرجلهم، وفي الحديث يقول العبد يوم القيامة: إني لا أجيز عليّ شاهداً إلاّ من نفسي، فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي. فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعداً لكنَّ وسُحْقاً، فعنكنّ كنت أناضل".
واختلف المفسرون في كيفية شهادة الجوارح على وجوه:
أحدها: إن الله تعالى يخلقها خلقة يمكنها أن تتكلم وتنطق وتعترف بذنوبها.
وثانيها: إن الله يجعل فيها كلاماً، وإنما نسب الكلام إليها لأنه لا يظهر إلاّ من جهتها.
وثالثها: إن معنى شهادتها وكلامها، إن الله يجعل فيها من الآيات ما يدل على أن أصحابها عصَوا الله بها.
مكاشفة أَخروية
إن أهل الضلال وأصحاب الشمال إذا برزوا لله، وخرجوا من قبورهم إلى المحشر، كانت لهم صور وأشكال على ما اقتضه صفاتهم وأخلاقهم البهيمية والسَّبُعِيَّة.
وفي الحديث:
"يُحشر الناس على صُوَرِ نيّاتهم" فيُحشرون في الآخرة على صور الحيوانات العجم، المنتكسة الرؤوس، المنقلبة الوجوه إلى أسفل، مختومين على أفواههم، تشهد على ضمائرهم ونياتهم هيئات أيديهم وأرجلهم، وتشهد آذانهم على أنهم صمّ عن سماع آيات الله، وعيونهم على أنهم عُمْي عن مشاهدة أهل الآخرة، وجلودهم وأبدانهم على أنهم حُمْقٌ عن إدراك المعاني، كما قال: { { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [فصلت:20].
دقيقة كشفية
إن الله تعالى خلق في الأكوان أصنافاً أربعة هي: الجسم العنصري، والجماد، والنبات، والحيوان، غلب على كل منها بحسب الفطرة والطبيعة إحدى الحجب من مراتب الاحتباس عن الجنان، وزلاّت الأقدام عن القيام إلى طاعة الرحمان، ليعلم بالبصيرة الباطنية انطلاق الحقيقة الإنسانية بحسب فطرتها العقلية عن هذه الحُجُب والقيود.
بل خلق في الحيوان أصنافاً أربعة لمراتب أربع، متحققة في أفراد الإنسان، ليعلم أهل الشهود كيفية احتجاب أهل الجحيم وانحباسهم في شجون أودية الظلمات، وسجون مهاوي التعلقات لأرباب الضلالات عن لقاء الله، وينكشف عليه كيفية انكشاف وجوه أهل الرحمة وانطلاقهم عن حجب هذا العالم، وعدم انحباسهم في ظلمات ثلاث لقوى ثلاث، من شهوة البهيمية وغضب السَّبُعية وحيلة الشيطانية.
وذلك حيث لم يتحقق علامة الانفتاح، وطلاقة الوجه، ونقاء الجسد إلاّ في واحد من تلك الأربعة - وهي الإنسان -، دون غيره من الأصناف الثلاثة، البهيمية والوحوش والطيور، إذ فيه علامة أهل الجنة، الذي هم "جُرْدٌ مَرْدٌ مكحلون" كما ورد في الحديث، ولغيره علامات المحبوسين والمسجونين والمجرمين، - فهي التقيد بالأغلال في الأعناق والأيدي والأرجل، والإنسداد عن الارتقاء إلى عالم النور، والاحتجاب بالأغشية الظلمانية، كما في قوله تعالى:
{ { إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [يس:8 - 9].
ثم الإشارة إلى أن النفس الإنسانية باعبتار كونها عالماً مشتملاً على أصناف المكونات والحيوانات، كمثل شاة في أول الأمر، لها قوائم أربعة، قيدت بثلاثة أرجل هي قواها الطبيعية والنامية والحيوانية، وأطلقت بواحدة هي قوتها الفكرية، خلق الله في كل واحد من الحيوانات الثلاثة - سوى الإنسان - ثلاث علامات من علامات الجحيم والعذاب، وخلق في الإنسان أضداد هذه العلامات، ثلاث هي كعلامات أهل الجنة.
وذلك لأن لكل واحدة من تلك الحيوانات يوجد ثلاث عقد: إحداها: عقدة العمى في العين عن مشاهدة آيات الآفاق والأنفس، ورؤية ما في كتاب الله لقراءة آياته، والأخرى: عقدة الصمّ في الأذن عن استماع الكلام، والثالثة: عقدة الانتكاس لنفوسها المتوجهة إلى الأغراض السفلية.
ونشأ من هذه العقد الثلاث عقد ثلاث أخرى شاهدة عليها، إحداها: اللسان الشاهدة على صمم الآذان، وثانيها: عقدة اليدين الشاهدة على عماء العين، والثالثة: الإنقلاب في البدن، لشهادة الانتكاس في النفس، فإن اللسان كخليفة الأذن، لأن كل "أصم" فطرة فهو "أبكم"، واليد الكاتبة كخليفة العين، فإن "الأعمى" لا يقدر على الكتابة، والبدن كخليفة النفس، فانقلابه دليل انتكاسها، كما أن انحناء الغلاف دليل انحناء السيف.