التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ فَٱسْتَبَقُواْ ٱلصِّرَاطَ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ
٦٦
وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىٰ مَكَـانَتِهِمْ فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ
٦٧
-يس

تفسير صدر المتألهين

الطمس: محو الشيء حتى يذهب أثره، و "الطمس على العين": تعفية شق العين حتى تذهب وتعود ممسوحة، ومثله "الطمس على الكتاب" وهو إذهابه حتى لا يقع عليه إدراك.
وقوله: "فاستبقوا الصراط" إما على طريقة الحذف والإيصال، أي فاستبقوا إلى الصراط، أو بتضمين معنى "ابتدروا"، أو يجعل الصراط مسبوقاً لا مسبوقاً إليه، أو ينتصب على الظرف، أي: فلو قصدوا (تصدوا) أن يستبقوا إلى الصراط فأنّى يتيسر لهم، لكونهم عمياً لا يبصرون الطريق.
و"المَسْخُ": قَلْبُ الصورة إلى خِلقة مشوَّهة. و"المكانة" و"المكان" واحد كالمقامة والمقام، وربما يُفَرَّق بينهما، فيكون الأول للمعنوي، والثاني للوضعي.
وقرئ: مكاناتهم، وقريء: مضياً - بالحركات الثلاث -.
قد أخبر سبحانه، عن قدرته على كشف سرائر هؤلاء الكفار، وصورتهم الباطنية الغائبة عن حواسّ أهل الدنيا، المناسبة لصفاتهم ونياتهم، وهي الصور التي سيُحْشَرون عليها يوم القيامة، فقال: ولو نشاء لطمسنا على أعينهم.
وعن ابن عباس، أي: لأعميناهم عن الهدى. وعن الحسن والجبائي وقتادة: لتركناهم عُمْياً يترددون.
فاستبقوا الصراط - أي: فطلبوا طريق الحق وقد عَمُوا عنه - فأنّى يُبْصِرون. وعن ابن عباس، وقيل معناه: فطلبوا النجاة والسبق إليها، لاَ بَصَرَ لهم فكيف يبصرون وقد أعميناهم. وقيل: طلبوا الطريق إلى منازلهم فلم يهتدوا إليها.
ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم - التي هم فيها قعود، أي: لعذبناهم بنوع آخر من العذاب، فأقعدناهم في منازلهم ممسوخين قردة وخنازير، وقيل معناه: ولو نشاء لمسخناهم حجارة في منازلهم ليس فيهم أرواحهم.
فما استطاعوا مضيّاً ولا يرجون - أي: فلم يقدروا على ذهاب ولا مجيء. وقيل معناه: فما استطاعوا مضياً من العذاب ولا رجوعاً إلى الخلقة الأولى بعد المسخ.
مكاشفة
"الطمس على العين": إشارة إلى إزالة الإستعداد عنهم لإدراك الحقائق بالبصيرة الباطينة، وهي القوة العاقلة النظرية، كما أن "المسخ على مكانتهم" - وهو إجمادهم في مرتبتهم التي كانوا عليها من النقص -، إشارة إلى قلب فطرتهم الإنسانية بحسب القوة العملية المستعدة لسلوك سبيل الحق بفعل الخيرات وإقامة الصلاة والزكاة إلى فطرة الدواب والأنعام، التي ليست لها قوة الإرتقاء إلى ملكوت السماء.
والحاصل، أن أهل الكفر والاحتجاب وأصحاب الضلال والعذاب، وان كانوا في أصل الفطرة مستعدين لإدراك طريق الحق القويم، وقوة المشي على الصراط المستقيم، إلاّ أنهم لانكارهم وجحودهم آيات الله ومعالم دينه وحكمته، طمست عقولهم النظرية وعيونهم الفطرية، فصاروا من جملة الشياطين المردودين إلى أسفل السافلين، ومسخوا بحسب قوتهم العملية فصاروا قردة وخنازير، فلو راموا أن يستبقوا إلى الطريقة العاملة التي لكل أحد أن يسلكها إلى مقصده الذي يناسبه بحسب أصل الفطرة - وهي الشريعة العامة التي بها نجاة كل أحد - لم يقدروا، وتعايا عليهم أن يبصروا ويعلموا جهة السلوك فيها من علوم المعاملات والمسائل الضروريّات - فضلاً عن غيره من علوم المكاشفات -.
ومع قطع النظر عن كون السلوك متوقفاً على البصيرة، فصاروا لكثرة اعتيادهم كالدوابّ والأنعام بالتوطن في عالم الأجرام، وانحباسهم كالحشرات في قعر أرض البدن، ممسوخين على مكانتهم التي كانوا عليها، مجمودين في عالم الصورة، غير مستطيعين مضيّاً إلى عالم الرحمة والنجاة، لفقد الآلة وضعف البنية ومسخ الماهية، ولا راجعين إلى فطرتهم الأصلية، لاستحالة ذلك بالبراهين القاطعة العقلية والشواهد الناصّة (القاطعة) النقلية، كما استحالت في سنّة الله صيرورة الشيخ الكبير طفلاً صغيراً.
وأما قوله:
{ قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً } [الحديد:13] فهو على سبيل التهكّم بهم.
وإني قد رأيت من المستعدين من كان لهم بحسب الفطرة الأصلية لكلتا قوتيهم النظرية والعملية استعداد إدراك بعض المعارف الحقّة، والإقتدار على فعل الطاعات والخيرات، والمصابرة على ترك الفسوق والشهوات، فصاروا بعد حين بسبب ملاقاة أهل الإغترار، وملازمة أقران السوء، وصحبة أهل الغفلة والجهالة، والانكباب على الدنيا، والإعراض عن الحكمة، في غاية الجمود والبلاهة، والعمى عن إدراك المعقولات، لاعتيادهم بحفظ الوساوس الوهمية، والكلمات الواهية، والأقوال المتناقضة الباطلة، وفي غاية الكسل عن الخيرات والطاعات، لانْهِماكِهِم في طلب الشهوات النفسانية، وإفناد قواهم في السعي على اقتناء المرغوبات الحسية، وتحصيل الرياسات الحيوانية.
وأكثر هؤلاء إذا تجاوزوا عن الأربعين وصاروا معمّرين، وأخذت قواهم في الانتكاس والذبول - كما أشير إليه في الآية التالية، توغّلوا في الإعراض عن الحق والخوض في الباطل، إلى أن صاروا أشد الناس عداوة للذين آمنوا بحسب الضمير والإعتقاد، وأغلظ المعاندين والجاحدين لأهل الحق لغاية البعد عن عالم المعاد، وأحرص الناس على حياة هذه الدنيا كاليهود الغالب على نشأتهم أحكام الظاهر، ومحبّة التجسم وعداوة أهل التجرد والتوحيد والروحانيين.
كما قال تعالى:
{ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ } [البقرة:97] ولقوله: { { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } [البقرة:98] وهذا بالحقيقة معنى "الطمس" و "المسخ" الواقع في يهود الأمم السابقة مكشوفاً، وفي مجسّمة هذه الأمة مستوراً، لا التناسخ بالمعنى المشهور بين الفلاسفة، لنهوض البراهين على استحالة انتقال النفس من بدن عنصري إلى بدن آخر.
وأما انقلاب باطن الإنسان بحسب كثرة الأعمال الشهوية والغضبية والجربزية إلى حقيقة البهائم والسباع والشياطين، فهذا مما اتفق عليه أكابر المحققين من أهل الكشف والشهود، وأشار إليه أعاظم الحكماء الأقدمين من أصحاب الإشراق والسلوك إلى الله المعبود، ونطقت به ألسنة الشرائع الحقة الإلهية، ودلّت عليه الآيات القرآنية، وصرحت به الأحاديث النبوية.
وكفاك في هذا المعنى قوله تعالى في حق من أنزلهم أخس المنازل وأبعدهم عن ساحة الشرف الإنسانية بمراحل، وأسكنهم في حضيض الجهّال ومهوى الأرذال محجوبين عن شهود الحقيقة، مخذولين عن صراط سُوى الطريقة، بعدما كانوا مكرّمين من حيث استعدادهم بكرامة الآدمية، مشرّفين بشرافة مسجودية الملائكة من جهة الفطرية:
{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ } [المائدة:60].
فإنه صريح في أنهم جعلوا في جحودهم الحق، وإنهماكهم في الشهوات وطلب الرياسات، أنزلَ رتبة وأسفل دركة من القردة والخنازير وعبد الطاغوت - بحسب القوة العملية - وأعمى قلباً عن رؤية الحق، وأضل انحرافاً عن الصراط المستقيم من الشيطان الرجيم - بحسب القوة النظرية -، فإن الحيوانات - وإن كانت أشراراً خسيسة دنيّة - والشياطين - وإن كانت خبيثة ضالة عن طريق الحق - لكن ليس لها استعداد الارتقاء إلى مقارنة الحق الأعلى، ومجاورة مقرّبيه وطبقات جنانه وملكوته، وأما هؤلاء فإنهم كانوا بحسب أصل الفطرة وميثاق عهد الربوبية مستعدين لسلوك سبيل الله، والحشر إلى جناب رحمته، والفوز بجنانه والوصل إلى رضوانه، وقد بطل استعدادهم النظري لرؤية الأشياء كما هي، بالطمس على عيونهم، وفسد اقتدارهم العملي العروجي بالمسخ، فصاروا مغلولي الأيدي ومقيدي الأرجل، كالقردة المغلولة، والخنازير المقيدة، حيث زيد فيها غلّ على غلّ، وقيد على قيد.
ولذا قال تعالى نظراً إلى زوال القوة الدراكة بالطمس
{ { إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } [الأنفال:22] ونظراً إلى كلال القوة الحراكة بالمسخ: { أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [الأعراف:179].
فإن قلت: دعوى عدم الاستعداد رأساً للارتقاء إلى عالم السماء في الحيوانات الصامتة وإن كان مسلَّماً معلوماً، لكن عدم استعداد ادراك المعارف في الشيطان غير معلوم، لأنه كان واعظاً للملائكة معلماً لهم.
قلت: هذا عند أهل الله أمر محقق ثابت، ولهم في ذلك شواهد كشفية ودلائل قرآنية:
منها: اعتراضه على الحق وتمرده عن سجدة آدم، فهذا دلّ على أن إدراكه من باب التخيلات والأوهام، غير بالغة إلى حد التعقّل، وليس من شأنه العروج إلى سماء اليقينيات، وإنما غاية سيره (مسيره) إلى سوافل الظنون والأوهام، واستراق السمع من أهل التجرد والقدس والطهارة، وليس له إلاّ أن ينقل صورة المسألة لغرض النفس والهوى، منضماً إليها وجوه من الخبائث الباطنية والدواعي النفسانية.
ومنها: قصور فهمه عن إدراك حقيقة الإنسان وفضيلة ذاته الأصلية - ان لم يصبها آفة - على سائر الأقران، باعتبار جامعيته للنشأتين، واستحقاقه لخلافة الله في العالمين.
ومنها: وقوعه في الغلط الفاحش والقياس المغالطي المبتني على الاشتباه بين مادة الشيء وصورته، حيث لم يتفطّن بأن رتبة الإنسان ليست من جهة البنية العنصرية الأرضية، بل بحسب جوهر الروح، فكأنه لم يكن عارفاً بوجود المجرّدات العقلية.
ومنها: فعلية جوهره وغلبة النارية على ذاته، وعدم العجز والانكسار والآفة البدنية فيه، فإن منشأ استحقاقية الإنسان للارتقاء إلى عالم القدس والرضوان، ورحمة الله في حقه من جهة غاية عجزه وافتقاره وانكساره، وتقلّب ذاته من طور إلى طور، وانزعاج طبعه عن وحشة هذا العالم، وكثرة آفاته وأمراضه، وضعف طبيعته في أول النشأة، كما قال تعالى:
{ وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً } [النساء:28].
فكل من لم يكن أول الفطرة حاله هذا الحال، وكان له ضرب من الكمال الوهمي، مبتهجاً بزينة ذاته الاستعلائة وصورته النارية الاشتعالية، فخوراً بقهره وعلو جسميته الدخانية، فلا محالة لم يتوقع الكمال، ولم يكن له حال منتظر يمكن له الوصول إليه بالجواز عن مقامه الذي فيه، والسالك متى لم يمت عن نشأته التي هو فيها، لم يمكنه التجاوز إلى نشأة أخرى فوقها.
ومن نظر إلى حال الإنسان من أول تكّونه إلى غاية نشوّه - حيث كان أولاً نطفة، ثم علقة، ثم مُضغة، ثم جنيناً، ثم طفلاً - تيقّن أن بناء استكماله وبناء انتقاله إلى حالة أخرى، زواله عن الحالة الأولى، فما لم يخلع عن ذاته كسوة صورة سابقة، لم يتلبّس بكسوة صورة لاحقة، ومتى لم يمت عن نشأة، لم يحي بحياة ثانية.
ومنها: أنه لو كان في ذاته إمكان الترقي إلى مشاهدة الحقائق الإلهيّة، والتفطن بالعلوم الربانية، لكان بالغاً إلى شيء منها في المدد المتطاولة والألوف (الأيون) الجمّة الغفيرة من الأحقاف والإعمار والأدوار والأكوار التي مضت عليه، مع كثرة الشواهد والآيات الدالة على حقيقة وجود الباري الكريم الجواد، وكيفية صفاته وآثاره، وحقيقة أسرار المبدء والمعاد، وانتفاء التالي يدل على انتفاء المقدم.
أما الملازمة فواضحة، وأما انتفاء التالي: فلأنّ أقل المراتب في معرفة المبدء من علم الآفاق، والإيمان بقدرة الباري، ووجوب عبوديته، وامتثال أمره ونهيه، وأدنى المراتب في معرفة المعاد، من علم الأنفس الإذعان بوجود النشأة الباقية للإنسان، وفضيلته على سائر المكونات، ومعلوم أن هذا القدر من المعرفة لم يكن حاصلاً له ولو على وجه التقليد والظن الحاصلين لأكثر العوام من أهل الإسلام.
ومنها: قوله تعالى:
{ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ } [ص:75] فإنه كاشف عن خسّة ذاته، وقصور جوهره عن أن يكون من العالين، وهم سكان عالم التقديس وجواهر الملكوت العقلية، المرتفعون بحسب كمالهم العلمي عن سوافل عالم الغواشي المادية الموجبة للجهالة، فإن بناء العلم والإنكشاف على التجرد والخلاص عن اللواحق الغريبة، وتميّز الخبيث عن الطيب، وبناء الجهالة على التلبّس بالأغشية الظلمانية السفليّة.
فمن لم يكن بحسب جوهره وذاته من العالين - أي من جنس الملائكة العلويين - فلا يصل إلى مقامهم - لا بالفعل ولا بالقوة -، فإن التعليم والتهذيب لا يظهران إلاّ ما هو كامن في جبلّة الشخص وذاته.
فهذه وجوه دالة على كون الشيطان ممنوع الذات والجبلة عن الاهتداء بطريق الحق، والارتقاء إلى عالم الملكوت، مطرود الماهية عن الوصول إلى اقليم النور والنعيم، محترق الطبيعة بنار الحرمان والبعد في أسفل دركة الجحيم.
ومنها: إنه خالف إجماع الملائكة في سجود آدم، وهذا دال على غاية خباثة باطنه وسوء فطرته، حيث استبدّ برأيه، واستنكف عن الموافقة مع أهل الله وإخوان التجريد وأولياء الله.
ومنها: أنه خاطبه الله خطاب الإمتحان بجوهر ذاته، ليظهر به حجة الله عليه واستحقاقيّة اللعن والبُعد وقال:
{ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } [الأعراف:12] فلو كان ذا بصيرة لقال: "منعني تقديرك وقضاؤك ومشيتك الأزلية"، فلما كان أعمى بالعين التي ترى أحكام الله وتقديره وهويّته، بصيراً بالعين التي ترى أنانيته، فقال: "أنا خير منه" أي: منعني خيريتي منه أن أسجد لمن هو أدنى.
ومنها: استدلاله في مقابلة النص على خيرية ذاته بقوله:
{ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [الأعراف:12] يعني: النار علوية نورانية لطيفة، والطين سفلي ظلماني كثيف، فهي خير منه، فأخطأ اللعين في الجواب، وفي الاستدلال، والقياس من وجوه:
وقد قررنا خطأه في الجواب.
وأما في القياس: فأحد الوجوه أنا لو سلمنا أن النار أفضل وأشرف وأعلى من الطين من حيث الظاهر والصورة، لكن من حيث الحقيقة والغاية الطين أفضل وأشرف، لأن من خواص الطين الطين الإنبات والنشوّ والنمو، ولهذا السر كان يعلق الروح به ليصير قابلاً للترقّي، والنار من خاصيها الإحراق والإفناء.

كه آدم راز ظلمت صد مدد شد زنور إبليس ملعون ابد شد

وثانيها: أن في الطين لزوبةً وامساكاً، فإذا استفاد الروح منه بالتربية هذه الخاصية، يصير ممسكاً للفيض الإلهي، إذ لم يكن ممسكاً في عالم الأرواح، ولهذا السر كان آدم مسجوداً للملائكة، وفي النار خاصية الإتلاف وهو ضدّ الإمساك.
وثالثها: إنه مركّب من الماء والتراب، والماء مطيّة الحياة لقوله تعالى:
{ مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [الأنبياء:30] والتراب مطيّة النفس وإذا امتزجا تتولد النفس الحيوانية، وهي الروح الحيواني، وهي مطية الروح الإنسانية للمناسبة الروحية بينهما، وفي النار ضد هذا من الإهلاك والإفساد.
هذا مع أن شرف مسجودية آدم وفضيلته على ساجديه، لم يكن بمجرد خواصه الطينية التي هي جهة القبول والصلاحية، - وان تشرفت طينته بشرف التخمير من غير واسطة - لقوله تعالى:
{ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ص:75] وكقوله (صلى الله عليه وآله): "خمّر طينة آدم بيده أربعين صباحاً" - وإنما كانت فضيلته عليهم لاختصاصه بنفخ الروح المشرف بالإضافة إلى الحضرة فيه من غير واسطة، كما قال تعالى: { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [الحجر:29] ولاختصاصه بالتجلّي فيه عند نفخ الروح، كما في قوله (صلى الله عليه وآله): "إن الله خلق آدم فتجلّى فيه" ، وقد مرّ أن الملعون خلط بين جهة المادة وجهة الصورة، وشرافة آدم بصفة الإنسانية وصورته الذاتية.
ولهذا السر - ما أمر الله الملائكة بالسجود بعد تسوية قالب آدم من الطين، بل أمرهم به بعد نفخ الروح فيه، كما قال تعالى:
{ { إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ص:71 - 72] وذلك لآن آدم بعد أن نفخ فيه الروح، صار مستعداً للتجلي لما حصل فيه من لطافة الروح ونورانيته التي يستحق بها للتجلي، ومن امساك الطين الذي يقبل الفيض الإلهي مسكة عند التجلي، فاستحق سجود الملائكة لأنه صار قلبه كعبة حقيقية.
تفهم إنشاء الله وتغتنم وتنتفع به، ولا تكونن كالشيطان أعمى القلب عن مطالعة هذه الحقائق، والمتكبر عن الإيمان بها فتخرج عن جنّة هذه المعارف، وروضة هذه العواطف، وتخاطب بقوله تعالى:
{ { فَٱهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّاغِرِينَ } [الأعراف:13].
ومنها: كفره، لقوله تعالى:
{ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ } [البقرة:34] والكفر عين الجهل.
واختلف المفسرون والفقهاء في أن كفره أهو قبل الإباء عن السجدة أم بعد؟ وفيه قولان:
الأول: إنه كان إبليس عند اشتغاله بالعبادة منافقاً كافراً، وفي هذا وجهان:
أحدهما: حكى محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في أول كتاب "الملل والنحل" عن شارح الأناجيل الأربعة - وهي المذكورة في التوراة متفرقة عن شكل مناظرة بينه وبين الملائكة بعد الأمر بالسجود -: قال ابليس: "إني أسلّم أن لي آلهاً هو خالقي وموجدي، وهو خالق الخلق، لكن لي على حكمة الله أسئلة سبعة:
أحدها: ما الحكمة في خلق الكافر، لا سيما وقد كان عالماً بأن الكافر لا يستوجب عند خلقه إلا الألم؟
الثاني: ما الفائدة في التكليف، مع أنه لا يعود إليه نفع ولا ضر، وكل ما يعود على المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف؟
الثالث: هب أنه كلفني بمعرفته وطاعته، فلماذا كلفني السجود لآدم؟
الرابع: ثم لمّا عصيته في ترك السجود لآدم لعنني وأوجب عقابي، مع أنه لا فائدة له ولا لغيره فيه، ولي أعظم الضرر؟
الخامس: لِمَ مكّنني من الدخول في الجنة ووسوسة آدم؟
السادس: لمّا فعل ذلك، فلِمَ مكّنني من إغوائهم وإضلالهم؟
السابع: لمّا استمهلته المدة الطويل في ذلك فلِمَ أمهلني؟ ومعلوم أن العالم لو كان خالياً عن الشر لكان ذلك خيراً؟".
قال شارح الأناجيل: فأوحى الله تعالى إليه من سرادقات الجلال والكبرياء: "يا إبليس، إنك ما عرفتني، ولو عرفتني لعلمت أنه لا اعتراض عَلَي في شيء من أفعالي، فإني أنا الله لا إله ألا أنا، لا أُسْأَل عما أفعل".
واعلم أنه لو اجتمع الأوّلون والآخرون من الخلائق لم يجدوا عن هذه الشبه مخلصاً من إسكات الجاحد المجادل البحّاث إلا بهذا الجواب الإلهي، على أن لكل من هذه الشبهات جواباً برهانيّاً حقاً مبتنياً على الأصول الصحيحة العرفانيّة والمقدمات الحقّة اليقينية.
الوجه الثاني: قول أصحاب الموافاة، وهو أن الإيمان يوجب استحقاق الثواب الدائم، والكفر يوجب استحقاق العقاب الدائم، والجمع بينهما محال، والقول بالاحباط باطل، فلم يبق إلا أن يقال أن هذا الفرض محال، وشرط حصول الايمان في وقت أن لا يصدر الكفر عنه بعده، فإذا كانت الخاتمة على الكفر، علمنا أن الذي يصدر عنه أولاً ما كان ايماناً، وعلى هذا شواهد أخرى طوينا ذكرها، لأنه يؤدي إلى التطويل، وفيما ذكرنا كفاية للمتأمل المهتدي سواء السبيل.