التفاسير

< >
عرض

أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ
٧١
-يس

تفسير صدر المتألهين

ثم أعاد الكلام إلى ذِكر شواهد التوحيد وآيات الربوبية، فقال: أولم يروا أنا خلقنا لهم - أي: لأجل وجودهم، أو لأجل انتفاعهم - مما عملت أيدينا - أي: مما تولينا خلقه بإبداعنا وانشائنا من غير مشاركة أحد ولا إعانة معين فيه، لبدائع الفطرة وشواهد الحكمة فيها التي لا يصح أن يقدر عليها إلاّ هو.
و"اليد" في اللغة يطلق على معان: منها: الجارحة المخصوصة، ومنها: النعمة - يقال: لفلان يد بيضاء، ومنها: القوة - يقال: فلان تلقي قولي باليدين، أي بالقوة والتقبل، ومنها: تحقيق الإضافة، كما في قول الشاعر:

دعوت لما نابني مِسْورَا فلبّى فلبّى يَدَي مِسْوَر

وإنما ثنّاه لتحقيق المبالغة في الإضافة إلى مسور، ويقولون: "هذا ما جنت يداك" وهو المعني في الآية، وإذا قال رجل: "عملتُ هذا بيدي" دلّ ذلك على انفراده بعمله من غير أن يكِلَه إلى غيره، وهو المعني في الآية.
وفي الكشّاف: "عمل الأيدي استعارة من عمل ما يعملون بالأيدي".
قلت: فعلى هذا كان قوله: { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ } موضع "مما عملنا بالأيدي".
و "الأنعام" هي الإبل والبقر والغنم - فهم لها مالكون - ولو لم نخلقها لما ملكوها ولما انتفعوا بها وبألبانها وركوب ظهورها ولحومها، أي: خلقناها لأجلهم فملّكناها إياهم، فهم متصرفون فيها تصرف الملاّك في أملاكهم، وقيل: فهم لها ضابطون قاهرون لم نخلقها وحشيّة نافرة منهم لا يقدرون على ضبطها، بل مسخرة مذلّلة، من قول الشاعر:

أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير أن نفرا

أي لا أضبطه.
تبيان كلامي وبرهان حكمي
قد تقرر عند كبراء الحكماء وأولياء المعرفة والإيقان، وأهل النسك والإيمان، أن وجود الإنسان هو غاية إيجاد المكونات العنصرية من الجماد والنبات والحيوان، لأن الغاية في كل موجود حادثٍ هو الوصول إلى كمال ثانٍ له، والبلوغ إلى ما هو أشرف، فالكمال الثاني للجسم العنصري، هو الصورة التركيبية التي للجماد، الحافظة له عن التبدد والانحلال والفساد، وكمال مرتبة المعادن هي النفس النباتية المفيدة زيادة في الأقطار وتوليد الأمثال، وكمال النبات هي النفس الحيوانية المفيدة للحس والحركة بالإختيار، وكمال الحيوان هو البلوغ إلى درجة الإنسان، فالإنسان كمال العالم العنصري وثمرته وغايته، ولا يلزم مما ذكرناه أن يكون كل جماد ونبات وحيوان ممكن الوصول إلى ما هو فوقه إمكاناً وقوعياً استعدادياً، بخصوص تعيّنه الخاص الشخصي أو النوعي، بل اللازم منه ذلك بحسب مطلق طبيعته الواقعة في وسط من أوساط حدود التوجهات إلى غاية الوجود ومطلق وجوده، الواقع في مرتبة من مراتب القرب والبعد من خلاّق الخير والجود، إذا لم يكن له حجاب من تعيّنه ووجوده، بل لا بدّ من توجهه إلى مرتبة تكون فوقه، وانتقاله إلى درجة أخرى وتطور بطور آخر، من انزعاج في وجوده وقبول تأثير ولين وانكسار سَوْرَة وقلة تمنّع وشدة افتقار.
أَوَلاَ ترى أن العناصر ما لم تنكسر قوتها وسَوْرَةُ كيفيتها حتى كادت أن تفنى وتنفسد وتتعرى عن كسوة الصورة، لم يترحم الباري عليها بإفاضة وجود مستأنف وإعطاء كسوة جديدة، وكذا الحبوب والبذور المدفونة في الأرض، ما لم تتعذب بصحبة المخالط الضدّ حتى كادت تنفسد، لم تحصل فيها قوة النماء ولم تتخط من طور الجماديّة إلى نشأة النبات.
وكذا ليس كل جسد نباتي قابلاً لصورة الحيوان التام، بل ما مكث في جهنم المعدة مدة الانهضام، ثم سلك المسالك الضيقة في العروق والمسام، وسعى في خدمة الله وعمارة كعبة القلب الصوري الصنوبري وبيت الله الحرام، حتى يصير سعيه مشكوراً وذنبه مغفوراً، وأعطاه الله صورة الحس والحركة وأحياه بالحياة الحسيّة.
وكذا ليس كل حيوان يقبل النفس الناطقة التي من شأنها إدراك المعرفة واليقين، والوصول إلى عالم الآخرة يوم الدين، بل الذي مضت عليه أيام وشهور محبوساً في جهنم المعدة، مسجوناً بسجن الرحم ومضيق المشيمة، معذباً بيد مالك الطبيعة، مقيّداً بقيود سدنة القوى الأربعة الهاضمة، وزبانية القوى التسعة عشر الحيوانيّة، شارباً شراب الحميم، متغذياً بدم الحيض الحار الأسود، متلطّخاً بالأفراث والأرواث، مَصْليّاً بنار الحرارة الغريزية - وهكذا -، إلى أن يأذن الله له في الدخول إلى عالم النعيم الإنساني، وجنّة المشتهيات النفسانيّة، وكرّمه بكرامة الصورة الآدميّة، المحمولة في برّ الجسمانيّات وبحر الروحانيات، المرزوقة من طيبات الكلمات الحكميّة والعقلية، المفضلة على كثير من المخلوقات، كقوله:
{ { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } [الإسراء:70].
وهكذا الإنسان، لا يستعد لنفخ الروح الإلهي القابل للخلافة الإلهية، ومسجوديّة الملائكة العلويّة والسفلية، ما لم يرتض بالرياضات النفسانيّة، ولم يتهذب بالتهذيبات العقلية، ولم يمتحن بالمحن الشديدة، والتكاليف الشرعيّة والآداب النبوية - من الصيام والقيام وغيرها، وتكثير الأوراد والدعوات، ومواصلة الأذكار والتسبيحات طول الليل والنهار - وهكذا حتى مضت عليه مدة مديدة من الشهور والسنين، وبلغ أوان بلوغه الحقيقي الباطني إلى قرب أربعين، وهكذا يتطور من طور إلى طور حتى بلغ إلى ما لم يمكن وصفه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ على قلب بشر.
والمقصود أن خلقه المكّونات من البسائط والمركبات - كما دلّت عليه هذه الآية وكثير من الآيات - لأجل ماهيّة الإنسان ووجوده الفائق على سائر المخلوقات، على الوجه الذي مرّ بيانه، وقد أشرنا إلى أن المتحرك إلى غاية، ما دام كونه متحركاً إليها، يجب أن يكون أمراً بالقوة، شبيهاً بالعدم، تحقيقاً لمعنى الحركة، وتحت هذا أسرار لطيفة يختص فهمه لمن وفّق له.
اشارة قرآنية
اعلم أن قوله: { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ }، معناه - كما ذكره صاحب الكشّاف - عملنا بالأيدي، وذلك لما حقق أن المؤثر الحقيقي في خلق الموجودات هو الباري سبحانه، والوسائط مسخّرة لقدرته. سواء كانت ملائكة علويّة أو سفلية، أو كانت أجراماً سماوية أو أرضية، إذ ليس لشيء منها رتبة الإنشاء والإيجاد، اللهم ألا أن يراد بالعمل معنى التحريك والإعداد بإذن الله المعطي الجواد.
وروح اليد ومعناه الأصلي ليس منحصراً في الجارحة المخصوصة التي اعتاد أهل اللغة فهمها عند اطلاق لفظ "اليد"، بل الواسطة الطبيعيّة بين القدرة على القبض والبسط ومتعلقها، سواء كانت أموراً جسمانيّة من عظم ولحم ورباط وعصب، أولم يكن، فكما أن ذات الله وصفاته لا تشبه ذوات الخلق وصفاتهم، فكذلك كل ما نسب إليه من اليد، واليمين، والقلم، واللوح، والكتابة، والرق المنشور، والبيت المعمور، والعرش، والكرسي، أما سمعت أن متاع البيت يشبه رب البيت.
فكما أن ذاته لا يشبه الذوات، فـ "يد الله" لا تشبه الأيدي، ولا قلمه يشبه الأقلام، ولا خطّه سائر الخطوط، فليس الله في ذاته يمكن أن يكون بجسم ولا في مكان - بخلاف غيره -، ولا تكون يده من لحم وعظم ودم - بخلاف سائر الأيدي - وكذا لا يكون قلمه من قصب، ولا لوحه من خشب، ومن توقف في تنزيه بعض الأمور الإلهية دون بعض، ويؤمن ببعض ويكفر بما وراءه، فهو كالمخنّث بين فحولة التنزيه وأنوثة التشبيه، مذبذباً بين إثبات هذا ونفي ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فكيف ينزه ذاته وصفاته من مشاركة الأجسام وصفاتها، ولم ينزه يده وقلمه عنها؟ أو كيف يؤمن بذاته وصفاته ويكفر بيده وقلمه رأساً؟
فإن كنت فهمت من معنى الصفات ما يوجب الإنفعال اللائق بالأجساد، ومن معنى الإستواء على العرش ما يوجب الإفتقار والإعتماد، فكن حنبلياً محضاً ومشبّهياً مطلقاً، كما يقال: "كن يهودياً صرفاً وإلاّ فلا تلعب بالتوراة".
وإن كنت فهمت من معانى الصفات ما ينحفظ معها التقديس والوحدة المحضة، ومن الاستواء على العرش معنى الإستيلاء المعنوي عليه والتمكن في الإلهيّة وظهور الرحمانية به، فكن منزهاً صرفاً ومقدِساً فحلاً في كل الأمور الإلهية.
فإذا كنت مؤمناً بجميع ما ورد في الآيات، مقدساً للباري عن وصمة الجمسانيات، فتيقنّ أن الأيدي العمّالة لله هي الوسائط العقلية والنفسية، من الملائكة السماوية والأرضية، الموكلة بخلق مواد الحيوانات، من الجماد والنبات، فبتعديلها صور الحيوانات في مواد النطف منقوشة، وبتقويمها بسائط الأشكال على بسيط الهيولى مفروشة.
تفريع شهودي
"كلتا يدي الرحمان يمين"،
{ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [الفتح:10] { وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَٱلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [الزمر:67]، ومن انكشف له معرفة ذات الله وتقديسه عن وصمة الإشتراك والإمكان، وتنزيه صفاته الحقيقية عن شَوْب التكثّر والنقصان، وتمجيد صفاته الفعلية العملية عن القصور والحدثان، فينكشف له أن معنى القدرة الإلهية ليس كالقدرة التي في الحيوان - وهي القسمة المتساوية طرفاها، المفتقرة إلى الداعي والرجحان - وينكشف له أن يمينه ليست كالأيمان.
فإذا علم معرفة الذات والصفة والقدرة واليد، يظهر له أن الشمس والقمر، والكواكب والأفلاك، والمطر والغيم، والهواء والماء والأرض، وكل ما يحصل منه وجود الحيوان من مواد النُطَف والأركان، كلها مسخّرات بيمينه وفي قبضة قدرته تسخّر القلم في يد الكاتب، فإذا علم ذلك، انصرف عنه الشيطان وَخَنَسَ، لأن توحيده عن مزج الشرك مقدس، ووجه قلبه متوجه إلى فاطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين.
اشارة أخرى
في كيفية خلقة الحيوان مما عملته أيدي الرحمان
قد مرت الإشارة منّا سابقاً، إلى أن طينة الإنسان وحصته الحيوانية إنما قبضتها وعملتها ملائكة الله، وبهذا الإعتبار توفّته رسل الله، فلنبيّن كيفية خلقه الحيوان مما عملته أيدي الرحمان، سواء كان مما هو داخل مملكة الإنسان وأجزاء هذا القوام، أو مما ملّكه الله له من الدواب والأنعام، وذلّله وسخره للحمل والركوب له وللزينة وغيرها من أغراض عالم الأجسام، ليحصل لك الإطلاع على أفعال بعض ملائكة الله السفلية الموكلة بعالم الحيوان، بل الإنسان، المقبوضة المسخرة لملائكة أُخرى علوية مطوية تحت أيدي قدرة الله الرحمان، ليمكنك الشكر والحمد على نِعَمه المتعلقة بقوام الحياة الدنيا، المتوقفة عليها أسباب معيشتك الأخرى، ومقدمات سفرك إلى الله وقدومك بين يديه من مركبك وزادك، وإنما مركبك البدن والقوى، وزاد سفرك الذي لأجله خلقت العلم، والتقوى، وأسباب ما خلقه الله وهيّأ لك من أجناس هذا العالم كالشجر والدواب والأنعام.
فمن نِعم الله عليك، الملائكة الموكلة ببدنك وبما هو تحت تصرفك من الأنعام والعبيد فيما يرجع إلى الأكل والغذاء، ويتوقف عليه الحيوان في الحدوث والبقاء، فإن كل جزء من أجزاء بدنك - بل من أجزاء كل حيوان ونبات - لا يتغذى إلاّ بأن يوكل به سبعة من الملائكة - هو أقل - إلى عشرة، إلى مأة إلى ما وراء ذلك.
وبيانه أن معنى الغذاء أن يقوم جزء من الغذاء مكان جزء قد تلف من بدنك لإستيلاء الحرارات المحللات عليه، وهي الغريزية والأسطقسية الداخلتان، والشمسية والتحريكية الخارجتان، وحرارة الهواء المطيفة بك، وذلك الغذاء جسم نباتي أو حيواني يصير دماً في آخر الأمر، ثم يصير لحماً وعظماً وعصباً، وهو لا يتحرك من مكانه بنفسه، ولا يتغير في حاله بنفسه، ومجرد الطبع لا يكفي في تردده في جهاته وأطواره، كما أن البُرّ بنفسه لا يصير طحيناً ثم عجيناً ثم خبزاً مستديراً مطبوخاً إلاّ بصنّاع كثيرة، فكذلك الدم لا يصير لحماً وعظماً وعروقاً وعصباً إلاّ بصُنّاع في الباطن هم الملائكة، كما أن الصنّاع في الظاهر هم أهل البلد.
وقد أسبغ الله عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، فلا ينبغي أن تغفل عن نعمه الباطنة وتجحدها، فنقول: لا بد أولاً من مَلك يجذب الغذاء ويقبض طينة الخلقة إلى جوار اللحم والعظم، لِمَا علمت أن الغذاء لا يتحرك بنفسه، بل بمحرك غائب عن البصر، ثم لا بد من مَلَك آخر يمسك الغذاء في جواره حتى يتغير، لأن الاستحالة حركة، وكل حركة إنما وقعت في زمان، ثم لا بد من ثالث يخلع عنه صورة الدم، ومن رابع يكسوه صورة اللحم والعظم أو العصب، ومن خامس يدفع الفضل الفاضل من حاجة الغذاء، ومن سادس يلصق ما اكتسى بصورة العظم بالعظم حتى لا يكون منفصلاً، ولا بدّ من سابع يرعى المقادير في الإلصاق.
شك وتحقيق
فإن قلت: فهلاّ فُوِضّتَ هذه الأفعال إلى مَلَك واحد، ولِمَ افتقرت إلى سبعة أملاك، والحنطة أيضاً تحتاج إلى من يطحن أولاً، ثم إلى من يميز عنه النخالة ويدفع عنه الفضالة ثانياً، ثم إلى من يصب عليه الماء ثالثاً، ثم إلى من يعجن رابعاً، ثم إلى من يقطعه كرات مدورات خامساً، ثم إلى من يرقّقها دوائر عريضة ورغفاناً مستديرة سادساً، ثم إلى من يلصقها بالتنور سابعاً، فلا كانت أفعال الملائكة باطناً كأفعال الإنس ظاهراً؟
فاعلم أن خِلقة الملائكة تخالف خِلقة الإنس، ما من واحد إلاّ وهو وحداني الصفة، ليس فيه خلط وتركيب، فلا يكون لكل واحد إلاّ فعل واحد، وإليه الإشارة بقوله:
{ { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [الصافات:164] نعم ربما يصدر منه - إذا كان علوياً - أفعال متعددة باستخدام وسائط مسخرة مقهورة له بجهات متعددة ترتقي إلى جهة واحدة.
وتحقيق ذلك موكول إلى علم آخر، به يعلم النظم والترتيب بين ملائكة الله العلوية والسفلية، ولذلك ليس بينهم تنافس وتقابل ولا تفاخر، بل مثالهم في تعيين ماهية كل واحد وفعله مثال الحواس الخمس، فإن البصر لا يزاحم السمع ولا يشاركه في إدراك الأصوات، ولا الشم يزاحمها، ولا هما ينازعان الشم، وليس كاليد اللحمي والرِجْل، فإنك قد تبطش بأصابع الرِجْل بطشاً ضعيفاً فتزاحم به اليد، وقد تضرب غيرك برأسك مكان اليد التي هي آلة الضرب، ولا كالإنسان الواحد الذي يتولى بنفسه الطحن والعجن والخبز، فإن هذا نوع من الإعوجاج والعدول عن العدل، سببه اختلاف صفة الإنسان واختلاف دواعيه وتكثّر أغراضه، فلما لم يكن وحداني الصفة، لم يكن وحداني الفعل، ولذلك ترى الإنسان يطيع الله مرة ويعصيه أخرى لاختلاف دواعيه وصفاته الروحانية والجسمانية، ولو تفرد الإنسان بذاته وطبعه، ولم يتغيّر عمّا فطره الله عليه، لم تكن أفعاله إلاّ على نظم حكمي وترتيب طبيعي.
وذلك الإختلاف غير ممكن في طبائع الملائكة، بل هم مجبولون على الطاعة، مفطورون على العبودية والخدمة، لا مجال للمعصية في حقهم، فلا جَرَم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، يُسبّحون الليل والنهار لا يفترون، والراكع منهم راكع أبداً، والساجد منهم ساجد أبداً، لا اختلاف في أفعالهم ولا فتور في أعمالهم، ولكل واحد منهم مقام معلوم لا يتعدّاه.
وطاعتهم لله تعالى من حيث لا مجال للمخالفة فيهم، تشبه طاعة أطرافك لك، فإنك مهما جزمت الإرادة بفتح الأجفان، لم يكن للجفن الصحيح تمرد وتردد واختلاف في طاعتك مرة ومعصيتك أخرى، بل كأنه منتظر لأمرك ونهيكِ فينفتح وينطبق متصلاً بإشارتك، فهذا يشبهه من وجه ولكن يخالفه من وجه، إذ الجفن لا علم له بما يصدر من الحركة فتحاً وإطباقاً، والملائكة أحياء عالمون بما يفعلون.
فإذن هذه نعمة الله عليك من جملة الملائكة الأرضية العمّالة، لخلقة الحيوان، وهي بعض نعم الله عليك من الملائكة العلمية والعملية الموكلة بباطنك وظاهرك وقلبك وقالبك، يجب عليك شكر هذه النعم الخفية والجلية.
ومن كفر بشيء منها كفر بالجميع من حيث لا يشعر، فإن من كفر بالقدرة على فتح العين التي من جملة نعم الله في الأجفان، التي من جملتها خلق أطرافها حادة منطبقة على الحدقة، وما يتوقف عليه من الغذاء وأسباب التغذية، فقد كفر بالعين وما يتوقف عليه من الموجودات، إذ الأجفان لا تقوم إلاّ بالعين، ولا العين إلاّ بالرأس، ولا الرأس إلاّ بجميع البدن، ولا البدن إلاّ بالغذاء، ولا الغذاء إلاّ بالماء والأرض والهواء والمطر والغيم، ولا تقوم هي إلاّ بالشمس والقمر والنجوم، ولا يقوم شيء منها إلاّ بالسموات، ولا السموات إلاّ بالملائكة المحركة، ولا هي إلاّ بعالم الأمر لقوله تعالى:
{ { وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } [الأعراف:54] وقوله: { { وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا } [فصلت:12].
فإن الكل كالشيء الواحد الطبيعي، المرتبط بعضه ببعض، كارتباط أعضاء بدن الإنسان الواحد بعضها ببعض، وارتباط بدنه بنفسه، ونفسه بروحه وعقله، والكل مرتبط به تعالى في الوجود،
{ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ } [الأعراف:54]. فإذنَ، من كفر بفتح العين فقد كفر كل نعمة من نعم الله من منتهى الثريّا إلى منتهى الثرى من وجوه كثيرة:
منها: ما ذكرنا من وجود السوابق التي تتوقف هي عليه، كالنظر والمشاهدة ثم التخيل، ثم التذكر، ثم التعقل، ثم الإنتقال من تعقل إلى تقعل آخر، وهكذا إلى تعقل، المبادي الفعلية، ثم تعقل وجود المبدء تعالى، ثم صفاته الجمالية، ثم الجلالية، ثم الإضافية الإلهية، ثم الافعالية، ثم الآثارية، ثم الاستغراق في شهود كبريائه وجماله، والإنخراط في سلك عبيده المهيمين في ملاحظة عظمته وجلاله، فإن الجميع مما يتوقف على فتح العين، فإن من فقد حِساً فقد علِماً، فمن جحدة فقد جحد الكل، فلم يبق فَلَك ولا مَلَك ولا حيوان ولا نبات ولا جماد ولا بر ولا بحر إلاّ ويلعنه.
ولذلك ورد في الأخبار: "إن البقعة التي تجتمع فيها جماعة إما أن تلعنهم إذا تفرقوا، أو تستغفر لهم"، وكذلك ورد في الحديث:
"إن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر" ، و "إن الملائكة يلعنون العصاة"، في ألفاظ كثيرة لا يمكن إحصائها.
وكل ذلك إشارة إلى أن العاصي بتفريطة واحدة جنى على جميع ما في الملك والملكوت، وقد أهلك نفسه إلاّ أن يُتْبع السيّئة بالحسنة، فيتبدل اللعن بالاستغفار، فعسى الله أن يتوب عليه ويتجاوز عنه، فافهم، ثم افهم.
ولنرجع إلى ما كنا فيه فنقول:
من جملة ما يتوقف عليه وجود الأنعام وسائر الحيوان فضلاً عن الإنسان مما عملته أيدي الرحمان وملائكة الله العزيز المنّان، تحصيل وجود الأطعمة حتى تصير صالحة للاغتذاء، وتستعد لأن تتصرف فيها الملائكة السبعة المذكورة أولاً.
فاعلم أن الأطعمة كثيرة، ولله في خلقتها عجائب كثيرة لا يحصى عددها، وأسباب متوالية لا يتناهي وصفها، وذكر ذلك في كل طعام مما يطول، إذ لا طعمة إما أغذية وإما أدوية وإما فواكه.
فلنأخذ الأغذية - فإنها الأصل -، ولنأخذ من جملتها الحبوب، بل حبة من الشعير أو الحنطة التي يتغذى بها الحيوان أو الإنسان، فنقول: إذا وجدت حبة أو حبّات، فلو أكلتها أو أطعمت بها دابتك لفنَتْ وبقيتَ جائعاً أو بَقيتَ دابتك كذلك، فما أحوجك أن تنمو الحبة في نفسها أو تتضاعف حتى تفي بجميع حاجاتك، فخلق الله في الحبة من القوى ما تتغذى - كما خلق فيك -، فإن النبات إنما يفارقك في الحسّ والحركة لا في الإغتذاء، ولسنا نطنب في ذكر آلات النبات في اجتذاب الغذاء إلى نفسه وامساكها، وهضمها ودفع فضولها، ولكن كلامنا في نفس الغذاء - كيف يحصل - لا في الإغتذاء به.
فنقول: كما أن الخشب والتراب لا يصلح لغذائك، بل تحتاج إلى طعام مخصوص مناسب لك، فكذا الحبة لا تغتذي بكل شيء، بل تحتاج إلى شيء مخصوص مناسب لها، بدليل أنه لو تركتها في البيت لم تزد بمجرد مصادفة الهواء، ولو تركتها في الماء لم تزد، ولو تركتها في أرض لا ماء فيها لم تزد، بل لا بد من أرض فيها ماء يمتزج ماؤها بالأرض، فيصير طيناً، وإليه الإشارة بقوله تعالى:
{ فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّاً } [عبس:24 - 25] - الآية.
ثم لا يكفي الماء والتراب، إذ لو تركتها في أرض نَديَّة صلبة متراكمة، لم تنبت لفقد الهواء، فيحتاج إلى أرض خربة متخلخلة، يتخلخل الهواء إليها، ثم الهواء لا يتحرك إليها بنفسه، فيحتاج إلى ريح يحرك الهواء ويضربه بقهر وعنف على وجه الأرض حتى ينفذ فيها، وإليها الإشارة بقوله تعالى:
{ { وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } [الحجر:22] وإنما لقاحها في إيقاع الإزدواج بين الهواء والماء والأرض، ثم كل ذلك لا يكفي لو كان في برد مفرط وشتاء شاق، فيحتاج إلى حرارة الربيع والصيف، فقد ثبت احتياج غذائها إلى هذه الأربع.
فانظر إلى ما يحتاج إليه الماء، فيسال في أرض الزراعة من البحار والعيون والأنهار والسواقي، فانظر كيف خلق الله البحار، وفجّر العيون، وأجرى منها الأنهار بيد ملائكة موكلة بها، تسمى بمَلَك البحار ومَلَك الأنهار.
ثم الأرض ربما تكون مرتفعة والمياه لا ترتفع إليها، فانظر كيف خلق الله الغيوم، فسلط الرياح عليها لتسوقها تلك الرياح بإذنه إلى أقطار العالم - وهي سحب ثقال حوامل بالماء -، ثم كيف يرسله مدراراً بيد مَلَك الأمطار على وجه الأرض في وقت الربيع والخريف على حسب الحاجة.
وانظر كيف خلق الجبال لها قوة حافظة للمياه، ومَلَكاً موكلاً بها، وآخر موكلاً بتفجير العيون منها تدريجاً، فلو خرجت دفعة لخربت البلاد وهلك الزرع والأنعام والمواشي، ونِعم الله في السحاب والجبال والبحار والأمطار لا يمكن احصاؤها وإحصاء ملائكة عمّالة لها بإذن الله.
وأما الحرارة فإنها لا تحصل من الماء والأرض - وكلاهما باردان - فانظر كيف سخّر الشمس وكيف جعلها مع بُعدها عن الأرض مسخنة للأرض في وقت دون وقت آخر، فيحصل البرد عند الحاجة إليه، والحر عند الحاجة إليه، فهذه إحدى حِكَم الشمس - والحِكم فيها أكثر من أن تحصى -.
ثم النبات إذا ارتفع عن الأرض، فإن في كثير منها انعقاداً وصلابة تفتقر إلى رطوبة غريزية تنضج وتصبغها، فانظر كيف خلق القمر وجعل من خاصيته نضج الفواكه وصبغها بتقدير الفاطر الحكيم.
بل نقول: كل كوكب في السماء فقد سخّره لنوع فائدة وحكمة، كما سخّر الشمس للتسخين، والقمر للترطيب، بل لا يخلو واحد منها عن حكم كثيرة لا تفي قوة البشر باحصائها، ولو لم يكن كذلك لكان خلقها عبثاً وباطلاً، ولم يصح قوله تعالى:
{ { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً } [آل عمران:191] وقوله: { { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ } [الأنبياء:16] وكما أنه ليس في أعضائك عضو إلاّ لفائدة فالعالم كله كشخص واحد، وآحاد أجسامه كالأعضاء له، وهي متعاونة تعاون أعضاء بدنك في جملة بدنك، وشرح ذلك يطول، وأكثر الناس غافلون عن حكم الله في السماء والأرض، جاحدون في خلقها، معرضون عن آياتها، لقوله تعالى: { { وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } [الأنبياء:32].
وتوهم بعضهم أن التفكر في حكمة ما في السموات والتدبر في آياتها يستلزم الإيمان بالنجوم المنهي عنه في الشرع، لجهلهم بامتياز هذا العلم عن علم الأحكاميين، الذين يحكمون على الكواكب بآثار أرضية في ساعات معيّنة رجماً بالغيب، بحسب تخمينات ومجازفات وتجارب ناقصة، فأحكامهم من هذه الجهة كاذبة وأن اتفقت أحياناً.
وليس كذلك علم الهيئة والهندسة والحساب من الرياضي، ولا علم السماء والعالم من الطبيعي، ولا البحث عن مبادئها وغاياتها والنظر في الآثار والحكم المترتبّة عليها كليّة من العلم الإلهي، فإن جميع ذلك من العلوم الشريفة ومن الحكمة الممدوحة في الكتاب والسنّة، إلاّ أن بعضها أشرف من بعض، وهو ما يكون أوثق برهاناً، وأعلى لِميّة، وأقصى غاية، وأرفع غرضاً وفائدة، ولذلك
"نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى السماء وتدبر في نجومها وقرأ قوله تعالى: { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران:191] ثم قال: ويل لمن قرأ هذه الآية ثم مسح بها سبلته" ومعناه أن يقرأ ويترك التأمل، ويقتصر من فهم ملكوت السموات على أن يعرف لون السماء وضوء الكواكب وذلك مما يعرفه البهائم أيضاً، فمن قنع منه بمعرفة ذلك فهو الذي مسح سبلته.
وأقول: قوله (صلى الله عليه وآله) عقيب قراءة الآية، إشارة إلى تفسير الآية ولميّة عذاب النار، المفهوم من فحواها بواسطة "الفاء" التفريعية، الدالة على أن التدبر في النجوم، والعلم بحقيقة ما في السماء يوجب الوقاية عن عذاب النار، والجهل بها والإعراض عن آياتها يوجب العذاب الدائم والحرمان عن لقائه والطرد عن رحمته، والبعد عن حضرته، فلّله في ملكوت السماء والأرض والآفاق والأنفس والحيوانات والنبات عجائب حكمة تطلب معرفتها أهل المحبة الإلهية، فإن من أحب عالماً أحب مطالعة تصنيفه، فلا يزال مشغوفاً بتصانيفه ليزداد بمزيد الوقوف على عجائب حكمته وعلمه وحاله، فكذلك الأمر في عجائب صنع الله، فإن العالم كله من تصنيفه، بل تصنيف المصنفين كلهم من تصنيفه الذي صنّفه بواسطة عباده أو كتبه في قلوب أوليائه
{ { أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ } [المجادلة:22] فلا تتعجب من تصنيف المصنّفين، بل من الذي سخّرهم للتأليف بما أنعم عليهم من هدايته وتسديده وتعريفه.
والمقصود، أن غذاء النبات لا يحصل إلاّ بالماء والهواء والشمس والقمر والكواكب، ولا يتم ذلك إلاّ بالأفلاك التي هي مركوزة فيها، ولا تتم الأفلاك إلاّ بحركاتها، ولا تتم حركاتها إلاّ بملائكة سماوية يحركونها - وكذلك تتمادى إلى أسباب قاصية - وهي حَرِيّة بأن تكون بأيدي الرحمٰن.
طريقة أخرى
اعلم أن الذي ينبت في الأرض من النبات، لا يمكن أن يقضم أو يؤكل - وهو كذلك - بل لا بد في كل واحد من اصلاح وطبخ، وتركيب وتنظيف بالقاء البعض وإبقاء البعض، إلى أمور أخرى كآلات الحصاد والتصفية (والتنقية) والنقل والتحويل مما يطول.
فأول ما يحتاج إليه الحراث (الحرث) - ليزرع ويصلح الأرض - الثور الذي يثير الأرض والفدّان وجميع أسبابه، ثم بعد ذلك التعهد لسقي الماء مدة، ثم تنقية الأرض من الحشيش، ثم الحصاد، ثم الفرك والتنقية، ثم الطحن، ثم العجن، ثم الخبز إن كان للإنسان، فكذلك إن كان للحيوان الذي له حرمة، لأن قضيمته تتوقف على الإنسان وهو يحتاج إلى الأكل.
فتأمل عدد هذه الأفعال التي ذكرناها وما لم نذكره، وعدد الأشخاص القائمين بها، وعدد الآلات التي يحتاج إليها - من الحديد والخشب والحجر وغيره - ويحتاج إليها النجار والحداد وغيرهم، الذين يعملون هذه الآلات القريبة بآلات أخرى بعيدة حديدية أو خشبية، تفتقر هي أيضاً في وجودها إلى آلات غيرها وهكذا.
فانظر إلى حاجة الحداد إلى الحديد والرصاص والنحاس، وانظر كيف خلق الجبال والأحجار، وكيف جعل الأرض قطعاً متجاورات مختلفة، فإن فتّشت علمت أن رغيفاً واحداً لا يستدير بحيث يصلح لأكلك - يا مسكين - ما لم يعمل عليه أكثر من ألف صانع، فابتدئ من المَلَك الذي يزجي السحاب لينزل الماء إلى آخر الأعمال التي من جهة الملائكة، حتى ينتهي إلى عمل الإنسان، فإذا استدار فقد عمل فيه قريب من سبعة آلاف صانع، كل صانع أصل من أصول الصنائع التي تتم بها مصلحة الخلق.
ثم تأمل كثرة أعمال الإنسان في تلك الآلات، حتى أن الإبرة - التي هي آلة صغيرة يفتقر إليها في بعض أمور الحراثة، وفي خيط اللباس للزارع الذي يمنع عنه البرد - لا يصلح صورتها من حديد يصلح للإبرة إلاّ بعد أن تمر على يد الإبَريّ خمسة وعشرين مرة يتعاطى في كل مرة عملاً.
فلو لم يجمع الله البلاد، ولو لم يسخر العباد، وافتقرت إلى عمل المنجل الذي يحصد به البُر والشعير مثلاً بعد نباته ويبسه، لنفد عمرك وعجزت عنه.
ثم إن هؤلاء الصنّاع المصلحين للآلات والأطعمة وغيرها، لو تفرقت آراؤهم، وتنافرت طباعهم - تنافر طباع الوحش -، لتبددوا وتفرقوا وتباعدوا، ولم ينتفع بعضهم ببعض، بل كانوا كالوحش لا يحويهم مكان واحد، ولا يجمعهم غرض واحد، فانظر كيف ألّف الله بين قلوبهم، ولو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم، فلأجل الألف وتعارف الأرواح، اجتمعوا وائتلفوا وبنوا المدن والبلاد، ورتبوا المساكن والدور متقاربة متجاورة، ورتبوا الأسواق والخانات وسائر أصناف البقاع.
ثم هذه المحبة مما قد تزول بأغراض يتزاحمون عليها ويتنافسون فيها، وفي جِبلّة الإنسان الغيظ والحسد والمنافسة، وذلك يؤدي إلى التقابل والتنافر، فانظر كيف سلط الله السلاطين وأيّدهم بالقوة والقدرة، وألقى رعبهم في قلوب الرعايا حتى أذعنوا لهم طوعاً أو كرهاً.
وكيف هدى الله السلاطين إلى طريق اصلاح البلاد حتى رتبوا أجزاء المدن كأنها أجزاء شخص واحد يتعاون على غرض واحد، ينتفع البعض منها بالبعض، ورتبوا الرؤساء والقضاة والسجن وزعماء الأسواق، واضطروا الخلق إلى قانون العدل، وألزموهم التساعد والتعاون، حتى صار الحدّاد ينتفع بالقصّاب، والخبّاز، وسائر أهل البلد، وكلهم ينتفعون بالحدّاد، وصار الحجّام ينتفع بالحارث، والحارث بالحجّام، وينتفع كل واحد بكل واحد، كما يتعاون جميع أجزاء البدن وينتفع بعضها ببعض.
فانظر كيف بعث الأنبياء حتى أصلحوا السلاطين المصلحين للرعايا، وعرفوهم قوانين الشرع في حفظ العدل بين الرعايا، وقوانين السياسة في ضبطهم، وكشفوا عن أحكام الإمامة والقضاء والسلطنة، وأحكام الفقه في المعاملات والمناكح والسياسات والحدود والجراحات ما اهتدوا به إلى اصلاح الدنيا، فضلاً عمّا أرشدوهم إليه من إصلاح الدين.
فانظر كيف أصلح الله الأنبياء بالملائكة - الذين هم أيدي الرحمان - وكيف أصلح الله هذه الملائكة بعضهم ببعض، إلى أن ينتهي إلى المقرّبين الذين هم أعين الله التي لا تنام، كما قال:
{ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } [الطور:48] وهكذا إلى أن ينتهي إلى الملك المقرّب الذي لا واسطة بينه وبين الله.
فالخبّاز يصلح الخبز، والطحّان يصلح الحَبّ بالطحن، والحرّاث يصلحه بالحصاد، والحدّاد يصلح آلات الحرّاث، والنّجار يصلح آلات الحداد، وكذا جميع أرباب الصناعات المصلحين لآلات الأطعمة، والسلطان يصلح الصنّاعين، والعلماء يصلحون السلاطين، والأنبياء يصلحون العلماء، الذين هم ورثة الأنبياء، والملائكة يصلحون الأنبياء إلى أن ينتهي إلى حضرة الربوبية، ويد الله التي فوق أيديهم، وقدرته النافذة في جميع المخلوقات، وسمعه وبصره وعينه التي لا تنام، وشمس وجهه الذي هو ينبوع كل حسن ونظام، ومطلع كل كمال وتمام، وغاية كل حركة وسعي واهتمام، وغاية كل معرفة وهداية وعلم وكلام، والكل من رشحات وجوده وتوابع خيره وجوده، وهو منعم جميع النعم، ورب الأرباب ومسبّب الأسباب.
فإذا تقرر عندك - أيها القارئ لكتاب الله - هذه المقدمات، وتأملت في هذه الأسباب المترتبة لخلقة الحيوان المعمولة لأجل الإنسان تأملاً كاملاً، وتدبرت فيها تدبراً شافياً، علمت بما في هذه الآية من الإشارة إلى آثار حكمة الله العظيمة وبدائع لطفه وإحسانه، والإشعار بنعمه الجسيمة وامتنانه.
فقوله: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ }: استفهام معناه الأمر بالنظر والإعتبار والحثّ على التدبر والاستبصار في الأمور التي ذكرنا شطراً منها، مما تتوقف عليها خلقة الحيوان، لينكشف على المتأمل أن أسباب خلقته لا تتم إلاّ بما عملته أيدي الرحمان، ليتمكن على قليل من شكر نعمه العظيمة، ويهتدي إلى لمعة من معرفة جوده وحكمته الجليلة.
ولولا فضله ورحمته وهدايته إذ قال:
{ وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت:69]، لما اهتدينا إلى معرفة هذه النبذة اليسيرة من نعمته وحكمته { { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ ٱلظَّالِمُونَ } [العنكبوت:49].
ولولا عزله إيّانا عن أن نطيح بعين الطمع إلى الإحاطة بكُنْه نعمه، وتحذيره وتحذير رسوله إيّانا عن التفكر في ذاته، لَتَشَوّقنا إلى طلب الإحاطة والاستقصاء بكُنْه نعمه، وتطلعنا إلى التفكر في ذاته، وطلب الإكتناه بحقيقته، لكن عَزَلنا بحكم القهر والقدرة، فقال:
{ { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [إبراهيم:34] وحذرنا بحكم الصمدية وشدة النورية التي احتجب بها، فقال: { وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ وَٱللَّهُ رَؤُوفُ بِٱلْعِبَادِ } [آل عمران:30] وقال نبيه المنذر (صلى الله عليه وآله): "تفكروا في آلاء الله ولا تتفكروا في الله" .
فإن تكلمنا فبلطفه وإذنه انبسطنا، وإن سكتنا فبغلبة نوره وقهره انقبضنا، فالحمد لله الذي ميّزنا عن الجاحدين لأنوار الربوبية والكفار، وأسمعنا في كل لحظة من لحظات العمر قبل انقضاء الأعمار نداء الملك الجبار: { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر:16].