التفاسير

< >
عرض

أَوَلَـيْسَ ٱلَذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاواتِ وَٱلأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ ٱلْخَلاَّقُ ٱلْعَلِيمُ
٨١
-يس

تفسير صدر المتألهين

وقرئ "يقدر" بصيغة المضارع بدل اسم الفاعل، وقرئ "الخالق" بصيغة اسم الفاعل بدل المضارع، يعني: من قدر على خلق مثل السموات والأرض مع عظم شأنهما، فهو على خلق مثل الأناسيّ أقدر، وفي معناه قوله تعالى: { { لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ } [غافر:57].
أما السموات فلا يخفى شرفها وفضلها، وعظم أكنافها، ووثاقة أجرامها، ولطافة جواهرها، وضياء زواهرها ودراريها، وصفاء صورها ووفور أنوارها، وعظمة أقدارها، وقوة قواها وآثارها، وسرعة دورانها وحركاتها، وقدرة نفوسها المكتفية بذاتها على إقامة تحريكاتها، وإدامة تدبيراتها، وشرافة عقولها الكاملة المكملة لنفوسها المشرقة المشوقة إياها بإيراد الاشراقات العقلية والتشويقات النوريّة عليها، من غير فتور ودثور، وكونها مزيّنة بمصابيح الكواكب ومشاعِل النيّرات لقوله تعالى:
{ { وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } [الملك:5] وكون أنوارها مطردة للشياطين والظلمات لقوله: { وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ } [الملك:5].
وعلامات يهتدي بها في ظلمات البر والبحر بقوله:
{ { وَبِٱلنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } [النحل:16].
وكونها مستضيئة بنور القمر، وجعل القمر فيهنّ نوراً، مستنيرة بسراج الشمس، وجعل الشمس سراجاً، وكونه سقفاً محفوظاً، وسبعاً طباقاً، وسبعاً شداداً، وكون صورتها مشتملة على حِكم بليغة وغايات صحيحة.
{ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً } [آل عمران:191] { { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ص:27].
وكونها مصعد الأعمال ومهبط الأنوار، وقبلة الدعاء، ومحل الضياء والصفاء، وكون ألوانها أحسن الألوان وهو المستنير، وأشكالها أفضل الأشكال وهو المستدير.
ولِما فيها من منافع البلاد ومصالح العباد، من طلوع شمسها فسهل معه التقلّب لقضاء الأوطار في الأطراف، وغروبها ليصلح معه الهدوء والقرار في الأكناف، ولتحصل الراحة وانبعاث القوة الهاضمة وتنفيذ الغذاء إلى أعماق الأعضاء. وأيضاً لولا طلوع الشمس لانجمدت المياه وغلبت البرودة والكثافة وأفضت إلى خمود الحرارة الغريزية وجمود الرطوبة الطبيعية، ولولا غروبها لحميت الأرض حتى يحترق كل من عليها من حيوان، فهي بمنزلة سراج يوضع لأهل بيت بمقدار حاجتهم، ثم يرفع عنهم ليستقروا ويستريحوا، فصار النور والظّلمة على تضادهما متظاهرين بقدرة الله على صلاح قطّان الأرض.
وها هنا نكتة: كأن الله يقول: لو وقعت الشمس في جانب من السماء من غير حركة، فالغني قد يرفع بناءَه على كوة الفقير فلا يصل إليه، لكني أدير الفلك وأسيرها حتى يجد الفقير نصيبه كما وجد الغني نصيبه.
وأما ارتفاع الشمس إلى سَمْت الرأس تارة وانحطاطها عنه أخرى، فقد جعله الله سبباً لإقامة الفصول الأربعة.
وأما القمر فهو تلو الشمس وخليفتها، وبه يعلم عدد السنين والحساب، ويضبط المواقيت الشرعية، ومنه يحصل النماء والرواء، وقد ذكرنا في هذه السورة كثيراً من فضائلهما وخيراتهما.
وأما الأرض فلعجائبها وغرائبها، ومن جبالها ومعادنها، وبحارها ودررها وجواهرها، ومن كونها فراشاً ومهاداً، وكونها ذَلولاً ليمشوا في مناكبها، وجعلها ساكنة في الوسط، وقوراً لا تنزعج ولا تتكلم من توارد الأثقال، ومن إرساء الجبال فيها أوتاداً تمنعها من أن تميل، ثم توسيع أكنافها حتى عجز الآدميون عن بلوغ جميع جوانبها وإن طالت أعمارهم وكثر تطوافهم، فيكون لهم فراشاً لقوله تعالى:
{ { وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَٱلأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ ٱلْمَاهِدُونَ } [الذاريات:47 - 48]. وقوله: { جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً } [البقرة:22]. أي وسّع أكنافها لتكون بساطاً فراشاً، وإلاّ فلا يمكن الإفتراش عليها لكرويتها.
ولو لم يكن في حيّزها الطبيعي في وسط الأفلاك، ولم تكن ساكنة في حيّزها الطبيعي، لم يمكن الاستقرار عليها وذلك لأن الأثقال تميل بالطبع إلى تحت كما أن الخفاف تميل بالطبع إلى فوق، والفوق من جميع الجوانب ما يلي السماء، كما أن التحت ما يلي المركز، فإذن لا حاجة في سكون الأرض إلى علاقة من فوقها، ولا إلى دعامة من تحتها، بل يكفى إرادة مبدعها وإفادته لها ميلاً طبيعياً مستنداً إلى أمر آلهي ركزه فيها، فأمالها إلى الوسط الحقيقي بإرادته واختياره وحكمته وعدله الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض، وبقدرته التي تمسك السموات والأرض أن تزولا، ولئن زالتا إن امسكهما من أحد من بعده.
ومن عجائب خلقة الأرض، كونها لا في غاية الصلابة كالحجر ليمكن الزراعة عليها، وحفر الآبار والقنوات فيها، واتخاذ الأبنية منها، ولا في غاية اللين والإنغمار (الانفحاء - الإنغماء) كالماء ليسهل النوم والمشي عليها، وبناء الدور والبيوت عليها.
ومنها: كونها لا في نهاية اللطافة لتستقر عليها الأنوار، ولا في غاية الصلابة لئلا ينعكس عنها ساطع الشعاع بالكلية، بل نحو من الإقتصاد لينفذ فيها شيء من الأشعة السماوية، المولدة لمواد الصور والنفوس الأرضية.
ومنها: جعلها (جعل بعضها) بارزة من الماء، مع أن طبعها الغوص فيه، ليصلح تعيّش الحيوانات البرية عليها.
ومنها: كونها قابلة للأشياء المتولدة فيها من المعادن والنبات والحيوان والآثار العلوية والسفلية، مما لا يعلم تفاصيلها إلاّ موجدها.
ومنها: أن يتخمر التراب الرطب به فيحصل التماسك في أبدان المركبات.
ومنها: اختلاف بقاعها في الرخاوة والصلابة والرمانة والوعورة بحسب اختلاف الأغراض والحاجات
{ { وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ } [الرعد:4].
ومنها: اختلاف ألوانها
{ وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } [فاطر:27].
ومنها: انصداعها بالنبات
{ { وَٱلأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ } [الطارق:12].
ومنها: جذبها للماء المنزل من السماء
{ { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي ٱلأَرْضِ } [المؤمنون:18].
ومنها: العيون والأنهار العظام التي فيها
{ { وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَاهَا } [الحجر:19].
ومنها: أن لها طبع الكرم والسماحة، تأخذ واحداً وتعطي سبعمائة
{ { كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ } [البقرة:261].
ومنها: حياتها وموتها
{ { وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلأَرْضُ ٱلْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا } [يس:33].
ومنها: كون ظهرها مَقَراً للأحياء وبطنها موطن الأموات
{ { أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَآءً وَأَمْواتاً } [المرسلات:25 - 26].
ومنها: تكوّن الدواب المختلفة فيها
{ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } [لقمان:10].
ومنها: النباتات المتنوعة
{ { وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ق:7]. فاختلاف ألوانها آية، واختلاف طعومها آية، واختلاف روائحها آية.
ومنها: قوت البشر وقوت البهائم
{ { كُلُواْ وَٱرْعَوْا أَنْعَامَكُمْ } [طه:54].
ومنها: الطعام والآدام، ومنها الدواء، فانظر كيف أودع في عقاقيرها المنافع الغريبة، فهذا النبات يغذي، وهذا يقوي، وهذا يحيي وهذا يقتل، وهذا يُمرض وهذا يُصِح، وهذا يُبرد وهذا يُسخن، وهذا يقمع الصفراء من أعماق العروق وهذا يولد الصفراء، وهذا يسهلها وهذا يستحيل إليها، وهذا يدفع البلغم وهذا يقمع السوداء، وهذا يحيل إليها، وهذا يزيد في الدم، وهذا يطفيه، وهذا يفرح، وهذا يقوم وهذا يضعف.
ومنها: الفواكه، ومنها كسوة البشر نباتية كالقطن والكتان، وحيوانية كالشعر والصوف والإبريسم والجلود.
ومنها: الأحجار المختلفة بعضها للزينة وبعضها للأبنية، فانظر إلى الحجر الذي تستخرج منه النار مع كثرته، وانظر إلى الياقوت الأحمر مع عزته، وانظر إلى كثرة النفع بذلك الحقير، وقلة النفع بذلك الخطير.
ومنها: ما أودع الله فيها من المعادن الشريفة كالذهب والفضة، ثم تأمل أن البشر استنبطوا الحِرَف الدقيقة والصنائع العجيبة، واستخرجوا السمك من قعر البحر، واستنزلوا الطير من أوج الهواء، لكن عجزوا عن اتخاذ الذهب والفضة، والسبب فيه أن معظم فائدتهما ترجع إلى الثمنية، وهي لا تحصل إلاّ عند العزة، والقدرة على اتخاذهما تبطل الحكمة، ولهذا ضرب الله دونهما باباً مسدوداً، ولهذا اشتهر في الألسنة "من طلب المال من الكيمياء أفلس"، إلى غير ذلك من الخيرات العظيمة والآثار العجيبة المترتبة على وجود الأرض، ولهذا أكثر الله في كتابه ذكر الأرض، ليتفكر الإنسان في عجائبها، واعترف بمدبر حكيم ومقدر عليم إن كان ممن يسمع ويعي ويبصر ويعتبر.
تذكرة عرفانية فيها تبصرة فرقانية
اختلفوا في أن السماء أفضل أم الأرض؟ قال بعضهم: السماء أفضل لأنها معبد الملائكة، وما فيها بقعة عصي الله فيها، ولما أتى آدم (عليه السلام) بتلك المعصية اهبط من الجنة، وقال: لا يسكن في جواري من عصاني، وقال:
{ { وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً } [الأنبياء:32] وقال: { { تَبَارَكَ ٱلَّذِي جَعَلَ فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجاً } [الفرقان:61] وورد في الأكثر ذكر السماء مقدماً على ذكر الأرض، والسموات مؤثرة والأرضيات متأثرة - والمؤثر أشرف من المتأثر -.
وقال آخرون: الأرض أفضل، لأنه تعالى وصف بقاعها من الأرض بالبركة
{ { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً } [آل عمران:96] { { فِي ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَارَكَةِ } [القصص:30] { { إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [الإسراء:1] { مَشَارِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } [الأعراف:137] يعني وصف الشام.
ووصف جملة الأرض بالبركة:
{ وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا } [فصّلت:10] إذ ما فيها إلاّ وهو مساكن خلق لا يعلمهم إلاّ الله، حتى المفاوز المهلكة، فلهذه البركات قال: { وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } [الذاريات:20] تشريفاً لهم لأنهم هم المنتفعون، كما قال: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة:2].
وخلق الأنبياء من الأرض:
{ { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } [طه:55] وأكرم نبيّه المصطفى (صلى الله عليه وآله)، فجعل الأرض كلها مسجداً له وترابها طهوراً، ولما خلق الأرض وكانت كالصدفة والدرة المودعة فيها آدم وأولاده، ثم علم الله أصناف حاجاتهم، قال: يا آدم لا أحوجك إلى شيء غير هذه الأرض التي هي لك كالأم الرحيمة، فقال: { { أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً } [عبس:25 - 27] الآية. { { وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ } [البقرة:22].
يا عبدي، إن أعز الأشياء عندك الذهب والفضة، ولو أني خلقت الأرض منهما هل كان يحصل منهما هذه المنافع، ثم إني جعلت هذه الأشياء في الدنيا مع أنها سجن لك، فكيف الحال في الجنة.
فالحاصل أن الأرض لك كالأم بل أشفق لك من الأم، لأن الأم تسقيك نوعاً واحداً من اللبن، والأرض تطعمك ألواناً من الأطعمة والأشربة قال:
{ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } [طه:55] معناه نردّكم إلى هذه الأم، وليس هذا بوعيد، لأن المرء لا يُتَوَعّد بأمه، وذلك لأن مقامك في الأم التي ولدتك أضيق من مقامك من الأرض، ثم أنك كنت في بطن الأم تسعة أشهر وما مسّك جوع ولا عطش، فكيف إذا دخلت بطن أمك الكبرى؟ ولكن بشرط أن تدخل بطن الأم الكبرى كما كنت في بطن الأم الصغرى، إذ ما كانت لك زلّة - فضلاً من أن يكون لك كبيرة - بل كنت مطيعاً لله، فحيث دعاك مرة بالخروج إلى الدنيا خرجت إليها بالرأس طاعة منك لربك، واليوم يدعوك سبعين مرة إلى الصلاة فلا تجيبه برجلك.
وها هنا أسرار شريفة لا يمكن التصريح بها لدقتها وشرفها، وقصور الإفهام عن دركها، فكتمناها عن الأغيار، وضَنَنّا بها على أهل الإغترار بظواهر الآثار، وقد قيل: "صدور الأحرار قبور الأسرار".
ظل فرشي لتمهيد نور عرشي
وفي قوله: { أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } ذكروا معنيين:
أحدهما: إنه قادر أن يخلق مثلهم في الصغر والحقارة بالإضافة إلى السموات والأرض.
وثانيها: انه يقدر على أن يعيدهم تارة أخرى، لأن المُعاد من الإنسان مثل المبتدء وإن لم يكن هو بعينه، وكلا الوجهين لا يخلو عن ضعف.
أما الأول: فلأن بناء كمال القادرين ونقصهم في الخلق وقوتهم وضعفهم من الإيجاد، ليس على عظم مقادير الجثث في المقدورات وصغرها، حتى يكون كل ما هو أعظم مقداراً أكمل خلقه وأجل صنعاً وأدلّ شهادة على قدرة القادر وعظمة الخالق، وإلاّ لزم أن يكون تكوين الجمادات العظيمة المقادير، أفضل وأصعب من تكوين الإنسان، واللازم بديهي البطلان، لوجود بدائع الفطرة وشواهد الحكمة في خلقته أكثر من أن تحصى.
بل كمال لقدرة القادر، وعظمة الصانع، إنما تكون بفضيلة الوجود في المقدور، وفضيلة الوجود إنما تظهر بكثرة ترتب الآثار الحسنة، ووفور الخيرات اللازمة وبدائع المنافع الدائمة، وفضيلة السماويات على العنصريات ليست بعظمة الجثة وزيادة المقدار، بل بفضيلة الوجود وكثرة الآثار والأنوار، وبقوام الصنعة ودوام الخلقة، ووثاقة الجوهر وثبات الوجود، وخلوص الصورة عن الآفة والكدورة عن طريان الضد والمفسد للذّات والصفة.
وأما قوله تعالى:
{ { لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [غافر:57] فليس فيه دلالة على عظمة الخلق وفضيلة الإيجاد، لما ذكرنا من دوام (قوام) صورتها وشرافة طبائعها، لا لكبر جرمها وعظم مقدارها فقط، كما يدلّ عليه قوله: { { وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [غافر:57].
وأما الثاني: فلأن مبناه على أن الشخص من الإنسان في النشأة الثانية غير هذا الشخص الذي كان في الدنيا، وهذا مما يوجب مفاسد شتى، مثل أن يكون المثاب أو المعاقب في الآخرة غير الذي فعل الطاعات أو المعاصي في الدنيا، وهذا هو الظلم بعينه، وغير ذلك من المفاسد، وهو في الحقيقة نفي للمعاد لا إثبات له.
اللهم إلاّ أن يعتذر عن الأول، بأن الكلام مع العوام الذين درجتهم درجة البهائم والأنعام، لا يعرفون كمال القدرة إلاّ في خلق الأجسام العظيمة المقدار، لعدم اهتدائهم بوجوه المصالح والمنافع التي تكون في خلق الإنسان، ومن عادة القرآن إيراد المقدمات المقبولة للطبائع الجمهورية مع اشتمالها على البرهانيات القطعية العظيمة النفع لطالب الحق حقيقة.
ولو بواسطة الآلات في الجملة، وهو باق بعينه، وكذا الأجزاء الأصلية في البدن، وهذا كما يقال للشخص من الصبا إلى الشيخوخة: "إنه هو الذي كان صبيّاً" فهو بعينه وإن تبدلت جثته وتغيرت أشكاله وهيئاته، بل كثير من أعضائه وآلاته، ولهذا لا يقال لمن جنى في الشباب فعوقب في المشيب: "إن العقوبة بغير الجاني".
وستسمع منّا كلاماً في تحقيق المعاد، ألهمني الله تعالى بنوره المشرق في قلب من أراد من العباد، وهو الملهم للحق والجواد المطلق، وقد أثبتنا مسائل مَعَادِيّة في مواضع متفرقة في تفاسير الآيات بحسب ما يليق بكل آية من المعارف الأخرويات، ينبغي لطالبي الحقيقة وسالكي الطريقة أن يتناولوا منها ما يتعلق بهذا الباب، مستعينين بالله في نيل الثواب.
اشراق نور برهاني لاراءة سر قرآني
إن الذي تستحسنه العقول الزكية، المستشرقة بأنوار المعارف القرآنية، وتستقبله القلوب المهتدية بأسرار الحقائق الإيمانية، أن النكتة في قوله تعالى: { أَوَلَـيْسَ ٱلَذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاواتِ وَٱلأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } هي أنه لما تقرر عند أهل الحكمة والبرهان، وأصحاب المكاشفة والعرفان، بالمقدمات التي بعضها حدسية وبعضها برهانية، أن الإنسان بجميع أجزائه وأعضائه متحد الحقيقة بالعالم بجميع أبعاضه وأفراده، أعني مجموع السموات والأرض بما فيهما، وأن الإنسان عالم صغير، والعالم إنسان كبير، فالمضاهاة بينهما ثابتة والمماثلة فيهما متحققة.
وقد ثبت أيضاً في العلوم النظرية، أن كل حكم ثبت لبعض أفراد حقيقة واحدة فقد أمكن ثبوته لسائر الأفراد البتة.
فلهذه المضاهاة والمماثلة الثابتة بين مجموع السموات والأرض وبين الإنسان، جعل إيجاد أحدهما دليلاً على امكان ايجاد الآخر، وإذا كان الفرد الذي ثبت كونه مخلوقاً له تعالى إنساناً كبيراً أكبر من سائر الأفراد، فيثبت بالطريق الأولىٰ كون الأفراد الصغيرة مما يمكن أن تكون مخلوقة له، وكونه قادراً عليها.
فالضمير في "مثلهم" راجع إلى الإنسان، ولفظ "المثل" إشارة إلى كل ما هو مماثل له في الحقيقة النوعية، أعم من أن يكون المراد منه هذه الأفراد التي تحقق وجودها أولاً في الدنيا أو غيرها مطلقاً حتى يثبت صحة الإعادة في هذه الأفراد على طريق الانسحاب الكلي والشمول العمومي، كيف وقد صدق على كل فرد من الناس أنه مثل للإنسان المطلق، كما أنه ثبت أنه عين له، لكونه نوعاً منتشراً غير محصور في واحد، على أن كل شيء يصدق عليه أنه مثل نفسه، وكذا مثل مثله بحسب جواز التغاير الإعتباري بين الشيء ونفسه.
ثم من المحتمل الجائز أن يكون ضمير الجمع راجعاً إلى مجموع السموات والأرض بحسب التغليب لذوي العقول - أعني السموات - على غيرهم، - أعني الأرض - لما ثبت برهاناً وكشفاً وقرآناً وسمعاً أن السموات أحياء ناطقون وعلماء عارفون بالله، عابدون له، خاضعون لعظمته، سالكون في سبيله، واجدون أنوار لطفه، نائلون أشعة رحمته، منتظرون لأمره، فإذا كان ضمير الجمع لمجموع السموات والأرض، وكان الإنسان مماثلاً للمجموع من حيث هو مجموع كما مرّ من كونه عالماً صغيراً وكون المجموع إنساناً كبيراً.
فإذا تحقق كونه تعالى قادراً على خلق العالم الكبير والإنسان الكبير فقد ثبت كونه تعالى قادراً على ما هو مثله وهو الإنسان الصغير، والعالم الصغير مطلقاً في أي وقت أراد وشاء ابتدائياً، كان أو إعادياً على طريق الأوْلىٰ، لأن إيجاد الأكبر أعظم وأشد من ايجاد الأصغر.
تتمة فيها تبصرة
ثم أجاب سبحانه عن الاستفهام الذي مفاده التقرير والتحقيق، وفحواه طلب الإذعان والتصديق بقوله: "بلى" أي: بلى هو قادر على خلق مثلهم، وهو الخلاّق الذي ذاته بذاته خلاّق الأشياء، وحقيقته بحقيقته فياض الوجودات، إلاّ أنه ماهية يزيد عليها صفة الخلاّقية.
وهو العليم بذاته، يعلم الأشياء كلها، كلياتها وجزئياتها، ثابتاتها ومتغيراتها، مفارقاتها ومادياتها، قبل وجودها ومعها وبعدها، إذ علمه الذي هو عين ذاته سبب وجود الأشياء، فإذا علم من ذاته صورة الحكمة في الأشياء، ووجه المصلحة في الموجودات، كان علمه بنظام الخير كافياً في صدور الأشياء على النظم البديع المتضمن لوجوه المصلحة والحكمة على أفضل وجه وأتقنه، وأحكم نظام وأتمّه.
ومن جملة الحكمة إنشاء النشأة الآخرة، وإلاّ بطلت الغايات الحقيقية، وفسدت الأغراض الإلهية المترتبة على وجود الإنسان وبقائه، وانفسخت الفوائد المتصورة على عقله وتكليفه وفكره ووهمه، واضمحلت الآثار التابعة لمشاعره وحواسه، وانقطعت المجازات الأخروية اللائقة عن فعله وتركه وطاعته ومعصيته، وكان وجوده من الله هباءاً وهدراً، وخلق الأقدار والتمكين فيها سفهاً وعبثاً، وحسناته معطلة ضائعة، وسيئاته وقبائحه غير محسوسة ولا مستتبعة للوازمها وتبعاتها.
فأين حكمة الله في وجودها، وأين عدل الله في الأنام، وقد قال:
{ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ق:29] { { ذَلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ } [ص:27] وذلك ظنّ من لم يتصور أن لكل فعل غاية حكمية، ولكل حركة نهاية طبيعية.
والحكماء الآلهيون باحثوا عن غايات الأشياء وأشواق الموجودات، وتوجهاتها إلى عواقبها وثمراتها ونتائجها، وكما أن لكل قوة وطبيعة ووهم وتخيل وتعقل مبدء فاعلي يتقوّم به وجودها، فكذلك لكل منها غاية ذاتية تستعقبها وتستتبعها، فللإنسان بما غرز في طباعه من الآلات والمشاعر والقوى العلمية والعملية أفاعيل وآثار، ولها ملحقات وثمرات وعواقب وتبعات بعضها دنيوية وبعضها أخروية، وللغايات الدنيوية أيضاً غايات ولغاياتها غايات أخرى حتى تنتهي إلى عاقبة العواقب وتنجر إلى آخر الغايات، وهي لا تكون إلاّ في الدار الآخرة عند الله.
وإبطال الغاية يوجب ابطال المبدء، ولكل مبدء مبدء حتى ينتهي إلى مبدء المباديء، وهو ذات الصانع جلّ اسمه، وبإبطال الأسباب والغايات والمبادئ والنهايات ينسد باب معرفة الله وإثبات الصانع، فمن كفر بنعمة الله والدار الآخرة فهو كافر به تعالى، ومؤمن بالطاغوت الذي هو من سنخ هذه النشأة الفانية
{ { ذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ ٱلُخَاسِرِينَ } [فصلت:23].
موعد تحقيقي
أن الإعتقاد منّافي أمر الإعادة هو أن المُعاد في المعاد هو الإنسان بمجموع النفس والبدن، وأن هذا البدن المعين الشخصي يعاد في الآخرة مع النفس دون بدن آخر، - كما ذهب إليه قوم - وهذا هو الإعتقاد الحق في المعاد، المطابق للشرع الصريح والعقل الصحيح، فمن صدّق وآمن بهذا، فقد أصبح مؤمناً حقّاً وآمن بيوم الحساب والجزاء، والنقصان عن هذه المرتبة خلل في أحد أركان الإعتقاد، وقصور في الإيمان بالمعاد، وإظهار شيء من خبايا هذا المطلب الحقيق بالتحقيق وإخراج علق نفيس من هذا البحر الطافي العميق، يستدعي تشييد أصول وتمهيد فصول:
الأصل الأول
أن تحصل كل ماهية نوعية وحقيقة تركيبية إنما كان بمبدء فصله الأخير، وأما مبادئ باقي فصوله وأجناسه القريبة والبعيدة فهي بمنزلة اللوازم والتوابع، وإنما دخولها في مفهوم الحد بما هو حدّ دون المحدود، كما قرّرناه في أسفارنا الإلهية.
وكثيراً ما يكون في الحد زيادة على المحدود، كما صرح به صاحب الشفاء وغيره، ومثّلوا ذلك بتحديد القوس من الدائرة، والأصبع من الإنسان، حيث يدخل في تحديد القوس الدائرة لا في ذات المحدود، وكذا يدخل في تحديد الأصبع الإنسان مع خروجه عن ذات الإصبع، بل مفهوم العرض هكذا، حيث يدخل في حده الموضوع دون ذاته، وكذلك كل مركّب طبيعي له صورة منوعة هي مبدء فصله الأخير، إنما يكون تحصله وتقومه من حيث حقيقته (المطلقة بنفس صورته المقومة لها) وأما المادة، فإنما الحاجة إليها لحمل صورة الماهية لأجل قصور وجودها الخارجي العنصري عن الاستقلال، وضعفه عن الإكتفاء بنفسه وبمبادئه المقومة إياه كالفاعل والغاية، وانحطاط مرتبة شخصيته عن أن يكون مجرداً عن العوارض الغريبة، فلأجل كونه في وجوده العنصري مستصحباً لعوارض - مسماة بالمشخصات - عرضت لحقيقة ذاته أن يفتقر إلى المادة الحاملة لأعراضها المفارقة، وإلاّ فكل ذي حقيقة فهو - بما هو حق - مستغنى القوام عن المادة ولواحقها، إلاّ بسبب أمر غريب عارض لها، كالقصور عن البلوغ إلى كمال ذاته، والنقصان عن الوصول بتمام ماهيته، لأن المادة في كل شيء من حيث هي مادة له، مستهلكة في صورته، إذ نسبتها إلى الصورة نسبة القوة إلى الفعل، ونسبة النقص إلى التمام، لأنها مأخذ للجنس، ونسبة الجنس إلى الفصل بحسب تحصّل الماهية نسبة المادة إلى الصورة في تحصّل الوجود.
فكما أن الجنس ماهيّة ناقصة للنوع، فالمادة وجود ناقص له، فالخشب في كونه مادة للسرير مطلقاً لا يدخل فيه التعيّن الخشبي ولا غيره، وكذا حكم جميع المواد.
ولهذا حكم بعض من له توقّد في الطبع وصفاء في الذهن، بالاتحاد التّركيبي بين المادة والصورة، والسرّ فيه عموم المادة وإبهامها، بحيث يشتمل في صدقها على الأشياء وتحققها لنفس الصورة المفردة بلا قرينة - كما حقق مثله في معنى المشتق -، فلو أمكن وجود الصورة مجرداً عن المواد لكان الحقيقة بحالها كما في المثل الأفلاطونية والصور المفارقة، فالعالم عالم بصورته، والإنسان إنسان بروحه المدبّرة لا ببدنه.
الأصل الثاني
إنّ تشخص بدن الإنسان المعيّن الشخصي من حيث هو بدنه، إنما هو بنفسه التي هي نحو وجوده، وصورته المقومة مرتبة ما من آحاد المقادير، ووضع ما من أفراد الأوضاع، وكيفٌ ما من أفراد الكيفيات، وأينٌ ما من أعداد الأيُون، من غير أن تشترط خصوصية كل من أفراد هذه المقادير والأوضاع والكيفيات والأُيُون إلاّ في خصوصيات أزمنة مدة البقاء.
وقد بينّا في بعض شروحنا للكتب النظرية أن الموضوع للحركة الكمية، كالنمو والذبول، هو شخص الإنسان المتقوم من نفس واحدة متعينة مع مادة مبهمة الذات والكمية، وما تقع فيه تلك الحركة هي خصوصيات الكميات.
وبنينا ذلك على أن المعتبر في تشخص الإنسان هو وجود نفسه التي هي صورة ذاته، وهي الباقية عند تبدل أعضائه من الطفولية إلى الشباب والشيب، فما دامت النفس الشخصية باقية يكون الإنسان الشخصي باقياً وإن تبدّلت أعضائه كلاّ أو بعضاً.
وكما أن تشخص ذاته بنفسه، فكذا تشخص بدنه - أعني هذا الجسم الطبيعي بالمعنى الذي هو مادة - وكذا تشخصات أعضائه أيضاً بالنفس السارية قواها فيها، فاليد والرجل وسائر الأعضاء ما دامت تقومها النفس بقواها وتدبرها وتحركها، ويصل إليها مدد الفيض منها وبها، وهي مضافة إليها إضافة طبيعية لا قسرية ولا عرضية، فهي متعينة بها بأنّها يدها، ورجلها، وأعضائها، وإن تبدلت خصوصيات مقادير كل منها، وآحاد كيفياتها وأوضاعها، بعدما انحفظت نسبتها الطبيعيّة إلى النفس الواحدة المعينة المستمرة من أول العمر إلى آخره.
فالبدن له اعبتاران: اعتبار كونه بدناً لهذه النفس، واعتبار كونه حقيقة في حد ذاته وجوهره من جملة أجسام العالم، فهو بالإعتبار الأول باق مستمر ببقاء النفس التي هي صورة ذاته وعلة وجوده وغاية تكونه، وهو بالإعتبار الثاني زائل فاسد متبدل، وكل نمو وذبول وزيادة ونقصان عليه.
فلو سئل سائل وقال: هل بدن زيد - مثلاً - في وقت الشباب هو بعينه بدنه في وقت الطفولية؟
فالجواب بـ "لا" و "نعم" كلاهما صحيح، كل من السلب والإيجاب صادق بوجه دون وجه، فهو من حيث هو بدن زيد شخصي ذو نفس شخصية صحّ أنه هو بعينه ذلك البدن بلا تبدل إلاّ في عوارض هذا المعنى بما هو هدا المعنى، ومن حيث إنه جسم له طبيعة جسمية - مع قطع النظر عن ارتباطه بأمر آخر - فهو في كل سنة غير الذي كان في السنة الأخرى، بل في كل ساعة ولحظة هو غير الذي كان وسيكون لكونه دائماً في التحلل والذوبان.
فإذا حكمت هذا فاعلم إنه إذا فرض تبدل هذا البدن بالبدن الآخر مع بقاء النفس فيهما، صحّ قولك بأن أحدهما بعينه هو الآخر، وصحّ اعتقادك بأن ما يرى في المنام بعينه هو هذا البدن المتعين، ولا عبرة بتبدل المواد والخصوصيات، أَوَلاَ ترى أن النبي (صلى الله عليه وآله) شخص واحد، وقد يرى في ليلة واحدة لألف رجل بهيئات وأشكال مختلفة، يرى لكل واحد منهم بوضع خاص من الشيب والشباب مخالف لما يرى لغيره، ومع ذلك فكل من يراه في المنام فقد يرى شخصه وذاته، لأن الشيطان لا يتمثّل بصورة النبي (صلى الله عليه وآله) مع أن جسده العنصري مدفون في روضة المدينة لم يتحرك من مرقده الشريف، وذلك لأن حقيقته المقدسة ليست إلاّ روحه المطهرة مع أيّ بدن كان.
فكل من رأى ببصره القلبي نفسه المقدسة مع أي تمثّل كان، فقد رأى صورة ذاته بعينه، لأن العبرة بتعيّن الشيء هي نفسه وصورته مع أيّة مادة كانت، والبدن بمنزلة الآلة المطلقة للنفس والمادة المطلقة لحقيقة صورة الإنسان، والآلة من حيث هي آلة إنما تتعين بذي الآلة، وكذا المادة وجودها في غاية الإبهام، وإنما تتعين بالصورة وتستهلك فيها.
ولهذا تكون شخصيّة زيد وتعيّنه باقياً مستمراً من أول صباه إلى آخر شيخوخته، مع أن جسميّته مما تبدلت وتجددت بحسب الاستحالات والأمراض، وكذا جسميّة كل عضو من أعضائه، وكما أن زيداً الشخصي بمجموع ما يدخل في قوام هويّته من النفس والبدن باق مستمر، فكذا جسميته وبدنه أيضاً من حيث كونه بدناً له، ومرتبطاً به ارتباطاً طبيعيّاً، موجود شخصي واحد مستمر من أول العمر إلى آخره، وإن تبدلت ذاته بذاته من حيث جسميته لا من حيث بدنيّته، لما علمت من الفرق بين الإعتبارين، فأتقن هذا كي ينفعك في كثير من المطالب:
منها: إثبات الحشر الجسماني وإحياء عظام الموتى وهي رميم.
ومنها: حشر بعض الناس بصورة القردة والخنازير، مع كون المحشور هو بعينه الذي كان في الدنيا متصوراً بالصورة الإنسانية، وفيه سرّ آخر.
ومنها: كون شخص من الإنسان حين تجرده عن المواد والأبدان لم تبطل شخصيّته، بل يكون حين تجرده عنها وحين تعلّقه بالبدن هو بعينه شيئاً واحداً شخصيّاً.
الأصل الثالث
إن تشخص كل شيء بنحو وجوده الذي يخصه، سواء كان مجرداً أو مادياً، وما اشتهر من كون المشخّص في الماديات هي العوارض المادية، فإنما هو بمعنى آخر، وهو أن كل شخص مادي يلزمه ما دام وجوده المادي كمية ما، وكيفية ما، ووضع ما، وأين ما، وزمان ما، من حد خاص إلى حد خاص يناسب قوته وبقاءه في عالم الطبيعة، فهي من لوازم كونه الطبيعي وإمارات وجوده الدنيوي، وليس أن لا يتصور بقاء شخص بعينه بدون تلك الأعراض، بل يمكن تصور ذلك فيما له إمكان أن يتقوى وجوده ويستكمل بحيث يستغني بعلّته المفيضة (الفياضة) عن المقارنات والمعاونات الغريبة والأسباب الحسية المادية.
كما في الصور الإنسانية عند تجردها واستقلالها، فإن الصورة الإنسانيّة في أول التكون، لم تكن إلاّ متعلقاً بالمادة البدنية، لأنها كانت نطفة ثم علقة ثم مضغة، ثم نباتاً، ثم حيواناً، ولكن بفضل الله ورحمته أنشأ فيها النشأة الآخرة الإنسانية، وأعطاها جناحين تطير بهما إلى صقع الملكوت متى قويت قوتها بالأغذية الروحانية، وخلعت عن ذاتها اللباس الحسي، ونفضت عن أطرافها هذه السلاسل والأغلال، بل النفس - وهي بعد في هذه الغواشي الهيولانية - تكاد تترك عالم الأجسام كلها وعوارضها جملة مع بقائها شخصاً.
الأصل الرابع
إن الوحدَة الشخصية في الجواهر المجردة، يجامع قبول التطور بالأطوار المختلفة، والتشأن بالشؤون المتعددة، والإتصاف بصفات متضادة، وليس الجوهر الجسماني في قبول سعة دائرة الوجود له كالجوهر الروحاني، فإن الجسم الواحد يستحيل أن يجتمع عنده أوصاف متضادة وأعراض متقابلة، وذلك لضيق وعائه الوجودي.
أوَلاَ ترى أن الجوهر الناطق من الإنسان مع وحدتها الشخصيّة جامعة للتجسم والتجرد، حاصرة للسعادة والشقاوة، وهي مع وحدتها حائزة للحس والخيال والعقل، وكل منها يكون من عالم آخر، وهي الحسّاس والمتخيّل والمتعقّل والمتحرك والساكن وغيرها من الحالات التي كلّ منها في عالم من العوالم.
وربما يكون في وقت واحد مَلَكاً مقرباً باعتبار، وشيطاناً مريداً باعتبار آخر، وذلك لأن إدراك كل شيء هو أن ينال حقيقة ذلك الشيء المدرك بما هو مدرك، بل بالاتحاد معه كما يراه طائفة من العرفاء المحققون من الحكماء، كَفُرْ فُورِيوس مقدَّم المشّائين، وصرح به أبو نصر الفارابي في كتبه، واعترف به أبو علي بن سينا في كتابه المسمى بالمبدء والمعاد، وفي موضع من آلهيات الشفاء أيضاً، حيث قال: "ثم كذلك حتى تستوفي في نفسها هيئة الوجود كله، فتنقلب عالماً معقولاً موازياً للعالم المحسوس كله، مشاهدة لما هو الحسن المطلق والخير المطلق، والجمال المطلق ومتحدة به ومنتقشة بمثاله وهيئته، ومنخرطة في سلكه وصائرة من جوهره" انتهى.
ومن له قدم راسخ في تحقيق الحقائق المتعلقة بمعرفة النفس، يعلم أن المدرك بجميع الإدراكات، والفاعل لجميع الأفاعيل الواقعة من الإنسان على سبيل المباشرة، هو النفس الناطقة النازلة إلى مرتبة الحواس والآلات والأعضاء، والصاعدة إلى مرتبة العقل الفعّال في آن واحد، وذلك لسعة دائرة وجودها وبسط جوهريتها وانتشار نورها في الأطراف والأكناف للبدن، بل تطور ذاتها بالشؤون والأطوار، وظهورها في مظاهر الأعضاء والقوى والأرواح، وتنزّلها بمنزل الأجسام والأشباح مع كونها من سنخ الأنوار وعالم الأسرار.
فمن هذا الأصل، تبيّن وتحقق كون شيء واحد تارة مجرداً وتارة مادياً، وما اشتهر من متأخري المشّائين أن شيئاً واحداً لا يكون له إلاّ أحد نحوي الوجود - الرابطي أو الاستقلالي - غير بيّن ولا مبرهن عليه، بل الحق خلافه، نعم، لو أريد منه أن الوجود الواحد من جهة واحدة لا يكون ناعتياً وغير ناعتي لكان صحيحاً.
الأصل الخامس
إن الصور والمقادير، كما تحصل من المبدء بحسب استعداد القابل والجهات الإنفعالية، كذلك تتحصل منه بمجرد الجهات الفعلية وتصورات الفاعل والحيثيات الفاعلية، من غير مشاركة مادة ما واشتراط حركة ما واستعداد عنصر ما، ومن هذا القبيل وجود الأفلاك والكواكب وكليّات الطبائع والأنواع، حيث وجدت من المبادئ العقلية بمحض تصورات المباديء كيفية وجودها ونظامها، وكما أن للأوهام تأثيرات في العالم الإنساني أحياناً ما دامت النفس في هذه الدنيا، فحكم تعقلات المبادئ في سببيتها لوجود الأجرام والأشكال، وحكم تصورات النفس في الدار الآخرة هكذا.
وإن سألت الحق، فالصور الخيالية صادرة عن النفس بقوتها الخيالية، وهي ليست موجودة في هذا العالم، وإلاّ لرآها كل سليم الحس لأنها من جنس المحسوسات، ولا أنها قائمة بالجرم الدماغي - كما زعمه الجمهور من الحكماء ولا في عالم المثال - كما رآه الأشراقيون - بل هي مع عظمها وكثرتها من الأشكال والصور العظيمة على عظم الأفلاك الكلية والصحاري الواسعة والبلاد العظيمة موجودة في عالم النفس وفي صقع منها، إذ القلب الإنساني أعظم بكثير من العرش وما حواه، بل العرش وما حواه لو كان في زاوية من زواياه لما أحس بها، كما ذكره أبو يزيد عن نفسه، فهي صور موجودة لا في هذا العالم، بل تراها النفس بباصرتها القلبية، وتشاهدها عند تغميض هذه العين مشاهدة أصح من مشاهدتها الحسيّات المادية.
وأما عدم ثباتها وعدم ترتب الآثار عليها، فلضعف تحصّلها الوجودي لكثرة شواغل النفس وانفعالها ساعة فساعة بما تورده الحواس الظاهرة عليها من آثار هذا العالم، وتفرق قواها في البدن، وضعف همتها وعدم اجتماع خواطرها، حتى لو فرض أن يرتفع عن النفس الاشتغال بأفاعيل سائر القوى المحركة والمدركة، وتزول انفعالات الحواس الظاهرة عنها، وتكون قواها منحصرة في الخيال والتصوير، تكون الصور التي تتصورها حينئذ بقوتها الخيالية وتشاهدها بباصرتها الباطنية في غاية ما فيها من قوة الوجود وترتب الأثر، وتكون هي أقوى خطراً عن هذه المحسوسات بكثير.
وكما تكون تلك القوة يومئذ قوة باصرة، تكون هي بعينها قوة فعّالة، فتصير قوة واحدة من النفس عند قيامها عن شوائب هذه الدار، فاعلة ومدركة معاً من غير تغاير - لا بالذات ولا بالإعتبار -، فتكون مشاهدة النفس لتلك الصور عين قدرتها عليها، كما هو مذهب الأشراقيين في علم الواجب، من أن علمه بالموجودات راجع إلى بصره الذي هو عين قدرته عليها.
الأصل السادس
إن الله تعالى قد خلق النفس الإنسانية بحيث يكون لها اقتدار على إنشاء الصور الباطنة عن الحواس، وكل صورة صادرة عن فاعلها بالذات فلها حصول له، كما أن لها حصولاً لقابلها إن كانت مادية، وليس حصولها لفاعلها وقيامها به عبارة عن حلولها فيه وانصافه بها، بل إنما ذلك شأن حصول الصورة للقابل، لأن القابل لنقصه الوجودي يستكمل بالصورة - جوهرية كانت أو عرضية - ويتصف بها وينفعل عنها، وأما الفاعل فهو لا يستكمل بمفعوله ولا يتصف به ولا ينفعل عنه، لأنه فياض يفضل عن وجوده وجود معلوله في مرتبة متأخرة.
فللنفس الإنسانية في ذاتها عالم خاص بها من الجواهر والأعراض المفارقة والمادية، والأفلاك المتحركة والساكنة، والعناصر والمركّبات وسائر الخلائق الحاصلة عنها بقدرتها واختراعها، والنفس تشاهدها بنفس حصولاتها لها لا بحصولات أخرى، وإلاّ يتسلسل لا إلى نهاية.
وهذه القدرة والقوة التي تكون لأصحاب الكرامات في إيجاد الصور الغيبية في الدنيا، تكون لعامة الناس في الآخرة، سواء كانوا سعداء أو أشقياء، إلاّ أن السعداء لسلامة قلوبهم عن الأمراض الباطنية، وصحة نفوسهم عن العقائد الفاسدة، يكون قرينهم في الدنيا والآخرة صور حسنة مليحة من وجوه الحسان والحور والغلمان والرضوان، وأنواع النعم والكرامات - على حسب ما غلب عليهم من العلوم والنيّات وفعل الحسنات -.
وأما الأشقياء، فلخبث سيرتهم ودغل سريرتهم ورداءة أخلاقهم وملكاتهم، وإعوجاج طبائعهم وفساد عقائدهم، والفهم بالدنيا، وعادتهم بالشهوات التي هي كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، يكون قرينهم في القيامة عذاب جحيم، ونار حميم، وعقارب وحيّات وصور موحشة قباح، وأنواع من العذاب والعقاب.
الأصل السابع
إنه لا بدّ لتجدد المتجددات من جهة استعدادية مرجعها إلى القصور والقوة، وليس من شرط كل حادث أن تكون له مادة جسمانية تقبل مقداراً تعليمياً ذا وضع تنفعل منه هذه الحواس الدنيوية، بل المصحح لوجود هذه الهيولى أيضاً ليست إلاّ جهة من جهات الفاعل العقلي، إذ كل من الهيوليات الفلكية والعنصرية إنما صدرت عن فاعلها القريب بجهة خسيسة فيه - هي الإمكان -، ومنشأ الإمكان - ذاتياً كان أو استعدادياً - في الجواهر المفارقة أو المقارنة هو نقص الوجود وقصور التجوهر عن الوجود القيومي والتجوهر الإلهي، فإذا علمت ذلك فنقول:
كما أن العقول عند المعتبرين من الحكماء والراسخين من العرفاء على ضربين: منها العقول العالية الواقعة في سلاسل طولية، وهم الملائكة الأعلون، ليس فيهم إلاّ جهة شريفة هي نسبتهم إلى المبدء تعالى جَدّه، وليس لهم التفات إلى ذواتهم النورية القدسية فضلاً عمّا ورائهم، فلا جَرَم لا يقع من جهاتهم الشريفة الوجودية الوجوبية إلاّ عقول أخرى.
ومنها العقول العَرَضية التي هي الملائكة الأدنَين لقربهم بعالم الأجسام، ويسمون بـ "أرباب الأصنام"، وهي أدون منزلة من القواهر الطولية، ولهذا صدرت منهم الأصنام والأجسام بواسطة التفاتهم إلى ذواتهم الفاقرة الموصوفة بالقصور الإمكاني، ولولا قصورهم الإمكاني والتفاتهم إلى ذواتهم لما صدرت عنهم الأجسام.
فعلى شبه هذا التقسيم، تنقسم النفوس بحسب الإمكان الاستعدادي: فمنها ما يتعلق بالأبدان المادية الإستعدادية والأجرام المستحيلة الكائنة الفاسدة، فتنفعل عن هيئاتها وعوارضها المادية، لكونها بالقوة لا يمكن لها أن تستكفي بذاتها.
ومنها ما لا يتعلق بالأبدان المستحيلة، بل الأبدان تنشأ منها نشأة ثانية. وتوجد بتبعيتها كوجود الظل من ذي الظل، من غير استعداد مادة وانفعال وتغيّر من حال إلى حال، بل بمجرد جهة فاعلية في النفس مع حيثية امكانها وقصورها عن درجة الكمال التام العقلي، إذ لو بلغت إلى حد العقل، لم يتبعها تجسّم وتكدّر، فهذا القسم من النفوس تجردت عن الحس دون الخيال، ولو تجردت عن الخيال والتمثيل لكانت عقولاً صرفة.
فالنفس عند تفردها عن البدن العنصري، سواء كان بالنوم أو الموت، تصحبها القوة الخيالية التي للنفس بمنزلة القوة الهيولانية للبدن، ويلزمها البدن الناشيء عن النفس نشوء الظل عن الضوء، والعكس عن الشخص من غير انفعال.
وهذا القسم من النفوس سواء كانت أشراراً أو أخياراً - أقوى قوة وأشد تأثيراً من النفوس العنصرية المنفعلة عن الأبدان وقد مرّ أن قوة النفس لا تنافي شقاوتها.
فإذا تمهدت هذه الأصول، وتشيّدت أركان هذه الفصول، فبعد تذكرها وتدبرها من أوائلها إلى خواتمها بإدراك صحيح وطبع سليم ونظر ثاقب وفهم ذكي، تحقق وتبين حقيقة المعاد الجسماني، وحقيقة الرجوع الإنساني بكلا جزئيه، الجسماني والروحاني، وبها يندفع جميع شُبَه المنكرين وكافّة أبحاث الجاحدين للحق، المعاندين في إثبات المعادين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده والله ذو الفضل العظيم، ومنه المنّ الجسيم.
ولولا مخافة التطويل المؤدي إلى الإطناب المُملِّ، لا وردت واحدة واحدة من الشبه المعقودة المذكورة في باب المعاد، وتبيّنت وجه التفصي عنها باستعانة هذه الأصول الممهدة واستنباطها، ولكن الموفَّق المهتدي بنور الحق يمكنه الإستعانة بها، والإستضاءة بأشعة أنوارها، والإقتباس من لوامع أسرارها وبدائع آثارها، فيسلك بها طريق الآخرة، وينظر منها أسرار المعاد، ويزيد بسببها الإيمان بالله، والإعتقاد بيوم الحساب - يوم الجزاء لأعمال العباد، يوم يخرجون من أجداث الأجساد -.
وأما البليد الذهن المختوم على قلبه الواقف، أو العنيد المنحرف الممسوخ، فلا ينفعه تكثير الفوائد ونشر الموائد، وبسط المقدمات وإفاضة الخيرات، بل ما يزيدهم عن الحق إلاّ نفوراً، وما زادتهم الحكمة إلاّ سَفَهاً وقصوراً.