التفاسير

< >
عرض

فَأَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ
٨
وَأَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ
٩
وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ
١٠
-الواقعة

تفسير صدر المتألهين

فأصحاب الميمنة، هم الذين يؤتون صحايف أعمالهم بأيمانهم، وأصحاب المشئمة هم الذين يؤتونها بشمائلهم - وهما جميعا من أصحاب الأعمال، والغالب عليهم القوّة العمليّة -، لكن مبدأ أعمال الطائفة الأولى العقل العملي - كما مرّ -، بوساطة الإدراكات الباطنة الجزئيّة كالتخيّل وما يجري مجراه، وغايتها طلب الخيرات المظنونة والسعادات المقبولة، ومبدأ أعمال الطائفة الثانية هو القوّة المحرّكة الحيوانيّة المسمّاة بالشوقيّة، بوساطة الإدراكات الحسيّة، وغايتها إمّا طلب الشهوة بالأكل والجماع وما يجري مجراهما، أو الغضب بالغلبة والإنتقام وما يشبههما.
وأمّا السابقون: فهم أعلى مرتبة من أن يكونوا من أهل العمل، وإنّما شأنهم مشاهدة الحقايق، وملاحظة عظمة الله وملكوته، وقد شغلهم الله بمحبّته عن محبّة ما سواه، وأغناهم عن الطعام والشراب، وعن النظر إلى غيره، فمنزلتهم منه منزلة الملائكة العلّييّن المجرّدين عن الأجرام كلّها، وعن التعلّق بها، سواء كانت من هذه الأجسام الكدرة الدنياويّة أو من الأجرام النورانية الأخرويّة.
وعن الحسن: المراد من أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة: أصحاب اليُمن والشؤم لأنّ السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم، والأشقياء مشائيم عليها بمعصيتهم. "والسابقون" المخلصون الذين سبقوا إلى ما دعاهم الله إليه، وشقّوا الغبار في طلب مرضاة الله.
والأوْلى ما ذكر أوّلاً.
وهنا وجه آخر ذكر في كثير من التفاسير وهو: انّ أصحاب الميمنة هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، وأصحاب المشئمة هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار.
وتحقيقه أن العالم بتمامه كشخص واحد، لأنّ وجوده ظلّ لوجود الحقّ، فله وحدة طبيعيّة جمعيّة هي ظل للوحدة الحقّة الإلهية، وله روح واحد هو الروح الأعظم، والعقل الأوّل المشتمل على مجموع الأرواح الكليّة العقليّة اشتمالاً عقليّاً، وله كالإنسان جانبان:
أحدهما: جانب اليمين، وفيه الملكوت الأعلى، وهي المدبّرات العلويّة المتعلّقة بالبرازخ النوريّة، وفيها جنّة السعداء، ومن ملائكتها من يسوقون عباد الله إلى رِضوانه، ومنهم كتّاب حسناتنا يكتبون صحايف أعمالنا الحسنة، وهم الملائكة العِلّيون، وبأيديهم كتاب الأبرار:
{ { إِنَّ كِتَابَ ٱلأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ } [المطففين:18]. والكتابة عبارة عن تصوير الحقايق، والكُتّاب هم المصوّرون الناقشون، والصحيفة هي محلّ التصوير والنقش، وكذا القلم هو الواسطة بين يمين الكاتب والكتابة. فالمراد من الكاتب هنا جوهر ملكوتي فعّال علويّ، ومن القلم قوّته العمليّة المصوّرة، ومن الصحيفة نفوسنا الناطقة الخالية عن النقوش في أوّل الفطرة، ولا شكّ أنّ هذه الكتابة لا يمكن أن يشاهدها أحد بهذه الحواسّ الكَدرة الترابيّة البالية، لأنّها مكتوبات غيبيّة وقعت في عالم الغيب، لكنّ أكثر الناس لا يؤمنون بالغيب، ولا يعتمدون ولا يثقون إلاّ بوجود المحسوس بإحدى هذه الحواسّ.
وثانيهما: الشمال، وفيه الملكوت الأسفل، وهي المدبرات السفلية سدنة البرازخ الظلمانية، وفيها جحيم الأشقياء، ولها طائفتان من الملائكة - كما في الأوّل - إحداهما السائقة لأهل النار إلى النار، والثانية الكاتبة لأعمال السيّئات للفجّار، لقوله تعالى:
{ { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } [ق:21]، والطائفة الأولى منهما هي: { { مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم:6]. والطائفة الثانية هي ملائكة بأيديهم أقلام من النار يكتبون المعاصي والشرور، وأقوال الكذّابين وأهل الزور، في صحايف لايقة للاحتراق بالنار، لما فيها من الأخبار الكاذبة والكلمات الواهية الباطلة. كما في قوله تعالى: { { إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [المطففين: 7 - 10].
وهذا الوجه قريب المأخذ ممّا ذكر أوّلاً، وذلك لأنّ المراد من أصحاب اليمين وأصحاب الشمال على الأوّل، كلّ من أوتي كتابه بيمينه، وكلّ من أوتي كتابه بشماله، والمراد منهما على الوجه الأخير، كلّ من كان مآله إلى الملكوت الأعلى وجنّة السعداء مع العلّيين، وكلّ من كان مآله إلى الملكوت الأسفل وجحيم الأشقياء مع أهل السجّين، ولا شبهة في أنّ من أوتي كتابه بيمينه كان حشره إلى ملائكة جانب اليمين والعلّيين، ومن أوتي كتابه بشماله أو من وراء ظهره كان معذّباً بأيدي سدنة النار وزبانية الجحيم المعذبين لأهل النكال وأصحاب الشمال، وكان في طبقات السجّين مع زمرة الشياطين، فالمآل في الوجهين واحد.
ولفظة "ما" في الموضعين للتعجّب، عجب الله ورسولُه من حال الفريقين في السعادة والشقاوة. والمعنى: أيّ شيء هذه الطائفة في السعادة، وأيّ شيء هذه الأخرى في الشقاوة.
{ وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ }: الأوّل مبتدأ والثاني خبره. وفي الكواشي السابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى رحمته ورضوانه.
وفي الكشّاف: السابقون من عرفت حالهم وبلغك وصفهم، كقول أبي النجم: "أنا أبو النجم وشعري شِعري....
كأنّه قال: وشعري ما انتهى إليك وسمعت فصاحته وبراعته.
وهنا وجهُ آخر، وهو انّه كان ينبغي أن يقال: السَابِقون ما السَابِقون إلاّ أنّ الله تعالى أراد أن يصِفهم بوصف لا يُكتنه فقال هكذا، فكأنّه قال: لا وصف لهم أفضل من هذا. وهذا من أوجه الوجوه.
ومنهم من جعل الثاني تأكيداً للأوّل، وجعل الخبر:
{ { أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ } [الواقعة:11] وليس بذاك، ووقف بعضهم على الأوّل وابتدأ بالثاني، وليس بصواب، لأنّه تمام الجملة، وهو في مقابلة القولين الأوّلين.