التفاسير

< >
عرض

إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ
١
لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ
٢
-الواقعة

تفسير صدر المتألهين

هذا من قبيل قولك: كانت الكاينة وحدثت الحادثة، والمراد القيامة وساعتها. والناظرون في علم الكتاب بعين الاحتجاب، يظنّون أنّ زمان الآخرة وساعتها من جنس أزمنة الدنيا وساعتها، حتّى أنّهم يتوهّمون أنّ يوم القيامة يوم مخصوص متّصل أوّله بآخر أيّام الدنيا، فيشكل عليهم وقوع الإخبار عن وقوعه ووقوع حالاته بالفعل كما في هذه الآية.
وقد تكرّرت الأخبار عن وقوع القيامة وحالاتها في القرآن بألفاظ دالّة على ثبوتها وتحقّقها بالفعل، مثل قوله تعالى:
{ { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ } [الزمر:68]. وقوله: { { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } [الأعراف:43] - الآية - { { وَنَادَىۤ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ... } [الأعراف:44]، { { وَنَادَىٰ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ... } [الأعراف:50]، { وَنَادَىٰ أَصْحَابُ ٱلأَعْرَافِ... } [الأعراف:48] - الآيات - وأشباهها كثيرة، فوقعوا في تكلّف أرباب المجاز والمبالغة كما قيل في الكشّاف وغيره: "إنّها وُصفت بالوقوع لأنّها تقع لا محالة" ولم يتفكّروا بمعنى قوله تعالى: { { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [لقمان:28] فنسبة البعث إليه كنسبة الخلق.
فكما أنّ ايجاد الخلائق في أزمنتها وأوقاتها المتكثّرة المتجدّدة إنّما هو من قِبَل الله تعالى، وبالقياس إلى مجاوريه ومقرّبيه من ذوات الملائكة المقرّبين، وعقول أوليائه الصِدّيقين في دفعة واحدة - وإليه أشير بقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
"جُفَّ القلمُ بما هو كائن" ، مع أنّه تعالى كل يوم هو في شأن، إذ له تعالى شأن واحد في شؤون كثيرة، حيث لا يشغله شأن عن شأن وزمان عن زمان، ولا مكان عن مكان، لتعاليه عن هذه الأشياء مع انبساط نور وجوده عليها، وارتفاعه عن الانحصار في عالم الأرض والسماء، مع شمول علمه ونزول رحمته إلى ما تحت الثرى -، فكذلك بعث الخلائق كلّهم من أجداثهم في لحظة واحدة من جهته لقوله: { { وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [النحل:77].
ومن خواصّ يوم القيامة، أنّ مقداره بالقياس إلى طائفة خمسون ألف سنة لقوله تعالى:
{ { تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [المعارج:4]. وبالقياس إلى طائفة أخرى: { { كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [النحل:77]. { { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً } [المعارج:6 - 7].
وكذلك من خواصّ الساعة أنّها منتظرَةُ الوقوع بالقياس إلى طائفة:
{ { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [الملك:25]. { { وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغْتَةً } [الحج:55] وهي بالقياس إلى طائفة أخرى: { { وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا } [الحج:7].
فقوله: "ليس" مع ما في حيّزه صفة "الواقعة". ويحتمل أن يكون عاملاً في الظرف كما تقول: "اليوم ليس لي عمل"، ولا يحتاج إلى تأويل "ليس" بـ "لا يكون" - كما في بعض التفاسير- بناء على أنّه لنفي الحال، فلا يكون عاملاً في ظرف لم يقع بعد لِما وقعت الإشارة إليه.
وعلى الأوّل: إذا منصوبة بفعل مضمر - مثل أذكر ونحوه -، أو بمحذوف يعني إذا وَقَعَتْ كان كذا وكذا.
وفي الكشّاف: فسّرت كاذبة "بنفس كاذبة"، وذكر في المعنى: أي لا يكون حين تقع نفس تكذب على الله في تكذيب الغيب، لأنّ كلّ نفس حينئذ مؤمنة صادقة مصدّقة، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذّبات، كقوله تعالى:
{ { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَحْدَهُ } [غافر:84]. { { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } [الشعراء:201]. { { وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلسَّاعَةُ } [الحج:55]. ولا يخفى انّ القول بنفي وقوع الكذب على الله، والتكذيب للغيب مطلقا من نفس أصلاً، ممّا يناقضه قوله تعالى: { { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُقْسِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ } [الروم:55].
وقوله:
{ { وَمَن كَانَ فِي هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً } [الإسراء:72].
وأيضاً: الحكم بأنّ كلّ نفس عند قياس الساعة مؤمنة صادقة مصدّقة، كلام ناشىء ممّن لا بصيرة له في إدراك المعارف الإيمانيّة، بل بناء معرفته على ظواهر المنقولات وما اشتهر في المتداولات، وذلك لأنّ الإيمان بالله واليوم الآخر هو غاية كمال النفس الإنسانيّة، لأنّه عبارة عن نور من أنوار الله يقذفه في قلب من يشاء من عباده، وهذا النور يطفي نار جهنّم، فكيف تتنوّر به نفوس الكفّار والمنافقين؟
وما ورد من الآيات في باب إيمانهم عند نزول العذاب، فبعضها محمول على ظهور الشقاوة عليهم يومئذ، ومشاهدتهم آثار السيّئات ونتائج الكفر والعناد، وتبعات المعاصي والفسوق، وأضداد ما كانوا يحتسبون، كما في قوله تعالى:
{ { وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ } [الزمر:47]. وبعضها ممّا لا يُفهم منه أزيد من اعترافهم باللسان، ودعواهم الإيمان، كما في قوله تعالى: { { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَحْدَهُ } [غافر:84]. وربّما كانوا كاذبين في هذه الدعوى يومئذ، كما كذّبوا في قولهم للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) كما قال الله تعالى حكاية عنهم حيث قال: { قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [المنافقون:1] لا أنهم يصيرون بعد الموت عرفاء بالله وآياته، موحّدين، وإلاّ فكيف يعذّبهم الله عذاباً أبديّا؟ إذ البراهين العقليّة والسمعيّة ناهضة على خروج أهل التوحيد عن النار، فالقول بأنّ كلّ نفس يوم القيامة غير كاذبة في محلّ المنع.
نعم، منشأ الكذب والغلط ومبدأ الشر والوبال لا يكون إلاّ في هذا العالَم الذي هو منبع الشرور والعاهات، ومعدن النقايص والآفات، - كما بُيّن في مقامه -، والنفس الشقيّة الكذوبة، لا تكتسب مادّة الكذب والبهتان، والكفر والعصيان، ومنشأ التعذيب بالنيران، إلاّ بواسطة كونها مدّة في هذا العالم، ولأجل تعلّقها بالأبدان، فهي حمّالة حطب نيرانها من ها هنا، والآخرة دار العدل والحساب والقضاء بمؤدّى الشهود والكتاب: -
{ { لاَ ظُلْمَ ٱلْيَوْمَ } [غافر:17].
والأوْلى أن تحمل الكاذبة على المصدر، كالعاقبة، أي: ليس لمجيئها وظهورها كذب، ومعناه - كما في مجمع البيان - إنّها واقعة حقّا وصدقاً، وليس فيها ولا في الإخبار عن وقوعها كذب، واللام على الأوّل مثل ما في قوله تعالى:
{ { يٰلَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } [الفجر:24] وعلى ما ذكرناه مثل.