التفاسير

< >
عرض

وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ
٢٠
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ
٢١
-الواقعة

تفسير صدر المتألهين

يتخيّرون: يأخذون خيره. يقال: تخيّرتُ الشيء: أخذتُ خيره وأفضله. ويشتهون: يتمنّون. فإنّ أهل الجنّة إذا تخيّروا شيئا واشتهوه خلقه الله دفعة، فإذا تمنّوا فاكهة - أيّ فاكهة كانت -، تكوّنت بإذن الله كما تخيّروه. وإذا تمنّوا لحم الطير النضيج، خلق الله لهم لحم الطير نضيجاً من غير حاجة إلى ذبح الطير وإيلامه.
قال ابن عبّاس رضي الله عنه: يخطر على قلبه الطير فيطير ممثّلا بين يديه على ما اشتهى.
وهذه علم غفل عنه الأكثرون، وأدركه المكاشفون إدراكاً علميّا ذوقيّا بعد أن اعتقدوه اعتقاداً إيمانيّا، وربما يبلغ العارف إلى مقام يقال له مَقام: "كُنْ" في عرفهم، فيكون هذا حاله، وإن كان بعد في الدنيا مثل حال أهل الجنّة، فما يقول لشيء "كُن إلاّ ويكون".
وروي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) إنّه قال - حين كان في غزوة تبوك - كُن أبا ذر. فكان أبا ذر.
وذلك لأنّ الله قد حوَّل باطنه في النشأة الأخرويّة، بل ما من عارف بالله من حيث التجلّي الإلهيّ إلاّ وهو قبل النشأة الآخرة قد حشر في دنياه ونُشر في قبره، فهو يرى ما لا يراه الناس، ويشاهد ما لا يشاهدون، ويفعل ما لا يفعلون، عناية من الله ببعض عباده.
كما أعرب عنه بعض العرفاء حكاية عن نفسه - وبيانه ممّا يحتاج إلى إظهار لمعة من علوم المكاشفة قريبة المأخذ من علوم المناظرة -، وهو أنّ الله سبحانه، قد خلق النفس الإنسانية وأبدعها مثالاً له ذاتا وصفة - ولله المثل الأعلى -، وفعلاً، مع التفاوت العظيم بين المثال والممثّل له، ولذلك جعل معرفتها وسيلة إلى معرفته، كما يدلّ عليه الحديث المشهور:
"مَن عَرَف نفسَه فقد عَرَفَ ربّه" .
فهي قد أبدعت مفتاحاً لمعرفة الله تعالى ذاتاً وصفة وأفعالاً، لا لكونها مثالاً له كذلك، أما الذات، فقد خلقها الباري وجوداً نوريّا مفارقا عن الأجرام والأحياز والأوضاع في ذاتها. وأمّا الصفات، فقد خلقت عالمة قادرة حيّة سميعة بصيرة متكلّمة، وهذه كلّها صفات الله من حيث المفهوم. وأمّا الأفعال، فذاتها عالَمها، والبدن كأنّه نسخة مختصرة من مجموع العالَم الدنيوي - أفلاكه وعناصره، بسايطه ومركّباته، وجواهره وأعراضه -، ولها أيضاً في ذواتها مملكة خاصّة شبيهة بمملكة بارئها، مشتملة على أمثلة الجواهر والأعراض المجرّدة والماديّة، وأصناف الأجسام الفلكيّة والعنصريّة، وساير الخلايق يشاهدها بنفس حصولها فيها، ومُثولها بين يديها، شهودا إشراقيّا، ومُثولا نوريّا.
والناس في غفلة وذُهول عن عجايب الفطرة الآدمية وغرايب القلب الإنساني، لاهتمامهم بعالَم المحسوس ونسيانهم أمر الآخرة ومعرفة الرب والرجوع إليه:
{ { نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ } [الحشر:19].
فمن جملة المضاهاة الواقعة بين الربّ والنفس، أنّه جعلها ذات نشأتين: - الغيب والشهادة -، كما انه عالم الغيب والشهادة، وذات عالمين: المُلك والمَلكوت، والخلْق والأمر - كما لهُ الخلْق والأمر -، فأفعال النفس بإرادتها على ضَرْبَين، فما يفعله باستخدام قواها البدنيّة وجنودها الجسمانيّة، فهي متغيّرة متجدّدة، لأنّها كائنة بواسطة الحركات وانفعلات موادّ الآلات، والحركة لا تدوم لأنّها عين الحدوث والإنقضاء، وربما تنقضي القوى والطبايع لكلال آلاتها وفتور موضوعاتها، وأمّا ما يفعله بذاتها من غير توسّط القوى الطبيعيّة والآلات الجسمانيّة، فهي أمور ثابتة محفوظة عندها ما دامت ذاتها تديمها وتحفظها بعد أن حصلت لها ملكة الحفظ والإسترجاع، من جهة رجوعها إلى الباري، واتّصالها بالملأ الأعلى والحفظة الكرام الكاتبين.
فكذلك أفعال الله تنقسم إلى ثابتات ومتغيّرات، مُبدعات وكاينات، فعُلم من هذا أنّ الله خلق النفس الإنسانية ذات اقتدار على إيجاد صور الأشياء في عالَمها الخاصّ، ومملكتها الغائبة عن هذا العالَم بمشيّتها وإرادتها، لأنّها من سنخ الملكوت وعالَم القدرة والجبروت، إلاّ أنّ ما تخترعه وينشأ في عالَمها ما دامت في هذا العالَم وصحبة الأعدام والقوى والملكات تكون حقيقة الوجود شبيهة بالأشباح والأظلال، فإذا قويت ذاتها وقرُبت من مبدئها بقطع هذه العلايق الماديّة، أصبحت مخترعة للصور الغيبية المناسبة لأخلاقها الحسنة أو السيّئة، إمّا ملذّة أو موذية، ولم تفارق الدنيا عن الآخرة إلاّ في كمال الصورة وقوّة وجودها هناك، ونقصها وضعف وجودها هنا.
فلو كانت للنفس قدرة تامّة على تصوير الصورة الملذّة في عالَم الحسّ، كما لَها قدرة على تصويرها في عالَم الخيال، لكان نعيمها كنعيم أهل الجنّة، حيث تكون شهوتهم سبب تخيّلهم، وتخيّلهم سبب إحساسهم، فلا يخطر ببالهم شيء ينالون إليه، إلاّ ويحضر عندهم دفعة.
وإليها الإشارة بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
"إنّ في الجنّة سوقاً تُباع فيه الصُور" .
والسوق، عبارة عن اللطف الإلهيّ الذي هو منبع القدرة على اختراع الصُور بحسب المشيّة، وانطباعها ووجودها في العين وجوداً ثابتاً ما دامت المشيّة، لا وجوداً هو بمعرض الزوال كما في منام هذا العالم. وهذه القدرة أكمل وأوسع من القدرة على الإيجاد من خارج الحسّ، لأنّ الوجود من خارج الحسّ يشغل بعضها عن إدراك البعض، ويحجب بعضها عن بعض لضيق عالَمه، فإذا صار الإنسان مشغولاً بسماع واحد ورؤيته أو مماسّته، صار مستغرقاً محجوباً عن غيره، وأمّا هذه النشأة فتتّسع اتّساعاً لا ضيق فيه، حتّى لو أراد أحد من أهل الجنّة أن يأكل جميع الفواكه لأكلها بعد أخطارها بباله، ولو أراد كل أحد منهم أن يأكل ما يأكله غيره لوسعتهم لقمة واحدة، فتحضر تلك اللقمة الواحدة في ساعة واحدة لألف شخص في ألف مكان، وحمل أمور الآخرة على ما هو أوسع وأتمّ للشهوات وأوفى للدواعي والرغبات، أوْلى.
وممّا ورد في الخبر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
"إنّه يأتي إليهم المَلَك بعد أن يستأذن في الدخول عليهم، فإذا دخل ناولهم كتابا من عند الله بعد أن يسلم عليهم من الله، فإذا في الكتاب لكلّ إنسان مخاطب به: من الحيّ القيّوم الذي لا يموت، إلى الحيّ القيّوم الذي لا يموت، أما بعد: فإنّي أقول للشيء: كُن. فيكون، وقد جعلتك اليوم تقول للشيء: كن. فيكون. فقال: فلا يقول أحد من أهل الجنّة لشيء: كن. إلاّ ويكون" .
قال بعض العرفاء: من أراد أن يعرف كماله فلينظر في نفسه، في أمره ونهيه وتكوينه، بلا واسطة لسان ولا جارحة ولا مخلوق غيره، فإن صحّ له المضاء في ذلك، فهو على بيّنة من ربّه في كماله، فإن أمر أو نهى أو شرَع في التكوين بواسطة خارجة فلم يقع، أو وقع ولم يعم، مع عموم ذلك بترك الواسطة فقد كمل، ولا يقدح في كماله ما لم يقع في الوجود عن أمره بالواسطة، فإنّ الصورة الإلهيّة بهذا ظهرت في الوجود، فإنّه تعالى أمر عباده على ألسنة رسله وفي كتابه، فمنهم من أطاع ومنهم من عصى، وبارتفاع الوسايط لا سبيل إلاّ الطاعة خاصّة، ولا يتمكّن من إبائه.
قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
"يد الله مَع الجماعة" .
وقدرته نافذة، ولهذا لو اجتمع الإنسان في نفسه حتّى صار شيئاً واحداً أنفذت همّته فيما يريد.
وقال أيضاً في فصوص الحِكم: "بالوهم يخلُق كلّ إنسان في قوّة خياله ما لا وجود له إلاّ فيها، وهذا هو الأمر العامّ، والعارف يخلُق بالهمّة ما يكون وجوده في خارج محلّ الهمّة، ولكن لا تزال الهمّة تحفظه ولا يؤودها حفط ما خلقه، فمتى طرأ على العارف غفلةً عن حفظ ما خَلق، عدم ذلك المخلوق".
وقال أبو علي في تعليقاته: "كلّما كان أشدّ تصوّراً يكون أتمّ فعلاً، إلى أن ينتهي إلى الأوّل الذي ليس فيه شيء بالقوّة، فيلزم أن يصدر عنه كلّ موجود، والنفس ما دامت تصوّراتها بالقوّة، لا يصحّ صدور فعل عنها إلاّ بصوِّر يصوِّر لها الأشياء ويُخرجها من القوّة إلى الفعل، والكواكب تؤثر في نفوسنا دون العكس، لأنّها غير متشعّبة القوى، ونحن قوانا متشعبّة يصدّ بعضها عن فعل بعض بالتمام، ويشغلها عنه كما تشغل الحواسّ القوى الخياليّة عن فعلها بالتمام، وإذا لم يشغلها تمّ فعلها، كالحال في المنام، والكواكب قواها غير متشعبّة ولا صادّة بعضها بعضا، بل كأنّها قوّة واحدة، فالباصرة فيها هي القوّة السامعة، وهي القوّة المصوّرة، فكأنّها متوفّرة على قوّة واحدة، فلهذا تؤثّر فينا ولا نؤثّر فيها". - انتهى -.
والحاصل أنّ مبدأ صدور الأفاعيل، هو تصّورات المبادئ، سواء كانت الأفاعيل دنيويّة أو أخرويّة، بشرط قوّة الهمّة وشدّة جمعيّة القوى، فلمّا كان تفرّق القوى وتوزّع الدواعي مرتفعا في الآخرة - لكون الانقسام والتفرّق من خواصّ هذه النشأة -، فلا محالة يكون هناك للنفوس الكاملة اقتدار تام على انشاء كلّ ما يتمنّونه، واختراع كلّ ما يتخيّرونه من الصور المستلَذّات كالحور والقصور، والشراب والسلسبيل والزنجبيل، فلكلّ نفس سعيدة عالم مثل هذا العالَم، إلاّ أنّ عالَمه أشرف وأصفى، لكون موضوعه الجوهر النوريّ النفسانيّ، وموضوع هذا العالَم المادّة الكثيفة الظلمانيّة، وهذا اقلّ الدرجات وأدنى المنازل لِعوام أهل الجنّة، ولمن ينجو من عذاب النيران بالشفاعة أو التفضّل، وللجنّة طبقات بعضها فوق بعض.