التفاسير

< >
عرض

فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ
٢٨
وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ
٢٩
وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ
٣٠
وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ
٣١
-الواقعة

تفسير صدر المتألهين

"السِدْر": شجر النَبْق. و "المخضود": ما لا شوك له. وأصل الخَضْد عَطْفُ العود الليِّن، فكان المخضود لكونه ليّنا رطبا لا شوكَ له غالباً.
و "الطَلْح": كلّ شجر عظيم الشوك. وقيل شجر الموز. وقيل شجر أمّ غيلان، وله نَورٌ كثير الرائحة.
و "المَنضُود": الذي نضد بعضه على بعض بالحمل من أسفل ساقه إلى أعلى أفنانه، فليست له سوق بارزة بل كلّه ثمر.
و "ظِلّ ممَدُود": أي منبسط دائم لا يتقلّص ولا تنسخه الشمس.
و "ماء مَسْكوب": أي مصبوب.
فإن قلت: بعض هذه اللذات ممّا لا يرغب فيها رغبة بالغة، بل يعافه طبع أكثر الناس، وكذا الكلام في العسل واللبن والإستَبْرق، فما سبب إيرادها.
قلنا: سبب ذلك أمران:
أحدهما: أنّها ممّا خوطب به جماعةً عظمت هذه الأمور في أعينهم ويشتهونه غاية الشهوة، ولكلّ إقليم مطاعم ومشارب وملابس يختصّ بذوقها قوم دون قوم، ولكلّ أحد في الجنّة ما يشتهيه كما قال تعالى:
{ { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِيۤ أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } [فصلت:31].
وثانيهما: لكلّ شيء يكون في الدنيا فله صورة في الآخرة وكثيراً ما تكون صورته الدنيويّة سمجة كريهة، وصورته الأخرويّة في غاية الحسن واللطافة، أو لا ترى أنّ أهل الايمان كثيراً ما يكونوا في الدنيا شعثاً غُبراً صفر الوجوده أو سودها، وفي الآخرة وجوههم أضوء من الشمس وأنور من القمر؟ أوَ ما سمعت أنّ خُلوق فَم الصائم عند الملائكة أطيب من رائحة المسك الأذفر؟
فهكذا قياس ساير هذه الأمور، فيحتمل أن يراد بهذه الألفاظ إمّا غير معانيها المعهودة، أو خلاف أفرادها الموجودة - مخالفة نوعيّة أو بحسب الكمال والنقص -.
أمّا السِّدر: فلا يبعد أن يراد به السِدْرَة المُنتهى، وهي الحدّ الذي مَن تجاوز عنه تجاوز من عالَم الصورة إلى عالَم المعاني الصِرفة، ولذا قيل: إنّها في منتهى الجنّة وآخرها. وقيل في وصفها: إنّها شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش، ثمرها كقلال هجر، وورقها كآذان الفِيَلَة، تنبع من أصلها الأنهار الّتي ذكرها الله تعالى في كتابه، يسير الراكب في ظلِّها سبعين عاماً لا يقطعها.
وقيل: لم يجاوزها أحد، وإليها ينتهي علم الملائكة وغيرهم، ولا يعلم أحد ما وراءها.
وقيل: تنتهى إليها أرواح الشهداء، قال تعالى:
{ { عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ } [النجم:15]، أي تأوي إليها أرواح السُعداء وأصحاب اليمين.
ومن قال إنّها ينتهى إليها علم الملائكة وغيرهم، ولا يعلم أحد ما وراءها أراد بالعِلم التخيّليّة الجزئيّة المتعلّقة بعالَم الصور والأشباح، دون المعارف العقليّة المتعلّقة بعالَم المحضة، وأكثر إطلاق الملائكة على الجواهر المتعلّقة بالأجسام وملكوتها وباطنها، فتكون علومها علوماً جزئيّة، دون علوم المقرّبين المجرّدين عن عالَم الصور، وأراد من غيرهم أصحاب اليمين، المقتصرين في العلوم على ما يسمعون بحسب النقل والرواية فيما يتعلّق بالأعمال، دون المكاشفات الغيبيّة بحقايق الأشياء وأحوالها.
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
"رأيتُ على كلّ ورقةٍ من أوراقها مَلَكاً قائماً يُسبّح الله" .
وعند العرفاء: إنّ المراد من هذه الشجرة في العالَم الكبير قوّة ملكوتيّة مظهرها السماء السابعة، شأنها تصوير الحقايق وتنزيلها منزلة التخّليق والتشكيل، وهي متوسّطة بين عالَم الأمر والخلْق.
وفي العالَم الصغير الإنساني، القوّة الخياليّة التي مظهرها اللطيفة البخاريّة الواقعة في بعض تجاويف الدماغ، التي في لطافتها وشفافيتها تشبه السماء السابعة، وهي - أيضاً - متوسّطة بين العقل والحِسّ، شأنه تجسيم المعقولات وتجريد المحسوسات. ولهذا وقع في بعض الروايات عن ابن مسعود والضحّاك: إنّها شجرة ينتهي إليها ما يعرج إلى السماء وينزل إليها ما يهبط من فوقها من أمر الله.
وروي أيضاً: إنّها ينتهي إليها ما يهبط من فوقها فيفيض منها، وإليها ينتهي ما يعرج من الأرواح.
فإذا تقرّر هذا، فيحتمل أن يراد من السِدْر المذكور في هذه السورة، هذه القوّة الإنسانيّة، ومن المذكور في سورة النجم تلك القوّة الملَكوتيّة العظيمة الواقعة بين العالمَين، التي بلغ إلى حدّها معراج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بشخصه وجسده، ثمّ تجاوز عنها بروحه المقدّس.
وأمّا الطَلح المَنضُود: ففيه شبه ما في السِدر في نسبة صورته الأخروية، وعن علي (عليه السلام) أنّه قرأ عنده رجل: وَطَلح مَنْضُودٍ، قال: وَطَلْعٍ، وما شأن الطَلْح؟ - وقرأ قوله: لَهَا طَلْع نَضيد - فقيل له: أَو نحوّلها؟
فقال (عليه السلام):
"إنّ القرآن لا يُهاج اليومَ ولا يُحوّل" .
وعن ابن عبّاس: ورواه أصحابنا عن يعقوب بن شعيب، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): وَطلحٍ منضودٍ؟ قال: لا، وطَلعٍ مَنضُود.
وأمّا "الظِلِّ المَمدُود": فيراد به ظِلّ رحمة الله وعكس نوره وجوده الواقع على المخلوقات - الأقرب فالأقرب -، كما في قوله:
{ { أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً } [الفرقان:45]. - الآية -.
وأمّا "الماء المَسكُوب": فيراد به عين ماء الحياة الأبديّة الساكب دائما من أسْكوب منبع الفضل والرحمة، وقيل: يسكب لهم دائماً أين شاؤوا وكيف شاؤوا - لا يتعبون ولا يتعبون فيه -. وقيل: مصبوب، يجري على وجه الأرض حيث أرادوا من غير أخدود. وقيل: مسكوب ليُشرب على ما يرى من حسنه وصفائه.