التفاسير

< >
عرض

وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ
٣٢
لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ
٣٣
-الواقعة

تفسير صدر المتألهين

تكرير ذكر الفاكهة لاختلاف الصفة. فوصف فاكهة المقرّبين بأنّها مُتَخَيّرَة لهم، ووصف فاكهة أصحاب اليمين بأنّها كثيرة غير مقطوعة ولا ممنوعة عنهم. ولعلّ الوجه في هذا الاختلاف، أنّ المقرّبين لكونهم في مقام الجمعيّة ودرجة الأمر والتكوين، فكلّما هو موجود لهم فهو موجود عندهم وقد مرّ أنّ شهواتهم وإراداتهم مبادي حصول الأشياء لأنّ علومهم فِعليّة، وأمّا غيرهم: فإن كان من أصحاب الشمال ومن سُكّان عالَم الحسّ والطبع، فهو مجبور محض في فعله، لأنّ مرتبته مرتبة الطبيعة، ولها درجة الإنفعال لمجاورتها واتّصالها بالمواد الإنفعاليّة النازلة في صفّ النعال وفي النزال، وإن كان من أصحاب اليمين فمقامه مقام النفس، إلاّ أنّه نهى النفس عن الهوى، وهَوى إلى درجة الطبيعة والدنيا، والنفس من حيث هي نفس وإن كانت مختارة في فعلها، إلاّ أنّ فعلها كاختيارها ليس يصدر عنها بالإستقلال، بل بمشاركة مبدأ عقليّ وإمداد جوهرٍ قدسيّ، وتأييد ملك علويّ من الملائكة العلويّة القعليّة، فمنه تفيض كمالاتها، ومنه يأتي رزقها رَغَداً، وليست أرزاقها بتقديرها بل بتقدير مقدِّر عليم، وإنّما شأنها استدعاء الرزق والنعمة واستجلابها وطلبها لا غير، ولها من الاختيار والمشيّة هذا المقدار لا يزيد عليه. وأمّا التكوين والتحصيل فمن فوقها.
وأمّا وصف فاكهتهم بالكثرة وعدم الانقطاع المقابل له - تقابل العدم والملكة -، المستلزم للاستمرار الإمتدادي الزماني، وعدم المنع المقابل له هذا التقابل دون فاكهة المقرّبين: فلأنّ عالَمهم عالَم الصورة والمقدار، وعالَم المقرّبين عالَم الوحدة والجمعيّة، وعالَم المعاني المجرّدة والجواهر المرتفعة عن الكثرة العدديّة، الخارجة عن الإمتداد واللاّإمتداد والاستمرار واللاإستمرار، المتبرّئة عن الإنقطاع واللاإنقطاع لتجرّدهم عن الزمان والمكان، وتقدّسهم عن التجدّد والحدثان، مع أنّ في ذلك العالَم يوجد جميع ما يوجد في عالم المقادير من صور الأنواع الكثيرة، إلاّ أنّها فيه على وجه أعلى وأتمّ، وأحسن وأحكم.
وهذا ممّا حقّقَه وقرّر بعض الحكماء الراسخين، والأولياء الشامخين، من المتقدّمين المقتبسين نور الحكمة من مشكاة الوحي والنبوّة في كتابه المعروف بمعرفة الربوبيّة حيث قال:
"إنّ العالَم الحسّي كلّه مثال وصنم العالَم العقلي، فإن كان هذا العالَم حيّاً فبالحريّ أن يكون ذلك حيّاً، وإن كان هذا العالَم تامّاً كاملاً فبالحريّ أن يكون ذلك العالَم أتمّ تماماً وأكمل كمالاً، لأنّه هو المفيض على هذا العالَم الحياة والقوّة والكمال والدوام. فإن كان العالَم الأعلى تماماً في غاية التمام، فلا محالة إنّ هناك الأشياء كلّها - إلاّ أنّها فيه بنحو أعلى وأشرف - فثمَّ سماء ذات حياة وفيها كواكب مثل هذه الكواكب التي في هذه السماء، غير أنّها أنوَر وأكمل، وليس بينها افتراق كما يرى ها هنا وذلك لأنّها ليست جسمانيّة. وهناك أرض ليس ذات سباخ، لكنّها كلّها حية عارمة وفيها الحيوانات كلّها الأرضيّة التي هنا، وفيها نبات مغروس في الحياة، وفيها بحار وأنهار جارية تجري جرياً حيوانيّاً وفيها الحيوانات المائيّة كلّها، وهناك هواء وفيه حيوانات هوائيّة حيّة شبيهة بذلك الهواء".
"والأشياء التي هناك كلّها حيّة لأنّها في عالَم الحياة المحض لا يشوبها الموت البتة، وطبايع الحيوان التي هناك مثل طبايع هذه الحيوانات إلاّ أنّ الطبيعة هناك أعلى وأشرف من هذه الطبيعة لأنّها عقليّة".
وقال أيضاً: "إنّ الأشياء التي هناك كلّها مملوّة غنىً وحياةً كأنّها حياة تغلي وتفور، وجري حياة تلك الأشياء إنّما ينبع من عين واحدة، وكيفيّة ذلك العالَم كأنّها حرارة واحدة أو ريح واحدة فقط، بل كلّها كيفيّة واحدة يوجد فيها كلّ طعم، وانّك تجد في تلك الكيفيّة الواحدة طعم الحلاوة والشراب وساير الأشياء - ذوات الطعوم وقواها، وساير الأشياء الطّيبة الروايح، وجميع الألوان الواقعة تحت البصر، وجميع الأشياء الواقعة تحت اللمس، وجميع الأشياء الواقعة تحت السماع - اللحون كلّها -، وأصناف الايقاعات، وجميع الأشياء الواقعة تحت الحِسّ، وهذه كلّها موجودة في كيفيّة واحدة مبسوطة، لأنّ تلك الكيفيّة الواحدة حيوانيّة عقلانيّة تسع جميع الكيفيّات التي وصفناها، ولا تضيق عن شيء منها من غير أن يختلط بعضها ببعض ويفسد بعضها ببعض، بل كلّها فيه محفوظة كأنّ كلّ منها قائم على حِدة". - انتهى كلامه بترجمة حنين بن اسحق -.
فقد صحَّ أنّ كلّ شيء في العالم الأعلى العقلي مع وحدته عين أشياء كثيرة، ففاكهة واحدة مع وحدتها مشتملة على فواكه كثيرة ممّا في العالَم الأوسط وجنّة أصحاب اليمين، وهذا أمر محقّق عند أهل الذوق والوجدان، وثابت عند الواغلين في الحكمة بالبرهان.