التفاسير

< >
عرض

ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ
٣٩
وَثُلَّةٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ
٤٠
-الواقعة

تفسير صدر المتألهين

أي: طائفة من الأمم السابقة، وطائفة من مؤمني هذه الأمّة.
قال الحسن: سابُقوا الأمم الماضية أكثر من سابقي هذه الأمّة، وتابعو الأمم الماضية مثل تابعي هذه الأمّة، ويوافقه قول مقاتل وعطاء وجماعة من المفسّرين، والأرجح أنّ الثُلّتين جميعا من هذه الأمّة - كما دلّ عليه الحديث المنقول آنفاً - وهو أيضاً قول مجاهد والضحّاك واختيار الزجّاج.
وممّا يؤيّد هذا، أنّ نوع الإنسان منذ أوّل بعثة آدم كان سالكاً سبيل الحقّ بالاهتداء، متدرِّجاً في الترقي والاستعلاء، متطوّراً في أطوار الكمالات من جهة تلاحق الاستعدادات، وظهور الأسماء بمقتضى بعثة الانبياء، ونزول الآيات وترادف المعجزات بحسب خصوصيّات الأزمنة والأوقات، حتّى وصلت النوبة في السعادة والاهتداء، إلى ظهور نبوّة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)، فبلغ الترقّي في الكمال إلى منتهاه، ووصل الروح الآدميّ إلى مبتغاه بحسب الفطرة الثانية والنشأة الباقية.
وحكي عن أرسطاطاليس الحكيم أنّه قال: وراء طور العقل طور آخر، لكنّه إنّما يكون لأهل آخر الزمان، كما أنّ طور الحواسّ كان للأوايل ونبيّهم إدريس، فاطّلعوا بحواسّهم على ما في السموات من عدد الكُرات الفلكيّة والكواكب وهيآتها وحركاتها، ثمّ طور الوهم والهمّة كان لبني اسرائيل وكان نبيّهم موسى، وكان إذا تأذّى من قوم يهلك منهم بلحظة ألوفاً كثيرة.
ثمّ طور العقل فهو لنا. ثمّ طور وراء طور العقل يكون لأهل آخر الزمان.
ثمّ قال رجل من الفلاسفة كان بعده. صدق فيما قال أرسطو، ونبيّ هؤلاء محمّد بن عبد الله العربيّ، فإنّه اطّلع على أمور بحسب الوحي من الله لم يدركها من كان قبله، ثمّ إنّ فضيلة هذا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ساير الأنبياء تدل على فضيلة أمّته على ساير الأمم، كما في قوله:
{ { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران:110]. وزيادة الشرف والفضيلة في النبي تدلّ على كثرة عدد الصحابة والتابعين والأئمّة الهداة والمأمومين والأتباع الصالحين والأشياع المؤمنين.
وممّا يؤيّد هذا القول ويعضده من طريق الرواية، ما رواه نقلة الأخبار بالاسناد عن ابن مسعود قال:
"تحدّثنا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة حتّى أكثرنا الحديث، ثمّ رجعنا إلى أهلنا، فلمّا أصبحنا غَدَوْنا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: عُرِضَت عليَّ الأنبياء الليلة بأتباعها من أممها، فكان النبيّ يجيء معه الثلّة من أمّته، والنبيّ معه العصابة من أمّته، والنبيّ معه النفر من أمّته، والنبيّ معه الرجل من أمّته، والنبيّ ما من أمّته أحد، حتّى أتى أخي موسى في كبكبة من بني اسرائيل، فلمّا رأيتهم أعجبوني، فقلت: ربي من هؤلاء؟ قال: هذا أخوك موسى بن عمران ومَن معه من بين اسرائيل.
قلت: يا ربّ، فأين أمّتي؟ قال: انظُر عن يمينك. فإذ ظراب مكّة قد سُدّت بوجوه الرجال. فقلت: مَن هؤلاء؟ فقيل: هؤلاء أمّتك، أرضيتَ؟ فقلت: ربِّ رضيتُ.
وقال: انظر عن يسارك. فإذا الأفق قد سُدّ بوجوه الرجال. فقلت: يا ربّ مَن هؤلاء؟ فقيل: هؤلاء أمّتك. أرضيتَ؟ فقلت: ربِّ رضيتُ.
فقيل: إنّ مع هؤلاء سبعين ألفاً من أمّتك يدخلون الجنّة بلا حساب، قال: فأنشأ عكاشة بن محصن من بني أسد بن خزيمة، فقال: يا نبيّ الله، ادعُ ربّك أن يجعلني منهم. فقال: اللهمّ اجعَله منهم.
ثمّ أنشأ رجل آخر فقال: يا نبيّ الله، ادع ربّك أن يجعلني منهم.
فقال: سبقك بها عكاشة.
فقال نبيّ الله - صلوات الله عليه -: فِداكم أبي وأمّي، إن استطعتم أن تكونوا من السبعين ألفاً، فكونوا. وإن قصرتم وعجزتم فكونوا من أهل الظراب، وإن عجزتم وقصرتم فكونوا من الأفق. وإنّي قد رأيت ثمّة أناساً كثيراً يتهارشون كثيراً.
فقلت: مَن هؤلاء؟ ومَن السبعون ألفا؟ فاتفق رَأْيُنا على أنّهم ناس ولدوا في الإسلام فلم يزالوا يعملون به حتّى ماتوا عليه، فانتهى حديثهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ليس كذلك. ولكنّهم الذين لا يسرقون ولا يتكبّرون، ولا يتطيّرون وعلى ربّهم يتوكّلون.
ثمّ قال: وإنّي لأرجو أن يكون من تبعني ربع أهل الجنّة. قال: فكبّرنا، ثمّ قال: إنّي لأرجو أن يكونوا ثُلث أهل الجنّة، فكبّرنا. ثمّ قال: إنّي لأرجوا أن يكونوا شطر أهل الجنّة. ثمّ تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ }"
.