التفاسير

< >
عرض

فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ
٤٢
وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ
٤٣
لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ
٤٤
-الواقعة

تفسير صدر المتألهين

أي في ريح حارّة حرّ نار تدخل مسامهم وخروقهم وفي ماء مغليّ حارّ متناهي الحرارة، وظل من دخان أسود شديد السواد، لا بارد يستراح إليه ويسكن لديه، ولا كريم ينتفع به ويتخلّص من يأوي إليه من ألَم الحرِّ وأذى الجحيم، سمّاه "ظِلاّ"، ثمّ نفى عنه صفتي الظلّ، والمراد إثبات مقابل هذين الصفتين، والمعنى أنّه ظلُّ حارٌّ ضارٌّ لا كظلال أهل الجنّة، وللنفي في مثل هذا الكلام بلاغة ليست للاثبات، لاشتماله على ضرب من التهكّم بأصحاب الشمال، وأنّهم قد حُرموا رَوْحَ تلك الظلال العاليّة، وبرُدها ونفعها.
واعلم - إن كنت من أهله - أنّ صورة جهنّم وأهلها هي بعينها من حقيقة هذه الدنيا وأهلها، لكنّها يظهر هناك باطنها ويبطن ظاهرها، كما أنّ ها هنا طويت سرائرها ونشرت ظواهرها، فالسُموم بالحقيقة هي من نار الطبيعة الفاعلة للحرارة الشديدة في بواطن الأجسام المركّبة من العناصر، فإنّ فعلها في تحليل الرطوبات الحاصلة في بدن النبات والحيوان، وإفناء فضلاتها، أقوى من فعل النار المحسوسة في الحطب اليابس، فنار الطبيعة المستورة عن الأبصار، الكامنة في هذه الأجسام، هي أحقّ باسم النار من هذه النار التي هي إحدى الأسطقسات، لأنّها تفعل في بواطن الأجساد أكثر من ظواهرها، بخلاف هذه، ولأنّها أتمُّ فعلا وأَدْوَمُ تأثيراً حيث لا يصادم تأثيرها مجاورة الماء لأنّها تجامعه وتؤثّر فيه.
على أنّ هذه النار المحسوسة أيضاً مبدأ نارّيتها ومنشأ إحراقها وتفريقها المختلفات، طبيعة غير محسوسة، ولها صورة أخرويّة قريبة من نار الطبيعة الكليّة في جميع الأجسام من صور غيرها من العناصر، وهي كلّها بالقياس إلى نار النفس الأمّارة الموقدة التي تطّلع علَى الأفئِدة، كشرارة من نار عظيمة، وهاتان الناران - أي نار الطبيعة ونار النفس الشريرة - كامنتان عن مشاهدة الخلق هنا، ظاهرتان عليهم يوم القيامة.
وأمّا الحميم: فهو من حقيقة مياه هذا العالَم إذا تسخّنت في الأجسام والأبدان النباتيّة والحيوانيّة، واشتدّت سخونتها بفعل الحرارة الغريزيّة الكامنة فيها، وخصوصاً إذا انضمَّت إليها الحرارة الغريبة الحاصلة من التعب والمشقّة، أو الاستحمام، أو من الحميات الشديدة، أو من الهواء المطيف بالبدن، أو من شدّة تسخين الشمس أو تجميد الزمهرير - الموجِب لاحتباس الحرارة أيضاً في الباطن -، أو غير ذلك ممّا لا يخلو عنه أهل الدنيا.
وأهل السلامة الأخرويّة قد انقطعوا وتخلّصوا بباطنهم عنها، فلا جَرَمَ نجوا عن علوق أمثال هذه الأمور. وأهل الشقاوة لمّا تعلّقوا بهذه الأمور ظاهراً وباطناً، ففي القيامة أيضاً يتعذّبون بها أشدّ العذاب، لكشف الغطاء وحدَّة البصر، وقوَّة الحاجة إلى الخلاص عن عذابها.
وأمّا الظلّ من يَحموم، فهو من ظلال الأدخنة السوداء التي يسكن إليها ويستريح بها أهل الدنيا لفقرهم وحاجتهم إلى ما يزيل عنهم أذى الحرِّ، واعتقادهم - لفرط الجهل والنقصان - بأن السكون عندها راحة للنفس وانتفاع لها، وعدم تفطنهم بأن جميع لذّات الدنيا آلام ومصيبات للنفس، وإنّما تضطّر النفوس إلى ارتكابها لانسداد طُرق النجاة وانغلاق أبواب الخلاص عليها من عذاب جهنّم الطبيعة، ودواعي تأثيرها وتحليلها ما دامت محبوسة في سجنها، مقيّدة بأيدي سدنتها في حميمها وزقُّومها.
ويحتمل أن يراد من "اليَحموم" سماء الدنيا، لأنّها من حقيقة الدخان كما في قوله تعالى:
{ { وَهِيَ دُخَانٌ } [فصلت:11] وكلّ دخان فهو في ذاته أسود، وعند التراكم يظهر سواده ويشتدّ - وإن لم يظهر عند التلطّف -. أو طبيعة الجسم المطلق، الذي هو ظلّ ذو ثلاث شُعَب لا ظليل ولا يغني من اللهب. أو هذه الأرض المظلمة.
ولفظة "مِنْ": إمّا للبيان، أو للتبعيض، أو للسبب. فيراد من "الظِلّ" إمّا نفس شيء من هذه الأجسام، أو جزءه، أو ما يتبعه كالبدن ونحوه، فإنّ البدن - أيضاً - كظلّ تسكن إليه النفس، وهو كجزء من الأرض وحاصل من الطبيعة الأرضيّة المظلمة.
وروي: إن اليَحموم جبل في جهنَّم يستغيث أهل النار إلى ظلّه.