التفاسير

< >
عرض

أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ
٥٨
ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ ٱلْخَالِقُونَ
٥٩
-الواقعة

تفسير صدر المتألهين

هذا يرجّح المعنى الأوّل لقوله: فَلْولاَ تُصَدِّقُون. إذ فيه تنبيه على أنّ جهلهم بالبعث لجهلهم بالخلق، ولو علموا بكيفيّة الإيجاد لعلموا بكيفيّة الإعادة، وذلك لأنّ القوم زعموا أنّ الفاعل ما يفعل بحركة ومباشرة، فكل مَن يباشر حركة أو يستعمل جسماً حتّى يتهيّأ لفيَضان شكل أو صورة من الواهب الحقيقي، فهم يسمّون ذلك المحرّك فاعلاً، ولهذا يظنّون الأب فاعلاً للابن، والمُمنيَ فاعلاً للمنيّ، والزارعَ فاعلاً للزَرع، والبَنّاءَ فاعلاً للبِناء، فهكذا تصوّروا فاعليّة الفاعل الأوّل جلَّ اسمه فوقعوا في الشرك، والله سبحانه نبّه على فساد ظنّهم، وبطلان عقيدتهم بأنّ المُمني ليس علّة للمني، ولا البناءعلّة للبِناء، ولا الزارع علة للزرع، بل حركة كلّ منهم علّة لحركة شيء آخر، وذلك الشيء يصير مادّة بتلك الحركة مستعدّة لأن يكسوها فاعلُ الكلِّ صورةً أو شكلاً.
أمّا الأب: فهو علّة لحركة المني، وحركة المني إذا انتهت على الجهة المذكورة تأدّت لحصول المني في القرار، وأمّا تصويره حيواناً أو إنساناً، وبقاؤه حيوانا وإنساناً، فله علّة أخرى ومبدأ أعلى.
وأمّا البنّاء، فحركته علّة لحركة اللَبِنَة، ثمّ سكونه بعدها وتركه الحركة علّة لانتهاء تلك الحركة، وانتهاؤها علّة الاجتماع، وأمّا تشكيل المجتمع من اللِبنات، وحفظه وإمساكه مدّة فله فاعل آخر، هو الذي بقوته يُمسك السمواتِ والأرْضَ أنْ تَزُولاَ.
وكذا حكم الزارع، فإنّ حركته علّة لحركة الحبّة ثمّ سكونه بعدها، أو ترك حركته، علّة لسكون الحبة في قرارها من الأرض، مثل سكون النطفة في قرار الرحم.
فإذا ثبت أنّ فعل الفاعل الحقيقي هو إفاضة الوجود - لا التحريك والإعداد المورثان لإستعداد المواد كالنُطف والبذور لقبول صروة الحيوان والنبات من مبدأ جواد - تحقّق انّ الاعادة منه مثل الابتداء لا يتفقر فيها إلى سبق مادّة قابلة يستعملها التهيّأ لحصول صورة ثانية، بل إذا شاء أنشأها ثانية من غير مثال سابق.
فقوله: أفَرَأيْتُمْ مَا تُمْنثونَ - معناه: افرأيتم ما تقذفونه بالحركة الجُماعيّة في أرحام النساء من النُطف؟ إنّكم مقدِّروه ومصوِّروه، أم نحن مقدِّروه ومصوِّره؟ والأوّل باطل فتعيّن الثاني. فإذا ثبت أنّه تعالى مقدِّر الحياة بلا مادّة، فهو مقدّر الموت بلا مادّة.
وقرأ أبو السماك "تَمنُون" بفتح التاء. يقال: أمنى النطفة ومناها، قال سبحانه:
{ { مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ } [النجم:46].
قال الرازي في الكبير: وجه الاستدلال بهذه الآية أنّ المني إنّما يحصل من فَضْلة الهضم الرابع، وهو كالطلّ المنبثّ في أطراف الأعضاء وبهذا تشترك كلّ الأعضاء، ويجب غسلها بالالتذاذ الواقع لحصول الارتحال عنها كلها، ثمّ إنّ الله يسلّط قوّة الشهوة على البِنْية حتّى يجمع تلك الأجزاء الطليّة، بل إنّها بحسب مادّتها الغذائيّة كانت متفرَقة في أطراف العالَم، ثمّ الله جمعها بقدرته في بدن الحيوان، ثمّ في أوعية المني، ثمّ أخرجها ماء دافقاً إلى قرار الرحم، فإذاً كانت هذه الأجزاء متفرقة فجمعها وكوَّن منها هذا الشخص، فإذا افترقت بالموت مرّة أخرى فكيف يمتنع عليه جَمْعُها مرّة أخرى؟!
هذا كلامه. وفيه ما لا يخفى من وجوه التكلّف، حيث اعتبر مقدّمات لا دلالة عليها ولا حاجة إليها، مع امكان المناقشة فيها وفي استلزامها الدعوى بعد تسليمها.