التفاسير

< >
عرض

نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ
٦٠
عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَـٰلَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٦١
-الواقعة

تفسير صدر المتألهين

لمّا نبَّه على أنّ فاعل صورة الإنسان ومقدِّر وجوده هو الله سبحانه، بحسب جهات فاعليّة ترجع إليه من علمه وإرادته وحكمته - لا بحسب جهات قابليّة ترجع إلى القابل من مادّته ووضعه وحركته -، لأنّ تلك الجهات هي منشأ الفعليّة، والوجوب لحصول أصل الوجود، وهذه الجهات منشأ القوّة والإمكان لتعيّنه، ولاختصاصه بزمان ومكان، وتعدّد وانقسام، فاشار إلى أنّه المعيد كما أنّه المنشئ، فإنّ إيجاد الخلق إفادة أصل الوجود لهم، والإعادة إفادة أصل الوجود وثمرته وغايته. فالمجيء إلى الدنيا من الجنّة هو النزول من الكمال إلى النقص، والخروج من الفطرة الأصليّة، ولا محالة صدور الخلق من الحقّ لم يكن إلاّ على هذا الطريق.
والذهاب من الدنيا إلى الآخرة هو التوجّه من النقص إلى الكمال، والرجوع من الحالة الغربية إلى الفطرة الأصليّة، ولا محالة رجوع الخلق إلى الحقّ ليس إلاّ على هذا الطريق
{ { ٱللَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [الروم:11].
لكن السعداء يتوجّهون إليه تعالى بنفوس راضية، وقلوب سليمة عن العلايق الظلمانيّة والعوائق الرديّة، وأمّا الأشقياء فيرجعون إليه بنفوس مظلمة كدِرة، كثيرة التعلّق بالدنيا ومؤذياتها، وقلوب مسودَّة منكوسة متعلّقة إلى الأسفل.
و "التقدير": ترتيب الأمر على مقدار. قوله: { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ } يحتمل أن يراد منه: نحن خلقنا الأبدان الأخرويّة عند الموت بهيآت متفاوتة مختلفة وقسمناها بين أرواحكم مناسبة لأعمالكم وأخلاقكم، فإنّ الموت قد يطلق على حال الإنسان بعد هذه الحياة الدنيويّة.
وعن مقاتل: المراد من قدَّرنا الموت: قسّمناه عليكم قسمة الرزق، على اختلاف وتفاوت كما تقتضيه مشيّتنا، فاختلفت أعماركم بين قصير وطويل.
وعن الضحّاك: معناه سوَّينا فيه بين المطيع والعاصي وبين اهل السماء والأرض.
وقوله: وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقينَ - أي: لا يسبقنا أحد منكم عليه، ولا يُعجزنا عنه، تقول: سبقته على شيء إذا أعجزته عنه وغلبته عليه.
وقيل: إنّه من تمام ما قبله، فمعناه: لا يغلبنا أحد منكم على ما قدَّرناه من الموت بأن يدفعه.
وقيل: إنّه متّصل بما بعده - وهو قوله: عزَّ اسمه: { عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ }.
إعلم أنّ الروح الإنساني أوجده الله دائماً مدبراً للصورة الطبيعيّة، سواء كان في الدنيا، أو في الجنّة أو في النار، أو في غيرها، فأوّل صورة لبسها بعد الصورة التي أخذ عليها الميثاق، هي صورة دنيوية حشرة بها في رابع شهر من حين تكوّن صورة جسده في الرحم إلى ساعة موته وله فيها انتقلات متّصلة تتوارد عليها الأمثال على نعت الاتّصال، حتّى يظنّ أكثر الناس أنّ بدنه بعينه واحد شخصيّ من ابتداء العمر إلى انتهائه، وليس كذلك، بل له في كلّ حين حشر من صورة إلى أخرى مشابهة، ولتشابه الصور يلتبس ذلك عليهم، كقوله تعالى:
{ { بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ق:15] ويحتمل أن يكون اللبس من اللباس، وفي هذا تشبيه حسَن كما في تفسيره بالاشتباه والالتباس.
ثمّ إذا مات حُشر إلى صورة أخرى من حين موته إلى وقت سؤاله، فإذا جاء وقت سؤاله، حُشر من تلك الصورة إلى صورة جسده الموصوف بالموت، فيجد نفسه الإنسان الميّت المقبور بعينه فيحيا به، ويؤخذ بأسماع الناس وأبصارهم عن حياته إلاّ من خصّه الله بالكشف عن ذلك من نبيّ أو وليّ من الثقلين.
ثمّ يحشر بعد السؤال إلى صورة أخرى في البرزخ، بل تلك الصورة عين البرزخ يمسك فيها إلى نفخة البعث لقوله تعالى:
{ { وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [المؤمنون:100] فيبعث عن تلك الصورة ويحشر إلى الصورة التي كان فارقها في الدنيا إن كان بقي عليه سؤال وحساب، وإن لم يكن من أهل ذلك الصنف، حشر في الصورة التي يدخلها بها الجنّة، والمسؤول إذا فرغ من سؤاله، حُشر إلى صورة يدخل بها الجنّة أو النار - وأهل النار كلّهم مسؤولون محاسَبون -.
فإذا استقرّ أهل الجنّة فيها، ثمَّ دُعوا إلى الرؤية ونودوا إلى الكثيب حُشروا في صورة لا تصلح إلاَّ للرؤية، فإذا عادوا حشروا إلى صورة يدخلون فيها إلى سوق الجنّة، فإذا دخلوا سوق الجنّة ورأوا ما فيه من الصور فأيّة صورة رأوها واستحسنوها انتقلوا إليها، وحُشروا فيها، فلا يزالون في الجنّة دائماً يحشرون من صورة إلى صورة إلى ما لا نهاية له، لأنّ قدرة الله واسعة.
- فاعلم هذا فإنّه من لباب المعرفة الإلهيّة -
وقوله: { وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ }، إشارة إلى حشر الأرواح إلى عالم المفارقات المحضة، المقابل لحشر الأمثال والأجسام إلى عالَم الصور الجانيّة او الجهنميّة، ذلك للمقربين، وهذه لأصحاب الشمال.
ويحتمل أن يكون المراد منه: وَنُنشِئكم فيما لا تعلمون من الهيئات المختلفة على حسب أعمالكم ونيّاتكم فإنّ المؤمن يُخلق على أحسن هيئة وأجمل صورة، والمنافق على أقبح صورة وأوحَش شكل، وربما يُحشر بعض الناس على صورة حيوان لم يُعهد مثله في قبح المنظر وكآبة الصورة، بواسطة تركيب الأخلاق السيئّة في نفسه، التي يوجد لكلّ منها قبح صورة متفرّقة وقد اجتمعت في ذاته، مثل من اجتمعت في ذاته شهوة الحمار، ودناءة الخنزير، وتكبّر الأسد، وحرص النمل، وحقد الجمل، وحسد الغراب، وجبن الصلصل وغير ذلك، فيتركّب هيئة صورة جسده من هيئات صور هذه الحيوانات.
وفي الحديث: يحشر بعض الناس على صورة تحسن عندها القِردة والخنازير.