التفاسير

< >
عرض

أَفَرَءَيْتُمُ ٱلْمَآءَ ٱلَّذِي تَشْرَبُونَ
٦٨
ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ
٦٩
لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ
٧٠
-الواقعة

تفسير صدر المتألهين

الماء المشروب؛ هو الماء العذب الصافي الصالح للشرب. والمُزن: السحاب. واحدهُ مزنَة.
لمّا ذكر في الآية السابقة مادّة المطعوم وصورته، وفاعله الذي هو الخالق الرازق، وغايته التي هي انتفاع الإنسان به وقوام ونشأته الدنيوية مدة عمره منه، ليتهيّأ في تلك المدّة للعود إلى النشأة الآخرة والرجوع إلى غاية الأشياء، وأشير فيها إلى طريق الاستدلال على اثبات البعث، ذكر في هذه الآية مادّة المشروب وصورته، وكيفيّة نزوله، ومبدأ وجوده، وحكمة كونه وغايته.
وطريق الاستدلال به على إثبات فاعل الكلّ وغايته، هو أنّ الماء جسم ثقيل بالطبع تجبره على النزول طبيعته، فإصعاده على خلاف مقتضى الطبع لا بدّ فيه من قوّة قاهرة من عالَم الأمر، هي فوق المادّة والطبيعة، تجبرهما على الصعود كما تجبرها على الاصعاد قوّة العزيز الحميد الذي له المُلك والملكوت، والخلُق والأمر، فإذا اصعدته تلك القوّة التي هي ملك نوراني من ملائكة الله أدّاه إلى يد ملك من ملائكة السحاب وهو خادمه حامل للماء الثقيل وممسك له في جوّ السماء إلى أن يأذن الله له في إرساله وتقطيعه قطرات كلّ قطرة بالقدر الذي قدّره الله على الشكل الذي شاء، وهو أفضل الأشياء وأشرفها، لكونه أبسطها وأوسعها وأدومها وأتمها، وفاعلها ومظهرها ودليلها.
ثمّ ترى ملك السحاب يرشّ الماء بتسيير الرياح وينزل المطر مدراراً في مظان الحاجة إلى الأرض الجُرز، ويرسله قطرات متفاصلة لا تدرك قطرة منها قطرة، ولا تتصّل واحدة بأخرى ولا تزاحمها في الطريق بل تنزل كلّ منها في الطريق الذي رسم لها لا تعدل عنه يمنة ويسرة، ولا يتقدّم المتأخّر منها ولا يتأخّر المتقدّم حتّى تصيب الأرض التي عيّنت لها ولكلّ حيوان فيها من طيرٍ ووَحشٍ وبَهيمةٍ ودودٍ مكتوب على تلك القطرة بخطّ إلهيّ لا يدرك بهذه العين الظاهرة: "إنّه رزق الدود الفلاني في الوقت الفلاني يصل إليه وقت حاجته وعطشه". هذا وغير ذلك من الحِكم التي أنشأها الله تعالى في الماء وانزاله من السحاب في وجوه مختلفة وعلى هيآت متعدّدة، مثل البَرد والثَلج والصقيع وغيرها، مع انعقاد البَرد الصلب من الماء اللطيف، وتناثُر الثلوج كالقُطن المندوف من تأثير محرّك قوي ندّاف مع انّه لا تشاهده العين لغاية لطافته وشفافيته ممّا لا تحصى عجايبه، كلّ ذلك فضل من الجبّار القاهر والخلاّق القادر ما لأحد من الخلايق فيه شرك ومدخل، بل ليس للمؤمنين من خلقه ولا الملائكة المسبّحين إلاّ الاستكانة والخضوع تحت جلاله، ولا للعميان الجاحدين إلاّ الجهل بكفيفيّة خلقه وأمره في شيء، ورجم الظنّ بذكر فاعله وعلّته.
فيقول الجاهل المغرور القاصر النظر: إنّما ينزل الماء من السحاب لأنّه ثقيل بالطبع، وطبيعته سبب نزوله، ويظنّ أنّ هذا معرفة انكشفت له ويفرح به.
ولو قيل له: ما معنى الطبع؟ وما الذي أجبر طبع الماء حتّى رقى إلى جانب السماء؟ حتّى لو احتالوا تخيّلوا وجهاً آخر وقالوا: إنّ الهواء انقلب بطبعه ماء في كرة الزمهرير لبُرودته العارضة لأنّه صعد الماء إلى هناك.
قلنا له: أيّها الجاهِل بعلم ما فوق الطبيعة، والغافِل عمّن بيده الخلق والأمر فمَن الذي أجبَر طبيعة الهواء حتَى انقلب ماء والبرودة كيفيّة عرضيّة، والعرض لا يقلب صورة الجوهر؟ ثمّ مَن الذي أجبَر طبيعة الماء المصبوب في أسفل الأشجار حتّى رقى إلى أعلى الأغصان وهو ثقيل بطبعه، فإذا هوى إلى الأسفل كيف ارتفع ثانياً إلى فوق في داخل تجاويف الأشجار شيئاً فشيئاً، بحيث انتشر في جميع أطراف الأغصان والأوراق؟ فغذاء كل جزء من كلّ ورقة يجري إليه من تجاويف عروق شعريّة دقيقة غير مرئيّة يرى منها العِرق الكبير الذي هو أصل الورقة، ثمّ ينتشر من ذلك العِرق الكبير الممتدّ في الطول عروق صغار، فكان الكبير نهراً وما انشعب عنه جداول، ثمّ ينشعب من الجداول سواقي أصغر منها، ثمّ تنتشر منها خطوط عنكبوتيّة دقيقة تخرج عن ادراك البصر حتّى تنبسط في جميع عرض الورقة فيصل الماء في أجوافها إلى ساير أجزاء الورق ليغذيه وينميه ويبقي طراوته ونظارته، كذلك في ساير الأشجار والحيوانات.
والغرض منها كلّها خِلقة الإنسان وإنّما كوّنت من فُضالته ساير الأكوان كما حقّقه أهل الكشف والبرهان.
وإن كان زمام أمر الماء بيده، فكيف يتحرّك إلى فوق وهو مخالف طبعه؟! وإن كان زمامه بيد جاذب فما الذي سخّر ذلك الجاذب حتّى يجذبه إلى فوق وساير الجوانب؟ فإن كان ينتهي بالآخرة إلى خالق السماوات والأرض وجبّار الملك والملكوت فلِمَ لا يحال عليه في أوّل الأمر حتّى يخلص من هذا الشرك؟؟ فنهاية أمر الجاهل بدايةُ حال العاقل.
فقوله: { ٱلْمَآءَ ٱلَّذِي تَشْرَبُونَ } - أي: تشربون أنتم وأشجاركم وزُروعكم، بل شُرب الأشجار والزروع لدي الاعتبار عند أولي الأبصار وهو شُرب الإنسان، فإنّ الماء يبدرق الطعام إلى ما يتغذى به النبات والحيوان ويسوقه من المواضع البعيدة إلى الإنسان بعد الاستحالات.
وقوله: { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } - أي: جعلناه ملحاً زعاقاً لا يُقدر على شربه كما كان أوّلاً في البحر، أو أبقيناه فيه على حاله من غير أن نصعده إلى فوق ثمّ نرسله إلى مواضع الأرض.
{ فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ } - أي: لا تعرفون قدر هذه النعمة العظيمة، فإنّ الشكر كساير المقامات له جزء علميّ - هو كالأصل -، وجزء عمليّ كالفرع فمَن عرف الأصول التي منها تحصل الأطعمة وتصير صالحة لأن يتغذّى بها الإنسان يعلم أنّ تلك الأسباب لأجل سياقه العباد إلى عالَم المعاد، فيعمل بالضرورة عمل أهل الآخرة، كما قال تعالى:
{ { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّاً } [عبس:24 - 25] - الآية -.
فإنّك إذا نظرت إلى طعامك عرفت انّه قد حصل من الماء والتراب، وإذا نظرت إليهما عرفت انّهما بصرافتهما لا يغذيانك، فتحتاج إلى البذور والحبوب، فإذا وجدت حبّة أو حبّات فلو أكلتها لفنيت وبقيت جائعا فيما أحوجك إلى أن تنمو الحبّة في نفسها وتزيد وتتضاعف حتّى تبقى لحاجاتك، فخلق الله في حبّه الحنطة والشعير من القوى ما يغذى له كما خلق فيك، فإن النبات لا يفارقك في الاغتذاء والنماء، بل يفارقك في الحسّ والحركة الإراديّة، وكما أنّ كلّ شيء لا يغذيك فكذلك النبات لا يتغذّى بكلّ شيء، يل يحتاج إلى طعام مخصوص، بدليل أنّه لو تركته في البيت لم يزدد بمجّرد مصادفة الهواء، ولو تركتها في الماء لم تَنْمُ وكذلك لو تركتها في أرض لا ماء فيها، بل لا بدّ فيه من أرض فيها ماء يمتزج بها، ومن هواء يتخلخل فيهما، ومن حرارة تؤثر فيها، فيحتاج إلى العناصر الأربعة لتحصل منها مادّة غذائيّة.
ثمّ الماء لا يتحرّك بنفسه، فالله سبحانه يحرّكه بأيدي الملائكة الموكّلة عليه - كما أشير إليه في قوله:
{ { أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّاً } [عبس:25] -.
ثمّ الهواء لا يتحرّك بنفسه، ولو تركت الحبّة في أرض نديّة صلبة متراكمة لم تنبت - لفقد الهواء في جوفها - ولا بدّ من تركها في أرض رخوة متخلخلة يتخلخل إليها الهواء، فيحتاج إلى ريح تحرّك الهواء وتضربه بقهر وعنف على الأرض حتّى تنفذ فيها.
وإليه الإشارة بقوله:
{ وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } [الحجر:22].
وإنّما لقاحها في إيقاع الازدواج بين الهواء والماء والأرض ثمّ يحتاج إلى حرارة الربيع والصيف وهي لا تحصل من الماء والأرض لأنّهما الباردان، ولا من الهواء، لقلّة حرارته الذاتيّة ولتبرده بمجاورتهما، ولا من كرة النار لبُعْدها، فانظر كيف سخَّر الله الشمس وكيف جعلها مع بُعدها عن الأرض مسخنة لها في وقت دون وقت عند الحاجة، وجعل القمر نائباً عنها في نضج الفواكه لما فيه من الترطيب، كما فيها من التسخين.
وهذه إحدى فوائد الشمس والقمر، والحِكَم فيهما وفي السماويّات كثيرة لا تحصى، ثمّ إذا عرفت حاجة النبات إلى الشمس والقمر والكواكب علم أنّ وجودها لا يكون ولا يتمّ إلاّ بأفلاك هي مركوزة فيها، ولا تتمّ الأفلاك إلا بحركاتها، ولا تتمّ حركاتها الإراديّة الشوقيّة إلاّ بملائكة نفسانيّة تحركها بإرادات وأشواق إلى ما هي فوقها من غايات عقليّة، فلا يتمّ إلاّ بملائكة عقلية مفارقة عن الأجسام وأشواقها وأعراضها لتعاليها عن النظر إلى غير وجه الله، لأنّهم المعتكفون تحت قبّة الجبروت فهم أبداً في مشاهدة جماله، متحيّرون لا يرومون النظر إلى ما سواه، لأنّهم صائرون إليه
{ { أَلاَ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلأُمُورُ } [الشورى:53].
فمن عرف أنّ كلّ نعمة من نعم الله لا تتم إلاّ بأمثال هذه الأمور المرتّبة المذكورة بعضها المطوية أكثر منها لخفائها ودقّتها من الأسباب المؤدية إلى عظايم عوالم ملكه وملكوته وجبروته، ثمّ إلى مرتبة الإلهيّة وأسمائها، ثمّ إلى تحت قبابه الأحديّة وكبريائه العينيّة، فيعلم أنّ بدء الأشياء منه تعالى، فيأخذ في شكر نعمه، ويجعل كلّ شيء في مصرفه الذي صرفه الله إليه، فينكشف له انّ موادّ الأغذية كالماء والأرض والنار والهواء لفائدة الاغتذاء وحصول صورة الغذاء، وهي لحصول النشوء والنماء وهما لتمام خلقة الشخص وبقاء النوع ممّا لا يقبل شخصه قوّة البقاء، ثمّ تمام الخلقة إنّما يكون لحصول النفس الحسّاسة المتحرّكة وهي النفس المتخيّلة، وهي للناطقة العارفة بالحقّ وملكوته بالقوّة، وهي للقوّة العاقلة بالفعل الصائرة عقلا فعّالا يفيض منه المعقولات لأنّه قلم الحقّ الأوّل الذي ينشأ منه تصوير الحقايق على ألواح القلوب والنفوس، والقلم بيد القدرة مقبوضة مسخّرة متحرّكة بها ولأجلها، والقدرة تنتهي إلى القادر فمنه الابتداء وإليه الانتهاء.
فإذا علم هذا بلغ إلى مقام التوكّل والرضاء. فإن بلغ إليهما وأحكمهما يصل إلى مقام الوحدة، فيصير عبداً مخلَصاً عن شوب الشرك بالكليّة إذ في الشكر ضَرْبٌ من الشرك الخفيّ لكونه لاستجلاب المزيد، وكذا في التوكّل فإنّه يستدعي متوكِّلا ومتوكَّلا عليه يتوكّل المتكلّف في حوالة أمره إلى الوكيل، والرضا وإن كان باب الله الأَعظم، ففيه أيضاً رائحة من الاشتراك فإنّ الراضي يستدعي وجوداً مقابلاً لوجود المرضيّ عنه، وله مجال تصرّف تركه بالاختيار، وهذه المرتبة أيضاً قاصرة عن درجة الواصلين إلى درجة التوحيد، فإن ارتقى من هذه الدرجات وصل إلى مقام الفناء المحض، ومحو الأثر بالكلّية، وهو منزل أهل الوحدة المطلقة فإنّ إلى الله المنتهى وإليه الرجعى.