التفاسير

< >
عرض

نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ
٧٣
-الواقعة

تفسير صدر المتألهين

إنّ الله جعلها تذكرة ليتذكّر بها الإنسان كثيراً من دقائق صنع الله وعجايب حكمته.
منها ما مرَّ، ومنها أنّها تدلّ على النار الأخرويّة الكبرى لِما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
"نارُكم هذه التي يُوقد بني آدم جزء من سبعين جزء من حرِّ جهنَّم" فإذا رآها الإنسان ذكَر جهنّم وأهوالها فاستعاذ بالله منها.
ومنها: أنّها تدلّ على نار النفس التي هي شعلةٌ ملكوتيّة يتوقّد بها القلب بواسطة الروح البخاريّة التي هي كفتيلةٍ دخانيّة استعدّت للاشتعال
{ { وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } [النور:35]، كمادّة فيها كيفية كبريتيّة، وتلك النفس هي التي سوّاها الله { { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [الشمس:8]، فتذكّر قوله: { { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [الشمس:8 - 10] فتأخذ في تزكية النفس وتطهيرها من الآفة والنقص.
ومنها: أنّها جوهر نوارني سماوي، والنور حقيقة بسيطة تختلف مراتبه بالشدّة والضعف، وغاية كماله الأنوار العقليّة والنفسيّة، وهي كظلال وأضواء للنور الأحدي الإلهيّ، فيتذكّر بها عالَم الربوبيّة ويسافر منها إليه كما وقع لموسى على نبيّنا وآله وعليه السلام.
ومنها: أنّها مادّة خلقة الشياطين وجنوده، فيتذكّر بها إبليس وكيده ويتعوّذ بالله منه بأن ينوّر نار نفسه بنور المعرفة، ويتّقي من استيلاء شرارة الغضب وحرارة الشهوة ودخان المعصية عليه، ويطفئ بنور إيمانه نار جهنّم، كما ورد في الحديث:
"إنّها تقول للمؤمن: جُزْني يا مؤمن فإن نورُك أطفأ ناري" . تأويلا لقوله تعالى: { { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } [مريم: 71 - 72].
وقوله: { وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ } - أي جعلناها بُلْغة ومنفعة للمسافرين عن ابن عبّاس والضحّاك وقتادة: يعني الذين نزلوا الأرض القَواء - وهي القفر.
وعن عكرمة ومجاهد: للمتمتِّعين بها من الناس أجمعين المسافرين والحاضرين. فيكون المقوي عن الأضداد - الذي صار ذا قوّة من المال والنعمة، والذي ذهب ماله، ونزل بالقَواء من الأرض -.
وفيه إشارة لطيفة وهي: أنّ الروح الإنساني المسافر إلى عالَم الغيب من عالَم الشهادة ما دام نزوله في البدن وهو مكان قفر مظلم لا يوجد فيه شيء من نعيم الآخرة بنتفع بحرارة نار الطبيعة التي في البدن لأنّها فاعلة فيه بتسخين البدن، فتصطلي بها قواه وتستضيء بها حواسّه وتفعل التغذية وتهضم الطعام وتطبخ الطبيخ من اللحوم والحبوب والتوابل وغيرها في قدر المعدة أوّلاً، ثمَّ في قدر الكبد ثانياً. وأمّا إذا ارتحل الروح عن البدن ووصل إلى موطنه، استغنى بأنوار المعارف الإلهيّة الفاعلة للحياة الأخرويّة الدائمة عن أنوار الحسِّ والحركة الناشئة عن طبيعة البدن، كما استغنى المقوي عن النار التي كان ينتفع بها في الأرض القِواء ليلاً - إذا رجع إلى منزله نهاراً - بأنوار الشمس.
وأمّا أهل الجحيم، فهم بمنزلة الفقراء المحتاجين المضطّرين الذين اشتدت حاجتهم إلى النار، حيث كانوا لشدّة الفقر - سواء كانوا في المسكن أو في القفر -، فإنّهم إذا رجعوا إلى مواطنهم في الشتاء، سكنوا في الأتونات والمزابل والمواضع المظلمة، وذلك لبرودة قواهم الطبيعيّة بالهرم والموت وانطفاء أنوار حواسّهم، فليس لأحدهم نور، لا نورُ المعرفة ولا نور الحسّ ولا نار الطبيعة، لأنّهم باعوا حرارة الطبيعة وأنوار الحواسّ بثمن بخس من اللذّات الدنيويّة، ولم يصرفوها في اكتساب نور المعرفة حتّى يربحوا ويفوزوا فوزاً عظيما، فهم قد خسروا خسراناً مبينا كما قال سبحانه:
{ { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ * مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [البقرة:16- 17].