التفاسير

< >
عرض

لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ
٧٩
-الواقعة

تفسير صدر المتألهين

إنّ القرآن كالإنسان المنقسم إلى سر وعلن، ولكلّ منها ظهر وبطنٌ، ولبطنه بطن آخر - إلى أن يعلمه الله - ولعلانيته علانية أخرى إلى أن تدركه الحواسّ وأهلها.
أمّا ظاهر علَنه فهو المصحف المحسوس المَلموس، والرقم المنَقوش الممسوس.
وأمّا باطن علنه فهو ما يدركه الحسّ الباطن، ويستثبته القرّاء والحفّاظ في خزانة محفوظاتهم كالخيال ونحوه، والحسّ الباطن لا يدرك المعنى صِرفاً، بل خلطاً مع عوارض جسمانيّة، إلاّ انّه يستثبته بعد زوال المحسوس، فإنّ التخيّل والوهم أيضاً كالحسّ لا يحضران في الباطن المعنى الصرف كالإنسانيّة المطلقة، بل نحو ما يدركه الحسّ من خارج مخلوطاً بزوايد وغَوَاشٍ من كمٍّ وكيفٍ وضعٍ وأيْنٍ، فإذا حاول أحدهما أن تتمثّل له الصورة الإنسانيّة المطلقة بلا زيادة أخرى لم يمكنه ذلك، بل إنّما يمكنه اشتثبات الصورة المقيّدة بالعلايق المأخوذة عن أيدي الحواسّ وإن فارق المحسوس، بخلاف الحسّ فإنّه لا يمكنه ذلك، فهاتان المرتبتان من القرآن أوّليتان دنويتان مما يدركه كلّ إنسان.
وأمّا باطنه وشرّه فهما مرتبتان أخرويّتان لكلّ منهما درجات:
فالأولى ممّا تدركه الروح الإنسانيّة التي تتمكّن من تصور المعنى بحدّه وحقيقته، منفوضاً عنه اللحواق القريبة، مأخوذاً من المبادي الفعالة من حيث تشترك فيه الكثرة وتجتمع عنده الأعداد في الوحدة، ويضمحلّ فيه التخالف والتضادّ وتتصالح عليه الآحاد، ومثل هذا الأمر لا تدركه الروح الإنسانيّة ما لم تتجرد عن مقام الخلق، ولم تنفض عنها الحواسّ ولم ترتقِ إلى مقام الأمر متّصلة بالملأ الأعلى، إذ ليس من شأن المعقول من حيث هو معقول أن يحسّ، كما ليس من شأن المحسوس من حيث هو محسوس أن يعقل، ولن يستتمّ الإدراك العقلي بآلة جسمانيّة، فإنّ المتصوّر فيها مخصوص مقيّد بوضع ومكان وزمان، والحقيقة الجامعة العقليّة لا تتقرّر في منقسم مشار إليه بالحسّ، بل الروح الإنسانيّة تتلقّى المعقولات بجوهر عقلي من حيّز عالَم الأمر ليس بمتحيّز في جسم ولا متمكّن في حسّ ولا داخل في وهم. ثمّ لمّا كان الحسّ تصرفه فيما هو من عالَم الخلق والعقل تصرفه فيما هو من عالَم الأمر، فما هو فوق الخلق والأمر فهو محتجب عن الحسّ والعقل جميعا، ولا شكّ أنّ كلام الله من حيث هو كلامه قبل نزوله إلى عالَم الأمر - وهو اللوح المحفوظ - وقبل نزوله إلى عالم السماء - وهو لوح المحو والإثبات وعالم الخلق - له مرتبة فوق مرتبة الخلق والأمر جميعا فلا يتلاقاه ولا يدركه أحد من الأنبياء إلاّ في مقام الوحدة الإلهية عند تجرّده عن الكونين - الدنيا والآخرة - وعروجه وخرقه العالَمين - الخلق والأمر -.
كما قال أفضل الأنبياء:
"لي مع الله وقت لا يسَعني فيه ملك مقرّب، ولا نبيّ مرسل" .
فإذا تقرّر هذا، ثبت أنّ للقرآن منازل ومراتب، كما للإنسان درجات ومعارج، فلا بدّ لمسِّ القرآن في كلّ مرتبة ودرجة من طهارة وتجرّد عن بعض العلايق، فالضمير في "لا يمسّه" إن كان عائداً إلى المصحف الذي بأيدي الناس ويدركه جمهور أرباب الحواسّ، فلا يجوز لغير المتطهّر من الأحداث والأنجاس - كالجنابة والحيض والنفاس - مسّ كتابته أو مسّ المصحَف، كما هو عند البعض، وروي عن محمّد بن عليّ الباقر (ع)، وعطا، وطاووس، وسالم، وهو مذهب الشافعي ومالك، ولا لغير المتطهر من نجاسة كفر القالب بالإقرار بالشهادتين وتلاوته وحفظ ألفاظه، فيكون "لا يمسّه" خبراً بمعنى النهي.
وإن كان عائداً إلى كتاب مكنون، وجعلت الجملة الفعليّة صفة له، فالمعنى: لا يمسّ اللوح المحفوظ ولا يحمله بما فيه إلاّ المجرّدون عن جلباب البشريّة من الإنسان والملائكة، الذين وُصفوا بالطهارة من آثام الأجرام كجبرئيل حاملاً التنزيل في مقام التفضيل.
وإن كان عائداً إلى القرآن الكريم من حيث يحمله القلم الأعلى في مقام الإجمال - حتّى تكون الجملة الإسميّة صفة له، والفعليّة صفة أخرى بعد صفة، وهما جميعا صفتان له بعد صفة الكرامة - فيكون المعنى: لا يَمسُّه إلاّ المطهّرون عن نقايص الإمكان وأحداث الحدثان، وهم أعاظم الأنبياء والمرسلين، وأكابر الملائكة المقرّبين.
وبالجملة، للقرآن درجاتٌ كما مرّ، وكذلك للإنسان بحسبها، ولكلّ درجة من درجاته حمَلَة يحملونه وحفَظَة يحفظونه، ولا يمسّونه إلاّ بعد طهارتهم عن حدثهم أو حدوثهم، وتقدّسهم عن شواغل مكانهم أو إمكانهم، وأدنى المنازل في القرآن ما في الجلد والغلاف - كما أنّ أدون الدرجات للإنسان هو ما في الجلد والبشرة -، ويجب أن لا يحمله الإنسان البشري إلاّ بعد تطهير لبشرته وغلافه من النجاسة.
وهذا كما ورد أنّ للإيمان ليس باباً واحداً، بل هو نيِّف وسبعون باباً أعلاها شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق.
ومثاله قول القائل: ليس الإنسان موجوداً واحداً، بل هو نيِّف وسبعون موجوداً، أعلاها الروح، وأدناها إماطة الأذى عن البشرة - بأن يكون مقصوص الشارب مقلوم الأظفار، نقيّ البشرة عن الأخباث - حتّى يتميّز عن البهائم المرسلة الملوّثة بارواثها، المستكرهة الصور بطول مخالبها وأظلافها.
فعلم من هذا، أنّ الإنسان ومراتبه مثال مطابق للإيمان ومراتبه، وكذا حكم القرآن. وسيأتيك زيادة كشف.