التفاسير

< >
عرض

تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٨٠
-الواقعة

تفسير صدر المتألهين

هذه صفة رابعة للقرآن، أي: منزّل من عند ربّ العالمين إلى أهل هذا العالَم، وإنّما وُصف بالمصدر، لأنّه من حيث هذا الوجود الكوني نزل منجَّما بحسب الدواعي الكونيّة والمصالح الخَلقيّة في الأوقات المعيّنة، فكأنّه في نفسه تنزيل لتعالي الباري القيّوم عن وصف التغيّر والتجدّد وكثرة الدواعي والإرادات.
وأمّا كيفيّة هذا التنزيل: فنقول في بيانها: إنّ الذات الأحديّة بحقيقة الصمدانيّة ممّا لا سبيل لأحد إلى إدراكها - سواء كان من الملائكة أو من الإناس - وغاية السبيل إليه لأهل الكَوْنين إدراك أفعاله وآثاره، وكلامه وكتابه عندنا من جملة أفعاله وآثاره - إلاّ أنّ أحدهما - وهو الكلام، من عالَم أمره، بل هو الأمر كلّه، لقوله تعالى:
{ { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس:82] وأمره منزّه عن التجدّد والتضادّ لقوله: { { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ } [القمر:50].
وثانيهما - وهو الكتاب - من عالَم خلقه، بل هو عالَم خلقه لاشتماله على التجدّد والتضاد لقوله تعالى:
{ { وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [الأنعام:59].
ولكلّ منهما منازل ومراتب، وكلّ واحدة من مراتب الكلام قضاء، وكلّ واحدة من مراتب الكتاب قَدَر، وأعلى مراتب القضاء قضاء محض ليس فوقه قضاء، وهو الكلام الإلهيّ المبدَع له في الحقيقة.
وأدنى مراتب القدر، "قدر محض" لا قَدَر تحته، وهو الكتاب الكوني الذي فيه كتابه أعمال أهل الشمال.
وكما أنّ كلام الله مشتمل على الآيات، وهي آيات الله الكبرى الواقعة في المواقف العقليّة المثاليّة -
{ { تِلْكَ آيَاتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ } [البقرة:252] وكذلك كتابه المبين مشتمل على آيات وهي الآفاق والأنفس { { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } [يوسف:1] - وكل كلام إذا نزل وتشخّص يصير كتاباً، كما أنّ الأمر إذا نزل صار فعلا - { { كُنْ فَيَكُونُ } [البقرة:117] فالكتاب نايب الكلام، وأصل الكلام إنّما يراد لتصوير ما يتضمّنه باطن المتكلم في باطن المخاطب فيصير مثله، فإذا عجز المخاطب عن مسّ باطن المتكلّم - مسّ الخاتمِ للشمعة ليجعله بمثله في نقشه ورقشه - اتخذ بين الباطنين سفيراً من الظاهرين، إمّا رسولا هوائيّا متكّلما به، أو رسالة سطحية ناطقة بما فيها. فإنّ الهواء بتموّجه الصوتي على هيئة الحرفيّة كتاب بالقياس إلى ما فوقه - وهو نفَس المتكلّم -، وهو بعينه كلام بالقياس إلى ما تحته - وهو صحيفة الرسالة أو بسيط السماخ بهيئاتها الكتابيّة -.
فعلى هذا، كلّ واحدة من الذوات المفارقة والملائكة العقليّة التي هي علوم إبداعيّة وصور مجرّدة، كلام الله باعتبار، وقلمه باعتبار. وكلّ واحد من الجواهر الفعليّة والملائكة المدبرة كتاب الله باعتبار، ولوحه باعتبار.
وكذا الألواح القَدرّية والصحايف السماويّة، كلّ منها كتاب مشتمل على آيات الربوبيّة ودلائل القدرة، وهكذا صحيفة الأكوان وطومار حوادث الزمان، ودفتر الصور الجسمانيّة، كتاب فيه آيات الليل والنهار التي ينشر بعضها وينطوي بعض آخر ويظهر ويكمن، كما قال:
{ { إِنَّ فِي ٱخْتِلاَفِ ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ } [يونس:6].
فعالَم الكلام والقول، فيه آيات أمريّة عقليّة وعلميّة، وعالَم الكتاب والفعل، فيه آيات خَلقيّة كونيّة عمليّة، وما لم يطلع الإنسان أوّلاً بمشاعر نفسه وبدنه هذه الآيات الفعليّة الكتابيّة الآفاقيّة والأنفسيّة لم تترقَّ بها ذاته من مقام الحسّ والنفس إلى مقام القلب والروح فيسمع ويفهم تلك الآيات العقليّة الكلاميّة حتّى يعرف بها الحقّ الأوّل، كما قال:
{ { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } [فصلت:53].
فإذا علِمتَ الفرق بين الكلام والكتاب، فاعلم أنّ هذا القرآن كلام الله وكتابه جميعا، وهو بما هو كلام الله نور من أنوار الله المعنويّة، نازل من لدنه، ومَنْزلُهُ الأوّل قلب من يشاء من عباده المحبوبين لقوله:
{ { وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } [الشورى:52]. وقوله: مخاطِباً نبيّه: { { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ } [الشعراء:193] وقوله: { { وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ } [الإسراء:105].
وهو بما هو كتاب نقوش وأرقام، وفيها آيات أحكام نازلة من السماء نجوماً على صحايف قلوب المحبّين، وألواح قلوب السالكين وغيرهم، يكتوبنها بأيديهم في صحايف أعمالهم وألواح أفكارهم، بحيث يقرأها كلّ قارئ ويعمل بأحكامها كلّ عامل، ويتساوى في هديها الأنبياء والأمم، كما في قوله:
{ { وَأَنزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ } [آل عمران:3 - 4] وقوله: { { وَعِنْدَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ } [المائدة:43].
وأمّا القرآن الكريم، ففيه عظايم علم الله، يتعلّم به نبيّ الله لقوله تعالى
{ { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } [النساء:113] وفيه عظايم أخلاق الله يتخلّق به خاتم الأنبياء - عليه وعليهم السلام - لقوله: { { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم:4].
فإذا تقرّرت هذه المقدّمات، وتبيّنت، فنقول في كيفيّة تنزيل الكلام وإنزال الكتب: إنّ الروح الإنسانيّة كمرآة مجلوّة إذا صُقلت بصقالة العقل النطري، وزالت عنها غشاوة والطبيعة ورَيْن المعصية، فحينئذ لاح لها نور المعرفة والإيمان، وهو المسمّى عند أئمّة الحكمة بالعقل بالفعل، وبهذا النور تتراءى فيها حقائق الملكوت، وخفايا الجبروت، كما تتراءى الأشباح المثاليّة في المرايا العقليّة إذا لم تفسد صقالتها بطبع ورين، لقوله:
{ { وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } [التوبة:87] { { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [المطففين:14].
فإذا اعرضَت عن البدن والاشتغال بما تحتها من الشهوة والغضب والحسّ والتخيّل، وتوجّهت وولَّت بوجهها تلقاء عالم الملكوت الأعلى اتّصلت بالسعادة القصوى، ورأت عجايب الملكوت والآيات، كما في قوله:
{ { لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ } [النجم:18]. ثمّ إنّ هذه الروح إذا كانت قدسيّة شديدة القوى، قويّة الإنارة لما تحتها، لا تشغلها جهة فوقها عن جهة تحتها، فتفي للجانبين وتضبط للطرفين، لا يستغرقها لغاية قوّتها وشدّة تمكنها حسّها الباطن عن حسّها الظاهر، وليست كالأرواح العاميّة الضعيفة إذا مالت إلى الجانب الباطن غابت عن الجانب الظاهر، وإذا رجعت إلى مطالعة الظاهر غابت عن مطالعة الباطن، وإذا حضرت في شهود نشأة احتجبت عن النشأة الأخرى، بل إذا ركنت إلى مشعر من المشاعر ذهلت عن الآخر، وكذلك في القوى العمليّة إذا اشتغلت بما تورده قوّة تعطّلت عمّا تورده قوّة أخرى، وكذلك، البصر منها يخلُّ بالسمع، والخوف يشغلها عن الشهوة، والشهوة تصدّها عن الغضب، والفكر يعطّلها عن الفعل، والذِكر يصرفها عن الفكر. والروح القدسيّة لا يشغلها شأن عن شأن، ولا تحجبها نشأة عن نشأة. فإذا توجّهت إلى الأفق الأعلى وتلقّت المعارف بلا تعليم بشري من الله، أو من ملائكة الله، يتعدّى تأثيرها إلى قواها، وتتمثّل صورة ما شاهدها في روحها البشري، ومنها إلى أجسام العالَم، فتذعن لها طبيعة الخلق الأكبر وقواها من النفوس الجزئيّة كما تذعن للملائكة الأقربين لاتّصالها بهم، فيكون حكمها حكمهم عند اتّصالها بأفق النور الإلهيّ.
والملائكة العلميّة ذوات حقيقة ولها ذوات مضافة إلى ما دونها تشنأ منها الملائكة اللوحيّة، وأمّا ذواتها الحقيقيّة فهي أمريّة كلاميّة قضائيّة، وأما ذواتها الإضافيّة النفسيّة فهي خلقيّة كتابيّة قدريّة.
وإنّما يلاقي الصنف الأوّل للملائكة من القوى البشريّة الروح القدسيّة في اليقظة، فإذا اتصلت الأرواح النبويّة بعالَمهم - عالم الوحي الإلهي - تسمع كلام الله وهو إعلام الحقايق بالمكالمة الحقيقية بينها وبينه لكونها في مقام القرب ومقعد الصدق. والوحي هو الكلام الحقيقي الإلهي كما مرَّ. فكذلك تعاشر تلك الملائكة وتخاطبهم وتسمع صرير أقلامهم كما حكاه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عن نفسه.
ثمَّ إذا نزل إلى ساحة الملكوت السماويّ، تتمثّل به صورة ما شاهده في لوح نفسه الواقعة في عالَم الأرواح، ثمّ يتعدّى منه الإنزال إلى الظاهر، وحينئذ يقع للحواسّ الظاهرة شبه نوم ودَهش، لِما علمت من أنّ الروح القدسيّ، لضبطه الجانبين، يستعمل المشاعر الحسّية ويشغلها في سبيل معرفة الله وإطاعة الحقّ، فإذا خاطبه الله خطاباً بلا حجاب من الخلق بواسطة المَلَك أو بدونه واطّلع على آيات ربّه، وانطبع في فصِّ نفسه الناطقة نقش الملكوت وصورة اللاهوت، وكان يتشبّح له مثال من الوحي وتحامله إلى الحسِّ الباطن، فتنجذب قوّة الحسّ الظاهر إلى فوق، ويتمثّل لها صورة الملك بحسب ما يحتملها، فيرى ملكاً على غير صورته التي كانت في عالَم الأمر، بل على صورته الخلقيّة القدَريّة، ويسمع كلامه بعد ما كان وحياً أو يرى لوحاً بيده مكتوباً. فيكون الموحي إليه يتّصل بالمَلك بباطنه وروحه، ويتلقّى بروحه القدسيّة منه المعارف الإلهيّة ويشاهد آيات الله ويسمع كلام الله الحقيقي العلميّ من الملك الذي هو الروح الأعظم، ثمّ يتمثّل له المِلك بصورة محسوسة، وكلامه بصورة أصوات وحروف منظومة مسموعة وفعله وكتابه بصورة أرقام ونقوش مبصرة، فيكون كل من الوحي والملك تتأدّى إلى مشاعره وقواه المدركة من وجهين، ويعرض للقوى الحسّية شبه الدَهش، وللموحى إليه شبه الغشى، ثمّ يرى ويسمع ويقع الإنباء.
فهذا معنى تنزيل الكلام وإنزل الكتاب من ربّ العالمين، وعلم منه وجه ما قيل: إنّ الروح القدسيّة تخاطب الملائكة في اليقظة، والروح النبويّة تعاشرها في النوم، ولكن يجب ان يُفرق بين نوم الأنبياء ونوم غيرهم، فإنّ نومهم عين اليقظة.