التفاسير

< >
عرض

فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ
٨٣
وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ
٨٤
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ
٨٥
فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ
٨٦
تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٨٧
-الواقعة

تفسير صدر المتألهين

ترتيب الكلام وأصله هكذا، فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين. وباقي الكلام وقع اعتراضاً أو تأكيداً. أي: فلولا ترجعون النفس - أي: الروح المحتضر - إن كنتم غير مدينين، أو في تكذيبكم البعث أو غيره صادقين إذا بلغت الحلقوم عند الموت، وأنتم يا أهل الميّت حينئذ ترون تلك الحال منه، وقد صار إلى أن تخرج منه روحه. فـ "لولا" الثانية مكرّرة مؤكّدة للأولى، والمستكنّ المرفوع في: "بلغت" والبارز المنصوب في "ترجعونها" للنفس، والمجرور في: "أقرب إليه" للمحتصر.
و { غَيْرَ مَدِينِينَ } - أي: غير مسوسين بسياسة. من دان السلطان رعيّته إذا ساسهم.
وقوله: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } إثبات لمعيّته تعالى لكلّ شيء وقربه منه معيّة قيّوميّة وقرب معنوي إلهي، لا بمداخلة ولا بمماسّة كمعيّة جسم لجسم، ولا كمعيّة صورة لمادّة، ولا كعرَض لمحلّ ولا بالعكس، ولا كمعيّة مقوّم الماهيّة - كالجنس والفصل - للماهيّة، أو مقوّم الوجود كالمادّة والصورة للموجود المتقوّم بهما خارجاً أو عقلا - فإنّ الباري قيّوم لكلّ شيء وغاية له، لأنّه مقوّم لشيء بأحد هذه المعاني. وأقرب أسباب الشيء ومقوّماته إليه هو الفاعل الحقيقي، والغاية له، لأنّه مسبّب الأسباب من غير سبب.
وقيل المعنى: ونحن أقرب إليه بقدرتنا وعلمنا، ومرجع هذا الكلام أيضاً إلى ما مرّ. لأنّ قدرته وعلمه غير زايدين على ذاته.
وقيل المعنى: ورُسلنا الذين يقبضون روحه أقرب إليه منكم، ولكن لا تبصرون رسلنا ولا تعلمون قبضهم للأرواح من الأجساد، لأنّ إدراك الأمور الأخرويّة ومقدّماتها موقوف على وجود البصيرة الباطنة، وهي إنّما تختصّ بأهل الله وأصحاب الكشف والشهود، وأما قوله:
{ { وَلَوْ تَرَىۤ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوۤاْ أَنْفُسَكُمُ } [الأنعام:93].
حيث أتى بلفظة "لو" الدالّة على النفي أو الامتناع، مع كون المخاطب هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): فليس متعلّق "لو" نفس الرؤية مطلقا ليدلّ على نفيها أو نفي إمكانها منه مطلقاً، بل مقيّدة بجماعة مخصوصة أو زمان مخصوص قبل موتهم أو بعده، أو بغير ذلك من الموانع الخارجيّة، وإلاّ فالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كان عارفاً بملائكة الموت وعدد أيدهم وكيفيّة إخراجهم لنفوس الكفّار عن أبدانهم، وبملائكة الحياة وأعوانهم وكيفيّة قبضهم لأرواح المؤمنين من أبدانهم ونفوسهم.
ومعنى الآية: إنّكم أيّها الجاحدون لحقائق الإيمان، والمنكرون للنشأة الآخرة والبعث والصراط والميزان، ورجوع الخلايق كلّها إلى الرحمن الرحيم، والذاهبون إلى مذهب الإهمال والتعطيل في كلّ شيء ينسب إلى الحقّ المنّان، وملائكته المدبّرين للأكوان، المقتصرون على عالَم الحسّ والشهادة، حيث إنّكم تجحدون أفعال الله وآياته وملائكته ورسله في كلّ شيء، فتنسبون الكتاب والكلام إلى الشعر والإفتراء، وتنسبون الأرزاق إلى النجوم التي في السماء، ومصادفة الأمطار في وقت الحاجة وزمان الدعاء إلى الأنواء، والحياة والموت والصحّة والمرض وغيرها إلى تأثير الأمزجة والأهوية، وتلتمسون الشفاء من الأدوية فمالكم لا تُرجعون الروح إلى البدن بعد بلوغها الحلقوم، وإن لم يكن ثم قابض ومُخرج من الأمور الغائبة عن عالَمكم عالَم الشهادة والأسباب البعيدة عن شهود إدراككم، فهلاّ إن كنتم صادقين في دعواكم تَرجعونها بالتدابير الطبِّية والبخورات والعزائم الكهانيّة والنيرنجات والطلسمات النجوميّة، ولو على سبيل الندرة والإتّفاق -، إن لم يكن قضاء حتم وقدَر لازم من أمر الله بموت كلّ إنسان في وقت معيّن لا يحيط به علم البشر.
واعلم أنّ هذا حال أكثر المنتسبين إلى العِلم والكياسة كالمتفلسِفة وعامّة الأطبّاء والمنجّمين، وساير الطبيعيّين والدهريّين المعطّلين الذين عطّلوا الله عن جوده وتدبيره للعالَم، وانحصرت علومهم في أحوال الطبايع الجسمانيّة وقواها وكيفيّاتها، وبهم زمانة عقول الجمهور عن الارتقاء إلى عالم الغيب فلا يؤمنون به حتّى يَرَوا العذاب الأليم، وهكذا درجة أكثر المتكّلمين من المجسّمة والحنابلة والكراميّة ومَن يحذو حذوهم في عدم الإيمان بما وراء المحسوس وما بعد الطبيعة، وإنّما امتازوا عن ساير الجحَدة والمنكرين وأتباع مردة الشياطين، بإقرارهم بأحكام الشرايع والأديان وعملهم بظواهر الأركان، وأمّا المؤمنون الحقيقيون فهم الذين يؤمنون بالغيب وعالَم الملكوت الربّاني، ويذعنون بالنشأة الآخرة ضميراً وقلباً، وهم ليسوا إلاّ العارفين خاصّة، وما سواهم إن لم يكونوا من أهل سلامة الصدور والإقتداء بأهل الدين وأصحاب اليقين، والإتّباع لسبيل المؤمنين، فكانوا من حزب الشياطين المبتدعين، وجنود ابليس أجمعين، فمآلهم كمآل أهل النكال وأصحاب البدع والضلال والإضلال، في صَلْي الجحيم والحرمان عن النعيم لقوله:
{ { وَمَن...وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ } [النساء:115].
فما بالك أيّها المسلم، الذي وُلدت على فطرة الإسلام، تترك متابعة الرسول وأهل بيته وأتباعه الذين دبَّروا بعقولهم المنوّرة وآرائهم الرزينة أمر الدنيا والآخرة وسلكوا سبيل الله، وأنابوا إليه، ولا تتبع سبيل من أناب، واتّبعتَ رأي الفلاسفة. فلو استنبطت من معادن وجودك باستعمال الأدوات والقوى فيما هداك إليه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لانفجرت مياه العلوم من صميم قلبك، وانفتحت عين عقلك، وهديت بأشعّة بصيرتك إلى عوالم الغيوب وشاهدت بعين بصيرتك الجنّة والنار ودار العذاب والقرار، كما قال:
{ { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [الذاريات:21]؟
أوَ ما علمت أنّ الفلاسفة قد فنيت أعمارهم في الغوص في بحار الأفكار فغرقت عقولهم فيها، وتاهوا في سلوك أودية الأنظار، وانقطع بهم سير الفكر في منتهى عالَم الملك والشهادة، ولم يدخل اسكندر نظرهم في تردده عالَم الظلمات إلى عين حياة اليقين - التي من شَرب منها لا يموت -، فماتت جنة فطرهم في مضيق عالَم الشهادة، ولم يخرجوا من جوف الدنيا وظلماتها التي بعضها فوق بعض، إلى معرفة عالَم الآخرة وأنوارها وعالم الغيب وأسراره.
أوَ لَم يتفكّروا في قول الله تعالى:
{ { ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [البقرة:257]. وقوله تعالى: { { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } [البقرة:3]. وقوله: { وَللَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [هود:123]. وقوله: { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } [الأنعام:73].
فالله تعالى أوجد الملك والشهادة لقضيّة اسمه "الظَاهِر"، وأوجد الملكوت والغيب لقضيّة اسمه "الباطن".
فما بك أيّها العاقل صِرتَ مفتوناً بأن لا يصدر عن الواحد إلاّ الواحد، وحرّفت الكلمة عن مواضعها، فلو وقفت بعلم الأسماء لرأيت كلّ اسم آية ودليلا كذلك ككواكب السماء على سرِّ صفة مستودَع فيها حقيقة علّة معلول، فكبرت لديك العلل والمعلولاته، وانعكس في مرآة وجودك جلال الأسماء والصفات، من غير انثلام قاعدة الوحدة في الإفاضة والإيجاد مع صدور الأنواع والأعداد. فأين هذا العلم الموهوب من خزائن الجود الأزلي السرمدي، من العلم المتولّد لأبناء الشياطين من الفكر الرديّ.
فطوبى لأهل الشريعة والدين، المنقادين بالسمع والطاعة لله ولرسوله ولأئمّة المسلمين.
وليُعَلَم أنّ العقل حجّة الله في أرضه، وهو أوّل ما خلقه، يهدي به مَن يحبّه فيجعله فيه مكتحلاً بنور الهداية، ويضلّ به من يبغضه فيجعله فيه عرياً عن نور الهداية لإثبات الحجّة، إذ لو غاب العقل رأساً ما ثبتت الحجّة، وهو مناط الثواب والعقاب، وليس للفلاسفة ومن يحذو حذوهم إلاّ العكوف على باب عقولهم، والاقتصار على ما أدركوه بمبادئ عقولهم وأوايلها، وجحودهم لما وراءَها، وعدم اقتباسهم أنوار حقايق الأشياء من مشكاة النبوّة والولاية.
فمن أثبت فلكاً ولم ير ملكاً، وأثبت معقولا وأنكر منقولاً، فهو كالأعور الدجّال، فهلاّ نظر بالعينين وما أثبت العالمين بحسب كلّ موجود، وما جمع بين المعقول والمنقول والعقل والشرع، فالشرع عقل ظاهر، والعقل شرع باطن، كما أنّ الفلك ملَك ظاهر والملَك فَلَك باطن، فإذا حكمت أيها العاقل بأنّ الفلَك له اختيار وفعل - ولم تدر أنّ الفعل والاختيار للملك الموّكل به - فقد أخطأت، فصورة الفلك وطبعه من عالم الشهادة، وصورة الملَك وحقيقته من عالَم الغيب، فمَن لم يؤمن بالملائكة لم يؤمن بالغيب.
وهكذا الكواكب وما تضيف إليها من التدبير والتأثير، هو من الأملاك الموكّلين بها، وهي في ذواتها أموات، والفلك كأرض موات أحياها الملائكة وعمرتها بالذِكر والتسبيح، وإذا سمعت صوت الرعد وحكَمت بعقلك أنّه اصطكاك الأجرام من الحرارة والبرودة، فالذي أدركته بعقلك الظاهر صحيح لا ينكر، ولكن حرمت القضيّة الأخرى بأنّه ملك يسوق السحاب ولا تكاد تدرك ذلك لأنّه من أحكام عالَم الغيب وبك زمانة السكون والوقوف في عالَم الشهادة، ولا سبيل لك إلى بوادي عالَم الملكوت.
فقس على هذا ساير التأثيرات العلويّة من الزلازل والصواعق والهَدّات والموتات وغير ذلك كالخسوف والكسوف، فإنّها من تخويف الله عباده، واظهار قدرته، ليستدلّوا بالقدرة على القادر الحقّ، وليرتقوا في الأسباب مع ما ثبت بالهندسة في عالم الهيئة، فإنّ خسوف القمر يكون بحجاب نور الشمس عن القمر بحيلولة الأرض، وكسوف الشمس يكون بحجاب نورها عن البصر بحيلولة القمر.
فأهل الإيمان لا يُنكرون ما دلّت عليه البراهين الهندسيّة، ولكن الجاحدين لنور الشريعة ينكرون أحكام الغيب، وعلى هذا القياس ما حكمت انّ الأرض كروية الخلق، والفلك كروي: مسلّم لك، فهو منتهى الحدود وهذه مركز الأثقال فأين أنتَ من الأرضين السبع التي هي منتهى حدود عالم الملك، ثمّ أين أنت من السموات العلى التي أولاهن محيطة بجميع الأفلاك وما فيها فكلّها حشو السماء الأولى، و كلّ سماء بالنسبة إلى الأخرى كحلقة في أرض فلاة، وهكذا إلى أن يصير الأرضون السبع والسموات السبع وساير ما احتوت عليه من العناصر والأفلاك بالنسبة إلى الكرسي كحلقة في أرض فلاة والكرسي بما احتوى عليه كذلك بالنسبة إلى العرش العظيم. فسبحان فاطر السموات والأرض ومبدع الخلق والأمر، الذي تلاشت الأوهام وتضاءلت الأفهام في إدراك عظمته، ولم يدر أحد من عظيم خلقه وأمره إلاّ القدر اليسير وإليه المرجع والمصير.