التفاسير

< >
عرض

سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١
-الحديد

تفسير صدر المتألهين

إن هذه السورة مشتملة على المقصد الأقصى واللباب الأصفى من كيفية ارتقاء العباد من حضيض النقصان والخسران إلى أوْج الكمال والعرفان، وبيان السفر إلى الله تعالى طلباً للقائه، والارتحال من أسفل السافلين وتحت الثرى في البعد والحرمان عن مجاورة الرحمن، إلى أوْج عوالي العليّين، وفوق السمٰوات العلى من قرب رب الإنس والجانّ، وخالق النيران والجنان.
فإن خلاصة دعوة العباد، ونقاوة سياقهم إلى الملك الجبّار، منحصرة في أقسام ستة: ثلاث منها كالدعائم والأصول المهمة، وهي تعريف الحق المسوق إليه المصمود له، وبيان الصراط المستقيم الذي يجب سلوكه للوصول إليه، وبيان الحال عند الوصول:
فالأول: هو معرفة المبدأ، والآخر هو معرفة المعاد، والأوسط هو معرفة الطريق.
وأما الثلاثة الأخيرة، فهي كالمعينة المتممة التي كالنوافل، والقُرْبُ الحاصل بها للعبد من الحق هو قُرْبُ النوافل، كما أن القُرْبَ الحاصل بالثلاثة الأوَل هو قُرْبُ الفرائض المشار إليه في الحديث المشهور.
فأحدها: تعريف السالكين إلى الحق تعالى، المجيبين دعوة العزيز الوهّاب، ولطائف تربية الرب لهم، ودقائق صنعه فيهم، لصفاء جواهرهم، وطهارة أعيانهم عن الخبث والشَّيْن، ونقاوة وجه مرآتهم عن الطَّبْع والرَّيْن، وتهيؤهم واستعدادهم لقبول صورة الحق، وتوصيف الناكبين عن الطريق، الضالين، وكيفية حلول غضب الله عليهم، وكيفية تنكيله بهم، لسوء استعداداتهم، وخبث جواهرهم وذواتهم، وتراكم الرَّيْن والطَّبْع على مرآتهم، والمقصود فيه إما التشويق والترغيب - كما في أحوال المحبوبين -، أو الاعتبار والترهيب - كما في أحوال المغضوب عليهم -.
وثانيها: حكاية افتضاح حال الجاحدين، وكشف عواقبهم، وتسفيه عقولهم، وتجهيلهم في تحرّيهم طريق الهلاك والبطلان بالمجادلة والمحاجّة على طريق الحق، والمقصود منه في جَنَبَة الباطل، الإفضاح للتحذير والتنفير، وفي جَنَبَة الحق الإيضاح للتثبيت والتقرير.
وثالثها: تعليم عمارة المراحل إلى الله تعالى، وكيفية أخذ الزاد والأهبة والاستعداد، والمقصود منه أن معاملة الإنسان مع أعيان هذه الدنيا، يجب أن تكون مثل معاملة المسافر مع أعيان مرحلة من مراحل سفره البعيد الذي يطلب به تجارة لن تبور.
فهذه هي المقاصد الستة المشتملة عليها والمنحصرة فيها سور القرآن وآياته، وهذه السورة الواحدة لغاية شرفها وفضلها عقلاً ونقلاً، حيث
"روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن في المسبّحات آية أفضل من ألف آية يشتمل عليها وينحصر فيها جميع القرآن" .
ولنشرع في استنباط هذه النفائس الشريفة، عن هذا البحر الخضيم بقوة العزيز الحكيم، ولْنُسَمّ كل واحد من المعارف الثلاثة القرآنية التي هي الأصول باسم يناسبه، كما فعله بعض أكابر العلماء، وقد وجدناه في بعض مصطلحات العُرفاء، وذلك للدلالة على أن هذه المعارف في درجات متفاوتة من الشرف والفضيلة، مع اشتراك الجميع في الخير والمنفعة، فأين معرفة ذات الحق وصفاته وأفعاله، من معرفة علف الدابة وسقيها في طريق السفر إليه. فشرح المعارف الإلهية المشتملة على معرفة ذات الحق الأول، ومعرفة صفاته، ومعرفة أفعاله، هو المصطلح عليه بـ "الكبريت الأحمر" الحاصل من الخوض في لجّة بحر القرآن وأبعاضه والغوص في أعماقها.
وشرح طريق السلوك إلى الله تعالى، وتعريف التبتّل إليه والانقطاع عن الدنيا، هو المسمى بـ "العنبر الأشهب" , "العود الأنفر" الحاصلين من السياحة في سواحل هذا البحر المحيط، المتشعب عنه علوم الأواخر والأوائل - كما تتشعب من البحر الأنهار والجداول -.
وشرح أحوال المسافرين عند الوصول إلى المهيمن المتعال، هو المقلّب بـ "الترياق الأكبر" و "المسك الأذفر" الحاصلين من التغلغل إلى جزائره عند استدرارهما من حيواناته.
ولك أن تسمي الثلاثة الروادف وأقسام كل قسم منها باسم يناسبه.
ولا يخفى على الذكيّ المتبصر، مناسبة كل قسم بما وقعت التسمية به عليه، وإيَّاك وأن تحمل هذه الأسامي على الاستعارات الرسمية والتكلفات المجازية، فإنها ممقوتة عند ذوي الجد من أبناء الحقيقة، بل تحتها رموز وإشارات إلى معان خفية يعرفها من يعرف الموازنة والمماثلة بين عالمي المُلْك والمَلَكوت، والشهادة والغيب، ولو ذهبنا إلى تحقيق الموازنة بين هذه الأمثلة الحسّية، وحقائقها الغيبية، لأدّى إلى الإطناب.
فلنُعْرض عنه إلى الخوض في الكتاب، مستمداً من العزيز الوهّاب.
لمّا لاح لك أن المعارف الإلهية المشتمل عليها القسم الأول الذي يتوزع إلى معرفة الذات ومعرفة الصفات ومعرفة الأفعال هي "الكبريت الأحمر" فاعلم أن هذه الثلاثة ليست على رتبة واحدة، فكما أن أخص فوائد الكبريت هو الياقوت الأحمر لانّه أجَلّ قدراً وأعزّ وجوداً، لا يقع إلاَّ يسير منه بيد الملوك والسلاطين، وربما يظفر بما دونه بالكثير، فكذلك معرفة الذات، لكونها أجلّ قدراً ورتبة وأعظم رفعة لا يظفر بشيء منها إلاَّ ملوك الآخرة وسلاطينها - مثل الأولياء والأنبياء عليهم الصلاة والدعاء، "جلَّ جنابُ الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد، وأن يُطْلِع عليه إلاّ واحداً بعد واحد".
ولكون معرفة الذات أضيقَ المعارف الإلهية مسلكاً ومجالاً، وأصعبَها على الضمير اعتقاداً ومقالاً، وأعصاها على الرويّة والفكر إذعاناً، وأنْفرَها عن التحفّظ والذكْر ضبطاً، فلذلك لا يشتمل القرآن منها إلاّ على إشارات وتلويحات يرجع أكثرها إلى السلوب والتقاديس، كقوله تعالى بعد ما ختم سورة الواقعة بالأمر بالتسبيح.
سبّح لله - أي: نزّهه وقدّسه عمّا لا يليق بشأنه، مما يوجب التكثر والتغيّر وبرّأه من كل نقص - ما في السموات والأرض.
وهو العزيز - في ذاته - والحكيم - في أفعاله، لكونها على أحكم ترتيب وأتقنِ نظام.
والصيغة تدل - ها هنا - على أن ما أُسند إليه الفعل ذلك هجِيّراه وديدنه، ويؤكد ذلك مجيئه على صيغة المضارع أيضاً في بعض الفواتح، وهذا الفعل يتعدى باللام تارة وبنفسه أخرى، وأصله الثاني، لأنه المنقول من سبح، إذا ذهب وبَعُد، فمعنى سبّحتُه: بعدّته عن الشَّيْن. فاللام فيه إما أن يكون كاللام في "نصحته" و "نصحت له"، أو يكون معنى الكلام: أحدث التسبيح ابتغاء لوجه الله وخالصاً له.
قال مقاتل: يعني كل شيء من ذي الروح وغيره وكل خلق فيهما. ولعل الغرض أن العقلاء يسبّحونه قولاً واعتقاداً، وما ليس بعاقل من سائر الحيوانات والجمادات فيسبّحه بما فيه من الأدلة الدالة على وحدانية مُبْدِعِهِ وصفاته التي تخصه، فعبّر سبحانه عن هذه الدلالة بالتسبيح، كأنها إقرار منهم بلسان الحال من جهة إمكانها وحدوثها، على الصانع القديم الواجب لذاته.
ويجوز أن يحمل التسبيح على المشترك بين اللفظ والدلالة لإسناده إلى ما يتصور منه، وعليهما عند من جوّز إطلاق اللفظ على معنييه، وجوّز بعضهم أن يكون "ما" - ها هنا - بمعنى "مَن"، ويؤيده ما حكى أبو زيد أن الحجازيين كانوا إذا سمعوا الرعد قالوا: "سبحان ما سبحت له". وقيل: المراد منه، كل ما يتأتى منه التسبيح.
هذا تمام كلام الأعلام في هذا المقام، ولا يخفى عدم ملائمة كل من التأويل والتخصيص المستفاد من كلامهم لكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الدالة على تسبيح جميع الموجودات حقيقة - حتى المسمى بالجماد والنبات -.
منها: قوله تعالى:
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلطَّيْرُ صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } [النور:41].
ومنها: قوله تعالى:
{ { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ } [الحج:18].
وفي هاتين الآيتين، إشعار بأن هذا تسبيح فطري وسجود ذاتي نشأ عن تجلّي الحق لكل من خلق وأنطقه الذي أنطق كل شيء، فأحبّوه وتواضعوا له من غير تكليف، بل اقتضاء ذاتي طباعي، والذي يمنع من هذه العبادة الذاتية الأفكارُ الوهمية والتخيّلات الشيطانية، التي تكون لأكثر الناس والتي بها يستحق كثير منهم العقوبة والعذاب، كقوله تعالى:
{ { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ } [الحج:18].
والنكتة في أن "ألَم تَرَ"، أتي بها بصيغة خطاب المفرد: أن غير النبي لم يشهد ذلك، فهو له عيان ولنا إيمان.
ومنها: قوله تعالى:
{ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَٱلْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ } [النحل:48].
وكذا أمثالها ونظائرها من الآيات الدالّة على وقوع التسبيح من جميع الموجودات حقيقة على وجه يستلزم الشعور والإدراك، وكفاك في هذا التعميم والشمول قوله تعالى:
{ { تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَاوَاتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء:44].
وحكاية تسبيح الحصى في كفّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسماعه وإسماعه، أمر مشهور، وفي ألسنة الرواة مذكور، وبالإيمان والتصديق مقرون عند الجمهور.
ويعتضد أيضاً بما روي عن ابن مسعود أنه قال: كنت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله حجر ولا شجر إلاّ ويقول: السلام عليك يا رسول الله.
وأمثاله كثير في الروايات، فلا وجه للعدول عن الظاهر المنقول المُتَلقّى بالقبول عند أرباب الكشف والشهود. وأصحاب الإيمان والتسليم.
فإن قلت: التسبيح بالمعنى الظاهر منتفٍ عن الجماد لعدم الإدراك فيه.
قلنا: لا نسلّم ذلك، لعدم ما يدل على نفي الشعور فيه مطلقاً، بل الدليل قائم في العلوم العقلية على أن الطبائع النوعية لها غايات طبيعية مترتبة على أفاعيلها، وفيها علل غائية وأسباب مستدعية لوقوع الفعل المخصوص منها، إلاّ أن غير أهل الكشف والحال، إذا لم يقنعوا بمجرد التقليد في العقائد والأقوال، تأبّت عقولهم عن الإيمان بهذا التسبيح، وتعصّت عن دركه أفكارهم إلى أن يأتي الله لهم بالفتح أو أمر من عنده.
مُكاشفة
واعلم أن إثبات الشعور والإدراك لجميع ما في العناصر والأفلاك، مما دلّت عليه المباحث البرهانية وشهدت به العلوم الذوقية، وأيّدته المقامات الكشفية، كما أشرنا إليه، وهو مذهب جم غفير من الراسخين في العلم واليقين، ورأي طائفة عظيمة من المكاشفين، منهم الشيخ العارف والمحقق المكاشف محيي الدين الأعرابي وأتباعه وتلاميذه.
قال - قدس سرّه -: "إن المسمى بالجماد والنبات لهم أرواح بطنت عن إدراك غير أهل الكشف إيَّاها في العادة فلا يحس بها مثل ما يحس به من الحيوان، فالكل عند أهل الكشف حيوان بل ناطق، غير أن هذا المزاج الخاص يسمّى إنساناً لا غير، ونحن زدنا مع الإيمان بالأخبار الكشف، فقد سمعنا الأحجار تذكر الله رؤية عين بلسان تسمعها آذاننا منه، وتخاطبنا مخاطبة العارفين بجلال الله، مما ليس يدركه كل إنسان".
وتحقيق هذا التسبيح، يستدعي بَسْطاً في الكلام لا يسعه هذا المقام، وربما يؤدي ذلك إلى شنعة الجهّال واللئام عند سماعهم شيئاً يخالف ما تلقفوه ممن أخذوا منه تعصباً وتقليداً، والذي يليق ذكره ها هنا هو أن لكل نوع من الأنواع الجسمانية مَلَكاً موكلاً عليه مدبراً لآحاده، ومعتنياً بتربية أفراده - كما ذهب إليه أفلاطون والحكماء المشرقيّون - طباقاً للشريعة الحقة من تسمية بعض ملائكة الله المدبّرين لأنواع الأجسام بالإضافة إلى نوع ما يتعلق به تعلق التدبير والتأثير بإذن ربه العليم الخبير، كمَلَك الجبال وملَكَ البحار ومَلَك الرياح ومَلَك الأمطار.
فهذه أحزاب من الملائكة، موكلة بجنس الأجسام، ونسبة كل منها إلى أفراد مظهره الذي يقال له في عرف بعض عرفاء الحكماء "الطلسم" أتم في باب المعية من نسبة النفوس إلى أبدانها، بل نسبته إليها نسبة حقيقة الشيء وذاته المطلقة عن العوارض الخارجة إلى ذلك الشيء.
فكما أن الأفعال الصادرة عن الإنسان بالاختيار، إنما تصدر عن هويته وذاته الباطنة عن إدراك الحس - وهو نفسه المدبّرة له - والبدن في ذاته من حيث هو بدن لا شعور له بل لا وجود له كما حققنا ذلك في موضعه -، فكذلك هذه الأجسام الطبيعية، إنما يصدر ما نيسب إليها من الحركة والسكون والتغذية والتنمية والتوليد وغيرها من حيث ملكوتها وبواطنها، التي هي صورة حقيقتها ومقوّم ذاتها، لا مِنْ حيث جسميّتها ومادتها.
ثم إنه قد ثبت في المعارف الربوبية، إن كل ما يصدر عن المبادئ الذاتية فهو إنما يصدر عنها تضرعاً ورجوعاً إلى باريها العالي، لا التفاتاً إلى السافل، وحقيقة التسبيح ليست إلاَّ ما يستلزم الخضوع والتمجيد، سواء كان باللسان أو بآلة أخرى، فأشخاص العالم بأسرها في هذه العبادة الذاتية وهذا السجود الفطري، متدينة بهذا الدين الإلهي الذي قام به وواظب عليه الجميع، إلاَّ كل مخلوق له قوة التفكر والروية وليس إلاَّ النفوس الناطقة الإنسانية - والحيوانية خاصة - من حيث أعيان نفوسهم لا من حيث هياكلهم، فإن هياكلهم كسائر موجودات العالم في التسبيح والسجود له، ألا تراها تشهد على النفوس المسخّرة لها يوم القيامة من الجلود والأيدي والأرجل والألسنة والسمع والبصر، وجميع القوى، فالحكم لله العلي الكبير.
فإن قلت: فما تقول في الاستثناء الواقع في قوله تعالى:
{ { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ } [البقرة:34]، فإن السجدة المأمور بها لآدم في الحقيقة، سجدته لله تعالى، وطاعة لأمره، فإباء إبليس عن سجدة آدم عين إبائه عن سجدة ربه، ولهذا كان من الكافرين، فينافى ذلك بحسب الظاهر عموم الآيات المنقولة، وكلية الحكم بعبادة كل موجود من حيث هو موجود عبادة جبليّة.
قلنا: إن إباء إبليس عن السجود، واستكباره وعصيانه بحسب ظاهر الأمر، هو عين سجوده وطاعته وخدمته وتواضعه لربه، باعتبار القضاء الأزلي، فإن العزيز الجليل أقامه في حجاب العزة والجلال ذليلاً محجوباً حتى يكون إبليس مطروداً ملعوناً محترقاً بنار البعد والضلال في الدنيا، ومعذباً بنار الجحيم والنكال في الآخرة - حسب ما جرى عليه القضاء -، فلم يكن له بد من موافقة علمه تعالى الذي هو عين إرادته، ولذلك أقسم بعزته تبارك وتعالى للإغواء، لأن الإغواء من مقتضيات العزة، والاحتجاب بحجب الجلال.
ولعل في قوله: { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } - في هذه الآية - إيماءً بأن طاعة الموجودات وتسبيحها للحق تعالى على النهج الطباعي الشمولي الذي جرى عليه القضاء الأزلي، ولا يمكن لأحد التفصّي عنه والعدول إلى غيره، فعصيان العصاة وتمردهم نحو من الطاعة والامتثال لحكم الأسماء، فأهل الحجاب، أو عباد الكثرات لا يجيبون دعوة التوحيد، ومن كان في مرتبة الجمع، يطّلع على مراتبهم ويعذر الكل فيما هم عليه، ويعلم أن إنكارهم عين الإقرار وفرارهم عين الإجابة لدعوة العزيز الجبار.
كما نقل عن سيد الأولياء أمر المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: "تشهد له أعلام الوجود على إقرار قلب ذي الجحود".