التفاسير

< >
عرض

وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَـٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
١٠
-الحديد

تفسير صدر المتألهين

قرأ القرّاء سوى ابن عامر: "وكلاً وعد الله" بالنصب على المفعولية لأنه بمنزلة "زيداً وعدتُ خيراً". وقرأ ابنُ عامر: وكلٌ وعد الله. بالرفع، محتجاً بأن الفعل إذا تقدم عليه مفعوله لم يُقْوَ عمله فيه قوته إذا تأخر، والدليل أن من قال: "زيد ضربت" وزيد بحسب المعنى مفعول ضربت، فإذا تأخر المفعول فوقع بعد الفاعل يتغير إعرابه نصباً، فكذلك قوله تعالى: { وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } يكون على إرادة "الهاء" وحذفها كما يحذف من الصفات والصلات.
وأما معناه: فقد حثّ سبحانه على الإنفاق الذي هو من الأعمال الحسنة الجامعة لتكميل الشخص وتهذيبه من ذمائم الأخلاق المنوطة لمحبة الأمر الفاني مع مصلحة النوع، إذ بالإنفاق ينتشر ما به ينتفع الناس ويصرف في وجوه المصالح كأهبة المجاهدين وغيرها ليستحفظ به الشريعة، فقال: وما لكم ألاَّ تنفقوا - أي: في أن لا تنفقوا - في سبيل الله -، أي: أيّ شيء لكم في ترك الإنفاق في طريق الحق والجهاد في سبيله مع كونه خيراً نافعاً لكم ولغيركم، والحال أن المال في معرض الزوال عمن بيده عن قريب، إما بهلاك أحدهما، أو كليهما في نفسه عن الآخر. - ولله ميراث - كل موجود - في السموات والأرض. إذ الكل يفنى وهو يبقى، فالله يرث كل شيء فيهما من مال وغيره، فما أقبح للعاقل أن يبخل بمال يكون عارية بيده من غيره، وسينتقل إليه، وهو يأمره بالإنفاق الذي فيه صلاح له ولغيره، فالآية من أعظم الحث وأبلغ البعث على الإنفاق في سبيله.
ثم بيّن سبحانه مراتب المنفقين في الفضيلة والأجر، وتفاوت درجاتهم بحسب الإنفاق في سبيله فقال: - لا يستوى منكم من أنفق - من قبل فتح مكة وشوكة الإسلام، وكثرة أهله وقوتهم، وقلة الحاجة إلى القتال ونفقة المقاتلين، ومن أنفق من بعد الفتح. وحذف لوضوح دلالة الكلام عليه، وقرئ: "قبلَ الفتح".
أولئك - أي: السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار الذين أنفقوا قبل الفتح وجاهدوا في سبيل الله - أعظم درجة - عنده - من الذين أنفقوا - بعد الفتح، ثم سوّى بين الجميع في الوعد ومطلق الخير والمثوبة الحسنى، وهي الجنة، مع التفاضل في الرتب والدرجات.
والله سبحانه - لكونه عالماً، لا يخفى عليه شيء من الدقيق والجليل، خبير بما تعملون من إنفاقكم وجهادكم، بصير بموازين الأفعال والأعمال ومراتب فضلها بحسب الصعوبة والمشقة، ودرجات شرفها بحسب النية والبصيرة والإخلاص والسريرة.
مُكاشفة
واعلم أنه كما تتفاوت درجات المؤمنين بحسب أعمالهم البدنية، وأفعالهم الظاهرية، قبل انتشار نور الإسلام وظهور عزه وقوة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وبعده، كذلك تتفاوت درجات أهل الله وأولياء معرفته، بحسب سلوكهم الباطني، وسفرهم إلى شهود معرفة الله، ومهاجرتهم عن موطن النفس ابتغاءً لوجه الله، ومجاهدتهم مع أعداء الله وأولياء الطاغوت تقرباً إلى الحق بحسب معارفهم وعلومهم الاعتقادية الحاصلة قبل المكاشفة، فإن من كانت اعتقاداته حقة مطابقة لنفس الأمر، وعمل بموجباتها من الإنفاق والزهد والجهاد في سبيل الله، قبل كشف الغطاء ومعاينة الحقائق الدينية بالموت الإرادي، فهو أعظم جلالة وأجلّ مرتبة من الذين زهدوا في الدنيا وجاهدوا مع النفس والهوى بعد ذلك.
إذ الإنسان لو لم يكن مؤيداً من قبل الله تعالى بتأييد قدسي ومدد سماوي، لما كان حاله في ترك المشتهيات ومقاومة القوى النفسانية ومجاهدة الوساوس الشيطانية قبل كشف الغطاء وفتح مملكة البدن من يدي القوى الأمّارة، كحاله بعد ذلك، إذ الزهد الحقيقي والورع عن محارم الله، صعب على الإنسان وقت الاحتجاب، واما عند ظهور الحقائق معاينةً فليس كذلك.
ويحتمل أن يكون في الآية إشارة إلى تفاوت درجات القوى التي للإنسان، وتفاضل بعضها عن بعض بحسب الصفاء والكدورة، والقرب من عالم القدس والبعد عنه، فإن في العالم الصغير الإنساني خلائق مختلفة، وقوى متعددة، بعضها مَلَكية شبيهة بضرب من الملائكة، وبعضها شيطانية شبيهة بضرب من الشياطين، وبعضها شَهَوية كالبهائم، وبعضها غَضَبية كالسباع. والجميع خلقت لتكون مطيعة لأمر الله، مسخّرة للقوة العاقلة، وهي مكلفة بالمجاهدة مع هذه القوى الجسمية الشهوية، والغضبية، والوهمية الفاسقة والظالمة والكافرة، ودفع معارضتها ومنازعتها مع القوة العقلية التي هي من أولياء الله إذا كملت بالعلم والعمل، وإنما انبعثت من جانب الله لتسخير قواها وإرجاعها عن متابعة الطاغوت إلى متابعة الحق وعودها بالمجاهدة من عالم الغرور إلى عالم النور، ومن معدن الكذب إلى مقعد الصدق.
والقوة العقلية التي أرسلت وجاءت من عالم الملكوت مبعوثة على عالم البدن وجنوده وقواه مأمورة من قبل الله تعالى بمعاداة الشيطان ومطاردة حزبه وجنوده، لقوله تعالى:
{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ * إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } [فاطر:5 - 6].
فالإنسان بالقوة العقلية مأمور باتخاذ الشيطان وحزبه عدواً له، وبالمناقضة معها والمغالبة عليها، ولا يمكن الغلبة عليها إلاَّ بتسخير القوى، وما لا يتم الواجب المطلق إلاَّ به فهو واجب، وكل واجب مأمور به ولو تَبعاً.
فالقوة العقلية مأمورة من قبل الله بتسخير القوى البدنية، وفتح هذه البلدة المحرّمة التي هي فيها بجنود لم تروها، من الأخلاق السليمة والصفات الملكية الحاصلة بتأييده سبحانه وإمداده في بعض الآدميين، وبجنود منقادة لها من عالم الجسم والبدن، وهي التي ليست مزاحمة للقوة العقلية بعناية الله ولطفه، لتتسلط على المملكة والجنود، فتصير القوى في جميع أوامرها وزواجرها طائعات، ولسلوك سبيل الله مستتبعات بعدما كانت عائقات، وتلك الأخلاق الحسنة كقوة الذكاء، وسرعة التفكر، والجود، والكرم، والعزم، والصبر الجميل، والتوكل وغيرها مما تتفاوت وتتفاضل في الشرف بحسب أنواعها المختلفة بالحقيقة واشخاصها المختلفة بالمحلّ، وفي المطاوعة والمتابعة لرئيسها وخليفة الله عليها في أرض البدن، فلا تزال المطاردة والمقاتلة بين جنود الملائكة وجنود الشياطين قائمة في معركة النفس الإنسانية، إلى أن تنفتح المملكة الآدمية لأحدهما فيستوطن فيها ويطرد الأخرى ويخرجها عن البلدة بحيث لا يكون لها الدخول فيها إلا اجتيازاً.
واكثر النفوس مما قد فتح مملكتها البدنية وسخرها جنود الشيطان وملوكها، فامتلأت بالوساوس الداعية إلى إيثار العاجلة واطّراح الآخرة، وقليل منها قد استولت فيها القوة العاقلة على القوى الشيطانية وسخرتها، فأسلمت وأطاعت كلمة الله وأمره، وأجابت دعوة الحق وانخرطت مع ساير القوى المسلمة المطيعة طاعة رئيسها المطلق ومخدومها بأمر الحق.
والنفس الإنسانية لصفائها ولطافتها صالحة بحسب أصل الفطرة لقبول آثار الملكية والشيطانية لتقلبها في النشآت وتطورها بالأطوار وتلوّنها بالألوان المختلفة، كالإناء الزجاجي اللطيف الذي يتلون بلون ما فيه.
كيف، ولو لم يكن لها من اللطافة وقبول الأثر ما يقبل كل صورة وينتقش بكل نقش، لم تقبل آثار الملكية، ولم تنتقش فيها صور الحقائق الإلهية، فهي في أول الفطرة تصلح للآثار الحقة والباطلة - صلاحاً متساوياً -، وإنما يترجح أحد الجانبين على الآخر باتباع الهوى والشهوات، والإعراض عنها.
فإن اتّبع الإنسان مقتضى شهوته وغضبه، ظهر تسليط الشيطان بواسطة اتّباع الهوى والشهوات بالأوهام والخيالات الفاسدة الكاذبة، فصارت المملكة إقطاع [أقطار - ن] الشيطان، وصار القلب عشّه ومسكنه، والهوى مَرْتَعه ومرعاه لمناسبة ما بينهما.
وإن جاهد الشهوات ولم يسلطها على نفسه، وقابل بصفوف جنود الملائكة صفوف جنود الشياطين، فتقابل الصفّان، وتقاتل الجندان، وتدافع الحزبان، فدفع كل من حزب الله ما يقابله من حزب الشيطان، فبقوة البرهان اليقيني بوجود النشأة الباقية، عارض الأوهام الكاذبة والظنون الباطلة الداعية إلى الشهوات، والركون إلى زخارف الدنيا، والإخلاد إلى أرض البدن، والاقتصار على هذه النشأة الزائلة، وبقوة الصبر عارض الهوى، وبقوة الخوف عن سوء العاقبة عارض الأمْن من مَكْر الله، وبقوة الرجاء عارض القنوط من رحمة الله، وبالعزيمة طرد الكسل.
وهكذا يدفع بكل جند من جنود الرحمن جنداً يقابله من جنود الشيطان، حتى ينفتح للقوة العاقلة أول بيت وُضع للناس للذي ببكّة الصدر، وأول معبد ومسجد وضع للقلب الحقيقي بمكة الصدر المعنوي الذي هو مزدحم القوى المتوجهة إليه، وهذا هو المسجد الحرامُ دخولهُ على القوى المشركة الطبيعية الدهرية لقوله تعالى:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } [التوبة:28] خطاباً للقوة الدرّاكة، { { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ } [التوبة:28] من القوى الطبيعية، { نَجَسٌ } [التوبة:28] لمباشرتها الأرجاس البدنية والقاذورات بالإحالة والهضم والنقل من موضع إلى موضع { فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ } [التوبة:28] وهو معبد (مسجد) القلب المتنور بنور المعرفة والإخلاص، { { بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } [التوبة:28]، أي: عام الفتح وزمانه { { وَإِنْ خِفْتُمْ } [التوبة:28] من منعها عن الدخول فيه { { عَيْلَةً } [التوبة:28] من عدم الفعل الغاذية وغيرها، { { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ } [التوبة:28] بأن يحصل لكم التقوّت بالمعرفة والاستغراق في شهوده بحيث لم يبق لكم كثير حاجة إلى فعل هذه القوى كما يحصل لأهل الله.
ولقوله تعالى:
{ { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } [التوبة:17] لكونهم جسمانية، والتجرد شرط الإيمان والمعرفة { أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي ٱلنَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ } [التوبة:17 - 18] بالمعرفة والعبودية { { مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلاَةَ } [التوبة:18] أي ذكر الله { { وَآتَىٰ ٱلزَّكَاةَ } [التوبة:18] أي من الأجساد التي في تصرفه فيزكيها بتحليلها بالرياضات والعبادات في سبيل المعرفة { { وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ } [التوبة:18] لكونه عالماً به، وإنما يخشى الله من عباده العلماء { { فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ } [التوبة:18] إلى طريق الآخرة وعالم القدس { { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ وَعِمَارَةَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [التوبة:19] اللَّتان هما فعل الغاذية والنامية، إذ القوى الطائفة بكعبة البيت الحرام في مسجد الصدر، إنما تتقوّت من فعل الغاذية، وجسمية هذا المسجد إنما يتعمر بفعل النامية { { كَمَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } [التوبة:19] وهي القوة العقلية { { وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [التوبة:19] بمعارضتها ومصادمتها للواهمة ووساوسها الشيطانية { { لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } [التوبة:19] { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ } [التوبة:20] من موطن الجسمية إلى عالم التجرد والملكوت، { { وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } [التوبة:20] من المواد البدنية والقوى المحمولة لها، { { أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ* يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [التوبة:20 - 22].
وكما أنه قد يستعين المجاهدون في مجاهدة طائفة من الكفّار بطائفة أخرى منهم، كذلك في مجاهدة النفس يقع نظيره، كما يدفع الإنسان ثورة (سَوْرَةَ) الشهوة بالغضب، فإن بالغضب تنكسر الشهوة، كما ينهزم الخنزير من النمر، فالحكيم تارة يكسر شَرَه هذا الخنزير بتسليط الكلب عليه، ومرة يدفع ضراوة هذا الكلب بتسليط الخنزير عليه، ليجعل الكلَّ مقهوراً تحت سياسته، منخرطاً في سلك عباد الله المسلمين، ويظهر العدل في مملكة البدن، ويجري الكل على الصراط المستقيم.
إذا تحقق ما ذكرناه فنقول: إن القوة العاقلة - التي هي خليفة الله في مملكة البدن - إذا غلبت بجنودها الذين هم من حزب الله، - كالمعرفة والتقوى والذكاء والصبر وغيرها -، على القوة الوهمية وجنودها وخدّامها الذين هم من جنود الشيطان في أول الأمر، وزمان الجاهلية الأولى، وصارت مسلمة بيدها مقهورة تحتها، إذا جاء نصر الله والفتح إياها، ودخلت سائر القوى في دين الله - الذي هو طريق معرفة الحق والعمل بمقتضاها - أفواجاً، عند هذا الفتح المعنوي الذي هو عبارة عن مشاهدة حقائق هذه الأشياء كما هي، فبعض هذه القوى منذ صحبت القوة العاقلة قبل حصول الكشف والشهود، كانت مطيعة لأمر الله، خادمة للقوة العاقلة، مؤتمرة بأوامرها، منتهية بنواهيها، منفقة لمادتها البدنية ومحللة لرطوباتها الدماغية الحاملة لها في طريق التفكر في آيات الله وسبيل ملكوته، والمجاهدة مع كفرة الأوهام الكاذبة الفاسدة. وبعضها كانت عاصية إياها بعد، متمردة عن أوامرها ونواهيها.
فكل قوة أسلمت وأطاعت أمر الله، وأنفقت في طريق المعرفة ما تحمله من المواد الجسمية، وجاهدت في سبيل الله، وعارضت الكفرة والظلمة والفسقة تقرّباً إلى طاعة الحق قبل الولادة المعنوية والولاة الحقيقية، فهي أعظم أجراً وأجلّ رتبة من سائر القوى، وأقربها إلى أفق المجرّدات النورية، وكل من هذه الجنود والقوى له استحقاق الحسنى من عند الله، والمثوبة، إذا أسلمت وصارت مسخّرة للقوة العاقلة، ثابتة في طاعتها لأمر الله، ومشايعتها إياها في السلوك إليه تعالى، واستنارتها بنور المعرفة واهتدائها بهداها.
فإن قلت: هذه القوى الجسمانية قائمة بهذه المادة العنصرية، فهي داثرة هالكة غير باقية بعد خراب البدن، فأنّى تكون لها المثوبة والسعادة؟
قلت: هذه القوى البدنية الداثرة - ادراكية كانت الحواس، أو تحريكية - كالشهوة والغضب، كلها آثار وظلال للقوى والمشاعر التي هي في ذات القوة العاقلة، فإن لها في ذاتها بصراً وسمعاً وذوقاً وشمّاً ولمساً - من دون الحاجة إلى البدن -، وكذا لها في ذاتها محبة وقهراً وقبضاً وبسطاً، ويداً معنوية، وجارحة روحانية، وهذه بمنزلة المعلومات والآثار لتلك، وكما إن الحواس البدنية كلها ترجع إلى حاسة واحدة - هي الحس المشترك -، فجميع حواس النفس ترجع إلى قوة واحدة - هي قوتها النظرية التي تشاهد بها المعقولات، وتتصرف فيها، وتحضرها عند العقل بقدرتها التي لها في ذاتها من دون البدن -.
ألا ترى أن الإنسان في حالة النوم - والتي هي شبيهة لحالة الموت في تعطّل الحواسّ البدنية -، يبصر ويسمع ويذوق ويلمس ويتحرك، مع أن حواسه الظاهرة وكثيراً من قواها العلمية معطلة عن الإدراك والأفاعيل؟.
فللنفس الإنسانية قوى وخدم في ذاتها، وجنود معنوية وآلات روحانية باقية معها في النشأة الأخروية.
وكما أن لها في الدنيا صوراً وأشكالاً وهيآت تناسبها، فكذلك تحشر يوم القيامة وتظهر بصور وهيآت مناسبة لصفاتها وأعمالها، حين يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.