التفاسير

< >
عرض

يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١٢
-الحديد

تفسير صدر المتألهين

الظرف متعلق بقوله: وله أجر كريم. أو منصوب بتقدير "أذكر"، تعظيماً لذلك اليوم. فعلى الأول معناه: يصل هذا الأجر الكريم إليهم يوم القيامة، - وهو يوم يسعى للمؤمنين نورهم بين أيديهم وبأيمانهم إلى الجنة، فإن الطريق إلى جنّة المقرّبين إنما يكون على الوجه الأول -، لأنها عقلية واقعة في سلسلة الأسباب المؤدية إلى وجود الإنسان، يسلكها العالم الربّاني مرتقياً إليها بأنوار المعارف العقلية - وإلى جنّة السعداء على الوجه الثاني -، لأنها جسمانية واقعة في السلسلة العرضية المعلولية، فيتوجه إليها أهل النسك والصلاح وأصحاب اليمين، منعطفاً إليها بنور العبادة وقوة الأعمال الحسنة، ولهذا المعنى قيل: - اليمين طريق الجنة -.
وقد صرح بعض أهل الكشف والعرفان، بأن البرزخ الذي تكون الأرواح فيها بعد المفارقة من النشأة الدنيوية، هو غير البرزخ الذي بين الأرواح المجردة والأجسام، لان تنزلاّت الوجود ومعارجه دورية، لكنهما يشتركان في كونهما عالماً نورانياً وموطناً ملكوتياً، فالسعداء مطلقاً يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم.
وقوله: { بُشْرَاكُمُ } اليوم؛ بمنزلة حال، أي: يسعى نورهم حين يقول لهم الملائكة الذين يتلقونهم: { بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ }، وهؤلاء الملائكة المبشرون بالجنات مختلفو الدرجات في القرب إليه تعالى حسب تفاوت منازل أهل الجنان في التقديس والخلوص، مع اتفاقهم في حصول الحقائق وصورها الحسان، فالجميع { جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } أي: الخلاص عن كل مرهوب، والظفر بكل محبوب، فإن كل واحد من أهل الجنان له ما يشتهيه وتصل إليه همّته، إلاَّ أن الهمم متفاوتة حسب تفاوت الأحوال.
قال ابن عباس رضي الله عنه: "هذا النور يكون على الصراط". وقيل: "في عرصة القيام’". ولا نور هنالك إلاَّ نور الإيمان والطاعة، وكل يعطى نوراً على قدر علمه (عمله).
مكاشفة
هذا النور المشار إليه في هذه الآية، هو نور المعرفة واليقين، فإن النفس الإنسانية من عالم النور والمعرفة، لكنها بسبب التعلق بعالم الأجسام الكثيفة صارت ظلمانية محجوبة عن الإدراكات، فإذا ارتاضت ذاتها بالرياضات الدينية والأعمال الشرعية من الأفكار والأذكار والعبادات، وخرجت من مرتبة القوى الهيولانية إلى مرتبة الفعلية، حصل لها العقل المستفاد، وهو نور يستضيء ويضيء في المعاد، فصار نوراً على نور. وهذا النور العارض، إنّما يُقذف في قلب المؤمن من عالم الملكوت، بسبب اكتساب العقليات واليقينيات عند تصوره الخير الحقيقي، أو بسبب اكتساب الاعتقادات المحمودة والظنون الحسنة عند تصوّره الخير المظنون.
فالأول: نور عقلي يختص بالمقرّبين، يسعى بين أيديهم، ويصعد بهم إلى جوار الله وجنّاتِ المعارف العقلية التي قيل في وصفها: "مَا لاَ عَيْن رَأت ولا أُذُن سمعت ولا خَطَرَ على قلب بشر".
والنور الآخر: نور يختص بغيرهم من السعداء، يسعى بأيمانهم ويذهب بهم إلى جنّات جسمانية منورة غاية ما يتصور فيها لهم وفي حقهم من الصفاء والنورية والضياء. واشراق نور كل أحد بقدر قوة معرفته وإيمانه، ولهذا وقع في الأخبار: "إن أنوار الأخيار والأبرار مختلفة في الإضاءة والآثار".
قال قتادة: "ان المؤمن يضيء له نوره كما بين عَدَن إلى صنعاء ودون ذلك، حتى أن من المؤمنين من لا يضيء له نوره إلاَّ موضع قدميه".
وقال عبد الله بن مسعود: "ويؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من نوره مثل الجَبَل، وأدناهم نوراً نوره على قدر أبهام قدميه فيضيء مرة وينطفئ أخرى فإذا أضاء قدمه مشى وإذا انطفأ قام".
ولما كانت الحركة والإدراك متلازمين لقوله تعالى:
{ { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } [ق:21]، فالأول: إشارة إلى قوة التحريك، والثاني: إشارة إلى قوة الإدراك. ثم لكل إدراك حركة تناسبه، فمرورهم على الصراط على قدر نور إيمانهم، ومن كان نوره كالشمس، كان مروره كطَرْف العين، ومن كان نوره دون ذلك، كان مروره على قدره، فمنهم من يمر كالبَرْق، ومنهم كالسحاب، ومنهم كانقضاض الكواكب، ومنهم من يمر كشدّ الفرس، والذي أعطي نوراً على أبهام قدمه، يحبو على وجهه ويديه ورجليه يجرّ يداً ويعلّق أخرى، ويجرّ رجلاً ويعلّق أخرى، وتصيب جوانبه النار، فلا يزال كذلك حتى يخلص، وبهذا يقاس تفاوت الناس في المعارف.
ولذلك جاء في الخبر:
"أنه تعالى يُخرج يوم القيامة من النار من في قلبه مثقال ذرّة من الإيمان، ونصف مثقال وربع مثقال، وشعيرة وذرّة" . كل ذلك تنبيه على تفاوت درجات الإيمان بحسب قوة اليقين وإشراقه، وسرعة التفطن والتحدس بحقائقه وأسراره، وأن هذه المقادير من الإيمان لا تمنع من دخول النار.
وقال بعض العلماء في مفهوم هذا الخبر: "إن من إيمانه يزيد على مثقال فإنه لا يدخل النار، إذ لو دخل لأمر باخراجه أولاً، وان من في قلبه مثقال ذرّة لا يستحق الخلود في النار وإن دخلها".
وقوله تعالى:
{ { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [آل عمران:139]، تفضيل للمؤمن العارف على المسلم، وهو المقلّد مع سلامة قلبه عن النفاق.
وأما قوله تعالى:
{ يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [المجادلة:11]، فأراد هاهنا "بالذين آمنوا"؛ الذين صدقوا تقليداً من غير علم برهاني أو كشفي، وميزهم عن الذين أُوتوا العلم. ويدلّ ذلك على أن اسم المؤمن يقع على المقلد - وإن لم يكن تصديقه على بصيرة وكشف -.
وفسّر ابن عباس قوله تعالى:
{ { وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [المجادلة:11] قال: يرفع العالم فوق المؤمن بسبعمأة درجة بين كل درجتين منها ما بين السماء والأرض.
وقال (صلّى الله عليه وآله وسلم):
"أكثر أهل الجنة البله. وعِلّيُّون لذوي الألباب" .
وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "فضل العالم على العابد كفضلي على رجل من أصحابي" وفي كتاب الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر" .
فهذه الشواهد يتضح بها تفاوت درجات أهل الجنان بحسب تفاوت قلوبهم في الإشراق والكدورة.
وملخص القول: ان اكتساب العلوم الحقة، وفعل الحسنات في الدنيا، ينتجان تقرر الأخلاق والمَلَكات، ورسوخ المعارف والاعتقادات، والمعرفة إذ اشتدت صارت مشاهدة عند رفع الحُجُب بالموت، فمشاهدة كل أحد بقدر معرفته، وهي المراد من النور، إلاّ أن المعارف اليقينية الدائمة العقلية البرهانية الربانية تورث المشاهدات والمكاشفات العقلية في جنّة الكاملين في العلم، والمعارف الظنية الخيالية تورث المشاهدات الجسمانية في جنّة أصحاب اليمين، والصور الحسان التي فيها إنما هي بمنزلة تماثيل وعلامات لما في تلك الجنّات العُلى، لأن العوالم متطابقة والنشآت متوافقة مع تفاضلها في الشرف والرتبة، لقوله تعالى:
{ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } [الإسراء:21].