التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ
١٦
-الحديد

تفسير صدر المتألهين

قرأ نافع: "وما نزل" خفيفة الزاي. والباقون بالتشديد. فعلى الأول يكون المرفوع ضميراً عائداً إلى الموصول، وعلى الثاني هو عائد إلى الله، والعائد إلى الموصول ضمير منصوب محذوف من الصلة.
وقرأ رويس: "ولا تكونوا" بالتاء على الالتفات، أو على النهي عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب. والباقون بالياء عطفاً على "تخشع".
ألم يأنِ - من "أنى الأمر يأني": إذا جاء أناه، أي وقته. و"الخشوع": لين القلب والانقياد للحق، ومثله "الخضوع". و"القسوة": غلظ القلب بالجفاء عن قبول الحق. و"الحق": ما دعا إليه العقل السليم من الأمراض النفسانية، وهو الذي من عمل به نجا، ومن عمل بخلافه هلك.
وهذه الآية قيل: إنها نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة. وقيل: إنها نزلت في المؤمنين.
قال ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضاً.
وعن ابن عباس: ان الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن بهذه الآية.
وعن الحسن: أما والله لقد استبطأهم الله وهم يقرؤون من القرآن أقلّ ممّا تقرؤون، فانظروا في طول ما قرأتم منه، وما ظهر فيكم من الفسق.
وقيل: كانت الصحابة بمكة مُجدِبين، فلمّا هاجروا أصابوا الرزق والنعمة سنين، فتغيّروا عما كانوا عليه، وينبغي للمؤمن أن يزداد يقيناً وإخلاصاً في طول صحبة الكتاب.
والمعنى: أمَا حَانَ للمؤمنين - أي المنتسبين إلى الإيمان - أن تخشع قلوبهم وترقّ لذكر الله - مما يذكرهم الله وصفاته وأفعاله، وكيفية كونه مبدأً للعباد ومعاداً لهم يوم الميعاد، وما نزل من الحق من الآيات والنُذُر القرآنية؟، والمراد من الخشوع لها: خشية القلوب عند ذكر الله، وتقوّي إيمانهم عند تلاوة آياته، كقوله:
{ { إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً } [الأنفال:2].
ومن شدّد فالمراد ما نزّله الله من المعارف الحقّة.
ولا يكونوا - كأهل الكتاب الذين كانوا في العهد الأول فطال عليهم الأمد، أي: الزمان بينهم وبين نبيّهم، أو الأمد للجزاء - أي: لم يعاجلوا بالعقوبة أو مجيء القيامة. وقرئ: "أمدّ" أي الوقت الأطول، فاغترّوا بذلك، فقست قلوبهم - أي: غلظت وجَفَت، - وكثير منهم فاسقون - خارجون عن دينهم، متمرّنون على المعاصي، معتادون بها، فكانوا بحيث لا ينفعهم نصح الأنبياء، ولا ينجع معهم وعظ الواعظين، ومن لا ينفعه في الدنيا نصح الناصحين، لا تنفعه في الآخرة شفاعة الشافعين، فلا تكونوا مثهلم فيحكم الله فيكم بمثل ما حكم فيهم.
مكاشفة
ينبغي أن يكون هذا الخطاب متوجهاً إلى جماعة مخصوصين من أهل الإيمان ومعالم الدين، لم يوجد منهم خشوع فَحُثّوا على الرقّة، كما يدلّ عليه قوله تعالى: ألم يأنِ. أي أما حان وقت الخشوع منهم فكيف فعله؟ ففي الآية تنبيه عظيم وإشعار بليغ على قبح سير أولئك المخصوصين، وفساد بواطنهم وقسوة قلوبهم، حيث نهوا عن مماثلة إليهود والنصارى الذين كانوا أغلظ الناس قلباً، وأسوأهم ضميراً وأظلمهم باطناً في قسوة القلوب بعد أن وُبّخوا، وذلك لما نقل أن بني إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين مشتهياتهم، وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله ورقّت قلوبهم، فلمّا طال عليهم الزمان، غلب عليهم الجفاء والقسوة فاختلفوا وأحدثوا ما أحدثوا من التحريف وغيره.
وأكثر من وردت التشديدات العظيمة في حقهم في القرآن والحديث هم علماء السوء الذين كان قصدهم من الاطلاع على معالم الدين وتعلم مناهج الشرع المبين التنعمَ بالدنيا والتوسل إلى الجاه والمنزلة عند ذويها وبنيها، فدلت الأخبار والآثار من المصطفَين الأخيار، وشهدت بصائر أصحاب الاستبصار، وأنوار ضمائر أرباب الفكر والمتفكرين في مراتب الصنع والإيجاد الفائضة عن الله القهّار، على أن أشد الأشرار عذاباً في النار هم علماء السوء الذين تكون ظواهرهم الأخيار وبواطنهم بواطن الكفّار.
وقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
"إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه" .
والسرّ في ذلك، أنهم يريدون أن يتوسّلوا بأشرف الأشياء - وهو العلم بالله وأحكامه - إلى أخسّ الأشياء - وهو الجاه المنزلة في الدنيا، والتفاخر بما فيها، والركون إلى زخارفها، والإخلاد إلى الأرض -. وهذه أمور وهمية باطلة كما قال الله تعالى { { وَمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [العنكبوت:64].
وقال:
{ أَنَّمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي ٱلأَمْوَالِ وَٱلأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ } [الحديد:20]. فقد مثل الله تعالى الدنيا وشهواتها في كثير من آيات القرآن بأمور وهمية باطلة تغترّ بها نفوس الجاهلين والناقصين، كما في قوله تعالى: { { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } [النور:39]. فويل لمن يعدّ نفسه من العلماء وهو في الحقيقة من الحمقى الجاهلين المغترّين بلوامع السراب، الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا. فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله.
ومثّل الله تعالى في القرآن بلعم بن باعورا - وكان عالماً فاجراً أخلد إلى الشهوات -، بالكلب حيث قال سبحانه:
{ { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِيۤ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا } [الأعراف:175] حتى قال: { { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ } [الأعراف:176]، في الإخلاد إلى الشهوات، سواء أوتي الحكمة أو لم يؤتَ، فهو مُصِرٌّ فيها، مُخْلِدٌ إليها.
وقيل: مثل علماء السوء مثل قناة الحُشّ ظاهرها خضر وباطنها نتن، ومثل قبور الكفرة والظلمة، ظاهرها عامر وباطنها اللعنة والعذاب.

همجو كَور كافران بيرون حلل وز درون قهر خدا عز وجل

وقد قيل: أقلّ درجات العالم أن يدرك حقارة الدنيا وخستها وكدورتها وزوالها وانصرامها، وعظمَ أمر الآخرة ودوامها وصفاء نعيمها وجلالة ملكها، ويعلم أنهما متضادّان متفاسدان، مهما صلحت إحداهما فسدت الأخرى، وإنهما كالضُرّتين مهما ارتضيت إحداهما أسخطت الأخرى، فإن من لم يعلم حقارة الدنيا وكدورتها، وانصرام ما يصفو منها بحسب الوهم، فهو فاسد العقل، فكيف يعدّ من لا عقل له من العلماء؟ ومن لا يعلم عِظَم أمر الآخرة ودوامها فهو كافر مسلوب الإيمان، فكيف يكون مَن لا إيمان له من العلماء؟ ومن لا يعلم مضادة الدنيا للآخرة وأن الجمع بينهما مستحيل فهو جاهل بشريعة الأنبياء كلهم - صلوات الله عليهم أجمعين - بل كافر بالقرآن من أوله إلى آخره، فكيف يُعَدّ من زمرة العلماء؟ ومن علم هذا كله ثم يُؤْثِرُ الدنيا على الآخرة، فهو جاهل أسير شيطان قد أهلكته شهوته وغلبت عليه شقوته، فكيف يُعَدّ من أحزاب العلماء مَن هذه درجته في الخسة؟
فهذا دليل واضح على أن من آثر الدنيا على الآخرة فهو مغرور، وقد ركّب فيه جهل الجهّال وفتنة الدجّال.
وكتب رجل إلى أخ له: "إنك قد أوتيت علماً فلا تُطْفِئَنَّ نور علمك بظُلمة الذنوب فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم في نور علمهم".
وقال عيسى (عليه السلام): "كيف يكون من أهل العلم، مَن مسيره إلى آخرته وهو مقبل على دنياه"!
وقال صالح بن كيسان البصري: "أدركت الشيوخ وهم يتعوذون بالله من الفاجر العالم بالسنّة".
وروي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال:
"أوحى الله إلى بعض الأنبياء: قل للذين يتفقهون لغير الدين، ويتعلّمون لغير العمل، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة، ويلبسون للناس جلود الكباش، وقلوبهم قلوب الذئاب، ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمرّ من الصبر: إياي يخادعون، وبي يستهزؤون، لأفتَحَنَّ لهم فتنة تَذَرُ الحكيم حَيْراناً" .
وإليه أشار قوله تعالى: { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [البقرة:9 - 10].
وقوله تعالى:
{ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ* أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرُواْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } [البقرة:15 - 16].
وفي طريق أهل البيت (عليهم السلام): أحاديث كثيرة في ذم علماء الدنيا المعرضين عن الآخرة.
منها: ما رواه الشيخ الجليل محمد بن يعقوب الكليني في كتاب الكافي بسنده عن سليم بن قيس، قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
"منهومان لا يشبعان - طالب دنيا وطالب علم - فمن اقتصر من الدنيا على ما أحلّ الله له سلم، ومن تناولها من غير حلّها هلك، إلاَّ أن يثوب أو يراجع، ومن أخذ العلم من أهله وعمل بعلمه نجى، ومن أراد به الدنيا فهي حظه" .
وعن أبي عبد الله (ع): من أراد الحديث لمنفعة الدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب.
وعنه (ع) قال: إذا رأيتم العالم مُحباً لدنياه فاتّهموه على دينكم، فإن كل مُحِبٍ لشيء يحوط ما أحب.
وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أوحى الله إلى داود (ع): لا تجعل بيني وبينك عالماً مفتوناً فيصدّك عن طريق محبتي، فإن أولئك قطّاع طريق عبادي المريدين، إن أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي من قلوبهم.
وعن أبي جعفر (ع) قال: من طلب العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه فليتبوء مقعده من النار، إن الرئاسة لا تصلح إلاَّ لأهلها.
وعن علي بن إبراهيم - رفعه إلى أبي عبد الله (ع) قال: طلبة العلم ثلاثة فاعرفهم بأعيانهم وصفاتهم: صنف يطلبه للجهل والمراء، وصنف يطلبه للاستطالة والخَتَل، وصنف يطلبه للفقه والعقل.
فصاحب الجهل والمراء مؤذٍ ممار، متعرّض للمقال في أندية الرجال، بتذاكر العلم وصفة الحلم، قد تسربل بالخشوع وتخلّى من الورع، فدق الله من هذا خيشومه وقطع منه حيزومه.
وصاحب الاستطالة والخَتَل ذو خبّ وملق، يستطيل على مثله من أشباهه ويتواضع للأغنياء من دونه، فهو لحَلوائهم هاضم، ولدينه حاطم، فأعمى الله على هذا خبره، وقطع من آثار العلماء أثره.
وصاحب الفقه والعقل ذو كآبة وحزن وسَهَر، قد تحنّك في برنسه، وقام الليل في حِنْدِسِهِ، يعمل ويخشى، وجِلاً داعياً مشفقاً، مقبلا على شأنه، عارفاً بأهل زمانه، مستوحشاً من أوثق إخوانه، فشدّ الله من هذا أركانه وأعطاه يوم القيامة أمانه.
وعن الحسين الصيقل، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لا يقبل الله عملاً إلاّ بمعرفة ولا معرفةً إلاّ بعمل، فمن عَرَف دلّته المعرفة على العمل، ومن لم يعمل، فلا معرفة له، إلاّ أن الإيمان بعضه مثل بعض.
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) يحدّث عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): - أنه قال في كلام له -: العلماء رجلان: عالم آخذ بعلمه، فهذا ناج. وعالم تارك لعمله، فهذا هالك. وان أهل النّار لَيَتأذَّون من ريح العالم التارك لعلمه، وان أشد أهل النار ندامةً وحسرةً رجل دعا عبداً إلى الله فاستجاب له وقبل منه، فأطاع الله فأدخله الله الجنة وأدخل الداعي النار بترك علمه واتباعه الهوى وطول الأمل. أمّا اتباع الهوى فيصدّ عن الحق، وطول الأمل ينسي الآخرة.
فهذه الأخبار تبيّن أنّ العالم الذي هو من أبناء الدنيا، أخسّ حالاً وأشدّ عذاباً يوم القيامة من الجاهل، وأن علماء الآخرة هم الفائزون المقرّبون، ولهم علامات:
منها: ما مرّ ذكرها من إعراضهم عن الدنيا وزخارفها، وزهدهم في شهواتها، وإقبالهم إلى الآخرة، ورغبتهم في درجاتها ومعارفها وحقائقها.
ومنها: أن يكون أكثر اهتمامهم بالمعارف الباطنية، ومعرفة عالم الملكوت والروحانيّات، وأسرار المبدأ والمعاد، ومعرفة النفس الإنسانية، وكيفيّة ارتقائها إلى الكمال، وخلاصها من النقص، وطريقها إلى الآخرة، حتى تصير نفسه عالَماً معقولاً موازياً للعالم المحسوس، مشاهداً لصورة (كمال) الكلّ، آخذاً هيئة الوجود من المبدأ الأوّل - إلى الترتيب الصدوري النزولي منه، والعروجي إليه - وكيفية استكشاف هذه الأمور بالمجاهدة والمراقبة ومباشرة العبادات والأعمال الظاهرة والباطنة، والجلوس مع الله في الخلوة مع حضور القلب بصافي الفكرة، والانقطاع إلى الله عمّا سواه، فذلك مفتاح الإلهام ومنبع الكشف، فلا تكون مزاولتهم للعلوم الشرعية الظاهرة أكثر من مواظبتهم على المعارف الإلهية، بل ما لم يحيطوا بحظ وافر منها لم يشتغلوا باستقصاء مسائل الحلال والحرام إلاّ ما هو الواجب العيني بقدر ما لا بد منه - دون الواجب الكفائي الذي يقوم كل أحد فيه مقام الآخر -، وذلك لوجوب الاشتغال أولاً بالأهم - والأهم: هو العلم بالله وملكوته وصفاته وأفعاله وكتبه ورسله واليوم الآخر، دون العلم بأوامره ونواهيه.
كما قال الشيخ الفاضل والفقيه الكامل زين المجتهدينرحمه الله - ناقلاً في بعض مؤلفّاته عن بعض المحققين -: العلماء ثلاثة:
عالم بالله غير عالم بأمر الله، فهو عبد استولت المعرفة الإلهيّة على قلبه، فصار مستغرقاً لمشاهدة نور الجلال والكبرياء، فلا يتفرغ لتعلّم علم الأحكام إلاّ ما لا بد منه.
وعالم بأمر الله غير عالم بالله، وهو الذي يعرف الحلال والحرام ودقائق الأحكام، لكنه لا يعرف أسرار جلال الله.
وعالم بالله وبأمر الله، فهو جالس على الحدّ المشترك بين عالَم المعقولات وعالَم المحسوسات، فهو تارة مع الله بالحبّ له، وتارة مع الخلق بالشفقة والرحمة، فإذا رجع من ربه إلى الخلق صار معهم كواحد منهم كأنه لا يعرف الله، وإذا خلا بربه. مشتغلاً بذكره وخدمته، فكأنه لا يعرف الخَلْق.
فهذا سبيل المرسَلين والصدّيقين، وهو المراد بقوله (عليه السلام): سائل العلماء، وخالط الحكماء، وجالس الكُبَراء.
والمراد بقوله: "سائل العلماء" العلماء بأمر الله غير العالمين بالله، فأمر بمساءلتهم عند الحاجة إلى الاستفتاء، وأما الحكماء، فهم العالمون بالله الذين لا يعلمون أوامر الله، فأمر بمخالطتهم. وأما الكُبراء فهم العالمون بهما، فأمر بمجالستهم، لأن في مجالستهم خيرَ الدنيا والآخرة.
ثم قال: ولكل واحد من الثلاثة ثلاث علامات: فللعالم بأمر الله: الذكر باللسان دون القلب، والخوف من الخلق دون الربّ، والاستحياء من الناس في الظاهر ولا يستحي من الله في السرّ.
والعالم بالله: ذاكر، خائف. مستحي. أما الذكر: فذكر القلب لا اللسان، والخوف: خوف الرجاء لا خوف المعصية، والحياء: حياء ما يخطر على القلب لا حياء الظاهر.
وأما العالم بالله وأمره له ستّة أشياء: الثلاثة المذكورة للعالم بالله فقط مع ثلاثة اخرى: كونه جالساً على الحد المشترك بين عالَم الغيب وعالَم الشهادة، وكونه معلّما للمسلمين، وكونه حيث يحتاج الفريقان الأوّلان إليه وهو مستغنٍ عنهما فمثل العالم بالله وبأمر الله، كمثل الشمس لا تزيد ولا تنقص، ومثل العالم بالله فقط، كمثل القمر يكمل تارة وينقص اخرى، ومثل العالم بأمر الله، كمثل السراج يحرق نفسه ويضيء غيره - انتهى كلامه -.
ومنها: أن لا يكون متسرّعاً إلى الفتوى مشتاقاً إليه، بل يكون متوقفاً متحرزاً ما وجد إلى الخلاص سبيلاً، فإن سُئل عمّا يعلمه تحقيقاً بنصّ كتاب أو نص حديث أو إجماع أو مشاهدة باطنية جلية أفتى، وإن سُئل عما شكّ فيه قال: لا أدري، وهذا لفظ كأن علماء هذا الزمان حرّموا على أنفسهم التلفظ به عند الاستفتاء منهم.
وفي الخبر: أن العلم ثلاثة: كتاب ناطق، وسنة قائمة، ولا أدري.
وقيل: "من سكت حيث لا يدري لله فليس أقل أجراً ممن نطق"، لان الاعتراف بالنقص أسد على النفس، فثوابه أزيد، وهكذا كانت عادة السابقين، وكان بعضهم يقول حين سُئل عن الفتوى، أتريدون أن تجعلونا جسراً تعبرون علينا إلى جهنم.
قال ابن مسعود: "الذي يفتي الناس لمجنون".
ومنها: أن يكون أكثر بحثه في علم الأعمال عما يفسدها، ويشوّش القلب، ويهيج الوسواس، ويثيب الشرور، وذلك للتوقي عنه والاحتراز من الشر، لا للمرايا والمماراة، كما أن وضع علم المغالطات في المنطق إنما هو لكي يحترز الإنسان عن الغلط، لا لأنْ يوقع غيره في الغلط.
وأمّا علماء الدنيا فأكثر اهتمامهم بتتبع غرائب التفريعات في الأقضية والحكومات، والتعب في استنباط الصور الدقيقة والاحتمالات البعيدة التي تنقضي الدهور ولا يقع مثلها، وإن وقع كان لغيرهم لاَ لَهُم، ومع ذلك لا تخلو الأرض عمن يقوم باستنباطها والشغف بتحصيلها طلباً للجاه والشهرة، حسبما قدره الله وأودع في غريزة كل أحد ما يناسبه وتنتظم به أمور غيره في عالمه، وما أبعد عن السعادة من باع مهم نفسه اللازم بمهم غيره النادر، إيثاراً لخدمة الخلق وقبولهم على القرب من الله، وحضوره عنده، وتهالكاً على أن يسميه البطّالون فاضلاً عالماً بالدقائق، وجزاؤه من الله تعالى ما ذكره بقوله:
{ أُوْلَـٰئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ } [آل عمران:77].
ومن علامات علماء الآخرة وأولياء الله، ومجامع نعوتهم، أنهم منبعثون من موت الجهالة، منتبهين من رقدة الغفلة، عارفين بحقائق الأشياء، مشاهدين حساب يوم الدين، قوم تستوي عندهم الأماكن والأزمان، وتغاير الأمور وتصاريف الأحوال، فقد صارت الأيام كلها [عندهم] عيداً واحداً، وجمعة واحدة، وصارت الأماكن كلها مسجداً واحداً، والجهات كلها محراباً واحداً - وذلك لخروجهم بعقولهم الصافية وأذهانهم العالية عن مطمورة عالم الزمان والمكان -، وتوجهت قلوبهم شطر الحق، وتولّت ذواتهم وجه الله، فصارت حركاتهم كلها عبادة لله، وسكناتهم كلها طاعة له، واستوى عندهم مدح المادحين وذم الذامّين، لا تأخذهم في الله لومة لائم، قياماً لله بالقسط، شهداء لله بالحق، وهم على صلواتهم دائمون، تحقّقوا بقوله تعالى:
{ { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ } [البقرة:115]. { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ } [الحديد:23].
وصار دعاؤهم مستجاباً، لأنهم لا يسألون إلا ما يكون، ولا يكون إلا ما قد كان في سابق العلم، فقلوبهم في راحة من التعلق بالأسباب، وأرواحهم فارغة من التكلّف بما لا يعني، ونفوسهم ساكنة عن الوسواس، وأبدانهم في راحة من أنفسهم، والناس منهم في راحة وأمان، لا يريدون لأحد سوءً ولا يُضمرون لأحد شراً - عدواً كان أو صديقاً -، وذلك لعلمهم بحقارة الدنيا وخسّة شركائها وَدُثور أهلها، وارتفاعهم عن الالتفات إلى هذا المنزل الأدنى.
كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "واللهِ لدنياكم هذه أهونُ في عيني من عِراق خنزير في يدِ مَجْذوم".
وقال أيضاً: "وَلأَلفَيْتُمْ دنياكم هذه أزهدُ عندي من عفطة عَنْز".
ان أردت يا حبيبي أن لا يشتبه عليك الفرق بين علماء الدنيا المغترّين بلامع السراب:
{ { ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [الكهف:104]. وبين علماء الآخرة الناجين من عذاب يوم الحساب، الفائزين بشهود رب العالمين، فتأمل فيما وصفناه، وتذكّر ما ذكرناه من خواص أهل الله، لتعرف منه خواصّ أضدادهم وأضدادَ خواصهم، وإن شئت زيادة التميز بين هاتين الطائفتين، فتأمل في حكاية وقعت بين رجلين، أحدهما من أولياء الله وعباده الصالحين الذين أنجاهم من عذاب جهنم وأعتقهم من أسْرها، وأخلص نفوسهم من عداوة أهلها، وأراح قلوبهم من آلام المعذبين فيها. والآخر من الهالكين المعذبين فيها بألوان (بأنواع) العذاب، المحترقة قلوبهم بحرارة عداوة أهلها، المتألمة نفوسهم بعقوباتها.
قال الناحي للهالك: كيف أصبحتَ يا فلان؟
قال: أصبحت في نعمة من الله، طالباً الزيادة راغباً فيها، حريصاً على جمعها، ناصراً لدين الله، معادياً لاعدائه، محارباً لهم.
فقال الناجي له: مَن أعداءُ الله؟
قال: كل من خالفني في مذهبي واعتقادي.
قال: إن ظفرْتَ بهم ماذا تفعل؟
قال: أدعوهم إلى مذهبي ورأيي واعتقادي.
قال: فإن لم يقبلوا منك؟
قال: أقاتلهم وأسفك دماءَهم وأسبي ذراريهم.
قال: فإن لم تقدر عليهم؟
قال: أدعو عليهم ليلاً ونهاراً، وألعنهم في صلاتي. كل ذلك قرباناً إلى الله تعالى.
قال الناجي: فهل تعلم أنك إذا دعوتَ عليهم ولعنتَهم أيصيبهم شيء؟
قال: لا أدري، ولكن إذا فعلت ما وصفت لك وجدت لقلبي راحة ولنفسي لذة، ولغليل صدري شفاءً.
قال له الناجي: أتدري لمَ ذلك؟
قال: لا. ولكن قل أنت.
قال: لأنك مريض النفس، معذب القلب، معاقب الروح. لأن اللذة إنما هي الخروج من الألم، وليس في هذا الذي ذكرته من أحوالك شيء من تصلّب في الدين، ولا تقوية للشرع المبين، وإنما هي خدمة لقوّتك الغضبية التي تسلطَتْ عليك، وجَعَلَت قلبك مسخَراً لها في دواعيها، رهيناً لمآربها السَّبُعِيَّة. وقد استهزأ بك الشيطان حيث غرّك بأن هذا ترويج للدين، وخدمة للشرع المبين، وبه تمنّ على سيد المرسلين - عليه وآله الصلاة والسلام -، شبه ما حكاه الله سبحانه عن بعض المنافقين بقوله:
{ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ } [الحجرات:17].
واعلم بأنك محبوس في طبقة من طبقات جهنم - وهي:
{ { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْحُطَمَةُ* نَارُ ٱللَّهِ ٱلْمُوقَدَةُ * ٱلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى ٱلأَفْئِدَةِ } [الهمزة:5 - 7]. وإنما تشاهد عذابها يوم القيامة عياناً، إلا أن تتقي منها بالفكر الصحيح والعقل السليم، وتتخلّص بنفسك من عذابها، وتنجو بقلبك من عقابها إنشاء الله، كما وعد بقوله: { ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ (بمفازتهم) وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } [مريم:72].
ثم قال الهالك للناجي: فأخبرني أنت عن رأيك ومذهبك وحال نفسك.
قال: نعم، أمّا أنا، فإنّي قد أصبحت في نعم الله واحسان لا يُحصىٰ عددها ولا يؤدّى شكرها، راضياً بما قَسَمَ لي وقدَّر، صابراً لأحكامه، لا أريد لأحد من الخلق سوءً، ولا أضمر له دغلاً، ولا أنوي لهم شراً. نفسي في راحة، وقلبي في فسحة، والخلق من جهتي في أمان. أسلمت لربي، مذهبي وديني دين أبي إبراهيم (عليه السلام)، أقول كما قال:
{ { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [إبراهيم:36]. { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [المائدة:118].
واعلم أيّها السالك إلى جوار الله، أن أمثال هذه الآراء والاعتقادات كثيرة، وأكثر هذه الجدليّات مؤلمة لنفوس معتقديها ومعذبة لقلوبهم، وهو جزاء لنفوسهم وعقوبة لهم في الدنيا إلى وقت معلوم وأَجَل معدود، وفي الآخرة أشدّ وأدهى، وهي إذا اشتدت في الآخرة بحسب الظهور والتحقق صارت نيراناً ملتهبة نزّاعة للشَّوى، وحرقات مشتعلة فظّاعة قطّاعة للقلوب كما أشار إليه بقوله:
{ { فَإِذَا جَآءَتِ ٱلطَّآمَّةُ ٱلْكُبْرَىٰ * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ مَا سَعَىٰ * وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ } [النازعات:34 - 36]. وقوله: { { كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ } [التكاثر:5 - 7].
واعلم أنه لا يصل الإنسان إلى معرفة الله على الحقيقة، إلاّ بعد جوازه على بعض هذه الآراء الفاسدة - إما في أيام صباه أو بعد ذلك -. ثم إن الله يهدي من يتّقي الشرك به ويُنَجّيه منها كما وعد وقال:
{ { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } [مريم:71 - 72].