التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ
١٩
-الحديد

تفسير صدر المتألهين

{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ... }
الصَدّيق: الكثير الصدق المبالغ فيه. وهو اسم مدح وتعظيم.
قال الزمخشري: "أي: هم عند الله بمنزلة الصِدّيقين والشهداء، وهم الذين سبقوا إلى التصديق، واستشهدوا في سبيل الله - لهم أجرهم ونورهم - أي مثل أجر الصدّيقين والشهداء ومثل نورهم".
ثم استشكل بعض المفسرين في هذه المماثلة بينهم في الأجر والجزاء مع تفاوت قدرهم. فأجاب عنه بعضهم بإعطاء الله تعالى أجر المؤمنين مضاعفاً بفضله ورحمته، حتى يساوي أجرهم مع المضاعفة أجر أولئك.
وفيه نظر بعد، لأن باب الرحمة والتضعيف كما انفتحت لهؤلاء، انفتحت لأولئك، لأن الله تعالى واحد لا تغيّر فيه، فيّاض على الجميع، ولو كان المراد أن أجر هؤلاء مع التضعيف مثل أجرهم - لا معه -، يفوت مدح المؤمنين، - والمقام مما يقتضيه -.
والأوْلىٰ أن يراد من الإيمان بالله والرسول مرتبة كاملة من المعرفة التي لا تتحقق إلاَّ في العلماء، أو يراد منه الإيمان الحقيقي الباطني الكشفي، وهو الذي يكون للأولياء والعرفاء خاصة، فإنهم هم الصِدّيقون والشهداء لغاية تصديقهم الحاصل بالكشف، وفنائهم عن ذاتهم الحاصل بسبب المجاهدة الباطنية مع النفس وقواها الأمّارة.
قال مجاهد: كل من آمن بالله ورسله فهو صِدّيق شهيد - وقرأ هذه الآية.
لهم أجرهم ونورهم: أي لهم ثواب طاعتهم ونور إيمانهم، وهو النور الذي يهتدون به إلى طريق الجنة، وهذا قول عبد الله بن مسعود، ورواه البراء بن عازب عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
وروى العياشي: بالاسناد عن منهال القصّاب، قال: قلت لابي عبد الله (عليه السلام): أدعُ الله أن يرزقني الشهادة.
فقال (عليه السلام): إن المؤمن شهيد - وقرأ هذه الآية -.
وعن الحارث بن المغيرة، قال: كنا عند أبي جعفر (عليه السلام) فقال: العارف منكم هذا الأمر، المنتظر له، المحتسب فيه الخير، كمن جاهد والله مع قائم آل محمّد بسيفه.
ثم قال: بل والله كمن جاهد مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بسيفه.
ثم قال الثالثة: بلى والله كمن استشهد مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في فسطاطه، وفيكم آية من كتاب الله - وقرأ هذه الآية، ثم قال: - صرتم والله صادقين شهداء عند ربّكم.
وقيل: إن "الشهداء" منفصل عمّا قبله مُستأنَف، والمراد بالشهداء: الأنبياء الذين يشهدون للأمم وعليهم - وهو قول ابن عباس ومسروق ومقاتل بن حيان، واختاره الفراء والزجاج.
وقيل: هم الذين استشهدوا في سبيل الله - عن مقاتل بن سليمان وابن جرير.
مكاشفة
إعلم - أيها السالك -، أن لفظ "الإيمان بالله والرسول"، يطلق بالاشتراك والمجاز العرفي بين مراتب متفاوتة في المعرفة:
إحداها: ما تلقفه العامي تقليداً أو تسليماً من غير بصيرة كشفية ولا معرفة كسبية، سواء كانت برهانية أو جدلية -، وهو الإيمان باللسان، وفائدته: العصمة لصاحبه في الدنيا عن السيف والسنان.
وثانيتها: ما يستفاد من صناعة الجدل وطريق المتكلمين، وفائدتها: حراسة العقيدة عن الجاحدين والمفسدين وقطّاع طريق الحق للسالكين، وليس فيه انشراح وانفتاح، ولكنه يحفظ صاحبه من العذاب في الآخرة خالداً - ان كان مع شرائطه -.
والثالثة: ما يستفاد من البرهان اليقيني - كما في طريقة الحكماء - وفائدتها: حصول المعرفة الحقيقية للمبدأ القيّوم وصفاته وأفعاله.
والرابعة: ما يستفاد من الرياضات والمجاهدات، وترك التعلقات، والزهد الحقيقي في الدنيا وطيباتها، وفائدتها: الوصول إلى جناب الحق ومشاهدة صفاته وأسمائه وأفعاله من حيث هي أفعاله.
فالإيمان ينقسم إلى قشر، وقشر القشر، ولبّ، ولبّ اللبّ، كالجوز مثلاً فإن له قشرين ولَبيّن.
فالمرتبة الأولى أن يقول: "لا إله إلاَّ الله"، وربما كان مع الغفلة أو مع الإنكار القلبي، كما في المنافقين.
والثانية: أن يصدّق بمعنى اللفظ ضميراً، كما يصدق به عموم المسلمين وهو اعتقاد بوجه له مناسبة إلى ما هو الحقيقة، بخلاف الأول، فإنه تقليد محض.
والثالثة: أن يشاهد ذلك بالنظر إلى طبيعة العالم وإمكانها وافتقارها إلى ما يرجّح وجودها على عدمها، ثم بما يلزم الوجوب الذاتي من الرحمة والجود، وهداية الحق بارسال الرسل وإنزال الكتب، والجزاء لهم يوم المعاد، والثواب للمحسن، والعقاب للمسيء أو العفو عنه، إلاّ أن يكون فيه ما ينافيه من الكفر والإصرار والجهل والاستكبار.
الرابعة: أن يشاهد ذلك مشاهدة الموجود الحقيقي وصفاته وآثاره، ولا يرى للأفعال والآثار وجوداً استقلالياً، فلا ينظر إلى شيء إلاَّ ويرى الحق فيه مع تفاوت المرائي صفاءً وكدورة، وتفاوت ظهور الحق فيها جلاءً وخفاءً.
وهذا عبد قد استولت عليه الأنوار الأحَدية، وظهرت له سواطع العظمة الإلهية، فجعله هباءٍ منثوراً، ويندك عنده جبل إنّيته، فيخرّ له خروراً، وفي هذا المقام يستهلك في نظره الأغيار، وتحترق بنوره الحجب والأستار، فينادي الحق: لمن الملك اليوم؟ ويجيب بنفسه لنفسه: لله الواحد القهار. والمؤمن بهذه المرتبة يقال له: "الولي" و "الصدّيق" و "الشهيد".
أما كونه ولياً؛ فلأنه لا يحب الله أحداً غيره وهو لا يحب غير الله، أما الأول: فلأن غيره لا يعرف الله، والمحبة تتبع المعرفة بل عينها - لأنها إدراك الملائم من حيث هو ملائم، والملائم لكل أحد سَلِمَ مذاقه عن الأمراض النفسانية، ولم يخدّر طبعه بالمعاصي الجسمانية، هو المعبود الحق الذي به وجود كل شيء وكماله -. وأما الثاني: فلأن غير الله لا وجود له عند الولي، والمحبة تتبع الوجود للشيء عند المحب.
وأما كونه صِدّيقاً: فلكون كمال رتبة الصِدّيق يكون بكمال رتبة المعرفة، وأكمل مراتب المعرفة هي المشاهدة، فمن شاهد الوجود الحقيقي ومرتبته في الكمال وشمول الإفاضة وعموم الرحمة منه على كل شيء، بحيث لا مشارك له - لا في الوجود ولا في الإيجاد -، فهو الصدّيق الأعظم لا غيره ممّن لا يعرف الحق وفيضه إلاَّ بالدليل أو التقليد من غير بصيرة وكشف.
واما كونه شهيداً: فلشهادة نفسه في طريق الحق، وعدم التفاته إلى هذه الحياة الدنيا، إذ الشهادة عبارة عن قبض الروح في حالة لم يبق في القلب سوى حب الله، وخرج حب جميع الملاذّ والشهوات عن القلب، لأن من يهجم على صف القتال فهو يوطّن نفسه على الموت حباً لله، وطلباً لرضاه، وبائعاً دنياه بآخرته، راضياً بالبيع الذي بايعه الله، إذ قال الله تعالى:
{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ } [التوبة:111]، والبائع راغب عن المبيع لا محالة، ومثل هذه الحالة تحصل للقلب في بعض الأحوال في غير العرفاء، ولكن لا يتّفق زهوق الروح فيها، فالوقوع في صف القتال سبب لزهوق الروح على مثل هذه الحال، هذا فيمن ليس يقصد الغلبة والغنيمة والصِّيت بالشجاعة، فإن من هذا حاله - وان قتل في المعركة - فهو ليس بشهيد، لبعده عن مثل هذه الرتبة، كما دلّت عليه الأخبار.
فقد علم أن رتبة الشهداء إنما تحصل لأجل أنهم جرّدوا أنفسهم عن التعلق بالحياة الجسمانية ابتغاء لوجه الله ونصرة لأوليائه في نيّة اظهار شريعته وخرجوا عن الدنيا عند تكلف هذه الحالة، ففازوا بالنعيم الأبدي.
وأما العرفاء فقد خرجوا عن التعلقات بما سوى الله تعالى، وقصروا النظر على وجه الله، من غير التفات إلى ذواتهم فضلا عن غيرها، وحصل لهم الموت الإرادي عن هذه النشأة الدنيوية، وهذه الحالة هجّيراهم من غير تعمّل وكِلْفة، فهم الشهداء بالحقيقة قبل حصول الموت الطبيعي أو القتل لهم، لأنهم قبل انقضاء هذه الحياة الدنيوية، وانهدام بناء هذه الجثة الطبيعية - أحياء عند ربهم - حياة طيبة عقليّة، يرزقون - بالأرزاق المعنوية والأغذية العلميّة - فرحين بما آتاهم الله من فضله - فحينئذ يستقيم معنى الآية من غير تَمَحُّل.
قوله عز وجل:
{ ... وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ }.
الكفر: هو عدم الإيمان عمّا من شأنه أن يكون مؤمناً، والإيمان - كما علمت -: هو المعرفة بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، فالكفر هو الجهل بهذه المعارف، سواء كان مع الجحود والاستكبار وتكذيب الرسول وما أتى به، أم لا، والأول يستلزم الخلود في النار قطعاً، والثاني يحتمل النجاة ولو بعد المكث طويلاً أو قصيراً، ويدل على خلود الكفّار المكذبين في النار، التعبير عنهم والحكم عليهم بأصحاب الجحيم.
مكاشفة
كما ان مجامع سعادات الإنسان ترجع إلى تحلية قوته العلميّة بالعلوم الحقيقية وحقائق الإيمان بالله واليوم الآخر، وتخلية قوته العملية من ذمائم الأخلاق ورذائل المَلَكات، كذلك جوامع الشقاوات ترجع إلى انتقاش النفس بنقائض المعارف الحقة، واتصافها بنقائص الصفات الذميمة.
وإنما صار الجهل الراسخ - المعبَّر عنه بالكفر -، والخلق الكريه - المؤدي إلى تكذيب الرسول المؤيَّد بالمعجرات -، موجباً للخلود في النار، لأن الجنسية علة للضم، والمرء يُحشر مع محبوبه، والجحيم إنما هي من حقيقة هذه الدار، لكن ظهورها في هذه الدنيا بصورة الشهوات واللذات، وفي الآخرة بصورة النيران والجحيم والزقّوم، فإذا رسخت محبة الدنيا في النفس ونسيت ذكر الله، صارت في الآخرة محجوبة عن لقاء الله ولقاء أوليائه الصالحين، وبقيت في كرب السعير وعذاب الجحيم، لرسوخ محبتها إياها في هذه النشأة، وارتكان [ارتكاز - ن) تعلقها بها.
وإنما لم تتألم النفس بعذاب الشهوات، ولم تتأذ بلسع حيّات ملاذ الدنيا وعقاربها قبل الموت - مع كونها متصلة محيطة بها غير مفارقة عنها لقوله تعالى:
{ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ } [التوبة:49] - لخدر الطبيعة وسكرها الحاصل بسبب قلة المعرفة، وكثرة الاشتغال باكتساب أسباب الدنيا وجمع حُطامها.
وربما يوجد من الناس من يجد الألم عين الراحة، والراحة عين الألم، فيأكل الحميم والزقوم في هذه الحياة الفانية، مشتهياً لذيذاً عند إدراكه، ويعوّق عن إدراك العقائد الحقة التي هي العسل المصفى، واللبن الذي لم يتغير طعمه، لكونه محجوباً عن إدراك كل من القبيلين بصورته الظاهرة، فالشهوات لذيذة حلوة عنده، والموعظة الحسنة والكلمات الحقة كريهة مُرّة لديه.
وهذا لأجل مرضه الواقع بسوء العادات، كما يلتذّ بعض الناس بأكل الطين، وكما يستبشع بعض المرضى الأشياء الحلوة، ويستحلي الأشياء المرة، كمن به مرض "بوليموس" حيث يَأْوَفُ حسه لغلبة الخلط السوداوي، وتخدر ذائقته عن إدراك الطعوم على وجهها، فيجد المُرَّ حلواً مُراً، كما قيل شعراً:

فمن يك ذا فمٍ مُرٍّ مريض يجد مُرَّاً به الماء الزلالا

وإلاَّ فالقلب السليم والعقل الصحيح لا يلتذ إلاَّ بذكر الله ومعرفته ولقائه، لأن ذلك كماله وغذاؤه وقوته، لا الأمور المحسوسة الدنيوية من المال والبنين وغيرهما من الأمور التي خلقت لأجل الانتفاع بها في طلب الآخرة والسلوك إلى الله تعالى، لا للالتذاذ والتعشق، ولمّا كان الكمال الحقيقي والخير المحض هو معرفة الحق الأول وملكوته التي ستقلب في الآخرة مشاهدة له، وهو إنما يتأتى بالقلب السليم من مرض العادات السيّئة من مؤانسة المحسوسات، قال سبحانه:
{ { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء:88 - 89].