التفاسير

< >
عرض

لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢
-الحديد

تفسير صدر المتألهين

المالك للشي: هو المتصرف فيه بأي وجه أراد من التصرف، وهذا بالحقيقة لا يكون إلاَّ لمن له ذات ذلك الشيء بحيث يحييه ويميته إذا أراد، وإلاَّ لكان تصرفه متوقفاً على تأثير سبب مبائن، فلا يكون له التصرف بأي وجه شاء، بل ببعض وجوه التصرف. فالمالك بالحقيقة من له ذات كل شيء، فعبّر عن الجميع بالأجسام العظام، لأنها الجليّة المكشوفة الواقعة في عالم الشهادة.
وفي قوله تعالى: { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }، إشعار لطيف بما ذكر، وبرهان شريف عليه، لأن الموجودات مرتبطة بعضها ببعض، متوقفة بعضها على بعض كأعضاء بدن واحد، فلو لم يكن الباري موجداً للكل، لم يكن مالكاً للبعض بالحقيقة.
مُكاشفة
واعلم أن الموجود قد يكون وجوده لنفسه، وقد يكون لشيء آخر كالأعراض والصُّوَر لأن وجوداتها ليست إلاَّ نعوتاً وأوصافاً لغيرها لا لِذاتها، بخلاف الأعيان الجوهرية، لأن ماهياتها ليست نعوتاً لغيرها.
والتحقيق: إن وجود الموجودات في أنفسها ليس إلاَّ وجودها له تعالى، لأن جميعها فعل الحق، والفعل من حيث هو فعل لاقوام له في نفسه إلاَّ بالفاعل، وما وُجِد من الأفعال والآثار مستقلة دون ما تصدر عنها، فليست هي بالحقيقة آثاراً لها، بل تتعلق بها على نوع آخر من التعلق.
وموضع "يُحي" وما ينعطف عليه، إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو منصوب على أنه حال من الضمير المجرور في: "له". ويحتمل عدم تعلق هذه الجملة لشيء، فلا يكون لها موضع من الإعراب، كقوله: { لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ }. أو معناه: يحي النُطَفَ والبَيْض في الدنيا، والموتى يوم القيامة، ويميت الأحياء في الآخرة.
وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): يحيى بالطاعة ويميت بالمعصية.
وعن أبي بكر الورّاق: يحيى بالعلم ويميت بالجهل.
وعن ابن عباس: يحيى عند البعث ويميت في الدنيا.
وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة في المعنى، فإن حياة العلم والطاعة من قبيل حياة الأرواح في الآخرة، وموت الجهل والمعصية من قبيل موت الأجسام في الدنيا.
مُكاشفة
إن نوع الإحياء مختلف في النشأتين، لأنه في الأولى تدريجي وفي الآخرة دَفْعي، يدل على ذلك قوله تعالى:
{ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم:27]، مع كونه على كل شيء قدير بنسبة واحدة من قِبَله، فلا تتأبى قدرته عن شيء من المقدورات، كما لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السمٰوات.
فإن قلت: ما وجه صدور الإماتة منه تعالى مع كونه محض الرحمة ومنبع الخير والحياة؟
قلنا: فعلُ الإماتة منه تعالى لكونها مستلزمة للاحياء على وجه أبقى وأشرف، حسنٌ، كما أن الأمر بالقصاص لكونه يوجب الحياة على وجه أكثر وأصح، حسنٌ.
أو نقول: موت البدن من ضروريات قوام الروح بذاتها حيّة موجودة بالفعل، وإن كانت من أرواح الأشقياء المردودين، وممّن يأتيه الموت من كل مكان وما هو بميّت.
ومما يؤيد أن الحياة الآخرة نوع أقوى من الحياة الدنيا قوله تعالى:
{ { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ق:22]، إذ حدّة البصر والبصيرة تدلّ على قوة الحياة والوجود.