التفاسير

< >
عرض

سَابِقُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ
٢١
-الحديد

تفسير صدر المتألهين

الإعداد: التهيئة. أي: وضع الشيء لما يكون في المستقبل على ما يقتضيه أو يناسبه. و"الفضل" و"الإفضال" و"التفضّل" واحد، وهو: النفع. وهو إما المعنى الحدثي المصدري، أو الأمر الحاصل به، والثاني هو المراد ها هنا.
ومعنى الآية: انه تعالى بعدما بيّن ان الحياة أمر لا حقيقة لها سوى كونها خيالاً موهوماً - بالوجه الذي مرّ بيانه -، ومثّلها بمثال ينبّه العاقل على دثورها وزوالها، وأشار إلى أن الحياة الآخرة أمر محقق ثابت في نفس الأمر، لكنها إما عذاب شديد، وإما غفران ورضوان، أحدهما للسعداء والآخر للأشقياء، ثم كرر الإشارة إلى أنها لمن لم يعمل لآخرته في متاع الغرور، فرغّب سبحانه في المسابقة إلى طلب أحد الأمرين الأخرويين - المشار إليهما في الآية السابقة -، وهو الذي يترتب على استعمال الحياة الدنيا في طلب التوصل إلى لقاء الله واليوم الآخر قائلاً: سابقوا - أي سارعوا مسارعة المسابقين لأقرانهم ونظرائهم في المضمار، واردعوا العوارض القاطعة عن السلوك إلى البغية بالأعمال الصالحة العلمية والعملية، مقبلين إلى ما يوجب الفوز بمغفرة من ربكم.
قال الكلبي: إلى التوبة. وقيل: إلى الصف الأول للصلاة، وقيل: إلى النبي. وفي معناه: إلى كل هاد ودليل من الأئمة وبعدهم من المشايخ والمعلمين، والى - جنّة عرضها كعرض السماء والأرض -، أي: وسابقوا إلى استحقاق ثواب جنّة هذه سعتها وعظمتها. وفي ارتكاب حذف المضاف، أو ما في حكمه في الموضعين، نظر كشفي لا يسع المقام.
قال السدي: كعرض سبع سموات وسبع أرضين.
وفي ذكر العرض دون الطول وجوه:
أحدها: إن كل ما له امتدادان مختلفان فإن عرضه يكون أقل من طوله، فإذا وصف عرضه بالبسطة، عرف أن طوله أبسط وأَمَدّ.
وثانيها: ان الطول قد يكون بلا عرض، بخلاف العكس.
وثالثها: الإشعار بأن طولها لا يمكن أن يقاس إلى شيء من هذا العالم.
ورابعها: ان المراد منه مطلق البسطة، كقوله تعالى:
{ { فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ } [فصّلت:51]. وقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في غزوة أحد: "يا عثمان ذهبتُ عريضاً".
قال الحسن: إن الله يفني الجنّة ويعيدها على ما وصفه، فلذلك صح وصفها بأن عرضها كعرض السماء والأرض.
وقال بعضهم: إن الله قال: { عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ }، والجنة المخلوقة هي فوق السماء السابعة فلا تنافي.
وقوله: { أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } أي: ادُّخِرَت للمؤمنين بالله ورسله، وفيه ما لا يخفى من التمحّل، وذلك - أي الفوز بالمغفرة والجنة - من فضل الله - لكونه موجوداً كاملاً تاماً فوق التمام، فيفضل منه الوجود، وكمال الوجود على غيره ممن يشاء - والله ذو الفضل العظيم - لأن العالم وما فيه من فضل وجوده وفيضه، فلا استبعاد في أن يجزي الدائم الباقي على العمل القليل الفاني، ولو اقتصر على قدر ما يستحق بالأعمال كان عدلاً، لكنه تفضّل بالزيادة. كما انه لو أمسك عن إفاضة الوجود على العالم كان تاماً في واجبيّته ومملكته وسلطانه، لكنه، تفضّل بوجود العالم نافلة من غير ضرورة زائدة على ذاته، وداعية مستولية عليه، وأن أحداً لا ينال خيراً في الدنيا والآخرة إلاَّ بفضل الله، فإنه لو لم يَدْعُنا إلى الطاعة، ولم يبيّن لنا الطريق، ولم يوفقنا للعمل الصالح لما اهتدينا إليه، فذلك كله من فضل الله.
وقال أبو القاسم البلخي: إن الله سبحانه لو اقتصر لعباده في طاعتهم على مجرد إحسانه السابق إليهم لكان عدلاً، فلهذا جعل سبحانه الثواب والجنة فضلاً.
قيل: وفي هذه الآية أعظم رجاء لاهل الإيمان، لأنه ذكر أن الجنة معدّة للمؤمنين، ولم يذكر مع الإيمان شيئاً آخر، وانت علمت مما سبق، ان الإيمان بالله والرسول وما جاء هو به أجلّ مراتب الكمالية للإنسان، وبه يستحق السعادة العظمى، والغرض من الأعمال الصالحة هو خلاص النفس عن العلائق الدنيّة، المكدّرة لمرآة القلب، المانعة عن إدراك الحقائق والمعارف الإيمانية، فالعقيدة الحقة الإلهية لا تتيسر إلاَّ بقطع الأغراض الدنيوية بالأعمال الصالحة المقرّبة للقدس، ولا يتيسر الإخلاص في العمل إلاَّ بالعقيدة الإيمانية، فالإيمان هو المبدأ والغاية في كل خير وكمال، على وجه لا يدور على نفسه دوراً مستحيلاً، ويحتاج بيانه إلى كلام مشبع لا يناسب المقام.
مكاشفة
في أن الجنة والنار حق
إعلم أن قوله تعالى: { أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } [الحديد:21]، وكذا قوله:
{ { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [آل عمران:133]، دليل واضح على أن الجنة مخلوقة الآن، موجودة للمؤمنين والمتقين، لأنها نتيجة أعمالهم (وان فيها جزاء لهم ونتائج لأعمالهم - ن) وأفعالهم.
ومن جملة الآراء السخيفة، رأي من زعم أن الجنة والنار لم توجدا بعد، ولا توجدان إلاَّ بعد بوار العالم وتهافت السمٰوات والأرضين، واشير إلى فساد هذا الرأي في قوله:
{ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً } [المعارج:6 - 7]. وفي قوله { أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [فصّلت:44].
ومن الآراء السخيفة أيضاً؛ اعتقاد أكثر الناس أن أجسام أهل الجنة أجساد لحمية كثيفة، مركّبة من أخلاط أربعة قابلة للاستحالات معرّضة للآفات. وإذا تأمل أحد فيما وصف الله تعالى من صفات أهل الجنة، ظهر له فساد هذا الرأي، وذلك قوله سبحانه:
{ { لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ } [الحجر:48]، و: { { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ } [الدخان:56]. وأنهم { فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة:25]. و: { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة:62].
ومن علامات حقية الاعتقادات؛ أن لا يقع فيها تناقض وتخالف، وهرج ومرج، وأكثر آراء المجادلين والمتشبهين بالعلماء - كأكثر الكلاميين -، يكون بحيث إذا عرضه صاحبه على عقله أنكره ضميراً - وان أقرّ به لساناً -، ويجده مناقضاً لسائر اعتقاداته وأصوله، فيقع عند ذلك في شك وحيرة وسوء ظن بربه، كما قال الله تعالى:
{ { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ ٱلُخَاسِرِينَ } [فصّلت:23].
ولا بد لكل أحد أن يعلم أن الجنة والنار الجسمانيتين غير معلومتي الكُنْه إلاَّ للمكاشفين، الذين اكتحلت عيونهم بنور الله، وغلب عليهم ظهور سلطان الآخرة، فصاروا بحيث تكون أبدانهم في الدنيا ساكنة، وأرواحهم في الآخرة سائرة، فهم من أهل الاطلاع على حقائق الأمور الأخروية، ولا بد للمحجوبين ومن لم يقف على أسرارهم ولم يصل بعد إلى مقامهم، أن يعتقدوا - إيماناً بالغيب - أن الجنة التي عَرْضُها السموات والأرض موجودة في عالم الغيب، بحيث لا يمكن مشاهدتها بهذه العين، وليست أجسام الآخرة من هذه الأجسام حتى يقع بينها تزاحم وتضائق، بل التزاحم والتضائق من خواصّ هذه الأجساد التي تشاهد بهذه الحواس الداثرة المستحيلة، وتلك الأجساد لا تشاهد إلاَّ بالبصيرة الباطنية.
ولا بد أيضاً أن يعلم كل من آمن باليوم الآخر، أن للأعمال والأفعال الدنيوية - باعتبار تأثيرها في عادات النفس ومَلَكاتها - علاقة طبيعية مع أعيان الأمور الأخروية. فكما أن الأمر المسمّى "بالمعصية" في الدينا، يؤدي بصاحبها في الآخرة إلى الاحتراق بالنار، والتعذيب بالحميم والزقوم، والتصلية للجحيم، فكذا المسمى "بالطاعة" يظهر في الآخرة بصورة الجنة والرضوان، والتنعم بالفواكه والحُور والغلمان، والولدان، فهذه الأفعال المحمودة التي هي الطاعات، إنما تراد لأجل اكتساب الأخلاق الحسنة، وكذا الأفعال المذمومة إنما تترك لأجل أنها ستنجر إلى الأخلاق السيئة.
فالغرض من الأوامر الشرعية - أفعالاً كانت أو تروكاً - إنما هو تحسين العادات، وتقويم المَلَكات، وتبديل السيئات منها إلى الحسنات، بتوفيق من الله وتأييد منه، كما قال سبحانه في حق المخلَصين من عباده:
{ فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [الفرقان:70].
وكما ان كل صفة في الدنيا تغلب على باطن الإنسان وتستولي على نفسه، بحيث تصير ملكة له توجب صدور أفعال منه مناسبة لها بسهولة، ويصعب عليه صدور أضدادها غاية الصعوبة، وربما يبلغ ضرب من الأولى حد اللزوم، وضرب من الثانية حد الامتناع. فهكذا حال الملكات والأخلاق في الآخرة، إذ كل صفة بقيت في النفس ورسخت فيها وانتقلت معها إلى تلك الدار، صارت كأنها لزمتها ولزمت لها الآثار والأفعال الناشية منها بصور تناسبها، وليست الأفعال والآثار الدنيوية في لزومها لمصادرها التي هي الملكات بتلك المثابة، إذ الدنيا دار اكتساب، وللعلل الاتفاقية فيها تداول وجَوَلان، وللدواعي والصوارف الخارجية تسلّط ودَوَرَان، فالشقيّ ربما يصير بالاكتساب سعيداً، وبالعكس، - بخلاف الدار الآخرة -، فإن باب الاكتساب والتحصيل فيها مسدود، ولكل نفس فيها حد محدود، كما اشير إليه في قوله تعالى:
{ { لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِيۤ إِيمَانِهَا خَيْراً } [الأنعام:158].
ولأن الدنيا دار تعارض الأضداد وتفاسد المتمانعات بخلاف الآخرة، لكونها دار الجمع والاتفاق من غير تزاحم ولا تضادّ، فالأسباب هناك لا تكون إلاَّ عللاً ذاتية كالفواعل الحقيقية والغايات الذاتية دون العَرَضية، فكل ما يصلح أثراً لصفة نفسانية لا يتخلّف عنها هناك - كما يتخلف عنها ها هنا - فلا سلطنة هناك للعلل العَرَضية والأسباب الاتفاقية، بل المُلك لله الواحد القهّار كما في قوله:
{ وَلاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [سبأ:23]. أي لا تأثير هناك للعلل الاتفاقية، بل للذاتية. وكذا في قوله: { مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [البقرة:255]. وقوله: { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ } [المدثر:48]. أي العلل الاتفاقية دون المأذونين في الشفاعة كالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لأجل حصول الاستعداد والمناسبة الحاصلة من دعوته لأمته، التي كانت خيرَ أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وهذا القدر من المعرفة، أقل ما يكفي المستبصر لأن يؤمن بجميع ما وعده الله ورسوله أو توعد عليه بلسان الشرع من الصور الأخروية المترتبة على الاعتقادات والأخلاق المستتبعة للّذات والآلام، إن لم يكن من أهل المكاشفة الباطنية والمشاهدة الأخروية.
وأما معرفة التفاصيل في نتيجة كل صفة وعمل وَعَدَ به أو تَوَعّد عليه الشرع الأنور بحكومة أخروية، فيتوقف على كشف تام ومعرفة كاملة، واتصال قوي بعالم الغيب، وتجرّد بالغ من علائق هذا العالم، فكل من له تحدّث في العلوم، يجب عليه أن يتأمل في الصفات النفسانية والأخلاق الباطنية، وكيفية منشأيتها للآثار والأفعال الظاهرة منها، ليجعل ذلك ذريعة لأن يفهم كيفية استتباع الأخلاق المكتسبة في الدنيا من تكرر الأفاعيل للآثار المخصوصة في الآخرة، تحقيقاً لقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
"الدنيا مزرعة الآخرة" .
فكما ان شدة الغضب والغيظ في رجل غضبان يوجب ثوران دمه، واحمرار وجهه، وحرارة جسده، واحتراق مواده الرطبة - التي أرطب من الحطب اليابس - على ان الغضب صفة نفسانية موجودة في عالم الروح الإنساني وملكوته، والحركة والحمرة والحرارة والاحتراق من صفات الأجسام، وقد صارت هذه الصفة الواحدة النفسانية مصورة بهذه الهيآت والعوارض الجسمانية في هذا العالم، فلا عجب من أن يكون رسوخ هذه الصفة المذمومة مما يلزمها في النشأة الآخرة نار جهنم التي تطّلع على الأفئدة فيحرق صاحبها.
وكما يعرض أيضاً له بسببها ها هنا أمور مستنكرة وأفعاله مستكرهة - إذا لم يكن له صارف عقلي - من ضربان العروق واضطراب الأعضاء وقبح المنظر، وربما يؤدي بصاحبها إلى الضرب الشديد والقتل لغيره - بل لنفسه -، وربما يموت غيظاً، فكذا القياس فيما يعرض هناك على وجه أشد وأبقى.
وبهذه الموازنة بين النشأتين يُشعر قوله تعالى:
{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُولَىٰ فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } [الواقعة:62]، فإذا تأمل أحد في استتباع هذه الصفة المذمومة الواحدة لتلك الآثار واللوازم الذميمة، فيمكن له أن يقيس عليها باقي الصفات المؤذيات، والاعتقادات المهلكات، وكيفية انبعاث نتائجها ولوازمها منها يوم الآخرة من النيران وغيرها، كما في قوله تعالى: { { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } [الأنعام:139].
وكذا حال أضدادها من حسنات الأخلاق وحقائق الاعتقادات، وكيفية استتباعها للنتائج والثمرات - من الجنان والرضوان، والوجوه الحسان - فعلى هذا يثبت القول بوجود الجنة والنار بالحقيقة، ولا يحتاج إلى تجوز في قوله:
{ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [آل عمران:133]. وقوله: { { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ } [التوبة:49].