التفاسير

< >
عرض

لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
٢٣
-الحديد

تفسير صدر المتألهين

وقرأ أبو عمرو: { بِمَآ آتَاكُمْ } - بالقصر -، ويكون الفاعل الضمير الراجع إلى الموصول. والآخرون بالمد ليكون هو الضمير العائد إلى اسم الله، و"الهاء" محذوفة من الصلة، تقديره: بما آتاكُمُوه.
لمّا ذكر سبحانه أن جميع ما أوجده الله تعالى مثبت في كتاب سابق، أراد أن يعلّل ذلك ويبيّن حكمته فيه، فقال: لكيلا تأسوا ولا تفرحوا. أي: فعلنا ذلك لئلا تحزنوا على ما يفوتكم من نعم الدنيا، ولا تفرحوا بما أعطاكم الله منها، والذي يوجب نفي الأسى والفرح، أن الإنسان إذا علم أن كلّما حكم عليه في القضاء السابق الأزلي ليس إلاَّ من مقتضيات ذوات الأشياء التي لا يمكن التفصي عنها، يحصل له الاطمينان الكلّي والراحة الكلّية بأن كل كمال تقتضيه حقيقته، وكل رزق صوري أو معنوي يطلبه عينه، لا بد أن يصل إليه.
كما قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
"أَلاَ إن الروح الأمين نفث في رَوعي: أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأَجْمِلوا في الطلب" .
فيستريح عن تعب الطلب، وان طلب أَجْمَلَ ولا يخاف من الفوات ولا ينتظر، لعلمه بأن الله سبحانه في كل حين يعطيه من خزائنه ما يناسب وقته واستعداده، فهو واجد دائماً من مقصوده شيئاً فشيئاً، وما لا يقدّر له لا يراه من الغير، فلا يبقى له حزن على فوات شيء. وكذلك من علم أن بعض الخير واصل إليه، وأن وصوله لا يفوته بحال، لم يعظم فرحه عند نيله.
فإن قلت: بعض بني الإنسان ربما كان مقتضى ذاته أموراً لا تلائم نفسه كالفقز، وسوء المزاج، وقلة الاستعداد، ولا يرى سبباً للخلاص، إذ مقتضى الذات لا يزول، فيحصل له غاية الأسىٰ من هذا الوجه ولذلك قيل: "العلم بسر القدر يعطي النقيضين: الراحة الكلية والعذاب الدائم"، فكيف يستقيم الحكم بعدم الأسى والحزن على فوات الأمور؟
قلنا: ليس المراد نفي الأسى والفرح الصادرين عن الشخص بحسب الطبع، بل المراد نفي صدورهما من العاقل على سبيل الاختيار المنبعث عن تصور الفائدة والنفع، وليس للحزن فائدة فيما ذكر.
ويمكن أن يقال: إن العالِم بسرّ القدر لا يكون شقياً، والشقي لا يكون عالماً به، فمن قال: "ان العلم بسر القدر يعطي النقيضين" فلا وجه له ظاهراً.
وأما ما قيل في بيان عدم الأسىٰ والفرح: ان الإنسان إذا علم أن ما فات منه ضمن الله تعالى العوض عليه في الآخرة، فلا ينبغي أن يحزن لذلك، وإذا علم أن ما ناله كُلّف الشكر عليه والحقوق الواجبة، فلا ينبغي أن يفرح لذلك، فكلام حسن محمود في المواعظ.
فإن قلت: إذا كان عدم الحزن والفرح عند المضرّة والمنفعة الواصلتين للإنسان ليس مقدوراً له إذ لا يملك أحد نفسه عند ورود أحدهما عن أحدهما - فكيف يلائم ويحسن هذا التعليل؟ والعلة الغائية أو الغاية الذاتية للشيء ينبغي أن يكون بينها وبينه علاقة سببية، أو أن تكون الغاية مترتبة على الفعل.
قلنا: المراد نفي الأثر المذهل صاحبَه عن الصبر، المانع له عن التسليم لأمر الله، والفرح المُطْغي الملهي عن الشكر، الموجب للبطر والاختيال، فأما الحزن الذي لا يكاد أحد يخلو منه مع الاستسلام لحكم الله والسرور بنعمة الله مع إعطاء حقه - من الشكر - والتفطن لما يلزمه من الانتقال والدثور، والعمل بموجبه فلا بأس بهما.
وللإشعار بأن المراد من الفرح المذكور هو الذي يوجب البطر والخيلاء عقّبه بقوله: والله لا يحب كل مختال فخور -، أي: معجب بما أوتي، متكبر على الناس بالدنيا، فإن الفرق بين "الخُيلاء"والفخر" كالفرق بين "العُجْب"والتكبر" في أن أحدهما بحسب نفس الموصوف به، والآخر له بالقياس إلى غيره دون مقابله، لأن النكتة في ذكر شقاوة الموصوف بأحد المتقابلين دون الآخر، أن هذا أشقى منه ولأن الإتّصاف بأحد هذين الوصفين يستلزم الإتصاف بالآخر، إذ قلّ من يكون له الفرح المُطْغي عند حظ دنيوي ولا يضطرب عند المصيبة، بل الغالب أن لا تثبت نفسه حالة الضراء، كما لا تثبت نفسه حالة السرّاء، فكل مختال فخور يكون جزوعاً غير صبور، وكلا الأمرين نقص وخِسّة، والله لا يحب كل ناقص خسيس.
ففي هذه الآية إشارة إلى أربعة أشياء:
أحدها: حسن الخلق. لأن من استوى عنده وجود الدنيا وعدمها لا يَحْسد، ولا يعادي، ولا يشاحّ، لأن جميعها من أسباب سوء الخُلُق، وهي من نتائج النقص والخُسّة.
وثانيها: استحقار الدنيا وأهلها إذا لم يفرح بوجودها ولم يحزن بعدمها، وإليه أشار - عليه وآله والسلام - بقوله: "لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى الناس أمثال الأباعر". يعني لا يحفل بوجودهم ولا يُغيره ذلك ما لا يَغير بوجود بعير عنده وتمام الخبر: "ثم هو يرجع إلى نفسه فيكون أعظمَ حاقرٍ لها".
وثالثها: تعظيم الآخرة لِما سئل فيها من الثواب الدائم الخالص من الشوائب، لأنه لما يئس من وجدان اللذة والنعيم في الدنيا، توجه إلى طلبهما في الآخرة، وأهل الدنيا بعكس ذلك، لأنهم لمّا يئسوا من الآخرة ولذّاتها ونعيمها، انكبّوا إلى الدنيا واطمأنّوا بها ويئسوا من الآخرة:
{ { كَمَا يَئِسَ ٱلْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْقُبُورِ } [الممتحنة:13].
ورابعها: الافتخار بالحق والتشبث به دون أسباب الدنيا، ويروى أن عليَّ بن الحسين (عليهما السلام) جاءه رجل فقال: ما الزهد؟
قال: الزهد عشرة اشياء، فأعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا، أَلاَ وان الزهد في آية من كتاب الله عزّ وجلّ: { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ } [الحديد:23].
وقيل: لبزرجمهر: مالك أيها الحكيم لا تأسف على ما فات ولا تفرح بما هو آت؟ فقال: لأن الفائت لا يُتلاقى بالعبرة، والآتي لا يُستدام بالخبرة.
مكاشفة
قد وضح من هذه الآية إن كل ما وقع أو سيقع في هذا العالم مقدّر بهيآته وزمانه، مكتوب بوصفه وخصوصيته في عالم آخر قبل وجوده، فإن اشتبه عليك الحال في الأفعال المنسوبة إلى الاختيار، وتخيّل لك انها على هذا التقدير يلزم أن يكون بالاضطرار، فما بالنا نجد الفرق بين المضطر والمختار؟ ولماذا نتصرف فيها بالتدبير والتغيير ونصرّفها بالتقديم والتأخير؟
ثم إذا كان الكل بالقضاء والقدر، فلماذا يؤاخذ بها ويعاقب عليها، أو يؤجر ويثاب بقصدها؟ وما الفرق بين سَهْوِنا وعَمْدِنا؟ فكيف يتجّه المدح والذم لنا؟ وأي فائدة للتكليف بالطاعات والعبادات، ودعوة الأنبياء بالآيات والمعجزات؟ وأي تأثير للسعي والجهد؟ وأي توجيه للوعيد والوعد؟ وما معنى الابتلاء في قوله تعالى:
{ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [الملك:2] وما لا يحصى من الآيات الدالّة على أن مدار التكليف هو الاختيار، وبناء الأمر في الاختبار على الاختيار؟
فتأمل جريان الأمر والنهي في مجاري القضاء والقدر، وتفكّر في سلسلة الأسباب والعلل، وتدبّر في مباني الأمور حق التدبر، ومعاني الآيات بقوة التفكر - ان كنت من أهله وخُلقت لاجله -، عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، وينكشف لك ما ينكشف لأهل اليقين والراسخين في العلم، وتتخلص عن الشرك الخفي، فبادِرْ عند التفطن بما يتفطن به العرفاء الكاملون إلى الاعتذار والتوجه والاستغفار.
واعلم أن القضاء والقدر إنما يوجبان ما يوجبان بتوسط أسباب وعلل مترتبة منتظمة، بعضها فاعلات مقتضيات كالمبادئ العالية من الجواهر العقلية، وبعضها مدبّرات ومُعِدّات كالنفوس السماوية والحركات والأوضاع الفلكية والصور واللواحق والأمور الجارية مجرى الأشياء الاتفاقية - التي هي لزومية من وجه -، وغيرها من الإدراكات والإرادات الإنسانية، والحركات والسكنات الحيوانية، وبعضها قوابل واستعدادات ذاتية، أو عارضية تختص بسببها بحال دون حال، وصورة دون صورة - ترتيباً وانتظاماً متقناً معلوماً في القضاء السابق -، فاجتماع تلك الأمور من الأسباب والشرائط، مع ارتفاع الموانع، علة تامة يجب عند وجودها ذلك الأمر المدبّر والمقضيّ المقدر، وعند تخلّف واحد منها، أو حصول مانع يبقى وجوده في حيّز الامتناع. ومع قطع النظر عن وجود جميع الأسباب وعدمه يبقى في حيّز الإمكان.
فإذا كان من جملة الأسباب - وخصوصاً القريبة منها - وجود هذا الشخص المكلف الإنساني، وادراكه، وعلمه وارادته، وقبوله التكليف بتفكره وتخيّله اللذين يختار بهما أحد طرفي الفعل والترك، كان ذلك الفعل اختيارياً واجباً وقوعه بجميع تلك الأمور المسمّاة علة تامة، ممكناً بالنسبة إلى بعض منها، فوجوبه لا ينافي إمكانه، ومجبوريته لا تنافي كونه بالاختيار، كيف وانه ما وجب إلاَّ بعد كونه ممكناً، وما جبر عليه إلاَّ بعد كونه مختاراً.
فمن نظر إلى بعض الأسباب قاصراً نظره إلى القريبة منها، ورآها مؤثرة بالاستقلال قال بالقدر والتفويض - أي بكونها واقعة بقدرتنا الاستقلالية مفوضة الينا -، ولهذا قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
"القدرية مَجُوسُ هذه الأمة" لأنها تثبت مبدأين قادرين مستقلّين كالمجوس القائلين بيزدان وأَهْرِمَن، وان أحدهما فاعل الخير، والآخر فاعل الشر بالاستقلال.
ومن نظر إلى السبب الأول، وكون تلك الأسباب والوسائط مستندة بأسرها على الترتيب المعلوم في سلسلة العلل والمعلولات إلى الله تعالى استناداً واجباً وترتيباً معلوماً على وفق القضاء والقدر، وقطع النظر عن الأسباب القريبة، أو نفى التأثير مطلقاً في العلل والمعلولات، وأبطل حكمة الله في نظم الأسباب وتقدمها على المسببات قال بالجبر وخَلْق الأفعال، ولم يفرّق بين أفعال الأحياء وأفعال الجمادات.
وكلاهما أعور دجّال لا يبصر بإحدى عينيه. أما القدري فبالعين اليمنى - أي النظر الأقوى - الذي به يدرك الحقائق. وأما الجبري فباليسرى - أي الأضعف - الذي به يدرك الظواهر.
وأما من نظر حق النظر فأصاب، فقلبه ذو عينين، يبصر الحق باليمنى فيضيف الأفعال إليه - خيرها بالذات وشرّها بالعَرَض -، ويبصر الخلق باليسرى فيثبت تأثيرهم في الأفعال به سبحانه لا بالاستقلال، وبالإعداد لا بالإيجاد، ويتحقق بمعنى قول الصادق (عليه السلام): "لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين" فيتخذه مذهباً، وذلك هو الفضل الكبير.
وأما من أضاف الأفعال إلى الله تعالى بنظر التوحيد، وإسقاط الإضافات، ومحو الأسباب والمسببات - لا بمعنى خلق الأفعال فينا أو خلق قدرة وإرادة جديدتين متبائنتين لقدرته وإرادته عند صدور الفعل عنا -، فهو الذي طوى بساط الكون، وخلص عن مضيق البون، وخرج من البين والأين، وفني في العين، لكنه بقي في المحو ولم يجئ إلى الصحو، ما زاغ بصره عن مشاهدة جماله وسبحات وجهه وجلاله، فاضمحلت الكثرة في شهوده، واحتجب التفصيل عن وجوده، وذلك هو الفوز العظيم.
فإذا رجع إلى الصحو بعد المحو، ونظر إلى التفصيل في عين الجمع، غير محتجب برؤية الحق عن الخلق، ولا بالخلق عن الحق، ولا مشتغل بوجود الصفات عن الذات، ولا بالذات عن الصفات، فهو الوليّ المحقّ الصِدّيق، صاحب التمكين والتحقيق، ينسب الأفعال إلى الله تعالى بالإيجاد، ولا يسلب عن العباد بالإعداد، كما في قوله تعالى:
{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ } [الأنفال:17].
تكميل وتوضيح
فعُلم ممّا ذكر، أن الدعوة والتكليف، والإرشاد والتهذيب، والوعد والترغيب، والإيعاد والتهديد، أمور جعلها الله تعالى مهيّجات الأشواق، ودواعي إلى خيرات وطاعات، واكتساب فضائل وكمالات، ومحرّضات على أعمال حسنة، وعادات محمودة، وأخلاق جميلة، ومَلَكات فاضلة مرضية نافعة في معاشنا ومعادنا، يحسن بها حالنا في دنيانا، وتحصل لنا سعادة عقبانا، أو محذرات عن أضدادها من الشرور والقبائح، والذنوب والرذائل، مما يضرنا في العاجل، ويشقى بنا في الآجل، لم يحصل لنا شيء من الطرفين إلاَّ بتلك الأسباب ونقائضها،
"وكانت تلك الوسائط أيضاً مقدّرة لنا، واجبة باختيارنا كما قال - عليه وآله السلام - لمن سأله: هل يغني الدواء والرُّقيَة من قَدَر الله؟
قال: الدواء والرقية أيضاً من قدر الله..."
.
ولما قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "جف القلم بما هو كائن قيل: ففيم العمل؟
فقال: اعملوا، فكلُّ مُيَسّر لما خُلِق له.
ولمّا سئل: أنحن في أمر فُرغَ منه أو أمر مستأنَف؟
قال: في أمر فُرغ منه، وفي أمر مستأنف"
.
ومن هذا عُلم أن كل ما يصدر عنّا من الحركات والإرادات، والحسنات والسيئات، محفوظة مكتوبة علينا، واجب صدورها عنّا، مع كونها باختيارنا، كما قال تعالى: { { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي ٱلزُّبُرِ* وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } [القمر:52 - 53].
وقال:
{ وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ } [يس:12]. فيه مُعَرّفات لسعادتنا وشقاوتنا في العقبى، وليست بموجبات لهما، وكذلك ما يصل الينا من الرغائب والمكاره، كما قال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "اعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلاَّ بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء، لم يضرّوك إلاّ بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعَت الأقلام وجفّت الصحف" .
وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): "اعلموا علماً يقينياً، أن الله لم يجعل للعبد - وإن اشتد جهده وعَظُمت حيلته وكثرت مكابدته - أن يسبق ما سمّي له في الذكر الحكيم" - أي اللوح المحفوظ - والشواهد في هذا الباب أكثر من أن تحصى.
وأما الابتلاء: فهو إظهار ما كتب علينا في القدر، وابراز ما أودع فينا وغرز في طباعنا بالقوة، بما يظهره من الشواهد، ويخرجه إلى الفعل من الوقائع والحوادث والتكاليف الشاقّة، بحيث يترتب عليه الثواب والعقاب، فإنها ثمرات ولوازم وتبعات وعوارض لأمور موجودة فينا بالقوة، فإذا لم تصدر عنّا مباديها في الدنيا، لم تخرج هي إلى الفعل في العقبى، فكما أن المثوبات الأخروية ليست بقصد وإرادة جزافية واقعة من الحق المقدس من النقص والشَين، والتفات حاصِل من العالي بالقياس إلى السافل، بل من باب الاستجرار ونظم الأسباب وترتيب المسببات عليها بحكمة المدبر العليم، وإرادة الصانع الحكيم، الذي له المُلْك والمَلَكوت، وبذاته التامة الفاعلية يفيض الأشياء ويخلق ما يشاء من غير مصلحة زائدة وإرادة متجددة فكذلك العقوبات الإلهية والتعذيبات الأخروية، ليست من باب الانتقام من فاعل يحدث فيه انفعال غضبي ينتقم لأجل التشفّي والتخلّص من حُرقة الغضب وشدة اللهب، بل النفس الشقية العاصية إنما هي حمّالة حطب نيرانها، لسوء أفعالها ورداءة أخلاقها كمن به مرض أدّت نهمته السابقة إلى المحن الشديدة والأوجاع والآلام على سبيل اللزوم والانجرار، لا لمنتقم خارجي، فكيف تحصل الأسباب والمقدمات لشيء ولا تحصل ثمراتها وتبعاتها التي هي عوارضها ولوازمها، والجميع معلومة لله تعالى قبل وجودها ومعه وبعده، من غير تغيّر في ذاته ولا في صفاته، بل باعتبار تجدد الأشياء وتعاقبها في مرتبة حضورها وشهودها التجددي، والتي هي آخر مرتبة من مراتب علمه بالأشياء، التي هي عين الأشياء.
فقوله تعالى:
{ { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّابِرِينَ } [محمد:31] وأمثالها، معناه: نعلمهم موصوفين بهذه الصفة، بحيث يترتب عليها الجزاء، وأمّا قبل ذلك الابتلاء، فإنه عَلِمَهُمْ مستعدين للمجاهدة والصبر، صائرين إليها بعد حين.
فإن رجعت وقلت: إذا كانت الأسباب والمقدمات - وبالجملة الفضائل والرذائل، والطاعات والمعاصي، والخيرات والشرور - كلها مقدّرة مكتوبة علينا قبل صدورها منّا، معجونة فينا مربوطة بأوقاتها، فما بالنا لا نتساوى في الفضيلة والنقص؟ ولا نتعادل في الخيرات والشرور؟ ولِمَ لا نتشاكل في الطاعات والمعاصي ولا نتماثل؟ وكيف نحترز عمّا يجب الاحتراز عنه فننجو من وباله وتبعاته؟ وبأي شيء يتفضل السعيد على الشقي وقد تساويا فيما قُدّر لهما؟ وأين عَدْلُ الله فينا وقد قال تعالى:
{ { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ق:29]. { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [النحل:118].
فنجيبك يا أخا الجَدَل بمثل ما قال الشاعر:

هوّن على بصري ما شق منظره فإنما يقظات العين أحلام

اصبر واستمع ما يشفيك من غيضك، ويكفيك في إزالة ريبك، واعلم أن الأعيان والماهيات متنوعة، والصفات والاستعدادات متفنّنة، والأرواح الإنسيّة بحسب الفطرة الأولى مختلفة في الصفاء والكدورة، والضعف والقوة، مرتبة في درجات القرب والبعد من الله، والمواد السفلية بأزائها بحسب الخلقة متباعدة في اللطافة والكثافة، ومزاجاتها متبائنة في القرب والبعد من الاعتدال الحقيقي، فقابليتها لما يتعلق بها من الأرواح متفاوتة، وقد قدّر بازاء كل روح ما يناسبه من المواد بحسب الفيض الأقدس، فحصل من مجموعها استعدادات مناسبة لبعض العلوم والأخلاق والصفات والكمالات، موافق لبعض الأعمال والصناعات دون بعض، على ما قدّر لها في العناية الأولى والقضاء السابق، كما قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة" .
وتتفاوت العقول والإدراكات والأشواق والإرادات بحسب اختلاف الطبائع والغرائز فيسرع بعضهم بطبعه إلى ما ينفر عنه الآخر، ويستحسن أحدهم بهواه ما يستقبحه الثاني، والعناية الإلهية تقتضي نظام الوجود على أحسن ما يمكن ويتصور.
على أن الموجودات مظاهر لصفاته العليا، ومجالي لأسمائه الحسنى، وهي متخالفة في المفهوم، متباعدة في المعنى، مع أحدية ذاته الحقة وبساطة حقيقته المقدسة، فكل واحد من الممكنات مبدؤه ومعاده إلى اسم من الأسماء الإلهية، محكوم بحكمه، ملائم لما يتوجه إليه، مناسب لما يبتدأ منه "وكلُّ مُيَسّر لما خُلِقَ له"،
{ { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } [إبراهيم:2].
كيف؛ ولو تساوت الأشياء في الاستعدادات، لفات الحسن في ترتيب النظام، وارتفع الصلاح عن العالم، ولبقوا كلهم في طبقة واحدة، على حالة واحدة، في مرتبة واحدة، ولا تتمشى أمورهم، ولبقيت في كتم العدم المراتب الباقية - مع إمكان وجودها -، فكان حيفاً عليها وَجَوْراً، لا عدلاً وقسطاً، وبقي الاحتياج إليها في العالم مع فقدها، فالعدل هو تسوية المواد والأشباح بحسب الصور والأرواح، وتعديل الأمزجة بحسب الأنواع، وتوزيعها على الأصناف والأشخاص، وتوجيه الأفراد من الأجناس إلى ما يناسبها من الأمور والأشغال.
فمن أساء عمله، وأخطأ في اعتقاده، فإنما ظلم نفسه بظلمة جوهره وكثافة طبعه وقصور استعداده، وكان أهلاً للشقاوة في معاده، ينادى على لسان المالك: مهلاً "فيداك أو كتاوفوك نفخ"
{ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [هود:118 - 119] واختلاف الغرائز كاختلاف الأشكال والطبائع.
وأمّا أنه كيف السبيل إلى الاحتراز عمّا يجب الاحتراز عنه: فإن شريف النفس بحسب الجوهر الطيّب الأصل، قلّما يهمّ بشيء خسيس مما ليس في فطرته، ولم يقدر له من الفواحش والرذائل لعدم المناسبة، وإذا همّ نادراً لغلبة صفة من صفات نفسه وقواه، واستيلاء هواه، وهيجان شهوة أو غضب فيه بأمر قبيح، ينزجر بأقلّ زاجر من عقله وهداه، وربما يعود قبل صدور الفعل وامضاء الهمّ النفساني إلى عقله وتقواه من غير عزم على الفعل، كما قال تعالى في يوسف:
{ { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [يوسف:24].
وإذا كان دون ذلك في صفاء الفطرة والاستعداد، فلا ينزجر بزاجر من الشرع والسياسة والناصح والأديب، لخسّة نفسه وخبث جوهره ودناءة طبعه، وكل يشتاق إلى ما يفعله بطبعه، ويحبه ويستحسنه، وان كان الآخر يعلم أن ضدّه أجود وأحسن، كمحبة الزنجي ولده مع قبحه، دون الغلام التركي مع علمه بحسنه.
ولكل من القسمين مرتبة خالصة عن الآخر، وطبقات متفاوتة متفاضلة يكون في كل منها نصيب من الآخر المقابل له، وتكون النجاة ومقابلها بحسب الغلبة لصفات الخير على صفات الشر أو بالعكس.
وبالجملة، فأعظم السعادات مطلقاً لأجود الاستعدادات، وأكمل الكمالات لأشرف الأرواح الذي هو القطب الحقيقي، والحقيقة المحمّدية - وهو القطب المطلق -، لا القطب الإضافي بحسب كل وقت وزمان - كسائر الأنبياء سابقاً وسائر الأولياء لاحقاً. سيّما أولاده المعصومين - سلام الله عليهم أجمعين -، كما قال الله تعالى:
{ تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } [البقرة:253] - إلى قوله تعالى - { { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } [البقرة:253]. وقوله: { { ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } [آل عمران:34]. فله المرتبة العظمى في الاستعداد، والسعادة الكبرى في المعاد، المعبر عنها "بأعلى علِّيّين"، وكلما قصر الاستعداد نقصت السعادة، وقصر العرض بينها وبين الشقاوة القصوى المعبر عنها "بأسفل سافلين"، فلكل صفو كدر، ولكل صاف عَكَر، وتقابل كل نور ظلمة، وبإزاء كل حُسْن قبح.
والسعادة قسمان: دنيوية واخروية:
والدنيوية قسمان: بدنية كالصحة والسلامة، ووفور القوة والشهامة. وخارجية كترتب أسباب المعاش، وحصول ما يحتاج إليه من المال.
والأخروية أيضاً قسمان: علمية كالمعارف والحقائق. وعملية كالطاعات. والأولىٰ جنّة المقربين. والثانية جنّة أصحاب اليمين، وكما أن الحُسْنَ والجمال من عوارض القسم الأول من الدنيوية، فالفضائل والأخلاق الجميلة من عوارض القسم الأول من الأخروية.
وتتعدد أقسام الشقاوة بازائها.
قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): "صف العالم"؟ فوصفه.
فقيل: "صف الجاهل"؟ قال: قد فعلت.
فالسعادة والشقاوة بحسب العلم والجهل ذاتيان أزلاً وأبداً، مخلدتان دائماً وسرمداً. وبحسب الأعمال الحسنة والسيئة تترتب عليهما المكافآت والمجازاة، وتتقدر بحسبهما المثوبات والعقوبات، كقوله تعالى:
{ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [التوبة:82]. ولا تكون هذه الشقاوة مخلّدة إلاَّ ما شاء الله، وقد يتركب بعضها مع بعض وينفرد، إلاَّ أن أكثر السيئات وأكبرها يتبع الجهل، وأغلب الحسنات وأعظمها يتبع العلم.
اللهم اجعلنا من السعداء المقبولين، ولا تجعلنا من الأشقياء المردودين.
ولقد أشبعنا في الكلام، ونقلنا شطراً من كتب الكرام، لكثرة تحيّر الناس في هذا المقام، وقد بقي بعدُ خبايا من الخفايا بها يتم المرام، تركناها في سنبله مخافة شنعة اللئام، الذين آرادوا أن يَعْرُجُوا إلى كنه المعارف بعلم الكلام، الموضوع لحراسة عقائد العوام من إفساد المجالدين الخصام، وقطّاع طريق النجاة في الإسلام، وقد فرّقنا كثيراً من المكاشفات المتكررة المتعلقة بهذا المقصد في كتبنا ورسائلنا، سيّما ما يتعلق بتعذيب الجاحدين والكافرين مؤبداً، وبقائهم في الجحيم مخلداً.
وفيما ذكرناه كفاية لمن تيسّر له، ولا ينجع أكثر من لمن تعسر عليه، فليرجع من أراد الوقوف والاطّلاع إليه، وبالله العياذ من التقصير، وبه يتيسر كل عسير.