التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ
٢٧
-الحديد

تفسير صدر المتألهين

قرأ الحسن "الأنجيل" - بفتح الهمزة -، والأمر فيه هيّن لأن الكلمة أعجمية لا يلزم فيها حفظ أبنية العرب، بخلاف أمر "البَرطيل"والسَكين" فيمن رواهما بالفتح.
وقرأ "رآفة" على وزن فعالة.
و"التقفيّة": جعل شيء إثر شيء على نهج الاستمرار، ولهذا قيل لقواطع الشعر "قوافي" إذا كانت تتبع البيت على أثر بيت مستمراً في غيره على منهاجه.
و"الرهبانية" أصلها من الرهبة والخوف، يوصف بها النصارى لترهّبهم بعد موت عيسى (عليه السلام) في الجبال فراراً من الفتنة في الدين، لظهور الجبابرة على مؤمني ذلك الزمان، واخلاصاً لأنفسهم في عبادة الرب عند التفرد عن الخلق، فهي "الفَعلة" المنسوبة إلى الرَهْبان - بالفتح -، وهو الخائف، "فعلان" من "رهب"، كخشيان من خشي، وقرئ: "ورُهبانية" بالضم منسوبة إلى "الرُهبان وهو جمع "راهب"، كرُكبان جمع راكب، وهي عبادة مخصوصة بالنصارى، لقول النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
"لا رهبانية في الإسلام" وقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "رهبانية امتي الحج والجهاد" .
وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر، أي: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، ويجوز أن تكون معطوفة على ما قبلها، والجملة بعدها صفة لها في محل النصب، والمعنى: ثم اتبعنا بالإرسال على آثار المذكورين كنوح وإبراهيم ومن أرسلنا إليهم أو من عاصرهم من الرسل برسل آخرين، أي: اتبعنا رسولاً بعد رسول، وقفيّنا سابقاً بلا حق حتى انتهى الأمر إلى عيسى بن مريم بعدهم، فارسلناه رسولاً وأعطيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه من الحواريين وأتباعهم للتراحم والتعاطف بينهم رأفة ورحمة، بأن أمرهم الله بهما ورغّبهم فيهما، أو خلق في قلوبهم الرأفة والرحمة.
وإنما مدحهم على ذلك - وان كان من فعله - لأنهم تعرضوا لهما وابتدعوا رهبانية لم يكتبها عليهم، وهي خصلة من العبادة يظهر فيها معنى الرهبة، إما في كنيسة (شعشعة - شعثة - ن)، أو تَوَحُّش عن الخلق، أو تَفَرُد عن الجماعة، أو غير ذلك من الأمور التي تعلق بنسك صاحبه.
وقيل: إن الرهبانية التي ابتدعوها هي رفض النساء واتخاذ الصوامع - عن قتادة -. وعلى تقدير عطفها على ما قبلها يكون المعنى: وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة من عندهم. بمعنى: وفّقناهم للتراحم بينهم، ليبتغوا بها رضوان الله ويستحقوا بها الثواب، والاستثناء منقطع، أي ما فرضناها تعبّدناهم بها"، حتى يكون مشتملاً على نفي الإيجاب والندب المستلزمين لمطلق الراجحية والتقرب، وهذا وان كان مخالفاً لقوله: { ٱبتَدَعُوهَا }، لكن يوجه بأن يقال: معناه: ولكنهم ابتدعوها ثم نُدبوا إليها.
وابتدعوها: بمعنى: استحدثوها من قبل أنفسهم ووافوا بها، فما رعَوها حق رعايتها، أي: الذين بعدهم ما رَعَوا جميعاً للرهبانية، أو للمذكورات من الرأفة، والرحمة، والرهبانية - حق رعايتها، ولكن بعضهم رعاها، وبعضهم ضم إليها التثليث، والقول بالإلحاد، وقصد السمعة والرياء والكفر بمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ونحو هذه الأشياء، كما ان المنسوبين إلى التصوف في هذه الأزمنة والدورة الإسلامية بعضهم مما رعوا حقّه - من تصفية الباطن، والتزهد في الدنيا، والانقطاع عن أهلها وذويها طلباً لمرضاة الله -، وأكثرهم لم يراعوا حقّه، بل ضموا إليه السمعة والرياء، والتغنّي والسماع، والاشتغال بالملاهي وصحبة الأباطيل، والمعطّلين عن الفكر والسير في الملكوت وعن ذكر الله إلاَّ بمجرد اللسان عند مجمع الخلائق.
فآتينا المؤمنين المراعين منهم لهم أجرهم، وكثير منهم فاسقون - وهم الذين لم يراعوها ولم يوفوا بها.
قال الزجّاج: إن تقدير { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ }: ما كتبنا إلاَّ ابتغاء رضوان الله وهو اتباع ما أمر به - فهذا وجه -.
قال: وفيها وجه آخر في التفسير، وهو أنهم كانوا يَرَوْنَ من ملوكهم ما لا يصبرون عليه، فاتخذوا أسراباً وصوامع وابتدعوا ذلك، فلما ألزموا أنفسهم ذلك التطوع ودخلوا عليه، لزمهم تمامه، كما أن الإنسان إذا جعل على نفسه صوماً لم يُفْرَض عليه لزمه أن يتم.
قال: وقوله: { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } على ضربين: أحدهما: أن يكونوا قصّروا فيما ألزموا به أنفسهم، والآخر - وهو الأجود -: أن يكونوا حين بعث النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلم يؤمنوا به، وكانوا تاركين لطاعة الله، فما رعوا تلك الرهبانية حق رعايتها، ودليل ذلك قوله: { فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ }، يعني الذين آمنوا بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم). { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي كافرون - انتهى كلام الزجّاج -.
ويؤيده ما روي عن ابن مسعود قال:
"دخلت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: يا ابن مسعود، اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة، نجا منهم اثنتان وهلك سايرهنّ، فرقة قاتلوا الملوك على دين عيسى (عليه السلام) فقتلوهم، وفرقة لم يكن لهم طاقة لموازاة الملوك ولا أن يقيموا بين ظهرانيهم يدعونهم إلى دين الله تعالى، ودين عيسى (عليه السلام)، فساحوا في البلاد، وترهبوا، وهم الذين قال الله لهم: ورهبانيةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم.
ثم قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون"
.
مكاشفة
في هذه الآية حجة على عدم خلوّ الزمان عمن تقوم به حجة الله على خلقه، إذ علم أنه بهذا جرت سنّة الله من لَدُنْ آدم ونوح وآل إبراهيم، إلى وقت نبيّنا - صلوات الله عليهم أجمعين -، ولن تجد لسنّة الله تبديلا، لكن النبوة قد ختمت برسولنا (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والولاية التي هي باطن النبوة باقية إلى يوم القيامة، فلا بد في كل زمان - بعد زمان الرسالة - من وجود ولي يعبد الله على الشهود الكشفي من غير تعلّم، ويكون عنده مأخذ علوم العلماء والمجتهدين، وله الرئاسة العامة في أمر الدين والدنيا، وهو الداعي للخلق بحسب الفطرة من قِبَل الله، سواء أطاعته الرعية أَوْ لاَ، والناس أجابوه أو أنكروه، وسواء كان ظاهراً مشهوراً، أو مستتراً مغموراً، كأكثر الأئمة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين -.
وكما ان النبوة والشريعة قد خُتمت برسولنا (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فالولاية التي هي باطنها تختم بآخر أولاده المعصومين، وهو الذي يواطي اسمه اسم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ومعناه معناه، وبجوده أقيمت البلاد، ورُزقت العباد، وبظهوره يملأ الله الأرض قسطاً وعدلاً بعدما مُلِئَت ظلماً وجوراً.
وفي حديث كميل بن زياد النخعي، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، ما يدل على هذا المطلب، وهو قوله - بعد كلام سابق -:
"يا كُمَيل، مات خُزّان الأموال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، آهٍ آه، إن هاهنا - وأشار بيده الشريفة إلى صدره المقدس - لعِلماً جمّاً، لو أصبت له حَمَلَة، بلى أصيب له لقِناً غيرَ مأمون، يستعمل آلة الدين في الدنيا، ويستظهر بحجج الله على خلقه، وبنعمه على عباده، أو منقاداً للحق لا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض شبهة. أَلاَ - لا ذا ولا ذاك - أو منهوماً باللذّات سلس القيادة للشهوات، أو مُغْرَماً بالجمع والادخار، ليسا من رعاة الدين في شيء، أقرب شيء شَبَهاً بهما الأنعام السائمة، كذلك يموت العلم بموت حامليه.
اللهم بلى، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، إما ظاهراً مشهوراً، واما خائفاً مغموراً لئلا تبطل حجج الله وبيّناته وكم ذا وأين أولئك؟ أولئك والله الأقَلّون عدداً، والأعظمون عند الله قدراً، يحفظ الله بهم حججه وبيّناته حتى يودعوها نُظَراءَهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استعوره المترفون، وأنِسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه، والدعاة إلى دينه، آهٍ آهٍ شوقاً إلى رؤيتهم.
وفيه إشعار بأمور:
الأول: إن العالِم الحقيقي، له الولاية على الدين والرئاسة فيه.
الثاني: إن سلسلة العرفاء بالله والولاية المطلقة لا تنقطع أبداً.
الثالث: إن عمارة العالم الأرضي، ووجود أفراد الإنسان وسائر الحيوانات وغيرها من الكائنات، إنما يكون بوجود العالِم الرباني، وقد يقام عليه البرهان في الحكمة المتعالية، فيلزم منه الاعتراف بوجود إمام حافظ للدين في كل زمان.
الرابع: ان هذا القائم بحجة الله، لا يجب أن يكون ظاهراً مشهوراً كمولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في أيام تمكنه من الخلافة الظاهرة، بل ربما يكون خاملاً مستوراً - كهو (عليه السلام) قبل ذلك الوقت، وكأولاده الأحد عشر بعده، سيما القائم المنتظر امامنا المهدي - سلام الله عليه وآله وآبائه الطاهرين - المشار إليهم في قوله تعالى:
{ { ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } [آل عمران:34].
وفيما روي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
"لا تزال أمتي بخير ما وليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش" .
الخامس: ان من خواص أولياء الله وحججه، أن تكون علومهم ومعارفهم حاصلة بحدس تام وإلهام من الله من غير تعمّل وتكسّب، كما دلّ عليه قوله (عليه السلام): "هجم بهم العلم على حقائق الأمور، وباشروا روح اليقين" أي أطلعهم الله على حقائق الموجودات، وقذف في قلوبهم نوراً من لدنه، يريهم الأشياء كما هي، وهذه هي الحكمة الحقيقية التي من أوتيها فقد أوتي خيراً كثيراً.
السادس: انه قد علم شرف الحكمة الإلهية ومنزلة حامليها، حيث اشتاقت نفسه الشريفة (عليه السلام) إلى لقائهم مع كونه قدوة الربّانيين ومقدّم السائرين إلى الله بقوة الحكمة والعرفان، وبه تنتهي سلسلة السالكين وأصحاب الطريقة والصوفيين ومن يحذو حذوهم في التألّه والمعرفة - لا في مجرد الرياضة البدنية وجلوس الصوامع ولبس الخرقة، إذ لا كمال فيه يعتد به -.
وذلك لأن الجنسية علّة الضم، والجنس يحنّ إلى جنسه، ولأن فنون التقرب إلى الله تعالى متعددة، وأذواق الكاملين مختلفة، مع اشتراكهم في غلبة جانب التوحيد والعلم والفناء والبقاء، فلا يبعد أن يكون الاشتراك في جهة الكمال المطلق، ومظهرية الذات الأحدية يوجب أصل المحبة، والاختلاف في ظهور بعض المظاهر الاسمائية والصفاتية، وخفاء بعضها، يوجب التشوق بجهة خفاء اسم أو صفة إلى جهة ظهور اسم أو صفة، فإن تجليّات الحق بحسب الأسماء والصفات غير متناهية عدداً، فكذلك تختلف المظاهر والمجالي اختلافاً غير متناه شخصياً.
ومما يدل على وجود الإمام المطاع في الأحكام في جميع الأزمنة، ما اتفقت روايته بين الخاص والعام في قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
"من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية" .
وقد اتفقت الأمامية على أن الإمام في زماننا هذا هو المهدي (عليه السلام)، الموعود ظهوره في آخر الزمان، واستبعاد أهل السنة وجوده وبقاءه إلى الآن في غاية السقوط، إذ الأدلة الطبيّة والنجومية على امتناع بقاء الإنسان بعد المأة والعشرين غير تامة، ومع ذلك منقوض بوجود الأعمار الطويلة للسابقين، كما هو المشهور من آدم ونوح (عليه السلام)، وغيرهما، وببقاء الدجّال اللعين من اللاحقين مدة طويلة هي من زمن الرسول - عليه وآله السلام - إلى وقت خروج المهدي (عليه السلام).
وأسقط من ذلك تشنيعهم على الفرقة الإمامية بأن أي ثمرة في وجود امام لا يمكن التوصل إليه وأخذ المسائل الدينية منه؟ فإن مجرد المعرفة بإمامته ورئاسته، والتصديق بوجوده وأنه خليفة الله في أرضه، ثمرة ينتفع بها، وليست الفائدة منحصرة في مشاهدته، أَوَلاَ ترى أن من كان في عهد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وصدّق بوجوده وبرسالته، كان مؤمناً حقاً وان لم يره مشاهدة كأوَيْس القرني - رضي الله عنه - فكذا ها هنا.
و
"روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري: ان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذكر المهدي فقال: ذلك الذي يفتح الله على يده مشارق الأرض ومغاربها، يغيب عن أوليائه غيبة لا يثبت فيها إلاَّ من امتحن الله قلبه للإيمان.
قال جابر: فقلت: يا رسول الله - هل لشيعته انتفاع به في غيبته.
فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أي والذي بعثني بالحق، أنهم يستضيئون بنوره، وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن علاها السحاب"
.
والعجب أنهم حملوا الإمام في قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على أهل الشوكة الظاهرة من ملوك الدنيا - كائناً من كان، عالماً أو جاهلاً، عادلاً أو فاسقاً - فتشنيعهم على الإمامية مقلوب عليهم بأشد وجه بأن يقال: أي ثمرة تترتب على معرفة الجاهل الفاسق ليكون من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية؟
وأما رجوعهم عن هذا الحمل لغاية سخافته، إلى أن المراد بالإمام في ذلك الحديث هو "الكتاب"، فدفعته الإمامية بما نقله بعض الأعلام منهم بقوله: إن إضافته إلى زمان ذلك الشخص يشعر بتبدل الأئمة في الأزمنة، والقرآن لا تبدل له - بحمد الله - على مَرّ الأزمان، ولأن المراد بمعرفة الكتاب، إن أُريد بها معرفة ألفاظه أو الاطلاع على معانيه، أشكل الأمر على كثير من الناس، حيث يكون موتهم ميتة جاهلية، وإن أُريد مجرد التصديق بوجوده، فلا وجه للتشنيع علينا إذا قلنا بمثله.
اعلم أنه ذكر الشيخ محي الدين الأعرابي في الباب الثلاثمائة والست والستين من كتاب الفتوحات المكية كلاماً بهذه العبارة يدل على أنه كان معتقداً وجود المهدي (عليه السلام)، وقد نقل بعض الأعلام من الكرام تمام هذا الكلام في كتاب الأربعين من أراد الاطلاع عليه فلينظر فيه، ونورد فيه نبذة منه هي:
"وان لله خليفة يخرج من عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من ولد فاطمة (عليها السلام) يواطئ اسمه اسم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، جده الحسين بن علي (عليهما السلام)، يبايع بين الركن والمقام". - وعدّ بعض نعوته وأوصافه الشريفة إلى أن قال: - "يبايعه العارفون من أهل الحقائق عن شهود وكشف بتعريف إلهي، له رجال إلهيون يقيمون دعوته وينصرونه، لولا أن السيف بيده لأفتى الفقهاء بقتله، ولكن الله يُظهره بالسيف والكَرَم فيخافون ويقبلون حكمه من غير إيمان، ويضمرون خلافه، ويعتقدون فيه إذا حكم فيهم بغير مذهب أئمتهم أنه على ضلال في ذلك". - انتهى -.
واعلم أن كل عالم رباني ذي مكاشفة تامة يعرف طريق التبتل إلى الله تعالى، وكيفية التخلص عن ورطة التعلق بالمهلكات الدنيوية والمؤذيات النفسانية، فإن اتّباعه وتعلم السلوك منه واجب عقلاً، كما أن اتباع الرسول والأئمة (عليهم السلام) واجب عقلاً وسمعاً، فكما أن المريض ومَن به داء مهلك، عند التساهل عنه، إذا وجد طبيباً حاذقاً يعرف معالجة ذلك المرض المهلك يجب عليه اتباعه وقبول ما أمر به، بحسب ما جبل عليه من التحفظ على الحياة البدنية، فكذلك من به مرض الجهل وداء الخُلُق الردي النفساني الذي به تفوت الحياة السرمدية، يجب عليه بالضرورة أن يتبع العارف الواقف بكيفية إزالة الجهل وسائر الأخلاق الذميمة، ويتعلم منه طريق الاستكمال، ويتأسّى به، ويسلك بسلوكه، ويقبل منه النصائح في كيفية التقرب إلى المبدأ الفعّال.
وكما ان من تيسر له خدمة عالم متألّه، ثم تساهل في ملازمته وتَحَمُّلِ المعارف منه - خوفاً من سقوط منزلته عند الناس، وتحفظاً على جاهه الحقير لدى العوام الناقصين -، فيوشك أنه إذا خرج الإمام المهدي (عليه السلام) - الذي وجبت إطاعته عقلاً - تمرد على حكمه وتحاشى إطاعته، إذا انحطت عند ذلك مرتبته عند الناس وسقط به جاهه الخسيس، اللهم إلاَّ خوفاً أو طمعاً، لا تقرباً إلى الله تعالى، وإلاَّ لأطاع كل من له قدم راسخ في العلم بالله وملكوته، وذلك لمرض نفسه، وخبث جوهره، وقصور ذاته بحسب نفس الأمر، وسقوط منزلته عند الله حيث تصدّه المنزلة عند الخلق عن تحصيل المنزلة عنده، ويُرْجُحُ عنده رضاء الخلق على رضاء الخالق، وقد قال سبحانه:
{ وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ أَكْبَرُ } [التوبة:72].